ما أن اقتربت أيام الشهر الكريم من نهايتها، حتى سارع أصحاب الأفلام إلى حجز دور السينما، المعطلة عن العمل إلى حين مجئ العيد السعيد.
وبطبيعة الحال، كان لأصحاب الأفلام المصرية، بحكم القانون، الأفضلية في حجز هذه الدور، طوال أيام العيد.
ولأمر ما، اقتصر الحجز على أربعة أفلام، لا تزيد. وهذه الأفلام المحظوظة هي “النمس” لمحمود عبد العزيز و”هاللو أمريكا” لعادل إمام و”بونو بونو” لنادية الجندي، ثم “جنة العفاريت” لمحمود حميدة، منتجاً وممثلاً.
ولعلي لست بعيداً عن الصواب، إذا ما قلت أن أقل الأفلام الأربعة حظاً من ناحية الإيرادات، هو “جنة العفاريت”. ولا غرابة في هذا.
سر سوء الحظ
فبطل الفيلم “محمود حميدة”،من البداية وحتي النهاية لا نراه إلا جثة هامدة فاتحة فاها، عمال على بطال.
ولأنه ميت، لم ينطق لسانه بكلمة واحدة ، وإن كان شاء أن يخرجه مرة من فمه، ربما على سبيل الدعابة أو الاستظراف.
وحسب علمي، لم يعتد الجمهور مشاهدة بطل الفيلم جثة فارقتها الحياة إلا للحظات.
فمثلاً “ويليم هولدن” في “شارع الغروب” نراه على الشاشة جثة لثوان معدودات بعدها، نسمعه يحكي لنا، نحن المتفرجين، كيف أصبح جثة في مسبح قصر مهجور، برصاصات انطلقت من غدارة نجمة السينما الصامتة، المجنونة بحبه “نورما ديزموند” فأردته قتيلاً.
ومع الحكي يعود البطل القتيل حياً، فنراه يتحرك وسط أحداث قصة حب مستحيل، تروعنا بنهايته الفاجعة، جثة طافية في مسبح النجمة “نورما”.
أما أن يظل البطل جثة، بلا حراك، طوال الفيلم، فذلك في ظني أمر غير مسبوق، وغير مقبول لا من جمهورنا، ولا من أي جمهورفي مشارق الأرض ومغاربها.
ومن هنا حظ “جنة العفاريت” العاثر في الشباك.
التشوية.. لماذا؟
والفليم مأخوذ بتصرف كبير من رواية للأديب البرازيلي ذائع الصيت “جورج أمادو” اسمها في الأصل “الرجل الذي مات مرتين”. والحق، أنه فيلم غريب في كل شيء.
ومن بين غرائبه، فضلاً عن بطله الميت دوماً، قول كاتب السيناريو “مصطفي ذكري” أنه كان لابد من خيانة رواية “أمادو”، واستعماله كلمة تشوية تلك الرواية في عناوين الفيلم.
وافتخاره بإدخال تفاصيل بديلة لبعض تفاصيل الرواية، أبرزها “سنتا طبل”.
ويقصد “بسنتي طبل” السنتين الصناعيتين في فم الميت اللتين قام أحد الشياطين الثلاثة في الفيلم بخلعهما، أو بمعنى أصح سرقتهما، متوهماً أنهما من الذهب الخالص.
فتفصيلة السنتين هذه ليس لها أي وجود في رواية أديب البرازيل الكبير.
وعندي أنها إضافة عبثية، لا تعني شيئاً، ومن بين ما حكى عن هذه الإضافة من باب الإشادة، أن بطل الفيلم حميدة، قد ضحى من أجلها بسنتين طبيعيتين، ويا ليته ما فعل، وأحتفظ بهما سنتين عزيزتين، من بقايا الزمن الجميل.
انتصار الشباب
ولو استثنينا “حميدة” و”لبلبة” والمصور “طارق التلمساني” فجميع أبطال الفيلم الآخرين من الشباب. “فسري النجار” و”عمر واكد” و”صلاح فهمي” و”كارولين خليل”، من الجيل الجديد. ومؤلف الفيلم “خالد مرعي”، هو الآخر من ذلك الجيل.
وكذلك الأمر بالنسبة لكاتب السيناريو ومخرج الفيلم “أسامة فوزي”.
فكلاهما شاب، وكلاهما ليس في رصيده قبل “جنة الشياطين” سوى فيلم واحد “عفاريت الأسفلت”.
ومن الأكيد أن فرصة الإبداع لذلك الجيل الشاب، من ايجابيات انتاج “جنة الشياطين”.
والفضل في ذلك، إنما يرجع، ولا شك، إلى النجم “محمود حميدة”.
وأعود إلى كاتب السيناريو والمخرج، لأقول أن البادي من رصيدهما، أن كليهما مولع بحياة الهامشيين وهذا لا يعيبهما في شيء، فالهامشيون ناس من الناس.
لزوم ما يلزم
والعرض لحياتهم في لغة السينما، كما في لغة الأدب، من طبائع الأمور، بحكم أن عددهم في ازدياد، ومشاكلهم في ظل رأسمالية منتصرة ومتوحشة معاً، تتعقد أكثر فأكثر، على نحو قد يؤدي إلى انفجارات اجتماعية، لا تحمد عقباها.
ولسوء الحظ، فالسيناريو لم يعرض لحياتهم من هذه الزاوية، وإنما عرض لها من زاوية أخرى على النقيض تماماً.
فحياة الشياطين الثلاثة، وبائعتا الهوى، وهم جميعاً هامشيون، نشاهدها في الفيلم، وقد جرى تمجيدها على نحو بدت معه، وكأنها حياة مثلى، علينا أن نسعى إليها، فيما لو كنا نريد حقا التحرر من مجتمع عفن، متزمت، أسير تقاليد بالية، وعادات عفى عليها الزمان.
ومما يؤخذ على السيناريو أنه دار، مع الأسف، حول معان، دون أن يقدمها لنا بجلاء ومنطق واضح، يترتب لاحقه على سابقه.
فالشياطين الثلاثة يفاجأون بأن الميت المتشرد ينتمي إلى أسرة عريقة، فيحملون جثته إلى حيث كان يقيم، قبل اختيار الفرار من أسر الأسرة إلى حياة التشرد تحت اسم مستعار “طبل” استبدله باسمه الوقور “منير رسمي”.
أخماس في أسداس
وابنته التي لا تقيم وزناً إلا للمظاهر وكلام الناس ها هي ذي، بعد استلام الجثة، تعد العدة لجناز يليق بمقام الأسرة، وجلال الموت.
وفجأة، ودون أي تمهيد، إذا بالشياطين الثلاثة يعودون إلى بيت الميت، حيث قاموا باختطاف جثته، دون أن تحرك الابنة ساكناً.
أما لماذا حدثت العودة والاختطاف ورضوخ الابنة؟ فذلك ما سكت السيناريو عن بيان حكمته.
وهكذا غادرنا دار السينما نضرب أخماساً في أسداس، لا نعرف سبب تصرف الابنة والشياطين على الوجه سالف البيان.
والأهم، غادرناها، دون أن يثير الفيلم فينا أية تأملات، قد تفيدنا في مواجهة عاديات الزمان!!