نظرة طائرة على السرقات الكبرى

سرقات القطارات والمصارف ومحلات المجوهرات وغيرها من الأشياء الثمينة فضلاً عن سرقات قصور الأثرياء والآثار والمتاحف كانت دائماً محل اهتمام صانعي الأفلام والحق، فهي بوصفها موضوعاً رئيسياً تدور حوله أحداث الفيلم وجوداً وعدماً بدأ الاهتمام بها مبكراً، والسينما في المهد مولوداً، ليس في وسعه حتى الكلام وتحديداً في مطلع القرن العشرين فأثناء العام الثالث من ذلك القرن، فؤجي رواد السينما بفيلم ليس كغيره من الأفلام، أما لماذا كان فيلماً مختلفاً فذلك لأن موضوعه دار حول سرقة مبلغ طائل من المال من قطار بريد في الغرب الامريكي، حيث كان يكثر قطاع الطرق وغيرهم من الأشرار، ثانياً لأنه بالنسبة لزمانه الموغل في القدم كان فيلماً زاخراً بالحركة والتشويق والابتكار، ورغم أن مدة الفيلم واسمه “سرقة القطار الكبرى” لم تزد عن بضع دقائق، شأنه في ذلك شأن جميع الأفلام في ذلك الزمن القديم، إلا أنه كان له تأثير كبير على مسار السينما، فيما هو قادم من أيام فلم يمضي سوى زمن قصير، إلا وكان هذا النوع من الأعمال السينمائية القائم على سرقات كبرى، تهز من أهوالها المجتمعات، منتشراً في شكل أفلام الغرب الامريكي، وعصابات شيكاغو وغير ذلك من عتاة الاجرام، بعضهم تخصص في سرقة محلات الحلي الثمينة وغيرها من نفائس الأشياء وعندما ارتفع ثمن لوحات كبار الفنانين التشكيليين وغيرها من الأعمال الفنية النادرة حتى وصل إلى أرقام فلكية، سال لعاب كبار اللصوص فأنصرف نفر منهم إلى ابتكار وسائل جهنمية، بها يقتحمون تارة قصور الأثرياء المولعين باقتناء التحف الأثرية وأعمال مشاهير الفنانين وتارة يقتحمون المتاحف الكبرى حيث روائع نادرة من كل فن ولون معروضة، متعة للناظرين.

ومع تعدد السرقات من القصور والمتاحف، حتى أصبحت أمراً مألوفاً ينشر على صفحات الجرائد من حين لآخر ويكون حديث الناس زمناً طويلاً، رأى صناع الأفلام أن هذا النوع من السرقات يعد منجماً لا ينفذ لأعمال سينمائية، مدار أحداثها جرائم، يتم تنفيذ بعضها في قصور الأثرياء والبعض الآخر في المتاحف الكبرى “كبرادو في مدريد” و”اللوفر وتوبكابي” في اسطنبول” و”جوجنهايم” في نيويورك.

ومن بين الأفلام التي وقع اختيار مخرجيها على أحد المتاحف الكبرى مكاناً لأحداث فيلمه، أو للبعض منها لما له من أهمية في مسارها، اكتفي لضيق المجال بالوقوف قليلاً عند ثلاثة من هذه الأفلام وأبدأ بأحدثها “الحب المجنون” (2009) لأقول أنه فيلم اسباني للمخرج “بيدا ديكامبو فييخو”.

وتبدأ أحداثه بمشهد في متحف “البرادو” وتحديداً في القسم الهولندي (الفلمنكي) منه وأمام لوحة للرسام “بوسن” وبطلاها مدرس بيانو وتلميذته، وهي تعزف على هدى توجيهاته وتكاد تتمحور جميع الأحداث التالية حول تلك اللوحة وبطليها اللذين من حين لآخر يبعث كلاهما حياً.

أما الفيلم الثاني وهو أقدم قليلاً واسمه “الدولي” لصاحبه المخرج الالماني “توم تيكفر” فتدور أحداث أهم مشاهده في متحف “جوجنهايم” حيث يتبادل المجرمون والبطل المطارد لهم الرصاص وسط لوحات وتماثيل كبار الفنانين.

وعند الفيلم الثالث “توبكابي” (1964) لصاحبه “چول داسان” المخرج ذائع الصيت، عنده أقف قليلاً لأقول أنه من أولى لقطاته، حتى آخرها يدورحول سرقة خنجر مرصع بالماس من روائع متحف “توبكابي”، كان من بين مقتنيات أحد خلفاء آل عثمان كيف أعدت لها عصابة من اللصوص المحترفون، بحرفية منقطعة النظير، وكيف تمت وسط مخاطر جسام؛ ومن بعد “توبكابي” تكرر كثيراً هذا النوع من الأفلام.

الحذاء الأحمر.. والفلاح الفصيح

هذان فيلمان لا يجمع بينهما سوى عملية ترميم أجريت لكليهما انقاذاً لهما من العدم، بواسطة مؤسسة انشأها قبل بضعة أعوام المخرج الأمريكي ذائع الصيت “مارتن سكورسيزي” من أجل حماية التراث السينمائي العالمي من عاديات الزمان.

وفيما عدا عملية الترميم هذه التي أعادت للفيلمين ما لهما من جمال وجلال، فيما عدا ذلك، يكاد يختلف كلاهما عن الآخر في كل شيء.
“فالحذاء الأحمر” فيلم انجليزي روائي طويل، أخرجه صاحباه “ماكيل باول” و”ايميريك برسبورجر” قبل اثنين وستين عاماً، قصته مستوحاه من إحدى حكايات “هانزكريستيان اندرسن” الكاتب الدنمركي الشهير.

وأحداثها تدور، حسب سيناريو الفيلم أثناء النصف الأول من القرن العشرين، أي في زمن قريب، أما “الفلاح الفصيح” ففيلم مصري قصير “22 دقيقة” يجمع بين خصائص الفيلم التسجيلي وخصائص الفيلم الروائي، إذ أنه من خلاله تحكى أحداث قصة ما أخرجه “شادي عبد السلام” صاحب رائعة السينما المصرية “ليلة حساب السنين” أو “المومياء”، وذلك قبل أربعين عاماً بالتمام.

وقصته مستوحاه من حكاية لفلاح فصيح، كما وردت في ورقة بردي، لها من العمر آلاف السنين.

وبحكم ذلك، فأحداثه لا تدور في زماننا وإنما في زمن آخر موغل في القدم، وتحديداً زمن الفراعين.
وهنا لا يفوتني أن أشير إلى فارق آخر بين الفيلمين، أراه مهماً، ففي حين أن “الحذاء الأحمر” يعد بحق أجمل عمل سينمائي مداره رقص الباليه علي مر العصور، قد جرى عرضه عالمياً بما في ذلك مصر، حيث شاهدته في دار سينما “ريفولي” عندما كانت درة نفيسة (1948)، ولم تدمرها بعد، هي ودار سينما مترو نيران حريق القاهرة (26 يناير 1952) وتوابعه على مر عهود، خربتها، بأكثر مما يستطيع مجنون أن يفعل.

وفضلاً عن ذلك، فما أن تم ترميمه وجرى عرضه في مهرجان كان أثناء دورته الثانية والستين حتى تلقفته دور السينما في مشارق الأرض ومغاربها ثم ما لبث أن جرى طبعه على اسطوانات مدمجة “دي. في. دي” درّت على أصحابه الملايين من عزيز الدولارات.

كان ما حدث للفلاح الفصيح على العكس تماماً لما حدث للحذاء الأحمر، فعندما أكمل شادي عملية توليفه “مونتاجه” لم تتح له فرصة العرض إلا في أضيق الحدود.

ومن ثم لم تتح فرصة مشاهدته إلا لنفر قليل، وشأن كل جديد وجميل في مصر سرعان ما غمره النسيان، وهكذا بقى نسياً منسياً إلى أن اكتشفه نفر كرّس حياته لإنقاذ الدرر السينمائية المهددة، والغريب في الأمر أنه ما أن نجحت عملية ترميمه، وجرى عرض له أثناء فعاليات مهرجان كان الأخير، حتى أخذت رمال النسيان مرة أخرى تغمره شيئاً فشيئاً.

فلا عروض له في ساحات وباحات وزارة الثقافة ولا طبع له على اسطوانات مدمجة، تنشر كلام فلاح فصيح صادر من القلب، قبل اللسان كلام يشجب الظلم ويشيد بالعدل .

فإذا به صرخة ضد الظالمين تدوي في الآذان، منذ آلاف السنين وكم كان أبو الطيب المتنبي ثاقب النظر عندما قال “وفي مصر كل شيء يُنسى….. بعد حين”.

جمال المكان.. وسحر الزمان

كنت سعيد الحظ، فما أن عدت من المانيا، بعد أسبوعين قضيتهما في ربوعها، حتى وجدتني أشاهد مدينتي “ڤينسيا وسان فرانسسكو” بجمالهما الخلاب في فيلمين.

أحدهما “كازانوفا” لصاحبه المخرج السويدي “لاس هولسترم”. والآخر “أشبه بالنعيم” لصاحبه المخرج الامريكي “مارك ووترز”.

وأستطيع أن أقول أنني، بفضل مشاهدة الفيلمين في القاهرة، قد زرت المدينتين، مرة أخرى.

انجاز السينما

وهنا تتجلى عظمة السينما على حقيقتها، أصبحت هي التي تعرض علينا كل الروائع الفنية، أينما كانت، دونما حاجة إلى قطع المسافات الطوال، مثلما كان الحال في سالف الزمان.

وڤينسيا، كما شاهدتها في “كازانوفا” ليست ڤينسيا المعاصرة، التي زرتها أكثر من مرة مشدوهاً بقنواتها ينساب فيها الجندول، وبقصورها ومتاحفها، ودور عبادتها وآيات من الفن الرفيع تزدان بها الميادين والخلجان.

أيام زمان 

وأنما “ڤينسيا” منتصف القرن الثامن عشر (1753) حيث كان يعيش “كازانوفا” زير النساء الشهير ويؤدي دوره “هيث ليدجر”، ذلك النجم الصاعد والذي كان مرشحاً لجائزة أوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه في فيلم “جبل بروكباك”، الفائز مبدعه “انج لي” بجائزة أوسكار أفضل مخرج.

ومما يعرف عن ذلك الزمن الموغل في القدم أنه كانت محاكم التفتيش تعيث في أرض ايطاليا فساداً وإرهاباً، باسم حماية حسن الآداب من مرتكبي الفحشاء.

فسق ومجون

والفيلم يبدأ “بكازانوفا” متهماً بممارسة الفسق والفجور، مطارداً من شرطة “ڤينسيا”، تنفيذاً لأمر صادر من إحدى تلك المحاكم، بإلقاء القبض عليه حياً أو ميتاً. وأين نراه مطارد؟

لدهشتنا في دير للراهبات!!

وانطلاقاً من هذه البداية، بإيقاعها السريع، وجرأتها منقطعة النظير، تتلاحق الأحداث لاهثة، تنقطع لها الأنفاس.

قضاء المناسبات

فالمطاردة سرعان ما تنتهي بإلقاء القبض على “كازانوفا”، ومحاكمته أمام قاضي مناسبات، كان على وشك أن يصدر عليه حكماً بالإعدام، لولا حيلة أثارها في آخر لحظة صديقه أو حاميه “الدوج” حاكم ڤينسيا، فانتهت به حراً، طليقاً.

ولم تكن حريته مطلقة، بل مشروطة بتنفيذ أحد أمرين أحلاهما مر.

إما أن يغادر، وإلى الأبد، ڤينسيا المدينة الحبيبة إلى نفسه.

وإما أن ينخرط في سلك المتزوجين، الأمر الذي لابد وأن يحول بينه وبين اغراء النساء.

ولأنه لا يستطيع احتمال مرارة فراق ڤينسيا، فقد آثر الاستجابة لأمر الزواج. وها هو ذا، مع تابعه “لوبو” يبدأ عملية البحث عن حسناء، بتول، تصلح أن تكون له شريكة حياة.

اللقاء السعيد

في هذه الأثناء، يلتقي “بفرنشسكا” – وتؤدي دورها “سيينا ميللر” – وهي فتاة متحررة، تكتب تحت اسم مستعار، مؤلفات تدعو النساء إلى التحرر من رق الخضوع للرجال.

أما كيف كان اللقاء، وكيف وقع في حبها من أول نظرة، وكيف وقعت بدورها في حبه، دون أن تعرف أنه “كازانوفا” ذلك الشخص الذي كانت تمقته مقتاً شديداً.

وكيف انتهى بهما الأمر مطاردين من قبل مطران فظ غليظ القلب، ومبعوث “روما” لتطهير ڤينسيا من الفسق والفساد – يؤدي دوره، واسمه “بوتشي”، النجم المخضرم “جيرمي ايرنز” الفائز بأوسكار أفضل ممثل رئيسي “1990”.

معركة خاسرة

فذلك كله تحكيه حبكة معقدة بعض الشيء تذكرنا بحبكات مسرحيات كل من الأديبين الفرنسي “ماريفو” والايطالي “كارلو جولدوني”.

كالمعتاد، شأنه في ذلك شأن تلك المسرحيات، حكيت أحداث “كازانوفا” بأسلوب كاريكاتوري، فكاهي، القصد منه كشف النقاب عما في مجتمعات متزمتة من نفاق مستتر، بغيض.

والتدليل بشيء من المبالغة على أن محاربة الطبيعة الانسانية معركة مآلها الخسران المبين!!