خلطبيطة

هذا فيلم بدأ ظريفاً، وانتهى سخيفاً والحق أنه عمل سينمائي في إجماله خفيف الدم، يحمل من المفاجآت وألوان الترفيه الشيء الكثير.

بطله “محمود عبد العزيز” واسمه في الفيلم “حسان ضرغام النمر” تخرج في كلية الزراعة، ومع ذلك يعمل في إحدى مكتبات وزارة الثقافة.

يعيش وحيداً في بيت عتيق وهو رجل قنوع، لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ولا يريد الزواج، حتى ممن تحبه إلى درجة الهيام “منى زكي”، ولا يهوى سوى تنسيق الأزهار وصيد الأسماك. باختصار إنه إنسان مسالم، لا يملك لأحد لا ضرّاً، ولا نفعاً.

عبث الأقدار

وذات مساء، وبلا مقدمات، انقض عليه في شقته ثلاثة رجال، بغرض القبض عليه. لماذا؟ لأنه متهم بارتكاب جريمة خطيرة لا يعرف عنها شيئاً.

وعندما يمثل أمام المحقق “أحمد توفيق” لا يواجهه بتهمة محددة على وجه اليقين، وإنما يستفسر منه عن سهرة حضرها قبل أيام في بيت أحد أصدقائه، احتفالاً بسبوع طفل ذلك الصديق.

التيه الكبير 

وما هي إلا لحظات، حتى فاجأه المحقق باستفسار أكثر سخافة “لماذا جمع الصديق المحتفي بطفله بين سبوعه وطهوره في حفل واحد” ؟

وبعد ساعات قضاها داخل ما يشبه الزنزانة، افرج عنه، لكن ليس قبل أن قيل له أنه سيجري استدعاؤه للمحاكمة أمام القضاء عما هو منسوب إليه من اتهام.

وبدءًا من ذلك الافراج، يزج بنا المخرج “مدحت السباعي” الذي هو في نفس الوقت مؤلف القصة المبني عليها الفيلم، فضلاً عن السيناريو والحوار، يزج بنا، نحن المتفرجين في متاهات أو خلطبيطة ليس لها أول من آخر.

وبطبيعة الحال لن أقف عند تفاصيل تلك الخلطبيطة، لا لسبب سوى ضيق المجال.

ومن ثم أقصر قولي على أن السباعي، بوصفه المؤلف، قد استوحى قصة فيلمه من “المحاكمة” رائعة “فرانز كافكا” الروائي التشيكي ذائع الصيت.

اختلاف النهايات

وبطل “المحاكمة” عكس بطل “خلطبيطة” لا يعرف من اسمه سوى حرفه الأول “كاف”. وهو الآخر يقبض عليه مثل “حسان ضرغام النمر”. ويواجه مثله بتهمة لا يعرف ماهيتها، ينفق حياته في محاولة معرفتها، وتبرئة نفسه منها.

ولكن هناك فرق جوهري بين البطلين “كاف” و”حسان”.

فالأول يطرحه المحققان أرضاً في نهاية القصة، ويذبحانه كما تذبح الشاة. وبينما يجري ذبحه، يقول عن نفسه هذه الجملة “كما يموت الكلب”. أما الثاني، أي “حسان” فينجو في ختام الفيلم من الإعدام.

وفي لقطات الختام، نراه يخرج من الصحراء، حيث كان معتقلاً، متجهاً إلى العمران، وكلمات أغنية “سيد درويش” “أنا المصري كريم العنصرين” ترن في الآذان.

والأكيد أن هذه النهاية السعيدة، مفتعلة كل الافتعال.

ولولاها، ولولا اختيار “السباعي” “منى السعيد” نجمة لفيلمه، لكان لخلطبيطة شأن كبير.

نوادر واحباطات سينمائية

ما أكثر المفارقات في حياتنا.

قبل ثلاثة أيام اشتريت العدد الأخير من مجلة سايت آند ساوند “مايو” وهي مجلة سينمائية شهرية، تصدر عن معهد الفيلم البريطاني في لندن، ودفعت ثمناً له سبعة وعشرين جنيهاً.

وطبعاً بدأت بقراءة فهرس ذلك العدد، حيث تبين لي أن الفيلم الذي وقع عليه اختيار هيئة تحرير المجلة، كي يكون فيلم الشهر هو “البلهاء” لصاحبه المخرج الدنمركي “لارس فون ترير” الذي سبق وأن شاهدنا فيلمه الرائع “تكسير الأمواج” في مهرجان القاهرة السينمائي، قبل ثلاثة أعوام.

وأن ثمة مقالاً يحتل صفحتي 35،34 من العدد يعرض فيه كاتبه للفيلم المختار بإفاضة، ويحلله بالتفصيل.

وبداية ، فقد يكون من المفيد أن أعرف بصاحب “البلهاء” في كلمات.

بيان وتبيين

اشتهر عن “فون ترير” أنه أصدر مع سينمائيين آخرين بيانا عُرف بـ”دوجما 95″ وهو بيان أُريد به تمهيد الطريق نحو سينما جديدة، بسيطة متحررة من معوقات الإبداع.

وقد بينها على سبيل التمثيل أذكر الحيل السينمائية والمؤثرات الخاصة، وما إلى ذلك، من ابتكارات واختراعات كبّلت الفن السابع بأغلال، أفقدته الكثير من البراءة والعفوية.

وكان فيلمه “البلهاء” مع “احتفال العائلة” للمخرج الدنمركي “توماس ڨينتربرج” أحد محرري بيان “دوجما95” أهم حدث في مهرجان كان (98) وكلاهما كان ضمن أفلام المسابقة في ذلك المهرجان.

ولأنني كنت على موعد مع صديقة سويدية، انتظر مجيئها، ومعها نسخة من “البلهاء” مسجلة على شريط ڨيديو، لذلك أسرعت بتصفح مجلة “سايت آند ساوند” بحثاً عن المقال المكتوب عن الفيلم، كي ألم بموضوعه، وأكون على بينة بما قيل عنه، قبل مشاهدته.

الغريب والقريب

وكانت المفاجأة المريرة، عندما اكتشفت أن مشيئة الرقيب قد تدخلت لتفسد على قراءة المقال بتمزيق الصفحة الأولى منه (ص34 ومعها بحكم الضرورة الصفحة السابقة).

وهكذا، وهنا المفارقة، شاء لي شخص غريب أن أرى “البلهاء”، وشاء لي شخص قريب، ولكنه رقيب، ألا أقرأ ما كتبه عنه قلم ناقد في واحدة من أعرق وأشهر المجلات السينمائية، وأكثرها رسوخاً وسعياً إلى عرض ونقد الأفلام بموضوعية وجدّية قلّ أن يكون لهما مثيل في غيرها من المجلات.

ومن المفارقات الأخرى التي أرى الوقوف عندها، ولو قليلاً، ما حدث لبضعة أفلام رفعية المستوى، وهي تتنافس مع أفلام أقل منها شأناً.

وابدأ بالرائعة “شكسبير عاشقاً” لأقول أن عرضها عندنا هنا في مصر، جرى مصحوباً بدعاية مكثفة، جوهرها فوزها بسبع جوائز أوسكار.

غرائب وعجائب

وكان المتوقع بعد حملة الدعاية هذه أن يقبل المثقفون على مشاهدة “شكسبير عاشقاً”. ولا غرابة في هذا، فلا أحد منهم إلا وقد سمع بشكسبير كاتباً مسرحياً وشاعراً، ولا أحد منهم إلا وقد قرأ عن الفيلم ونجاح مخرجه “جون مادن” مع كاتبي السيناريو “توم ستوبارد” و “مارك نورمان” في صنع عمل سينمائي يتناول سيرة شكسبيرفي أثناء معاناة الإبداع، وبالذات إبداع مسرحية كان يزمع أن تكون ملهاة، فإذا بها تتحول بفضل قصة حب مستحيل إلى مأساة، اسمها “روميو وجولييت”.

وفعلاً تحقق ما كان متوقعاً، وأقبل عدد لا بأس به من المثقفين على مشاهدة الرائعة المتوجة بأكثر من أوسكار.

ولكن أمراً آخر شديد الغرابة حدث في نفس الوقت. ذلك الأمر هو نجاح فيلم من نوع الملهاة السوداء اسمه “الساحرات”، فلقد فاقت إيراداته عندنا ما حققه “شكسبير عاشقاً” من إيرادات، رغم أنه من الناحية الفنية أقل منزلة من فيلم متوّج بسبع جوائز أوسكار، ويتفوق في عدد تلك الجوائز على فيلم سبييلبرج الأخير “انقاذ النفر رايان”.

والآن، وأنا اقترب من الختام، لا يفوتني أن أشير إلى فيلمين آخرين رفيعي المستوى. ومع ذلك لم يحققا نجاحاً، أو بمعنى أصح باءا في الشباك بفشل ذريع.

وهذان الفيلمان هما “بنت حلوة جداً” و “مهام تقوم بها في دنڨر” (اسم مدينة أمريكية)، و “أنت مع الأموات”.

الآباء والأبناء

وكلاهما أول فيلم روائي طويل لمخرجه. ومما يعرف عن الفيلم الأول أن صاحبه “نك كازاڨاتس” ابن المخرج والممثل الراحل “جون كازاڨاتس” والممثلة الرائعة “جينا رولاند”.

وقد أسند لها ابنها في الفيلم دوراً صغيراً. والفيلم مأخوذ عن سيناريو مبتكر كتبه الأب، قبل رحيله عن عالمنا بقليل. ويتقاسم بطولته النجمان “شين بن” و “جون تراڨولتا”.

وهو من الأفلام الأمريكية النادرة التي تعرض لحياة المهمشين في الولايات المتحدة، أرض الأحلام.

أما الفيلم الثاني فمخرجه “جاري ڨليدر” ويلعب الدور الرئيسي فيه النجم “اندي جارسيا” متقمصاً شخصية نصاب معتزل، يدير متجراً لأشرطة الفديو، ويريد أن يعيش حياة آمنة، مطمئنة. ولكن سرعان ما تثبت به الأيام أن هذه الحياة بعيدة المنال.

المهمة المستحيلة

فها هو ذا رئيسة السابق في عالم الإجرام يستدعيه، طالباً إليه، أو بمعنى أصح آمراً له، أن ينفذ مهمة ما، هي إثارة الرعب في قلب فتى أقام علاقة حب مع الفتاة التي كان ابنه الوحيد متيماً بها.

وتنفيذاً لهذا الأمر جمع “جيمي” (جارسيا) أربعة من رفاقه القدامى، المتمرسين في الإجرام، وطلب إليهم القيام بمهمة تخويف ذلك الفتى، مقابل مبلغ يغنيهم عن الإجرام في مستقبل الأيام.

ولكن حدث أمر بينهم وبين الفتى والفتاة حبيبة ابن الأب الروحي الوحيد، أمر جلل لم يكن في الحسبان.

أما ما هو ذلك الأمر، وما ترتب عليه من آثار، فذلك ما يحكيه سيناريو مبتكر، محكم البناء، ترجمه إلى لغة السينما مخرج يجيد الكتابة بالكاميرا.

ومن راعني ألا يشاهد فيلمه من المثقفين إلا عدداً أقل من القليل.

!!لا للإرهاب ولا للتطبيع

كان “أمن دولة” و”فتاة من إسرائيل” فرسا رهان، بدءًا من عيد الأضحى الأخير، وحتى الآن.

فكلاهما نافس، ولا يزال ينافس، الآخر في مضمار الصراع، من أجل الفوز بنصيب الأسد من إيرادات الشباك، خاصة بعد فشل فيلمي “الظالم والمظلوم” و”الزعيم”.

واللافت للنظر في الفيلمين المتنافسين أن كليهما يقطر سياسة، ويتبنى نظرية المؤامرة التي تقول من بين ما تقول أن اسرائيل تسعى جاهدة إلى هدم مجتمعنا، عن طريق الإفساد لشبابنا، تارة بدفعهم إلى هاوية الإرهاب، وتارة بإغرائهم على تعاطي المخدرات، وارتكاب الفحشاء مع بنات اسرائيل.

كم عمر اللاءات

ويتمحور “أمن دولة” حول خطر الإرهاب الممول من قبل الدوائر الحاكمة في اسرائيل. أما “فتاة من اسرائيل”، فيتمحور حول الجنس والسموم البيضاء ورفض التطبيع.

وينفرد الفيلم الأول، وبطلته “نادية الجندي” نجمة الجماهير، دون الفيلم الثاني وبطلاه “رغده” و”محمود ياسين” بعدة مزايا، أذكر من بينها على سبيل التمثيل:

أولاً: انتقال مخرجه “نادر جلال” بالأحداث إلى أكثر من بلد أجنبي كفرنسا وقبرص ولبنان، هذا في حين أن أحداث الفيلم الثاني كادت تنحصر في مكان واحد هو فندق طابا.

اختلاف اللغات

ثانياً: غلبة السينما على أسلوب إخراجه، ولا غرابة في هذا بالنسبة لفيلم مخرجه سينمائي مخضرم، رصيده من الأفلام جاوز الخمسين عداً. وحال “فتاة من اسرائيل” على العكس من ذلك تماماً.

فما أكثر المشاهد فيه التي تغلب عليها لغة المسرح، وهو ما انعكس، بصفة خاصة على أداء الممثلين، لاسيما محمد متولي ومحمود ياسين. ولعل مجيء الفيلم مشوباً بذلك العيب يرجع إلى أنه أول عمل سينمائي للمخرج الشاب إيهاب راضي.

وربما يرجع إلى سبب آخر هو ضعف سيناريو قوامه الثرثرة، كتبه طابور طويل من محترفي السيناريوهات المفتعلة، المفتقدة للروح، يتصدره الدكتور رفيق الصبان. ولعله من المفيد هنا، ونحن في مجال المفاضلة بين الفيلمين، أن أذكر أن “فتاة من اسرائيل” زاخر بالفتيات شبه العاريات.

حضور وحيوية

ومع ذلك فأي منهن ليس لديها حضور يرقى إلى مستوى حضور نجمة الجماهير.

كما أن أياً منهن تفتقد حيويتها، تلك الحيوية التي أهلتها لتربع عرش أفلام الحركة، دون منازع زهاء عقدين من عمر الزمان.

ومما يعيب “فتاة من اسرائيل” الغلو في كل شيء على نحو أفقده أية مصداقية. فاليهود فيه لا يسعون فقط إلى توسيع رقعة أرض إسرائيل، بحيث تمتد من الفرات إلى النيل.

حكماء صهيون

بل يسعون كذلك إلى إحكام قبضتهم على العالم بأسره، عملاً ببروتوكولات حكماء صهيون وهم في سبيل تحقيق ذلك لا يتورعون عن استعمال أحط وسائل الفساد.

ومما يُعرف عن تلك البروتوكولات أن أحداً لم يسمع بها، إلا في مستهل القرن العشرين، حيث جرى نشرها داخل روسيا القيصرية، التي كانت سجناً للشعوب في ذلك الزمان (1901).

وكان النشر بغرض إثارة النعرات العنصرية والدينية، وذلك لصرف أنظار شعوب سجن القيصرية، عن قضية المطالبة بالحرية، والاستقلال.

وقد جاء أول ذكر لتلك البروتوكولات في الفيلم على لسان “عبد الغني درويش” أستاذ التاريخ ووالد الشهيد ويؤدي دوره محمود ياسين وذلك في أثناء مساجلة حامية مع الدكتور يوسف أستاذ علم الاجتماع في إحدى الجامعات الاسرائيلية، ويؤدي دوره فاروق الفيشاوي. وسرعان ما تأكدت مقولة أبي الشهيد عن تلك البروتوكولات، عندما أعترف الدكتور يوسف في لحظة نشوة، بأن هيمنة اليهود على العالم هي المراد.

الآباء والأبناء

ومن مظاهر الغلو، الأخرى، مسلك كل من “رتيبة” أم الشهيد، وتؤدي دورها “رغدة” وأبي الشهيد. فهي لا تكف عن النواح على ابنها الذي قتله اليهود غدراً، قبل عشرين عاماً. ولا تكف عن صب اللعنات على القوم الكافرين، من بني اسرائيل. وإذا ما لمحت نجمة داود حول رقبة رجل أو امرأة أغمى عليها، أو أصابتها حالة غثيان.

وهو، أي أبو الشهيد، ما أن عرف أن الدكتور يوسف اسرائيلي حتى أصيب بحالة دوار، أعقبتها حالة قيء في دورة المياه، حيث تتبعه الدكتور يوسف، متذرعاً بغسل كفّيه.

ولكن ما أن مسهما الماء، حتى تحول في نظر أبي الشهيد إلى دماء!!

ونفس الغلو نراه متمثلاً في مسلك طارق شقيق الشهيد، ويؤدي دوره خالد النبوي.

فما أن أنقذ “ليزا” الفتاة الاسرائيلية وتؤدي دورها “داليا حسين” من الغرق وأغرته بمعسول الكلام حتى هام بحبها، ونسى حبه الأول حنان ترك.

وما أن عرض عليه الدكتور يوسف أبو ليزا أو عمها لست أدري، وظيفة في اسرائيل بمرتب

شهري قدره عشرة آلاف دولار، حتى ضحى بالوطن والأهل والخلان.

طريق الجحيم

وفي نهاية مفتعلة أشدّ افتعال، يعود دون تمهيد إلى حضن أمه وأبيه، مضحياً من أجل الوطن بآلاف الدولارات، وبفرصة ذهاب لن تعود، إلى أمريكا أرض الأحلام.

والأكيد أن كل هذا الغلو وغيره كثير، قد أساء إلى الفيلم، والأهم أساء إساءة بالغة إلى قضيتنا التي تخلص في عدم التطبيع حتى إزالة آثار العدوان.

وختاماً، فليس عندي ما أقوله سوى ترديد المثل القديم، الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة!!