شئ من السياسة في السينما العربية

موسوعة الفيلم لصاحبها أفراهيم كاتز تسع كل شيء عن فن السينما، أو من المفروض أن تكون كذلك. ومع هذا فإذا ما رجعت إليها بحثاً عن السينما العربية تحت عبارة الفيلم العربي، لكان رجوعك عبثاً لأنك ستجد صاحب الموسوعة وقد اكتفى تحتها بكتابة كلمتين فقط لا غير “انظر مصر”، فإذا ما قلبت صفحات الموسوعة سعياً نحو مصر، لاكتشفت أن نصيب سينما القاهرة من صفحات الموسوعة الضخمة التي يصل عددها إلى 1266 عموداً هو عمود واحد لا يزيد، وأن الوطن العربي بجميع أقطاره الأخرى ليس للسينما فيه نصيب في هذا العمود اليتيم.
حقاً أن بعض أجزاء الوطن العربي كالسودان والصومال وأرض الجزيرة مجدبة من الإبداع السينمائي تماماً أو تكاد. غير أنه إجداب من النوع الذي لا يشكل أزمة للفن السابع داخل الوطن الكبير.

فليس مطلوباً أن يكون لكل جزء من الوطن الذي تمتد خريطته من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي سينما خاصة به، ذلك أن السينما هي أكثر الكائنات قدرة على السفر والرحيل، وليس بوسع السينما العربية أن تنعزل بين جدران إقليمية ضيقة الأفق.

المطلوب وسط الحضارة الطموح التي نعيش بين أحضانها أن تصب جميع الروافد السينمائية العربية في تيار سينمائي واحد جارف، تيار يعكس أزمات المواطن العربي الخاصة، أزماته الواقعية، ما اتصل منها بصراعه ضد الاستعمار قديمه وجديده، وضد الاستيطان الصهيوني لأرض فلسطين، وما يتصل بكفاحه اليومي من أجل الرغيف والمسكن والعلم.

وعلى كُلٍ فالثابت، ورغم العقبات، أن ثمة سينما تتفجر أصالة وحيوية بعض أفلامها آت من مغرب الوطن العربي، وبخاصة الجزائر، عقب انتزاعها الاستقلال من براثن الاستعمار الفرنسي، والبعض الآخر آت من مشرقه لاسيما الجزء منه المطل على البحر الأبيض المتوسط: وهي مع سينما القاهرة تكون تيار السينما العربية بجميع أبعاده وتناقضاته.

وغني عن البيان أن غلبة تيار سينما القاهرة، أو كما يحلو للبعض أن يسميها هوليوود العرب ليس مدعاة لإغفال ذكر التيارات أو الروافد العربية الأخرى، ومن ثم الانتهاء إلى حصر السينما العربية في التيار الأقوى وبالتنكر لأي تيار أخر.

ففضلاً عن أن هذه النظرة تخالف ما يحدث في حلبة السينما العربية، فإنها لا ترى من واقع تلك السينما إلا ظاهره دون الغوص في أعماقه بحثاً عن التأثير الجدلي المتبادل بين التيارات المتصارعة داخله. فواقع السينما العربية يكشف عنه أنه في الوقت الذي لم تستطع السينما في هوليوود العرب الفوز لأي فيلم من إنتاجها على مدى خمسة وخمسين عاماً من عمر الزمن بالجائزة الكبرى في أي مهرجان سينمائي عالمي، استطاعت سينما الجزائر أن تحصل للسينما العربية على جائزة مهرجان فينيسيا الكبرى الذي توَّج بها فيلم معركة الجزائر، وأن تفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان كان التي فاز بها فيلم سنوات الجمر لصاحبه لخضر حمينه متوجا.
وفي الوقت الذي لم تستطع هوليوود تلك أن تنتج أي فيلم له قيمة فنية أو سياسية عن الصراع العربي- الإسرائيلي وما تفرع عنه من محنة للشعب العربي على أرض فلسطين استطاع مخرجون ثلاثة من سوريا ولبنان وفلسطين (توفيق صالح وبرهان علوية وميشال خليفة) أن يجسدوا هذا الصراع بأبعاده السياسية والإنسانية في ثلاثة من روائع الفن السابع المخدوعون وكفر قاسم وصور من مذكرات خصبة.
ومهما يكن من أمرفللاقتراب من فهم الواقع المعاصر للسينما العربية وبالذات ما تعانيه من حالة فصام حاد، لابد من العودة إلى الماضي وإلقاء نظرة على مسار السينما الأقدم والأقوى في القاهرة.

كما كان لمصر فضل قيادة الوطن العربي إلى عصر البرجوازية إبان القرن الماضي، فقد كان لها فضل الريادة في حقل السينما. ولا غرابة في هذا فوضعها الجغرافي المركزي الذي يجعلها بمثابة القلب من الوطن العربي، فضلاً عن التقدم النسبي لاقتصادها، ومتعة مدنها الكبرى المشعة ثقافة وبهجة، هذا بالإضافة إلى تعرضها لتأثير الأفكار الحرة السائدة في أوروبا؛ كل ذلك أهلها لأن تكون قاعدة وطليعة للوطن العربي، تتقدم على باقي أجزائه بأكثر من عقد، وبالتالي جعل نتاجها الأدبي والثقافي أكثر تفوقاً على إنجازات سائر العرب.

يؤرخ للانتاج السينمائي الروائي الطويل في مصر بالخامس من آيار- مايو سنة 1927، وهو الذي عُرض فيه فيلم قبلة الصحراء بمدينة الإسكندرية. قبل ذلك- وخلال 1926- شاء القدر أن يصل إلى تلك المدينة شابان فلسطينيان- إبراهيم وبدر لاما- كانا في طريقهما من شيلي إلى فلسطين، ومعهما معدات للتصوير السينمائي بغرض إنشاء صناعة للسينما على أرض الآباء.
غير أنهما- وبعد أن لمسا النشاط الفني الذي كانت تزخر به الإسكندرية وقتئذ- استقر الرأي بهما على البقاء فيها حيث ساهما في تأسيس شركة مينا فيلم، وكانت باكورة إنتاجهما قبلة في الصحراء الذي يعتبر بحق أول فيلم عربي روائي تجاري طويل.

وبعد ذلك بخمسة شهور، وبالتحديد في 16 من تشرين الثاني- نوفمبر سنة 1927 عُرض في القاهرة- ولأول مرة- فيلم ليلى إخراج استيفان روستي وإنتاج وتمثيل عزيزة أمير، وهو في رأي نفر من مؤرخي السينما الفيلم الذي بدأ به إنتاج الأفلام الروائية الطويلة في مصر. وذلك باعتبار أن منتجته ونجمته تحمل الجنسية المصرية.

وسواء أكان أي من هذين الفلمين هو الأول أم الثاني، فمن المتيقن أن الإنتاج السينمائي بدأ في مصر والوطن العربي، ما عدا المملكة السعودية وإمارة اليمن، ترفرف على جميع ربوعه من المحيط إلى الخليج أعلام الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والإيطالي والأسباني، والحكم في مصر يتقاسمه الإنكليز والملك وأحزاب الأقلية وشراذم من المغامرين والأفاقين الأجانب.

في هذا الجو الذي يشيع فيه الذل والخوف بدت السينما في مصر أو بمعنى أصح في الوطن العربي كما لو كانت لا تعزف إلا لحناً واحداً لا يتغير. ونظرة سريعة على موضوع فيلمي قبلة في الصحراء وليلى وكلاهما صامت، تكفي لبيان طبيعة هذا اللحن الواحد.

قصة الفيلم الأول تكشف عن مدى تأثر الأخوين لاما بفيلم ابن الشيخ الذي مثله رودلف فالنتينو، وما لاقاه من نجاح. وهي تدور حول شاب “شفيق” من الأعراب المقيمين في الصحراء، رأته شابة أمريكية “هيلدا” فهامت به من أول نظرة. وكان شفيق مغرماً بسباق الخيل والمراهنة، دائم الشجار مع عمه لهذا السبب، وحدث ذات يوم أن عثر شفيق على عمه قتيلاً. وحامت حوله الشبهات الأمر الذي اضطره إلى الفرار والإختفاء في الصحراء حيث انضم إلى عصابة من قطاع الطرق.

وتشاء الصدف أن تهاجم العصابة قافلة تضم هيلدا ويأمر شفيق رفاقه بإخلاء سبيل القافلة بمجرد تعرفه عليها. وبفضل خنجر مشدود إلى وسطه تتعرف هي الأخرى عليه، فتعود إليه لتعبر عن هيامها به، ويتعانقان، إلا أنه سرعان ما يتذكر أنه طريد العدالة، ولا يستطيع العودة معها إلى المدينة.

وبعد أن تستأنف رحلتها مع القافلة، يُزّف إليه نبأ الحكم ببرائته، فيلاحق القافلة حيث يكتشف أن ثلاثة لصوص قد اختطفوا هيلدا فيطاردهم حيث ينتصر عليهم ويسترد محبوبته. وهذا الهراء نراه قد انتقل في جملته إلى فيلم ليلى الذي تدور قصته حول فتاة جميلة يتيمة يكفلها عمدة قرية صغيرة على مشارف الصحراء.

يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم أحمد الذي يعمل دليلاً للسائحين. وتشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بأحمد وتغريه بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل!! تطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف أنها حامل من أحمد. وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة يقف لها رءوف بك بعربته ويصطحبها إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من تشرين الثاني- نوفمبر 1927 في مجلة الصباح خير مثال يساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات: ففيه يأخذ كاتبه على عزيزة أمير جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة وهو في أشد حالات الاستياء- عن سبب إصرارها على إظهار مصر وكأنها ما تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد فيه الكثير مما نفخر به. وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش الفلاحين. وكرد فعل لهذا النقد أعلنت عزيزة أمير عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة فيلمها القادم تجري أحداثها وسط الطبقات العليا في مصر.

ولم تكن الفترة الصامتة من حياة السينما العربية طويلة، فبعد فيلم قبلة الصحراء بخمس سنوات أو يزيد وبالتحديد يوم 14 آذار- مارس 1932 أي في عهد إسماعيل صدقي باشا- وهو من أشد العهود سواداً في تاريخ مصر الحديث- عرض أول فيلم عربي ناطق أولاد الذوات للمخرج محمد كريم.

وفي هذا اليوم التاريخي اكتشف جمهور الحفلة أنه كان ضحية غش كبير؛ فقد تبين أثناء العرض أن أولاد الذوات نصفان الأول ناطق عربي اللسان، والثاني أخرس لا ينطق حرفاً واحداً. وإن هذا الاستهتار ليس له من سبب سوى رغبة منتجي الفيلم في الحد من تكاليف جعله ناطقاً بالكامل.. وهي تكاليف باهظة لا قبل لهم بتحمل أعبائها.

وهكذا ولدت السينما المتكلمة مريضة بداء الاستسهال والتسطيح والجري وراء الكسب السريع، وهو داء يرجع إلى الخطيئة الأولى وهي ميلاد السينما العربية أصلاً في مصر. والوطن العربي يئن تحت كعاب جنود الاحتلال الأجنبي.

ولعل هذا الداء هو الذي أدى إلى الانحدار بأفلام تلك السينما إلى درجة أن جيدها أصبح جد ضئيل بالمقارنة مع رديئها الذي هو كم كثير، بل وكثير جداً إلى حد الشذوذ.

بعد ذلك كله فلا عجب إذا ما انصرفت السينما، لا في مصر وحدها، بل في أقطار عربية أخرى كسوريا ولبنان، عن تناول أي موضوع جاد يؤدي إلى صحوة وطنية أو نهضة فكرية. بل العجب أن يكون الأمر على خلاف ذلك في ظل احتلال أجنبي ليس له من هدف سوى حجب المعرفة عن الأمة العربية بمزيد من التشدد في الرقابة على حرية الفكر وبالذات حرية التعبير بلغة السينما.

ومن هنا فليس محض صدفة أن أحداً لم يحاول في جميع الأفلام المنتجة في مصر، بل وفي الوطن العربي بأثره، وحتى سنة 1952 حين بدأ أحمد بدرخان تصوير فيلمه عن حياة الزعيم مصطفى كامل؛ لم يحاول أحد أن يعرض كفاح الشعوب العربية ضد المحتل الأجنبي وضد الظلم الاجتماعي.

وفي مواجهة تصاعد الحركة الوطنية المعادية للاستعمار عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار الفاشية- وقبل الحرب العربية- الإسرائيلية بقليل- لجأت الدوائر الحاكمة في الوطن العربي إلى سلاح الحد من حرية التعبير، وبخاصة في حقل السينما.

وإذا كانت مصر مرآة الوطن العربي كما يقول بحق فؤاد عجمي في كتابه المأزق العربي، فإن التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية في شباط- فبراير سنة 1947 بغرض تقنين ما جرى عليه العمل رقابياً في مصر فيما يتعلق بالسينما خلال 26 عاماً، هذه التعليمات المتشددة كان لابد من أن يكون لها انعكاساتها على السينما في الأجزاء الأخرى من الوطن العربي.

ولذلك أرى من اللازم المفيد أن نقف عندها وقفة يسيرة. تنقسم هذه التعليمات إلى شقين أولهما خاص بالناحية الاجتماعية والأخلاقية ويشتمل على ثلاثة وثلاثين محظوراً. والثاني خاص بناحية الأمن والنظام العام ويشتمل على واحد وثلاثين محظوراً.

والمحظورات الخاصة بالناحية الاجتماعية والأخلاقية تبدأ بالدين وتنتهي بالجنس والعنف.. فليس مباحاً أن تمثل قوة الله بأشياء حسية أو أن تظهر صور الأنبياء أو أن يتلى القرآن الكريم على قارعة الطريق أو في مكان غير لائق أو بواسطة مُقرئ مرتد حذاءه أو أن يظهر النعش أو النساء وهن يسرن في الجنازات وراء الموتى وليس مقبولاً أن يُساء إلى سمعة مصر والبلاد الشقيقة باظهار منظر الحارات الظاهرة القذارة والعربات الكارو وعربات اليد والباعة المتجولين ومبيض النحاس وبيوت الفلاحين الفقراء ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة والتسول والمتسولين.. وليس جائزاً أن تصور الحياة الاجتماعية المصرية على وجه فيه مساس بسمعة الأسرة المصرية أو التعريض بالألقاب أو الرتب أو النياشين أو الحط من قدر هيئات لها أهمية خاصة في نظام الحياة العامة كالوزراء أو البشاوات ومن في حكمهم ورجال الدين ورجال القانون والأطباء.. وليس لائقاً أن تظهر الأجسام العارية سواء بالتصوير أو بالظل أو أجزاء الجسم التي يقضي الحياء بسترها أو أن تذكر الموضوعات أو الحوادث الخاصة بالأمراض التناسلية والولادة وغيرها من الشئون الطبية التي لها صفة السرية أو أن تصور طرق الانتحار وحوادث التعذيب أو الشنق أو الجلد ومناظر العنف والقسوة البالغة.

أما المحظورات الخاصة بناحية الأمن والنظام العام فلها وجوه كثيرة منها منع التعرض لموضوعات فيها مساس بشعور المصريين أو النزلاء الأجانب أو لموضوعات ذات صبغة شيوعية أو تحوي دعاية ضد الملكية أو نظام الحكم القائم أو العدالة الاجتماعية؛ ومنها عدم إجازة اظهار مناظر الإخلال بالنظام الاجتماعي بالثورات أو المظاهرات أو الإضراب أو التعريض بالمبادئ التي يقوم عليها دستور البلاد أو بنظام الحياة النيابية في مصر أو نواب الأمة وشيوخها أو إظهار رجال الدولة بصفة عامة بشكل غير لائق وخاصة رجال القضاء والبوليس والجيش أو التعرض لأنظمة الجيش أو البوليس أو تناول رجاله بالنقد.. ومنها حظر الأحاديث والخطب السياسية المثيرة وتناول الموضوعات التي تعرض بمسائل العمال وعلاقاتهم بأصحاب الأعمال دون حيطة وحذر وإظهار تجمهر العمال أو إضرابهم أو توقفهم عن العمل وبث روح التمرد بينهم كوسيلة للمطالبة بحقوقهم.. ومنها ألا تعرض الأفلام للجرائم التي ترتكب بدافع من اختلاف الرأي فيما يتصل بالنظام الاجتماعي أو السياسي أو للسخرية من القانون باظهار مرتكبي الجرائم بمظهر البطولة بما يُكسبهم عطف المتفرجين والأحداث.

وفي ضوء هذه المحظورات كان أمراً مقضياً على السينما في الوطن العربي أن تنصرف عن معالجة أي موضوع اجتماعي أو سياسي يمس من قريب أو من بعيد صراع المعذبين، في أرض الوطن، ضد الاحتلال والخوف والجوع.

كل ذلك حدث قبل واقعة استيلاء الضباط الأحرار- وهم إجمالاً من البرجوازية الصغيرة- على مقاليد الحكم في مصر اعتباراً من 23 تموز/ يوليو 1952، والتحول بها من ملكية إلى جمهورية مستقلة متحررة من رق الاستعمار.

ومما لا شك فيه أن ثورة الضباط ونمط الحكم الذي أفرزته- وهو نمط انتشر في كثير من أنحاء الوطن العربي- قد فشلت في تهيئة الظروف لإقامة سينما ثورية. وأهم أسباب هذا الفشل أن قادة مصر من الضباط لم يكونوا متجانسين، ولم تكن أهدافهم موحدة لكي يوظفوا السينما للتوعية الجماهيرية.

ومن هنا استمرارية خط سينما ما قبل 23 تموز/ يوليو كاملاً دون تعديل جذري يستحق الذكر. فقد ظلت تعليمات الدعاية والإرشاد الاجتماعي متخلفة- ماعدا ما كان منها متعلقاً بالملك والأمراء والباشاوات- ظلت كما هي قرحة مزمنة تحول بين صانعي الأفلام وبين الإبداع الثوري، وبقيت السينما في مجموعها على حالها لا ترتفع عن مستوى الترفيه.. تعمل على ألا تصعد الجماهير ولو قليلاً لتُبصر.

حقاً ظهر جيل جديد من المخرجين الشبان كهنري بركات وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين، حاول في بعض أفلامه كالحرام والفتوة وباب الحديد ودرب المهابيل أن ينتقد الأوضاع الاجتماعية ولكن النقد الذي انطوت عليه أفلام هذا الجيل ظل محصوراً في وصف الأمراض الاجتماعية لا يتجاوزها إلى اقتراح الوسائل السياسية لعلاجها وإحداث التغيير المنشود.

ومع ذلك يظل عدد هذه الأفلام الجادة قليلاً تائهاً في خضم أفلام غريبة عن أرض الوطن، لا تكترث بتراثنا العاطفي والاجتماعي والإنساني، بل قل تستهتر به وتشهر. وبداهة ما كان لهذا الوضع الذي تحول بواقع السينما العربية إلى مستنقع راكد أن يدوم.

فبعد مرور خمس عشرة سنة على 23 تموز/ يوليو انقض كالصاعقة على هذا الواقع المستنقع فيلم معركة الجزائر لصاحبه جيل بونتكورفو (إنتاج جزائري- إيطالي مشترك) فأيقظ سينمائييه من نومة كهف طالت.

ففي مهرجان فينيسيا خرج هذا الفيلم متوجاً بالأسد الذهبي جائزة المهرجان الكبرى، ومتوجاً كذلك بجائزة النقد الدولي، والوقع الصاعقي الذي أحدثه في الوطن العربي حيثما عرض أو سمع عنه- يلاحظ أنه لم يعرض في مصر إلا في أضيق الحدود وحتى الآن لم يشاهده جمهور الشاشة الصغيرة- هذا الواقع، إنما يرجع إلى أنه قادم من أول أرض عربية تتحرر من الاستعمار بفضل ثورة شعبية مسلحة؛ هذا إلى أنه فيلم سياسي من ألفه إلى يائه، ويعرض للثورة في الجزائر العاصمة بأسلوب جمالي يدفع المتلقي إلى الفهم الذي يؤدي إلى العمل على تغيير الواقع.

وقد نال معركة الجزائر استحسان النقاد في القاهرة عاصمة السينما العربية، بل أن حماس أحدهم سعد الدين توفيق أوصله إلى حد وصفه بأنه أجمل وأهم الأفلام التي عرضت في مصر منذ أن عرفت بها السينما.

وفي الحق فمعركة الجزائر يعتبر أول فيلم روائي سياسي ثوري أنتج على أرض عربية، وأول فيلم يتناول قضية كفاح شعب عربي بكل الصدق والعشق، وينال مع ذلك الجائزة الكبرى لواحد من أهم المهرجانات السينمائية العالمية. فتأثره بالواقعية الجديدة وبخاصة روما مدينة مفتوحة رائعة روبرتو روسيلليني أمر واضح نلمسه في أسلوبه التسجيلي لثورة شعب مدينة الجزائر على قوات الاحتلال الفرنسي متمثلة في المظليين.. وفي استبعاده النجوم باختياره أشخاصاً عاديين لا علاقة لهم بالتمثيل لأداء الأدوار الرئيسية (الممثل المحترف الوحيد في الفيلم هو جان مارتان الذي أدى دور الكولونيل ماتيو، أما قائد جبهة التحرير الوطنية فقد مثل دوره يوسف سعدي الذي كان يشغل مركزاً كبيراً داخل جهاز الجبهة، وأحد الذين أشرفوا على تنظيم المقاومة الشعبية بالجزائر العاصمة).

نحن هنا إذن بإزاء فيلم، بل قل وثيقة إنسانية، يعرض لكفاح المعذبين في أرض الوطن العربي.. لخروجهم من ظلام الاحتلال إلى نور الاستقلال.. ومثل هذا الخروج الثوري إلى الشارع للعصف بقلاع الاستبداد لا ترتاح لعرضه، سينمائياً، الطبقة المتوسطة، بل هي ترتعد منه خوفاً.

وعلى كل حال، فالذي لا جدال فيه أنه كان من أثر معركة الجزائر أن اهتزت السينما في الوطن العربي على وجه أدى إلى تدعيم الاتجاه نحو سينما سياسية جادة- ولا أقول ثورية.

ومما ساعد على ذلك هزيمة السادس من حزيران/ يونيو 1967، فمن بعدها تلاحقت الأفلام السياسية داخل مصر وخارجها، وظهر في الحقل السينمائي العربي، ولأول مرة، ما يسمى بالمخرج السياسي، ولعل خير مثل على ذلك برهان علوية صاحب كفر قاسم.

وبحكم البداية، لم تكن جميع الأفلام السياسية ثورية في مضمونها، فبعضها كان ذا أثر سلبي إذ لعب دوراً من خلال كشف أخطاء ونقائص الأجهزة الحاكمة وبخاصة الاتحاد الاشتراكي العربي في التشكيك في ثورية نظام عبد الناصر والنظم المماثلة له في أنحاء الوطن العربي، مما مهد الطريق لنكسة جديدة في مسار حركة التحرر الوطني والاجتماعي أدت إلى تفاقم أمر التشتت العربي، وازدياد خطورة التجزئة العربية.

وعن الدور الذي لعبه أحد هذه الأفلام ميرامار في هذا الخصوص ألقى كمال الشيخ- صاحبه- بعض الضوء بقوله في حديث له أن الفيلم لم يحصل على ترخيص الرقابة بالعرض إلا بعد أن شاهده نائب رئيس الجمهورية آنئذ وأجازة مبدياً إعجابه الشديد به.

فإذا ما انتقلنا إلى الأفلام السياسية التي لعبت دوراً إيجابياً في كشف الواقع ومواجهته بغرض التمرد عليه وتغييره إلى ما هو أفضل لوجدناها ما تزال قليلة، بل قل نادرة. وأهمها عندي، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، المتمردون والمخدوعون وكلاهما للمخرج توفيق صالح. وأولهما تم إخراجه في مصر بفضل القطاع العام؛ أما الثاني- وهو مستوحى من قصة للأديب غسان كنفاني- فلم يستطع إخراجه إلا في سوريا وبفضل القطاع العام فيها وكفر قاسم لبرهان علوية من لبنان وصور من مذكرات خصبة لصاحبه ميشال خليفة من فلسطين المحتلة وعمر قتلته الرجولة لمرزاق علواش من الجزائر وليلة حساب السنين (المومياء) لـ شادي عبد السلام. وعند الفيلمين الآخيرين أقف قليلاً لما فيهما من دلالات انفردا بها دون الأفلام الأخرى.

وقبل الكلام عن عمر قتلته الرجولة أرى من المناسب أن أعرض عرضاً سريعاً لتاريخ السينما في الجزائر.

أعطت سينما الجزائر ضوءها أثناء الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. وانطلاقاً من هذه البداية المناضلة قدر لها- بعد الاستقلال- أن تفرز في المراحل الثلاث التي مرت بها أفلاماً جادة أحيت الأمل في تصحيح مسار السينما في الوطن العربي.

وأولى هذه المراحل بدأت سنة 1963، وانتهت قريباً من نهاية سنة 1971، وأفلامها في مجموعها تدور حول حرب التحرير، ولعل أهمها الليل يخاف الشمس لمصطفى بادي ورياح الأوراس، وديسمبر، وكلاهما من إخراج محمد الأخضر حامينا والأفيون والعصا لأحمد راشدي.

وإرهاصات المرحلة الثانية بدأت بالتحام السينما بالريف ومشاكله، وطوال الفترة ما بين سنتي 1974 و 1976 تشابكت أفلام الحرب والأرض، ولربما أهمها نوه لعبد العزيز طلبة والفحام لمحمد أبو عمارة وذكريات سنوات الجمر لمحمد الأخضر- وهو أول فيلم عربي يحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان كان.

أما المرحلة الأخيرة فأفلامها في غالبيتها تعرض لمشاكل الحياة اليومية. وأكثر الأفلام تعبيراً عن هذه المرحلة- ويطلق عليها السينما الجديدة- هو عمر قتلته الرجولة.

وقبل أن أعرض لفيلم مرزاق علواش- باعتباره جزيرة معزولة خارج أسوار السينما العربية، شأنه في ذلك شأن ليلة حساب السنين- أقف قليلاً عند ما يميز السينما الجديدة في الجزائر عما قبلها.

تنفرد تلك السينما بخاصيتين:

الأولى: محاولة إعادة تفسير حرب التحرير، ذلك أنه من المعروف أن الأفلام الأولى عن هذه الحرب المجيدة كانت جميعها تقريباً تعتبر الاستقلال غاية في ذاته. أما صانعو أفلام السينما الجديدة، فهم على خلاف ذلك يعتبرون تلك الحرب مرحلة- وإن كانت حاسمة- في الطريق نحو تحرر آخر ألا وهو التحرر الاجتماعي.

والثانية: تحليل اجتماعي قوامه النظرة العلمية للمجتمع وحركته يستهدف فضح الإقطاع والبيروقراطية.

والآن عود إلى عمر قتلته الرجولة. ففي حديث لصاحبه مع مجلة سينما آكسيون- العدد المُخصص للسينما المغربية- يقول أنه تخرج في المعهد الوطني للسينما بمدينة الجزائر. وأن فيلم الدبلوم الذي بفضله اجتاز امتحان التخرج بنجاح اسمه اللص، وهو عن أربع وعشرين ساعة في حياة صبي يستقل الحافلة إلى المصيف، حيث يقضي وقته في سرقة المصطافين. ونظامه في اختلاس أشياء الآخرين هو أن يدفنها في الرمال ويحدد مكان الدفن بعلامة مميزة يهتدي بها إلى مسروقاته بعد أن يخلو المصيف تماماً من الناس. وآخر غنائمه عجلة الشرطي المُكلّف بالحراسة يعود بها من حيث أتى مُحملاً بما سرق.

وقبل أن يوجه إليه السؤال عن سبب اختياره لموضوع كهذا استطرد قائلاً أنه أخرجه بهدف الاستفزاز والتمرد، فهو مثالي من جيل غاضب.. سلاحه الإضراب.. متأثر بجودار، يحلم بسينما فقيرة متحررة من عيب الضخامة الذي عانت منه السينما في الجزائر في الأفلام الأولى المنتجة بعد الاستقلال، ونراه متجسداً في فيلم سنعود للمخرج سليم رياض، وهو عن اغتصاب الصهاينة لأرض الوطن العربي في فلسطين.

ومما يلاحظ على عمر قتلته الرجولة، أنه فضلاً عن تحرره من عيب الضخامة، فهو متحرر من رق الرقابة الذاتية، وهي رجس أشد هولاً من رجس الضخامة، وعادة تصاحبه.

وفيلم مرزاق مختلف عن أي فيلم في مشرق الوطن العربي ومغربه لأن بطله وهو من البورجوازية الصغيرة، تلك الطبقة التي تفرز حكام معظم الأجزاء المستقلة من الوطن الكبير، قد عرى تماماً، وبلا هوادة، وبأسلوب سينمائي خال من الدعائية والفجاجة، فيه كل عناصر الجمال.

والفيلم يبدأ ببطله عمر جالساً فوق سريره يعرفنا في حوار مباشر مع الكاميرا بنفسه وبأفراد أسرته التي يقيم معها في منزل متواضع بضواحي الجزائر العاصمة.

ومن حواره مع الكاميرا نعرف أنه شاب ضائع ذو أحلام تافهة. فهو موظف له صفة الضبطية القضائية.. ليس له من مهمة في الحياة سوى أن يذهب صباح كل يوم إلى المصلحة حيث يظل حبيس المكتب مع زملاء لا حديث لهم إلا عن النساء والكرة، وما إلى ذلك من اهتمامات فقيرة، لا تترك وراءها ثمراً ولا أثراً، أو أن يخرج مع هؤلاء الزملاء وراء أحد الرؤساء في زفة لضبط الغش التجاري في محلات المجوهرات والبطش بتجار الذهب في السوق السوداء.

والغريب في أمر هذا الشاب أن الصلة بينه وبين المجتمع منقطعة، وأنه يسعى إلى إعادتها فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا في اقتناء جهاز تسجيل يعيش من خلاله مع الوهم مخدراً بأغان هندية، وأخرى شبه شعبية لعبد القادر الشاوي، أحد مطربي أرض المليون شهيد.

وجهاز التسجيل في البناء الدرامي لقصة عمر بل قل مأساته يلعب دوراً محورياً.. فبفضله استطاع المخرج- وهو كاتب السيناريو- أن يكشف عما بنفوسنا من هزال نحاول أن نعوضه بالانبهار بما اخترعه الغرب من لعب آلية تستلبنا.. تفقدنا حرارة الحياة.. تتحول بنا إلى أشياء هي والعدم سواء.

وعمر في حواره المباشر مع الكاميرا يحاول أن يتسامى بوجوده.. أن يظهر حياته على غير حقيقتها (الفحولة من الصفات التي يدّعي التحلي بها).

ولكن المخرج يتلصص على بطله، يذهب بنا إلى ما وراء الديكور والطلاء ليرينا الهوة السحيقة بين تطلعات عمر وبين الحياة التي يعيشها.. حياة ضاعت في جهود مجدبة لا تُغني صاحبها.. بل تُزيده فقراً على فقر.

إنه يعيش على الهامش.. خارج التاريخ.. حياته خواء.. يحاول أن يملأه بنفر من الزملاء كلهم وبلا استثناء من صنف الرجال، وبالموسيقى وأشرطة التسجيل وكرة القدم والسينما الهندية.

ومشاكل المجتمع الذي هو جزء منه لا تهمه، فهو لا يتساءل أبداً عن أسبابها، ولا يحاول أبداً أن يشارك في إيجاد حل لها، فأزمة المساكن، والمواصلات المزدحمة، والسوق السوداء، وغير ذلك من المشاكل التي تعاني منها الجزائر المعاصرة لا يهتم لها ولا يهتز، فهي عنده وكأنها مشاكل وطن آخر.

وفجأة، وبينما هو عائد من عرس سجل فيه للمطرب (عبد القادر الشاوي)، في طريقه إلى منزله عبر حي القصبة إذا بعصابة تنقض عليه وتسلبه أعز ما يملك.. المسجل! ولا تطول المأساة فواحد من أصدقائه يجمع بين الوظيفة والتهريب، استطاع أن يوفر له مُسجلاً جديداً بالتقسيط المريح.. ولم يكتف بذلك، بل أهداه شريطاً فارغاً ليعيد تسجيل الأغاني المحببة إلى قلبه.

ولدى تجربة الشريط يُفاجأ بسماع صوت نسائي مسجل يتحدث في عذوبة ورقة عن آلام الوحدة ومرارة الفراق والحرمان. ويستفسر من صديقه الموظف المهرب عن صاحبة هذا الصوت الساحر الذي ملك فؤاده. وإزاء إلحاحه يخبره باسمها، سلمى، ويعطيه رقم هاتفها في المصلحة التي تعمل بها.

وفي مشهد سينمائي رائع يتصل عمر بها تليفونياً.. وأثناء الحديث معها يرسل نفسه على سجيتها فيعبر عن حبه لصوتها حباً صريحاً حراً، ويتفق معها على موعد للتلاقي.

فإذا ما حل الموعد ورأى- وهو على الجانب الآخر من الطريق- سلمى تنتظره قريباً من مدخل المصلحة خانته شجاعته فظل واقفاً في مكانه لا يتحرك.. مُعلقاً بين اليأس والرجاء وكأن ثمة قوة خفية تقطع كل سبب بينه وبين صاحبة الصوت الساحر حتى انصرفت يائسة.

وبعد هذا المشهد الدامغ لأخلاقيات المجتمعات التي تقوم على الفصل بين الجنسين ينتقل بنا الفيلم إلى فجر يوم جديد في حياة عمر، فنراه وهو يستعد للذهاب إلى العمل، ونسمعه وهو يُحدث نفسه قائلاً: (هذا الصباح سأكلم سلمى) ثم ينتهي الفيلم الذي أراد المخرج الموهوب من خلاله أن يصور قطاعاً مهماً من الشباب في الجزائر، يراه عبداً للأشياء، مُنفصلاً عن الواقع، مُعلقاً لا يدري ماذا يريد، ولا إلى أين يمضي.

فإذا ما انتقلنا إلى ليلة حساب السنين لوجدنا أنفسنا أمام أول عمل سينمائي يمنح الفيلم العربي ما كان ينقصه من وحدة الشكل والموضوع، فضلاً عن كيان عضوي ملتحم النسيج، يتغذى بموسيقى داخلية مُركبة الإيقاع متعددة النغمات.

في رأي للناقد الأنكليزي جون راسل تايلور ضَمّنه كتاب مخرجون واتجاهات سينما السبعينات، أن ليلة حساب السنين فيلم فريد لا ينتمي إلى تيار السينما في مصر، وإنما هو كالجزيرة المعزولة لا يعكس إلا مواهب المسئول الأول والأخير عنه.

وفيلم شادي في الحقيقه له مقام خاص سواء في السينما العربية، أو بين المدارس الغربية. وإلى حدِ بعيد كان من الممكن اعتباره فيلماً غير عربي لولا أن مصر تقيم بين حناياه بماضيها المجيد، بديكورها الشامخ، بواقعها الآخاذ، بتمزقاتها المفاجئة، تعبر داخله عن تفردها بفضل سرد استطاع أن يتجاوز القصة التي اتخذت ذريعة الفيلم، بل وأن يتفوق عليها.

والقصة خرجت إلى النور بفضل حماس المخرج روبرتو روسيلليني ورعايته لصاحبها وقت أن كان مُشرفاً على إنشاء وحدة تجريبية للسينما بوزارة الثقافة في مصر خلال سنة الهزيمة: ذلك أنه ما إن قرأ مشروع السيناريو الذي كتبه شادي لفيلمه حتى كان من أشد المتحمسين له.

ولولا حماسه هذا لظل سيناريو ليلة حساب السنين مجرد شاردة شقية تبحث عمن يصورها.

والفيلم يقوم على أساس حادثة وقعت فعلاً.. الكشف خلال عام 1882 عن مخبأ يضم موميات ملكية في الدير البحري.. بقايا أربعين فرعوناً من مختلف الأسر أُعيد دفنهم في عجلة منذ ثلاثة آلاف عام أو يزيد، حماية لهم من لصوص القبور.

وقبيل هذا الكشف كان علماء الآثار في القاهرة برئاسة العلامة ماسبيرو في حيرة من أمر ظهور أجزاء متفرقة من كنز قديم بين الحين والحين في السوق السوداء. كانوا على جهل بأن قبيلة جبل الحوربات- مصدر هذه التجارة- تتعيش من موميات ملكية مكانها الخبيء يظل سراً مكتوماً لا يباح به إلا للورثة ساعة وفاة رئيس القبيلة.

والقصة في الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، يوم أن مات سليم كبير القبيلة. وهي تحكي من خلال صور تجمع بين الجمال والجلال المأساة التي دفعت بوانيس إلى أحضان أفندية القاهرة القادمين من بعيد.. من المجهول، على مركب مُضيء بأنوار المدينة.

مات سليم ووانيس ثاني أولاده يُبكيه، وجثمانه يوارى التراب. ويوم الدفن مساء يرى عمه يمزق مومياء.. يسلبها ما حولها من حُلي، ويتساءل أهكذا عاش أبوه وأجداده؟ يتمرد أخوه الأكبر على ما رأى وما سمع.. أنه لا يريد أن يشارك في حياة تتعاطى زادها من جثث ملوك مصر وآلهتها الأقدمين.. لا يريد أن ينهب متاع الآخرة الذي هو الطريق الوحيد إلى البعث والخلود.

ويعجب أفراد القبيلة لنفوره.. أوليست هذه الجثث غريبة عليهم؟ أليست بلا آباء، بلا أولاد، وبلا أسماء؟ وأليس أفندية القاهرة يطمعون فيها دون وجه حق؟ والقبيلة التي تعيش في الوادي على أرض القبور، أليست هي أولى بالذهب المُكدس فيها؟ ويحتار وانيس لكل هذه الأسرار الجديدة عليه، حتى يقابل بين جدران المعابد فلاحاً شبيهاً له، وكأنه توأمه، من سكان الوادي يخبره أن تماثيل الموتى ليست أحجاراً صماء، وأن الرسوم التي عليها إنما هي كتابات ذات معنى كبير، وأن الأفندية إنما يبحثون عن قوم نعيش على أطلالهم يسمونهم الجدود ويقرأون على الأحجار نقوشهم، هذه الأحجار التي يتعلق بها قلب وانيس قد لازمته منذ نعومة أظافره، فكيف يترك جثث أصحابها نهباً للصوص؟

إنه الآن- وقد رحل أخوه إلى الآخرة، مقتولاً بأمر من شيوخ القبيلة- الوريث الوحيد؛ وبوضعه هذا فهو مسئول عما يدور في هذا المكان الزاخر بالأسرار وعطر التاريخ.

إنه يشقى بعذاب التمزق، يحاول ما وسعته الحيلة أن ينعتق من رق الشك والحيرة. وفي النهاية لا يجد سبيلاً للخلاص إلا بسماع صوت الهاتف قادماً من ماض بعيد.. والبوح بالسر الكبير إلى أفندية القاهرة: إنني أجد نفسي أمام علامات لا أستطيع قراءتها، وأنتم قادرون على فك رموزها، أن الصور المرسومة على الجدران التي كبرت بينها، تبدو وكأنها تلفظني وتناديكم.

ولو أوغلنا في الفيلم بحثاً عن المحور الذي يتحرك عليه من بدايته إلى نهايته لوجدنا في أعماقه قوى متعددة تتصارع. ومما يساعد على فهم هذه القوى أن أحداث الفيلم تبدأ قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بأشهر؛ فإذا ما انتقلنا بها إلى تاريخ عرضه في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1969- أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بأقل من سنة- لاتضح لنا أن الفيلم إنما كان يتنبأ بقرب انتهاء الحقبة الناصرية، وبداية الهجمة الأمريكية الشرسة.

ومن العلامات الدالة على ذلك، أولاً: وجود الخبراء الأجانب كمسبيرو وغلبة أفكارهم غير الإنسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين ومصيرهم. ثانياً: طبقة أفندية القاهرة (الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك أوروبا متعاونة معها ضد الشعب الذي تستمد منه الحياة. ثالثاً: الأهالي يمارسون حياتهم اليومية، مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة، والإهدار للتراث. رابعاً: سليم يعي الفرق بين الخطأ والصواب، ولكنه في حيرة من أمره كيف يختار.. أيختار أن يعيش ابناً باراً للقبيلة حافظاً لسرها، وخارجاً على القانون؟.. أم يكشف السر لسلطات القاهرة الكريهة؟

وهكذا.. وهكذا نجد أنفسنا أمام رائعة سينمائية نادرة زاخرة بالرموز والدلالات.. بالأسئلة التي تطرحها حول مشاكل مصر المعاصرة.. حول ماضيها الفرعوني والهوة السحيقة بينه وبين ثقافتها الإسلامية المعاصرة، وهي هوة تجعل من التراث الفرعوني المجيد مجرد حيلة يتاجر بها.. حول إطلالها على أوروبا وهويتها العربية ومعاناة التوفيق والاختيار.

الصهيونيه في السينما

الصورة أصدق أنباء من الكلمة ولا غرابة في هذا لأن الصورة تُعبر عن الواقع بالواقع في حين أن الكلمة لا تعدو أن تكون تعبيراً عنه بالرمز. ولعله مما يؤيد ذلك تلك الصورة التي استهلت بها مجلة كراسات السينما الفرنسية عددها عن ديسمبر عام 1963 المكرس للسينما الأمريكية. فما الذي جاءت به هذه الصورة من أنباء تُعبر عن الواقع تعبيراً أصدق من الكلمة، بل فيه غناء عنها؟
إن الصورة عن هوليوود عام 1918 أي في عهد الرواد الأوائل الذين بنوا مصنع الأحلام. وهو عهد يمتد من عام 1913 حتى عام 1919 وفي الصورة نخبة من هؤلاء الرواد لا تزيد عن سبعة رجال وامرأة واحدة هي جلوريا سوانسون نجمة السينما الصامتة الذائعة الصيت. ولا يُهمنا من الرجال السبعة سوى ثلاثة شاءت الصدفة بل قل الحكمة أن يتراصوا إلى جوار بعض مُحيطين بالنجمة المُتدثرة بمعطف من فرو أسود ثمين. فمن هؤلاء الرجال السبعة الذين وقفوا إلى جوار بعض متساندين؟
أولهم إلى يسار الصورة هو هربرت روتشيلد يليه أدولف زوكور ثم سيسيل ب دي ميل، أي الممول فالمنتج فالمخرج. وقد لعب كل واحد منهم دوره الهام وبتنسيق تام في بناء المصنع الذي ظل يُنتج الأفلام لمدة خمسين عاماً أو ما يزيد من عمر الزمن ويبدو لمن لا يحكم على الأمور إلا بمظاهرها أن دور أدولف زوكور وسيسيل ب دي ميل في بناء مصنع الأفلام هو الدور الرئيسي. الأول باعتباره الرائد المجري الذي أسهم في تأسيس شركة بارامونت- تلك الشركة التي تُعد بحق أهم احتكارات هوليوود وأكثرها تأثيراً في مسار السينما الأمريكية- الذي نحت عبارة الجمهور لا يُخطئ أبداً لتتخذ منها هوليوود شعاراً لسلعها التي غزت بها القلوب والجيوب، وتبريراً لانتاج سوقي لا يُراعي حُرمة لصدق أو لفن.. واكتشف نظام النجوم ترصع به سماء عاصمة السينما ليتحول إلى سديم بدايته ماري بيكفورد فتاة بريئة معبودة الجماهير ونهايته مارلون براندو أباً روحياً عدواً للجماهير. ولأنه ما زال يعيش ليُطفئ يوم السابع من يناير الماضي مائة شمعة.. ومن حول رأسه الذي اشتعل شيباً أبطال هم في حقيقة الأمر بقايا كعبة السينما تحولت إلى أطلال.. ولو دققت في وجوه هؤلاء الأبطال لتعرفت بعد عناء على شارلتون هستون وجريجوري بك وبوب هوب وبت ديفيز وجروشو ماركس وغيرهم ممن كانوا في سالف الأوان.
والثاني دي ميل باعتباره الرائد الأمريكي الذي أسهم بجرأته وحذقه في انتاج وإخراج سبعين فيلماً بدأت صامته بزوجة الهندي 1913 وانتهت متكلمة بالوصايا العشر 1956.
واستباح الأديان والقصص في الكتاب المقدس فاظهر موسى على الشاشة مرتين صامتاً مرة (1923) ومتكلماً مرة أخرى (1956) والسيد المسيح في ملك الملوك (1927)
وشمشون ودليلة (1949) واستحدث بعض القواعد لتحريف التاريخ وتشويهه.. ما تزال جمهرة مخرجي هوليوود تسير على هديها لا تحيد عنها في جميع الأفلام التي تُنتج باسم التاريخ وبالإهدار له. ولأنه هو الذي نشر أسطورة معجزة السينما الأمريكية وذلك بدوام الزهو والتباهي بالحيل السينمائية التي استعملها مرة أيام السينما الصامتة في جوادلوب بكاليفورنيا ومرة ثانية أيام السينما المُتكلمة بأبي رواس بالبحر الأحمر لتصوير بحر الأساطير وهو ينشق بإرادة الرب ليُفسح طريقاً لقوم موسى خروجاً من مصر ثم وهو يَغْش فرعون مصر وجنده مع الاصرار على الامتناع عن إفشاء سر هذه الحيل وكأنها سر إلهي لم يوح به إلا للمخرج الأمريكي.. ولن يوحى به لأحد سواه.
ولكن الدور الرئيسي كان- في حقيقة الأمر- من نصيب أقل الثلاثة اتصالاً بالفن السابع، وأقلهم إعلاناً عن نفسه، كان من نصيب هربرت روتشيلد. ولا عجب في هذا لأنه من أشهر بيت مال: بيت الروتشيلد الذي يعرف متى وأين يستثمر رأس المال ولأي غاية يكون الاستثمار، والذي منه قدم البارون دي روتشيلد الدعم المالي للمستعمرات الصهيونية الأولى في فلسطين. وليس صدفة أن كتاب وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور المؤرخ 2 من نوفمبر عام 1917 والذي اصطلح على تسميته بوعد بلفور قد وُجّه إلى اللورد والتر روتشيلد عميد فرع بيت المال المذكور في انجلترا ولم يُوجّه إلى شخص آخر.
غير أن الصدفة شاءت أن تجري أحداث قضية دريفوس التي اتخذت منها الصهيونية وقوداً لإزكاء نار الدعوة (للعودة إلى أرض الميعاد) خلال عام 1895 وهو نفس العام الذي اكتُشفت فيه السينما وظهرت أول صور لها وهي تتحرك على شاشة بيضاء لا شية فيها داخل قبو بمقهى كبير بشارع كابوشين بمدينة النور.
وبالنظر إلى أن تلك القضية أدت إلى انقسام المجتمع الفرنسي الذي لم يكن له من حديث إلا عن دريفوس سواء بالحق أو الباطل لذلك لم يكن غريباً أن يقع اختيار جورج ميلييس المخرج الفرنسي على مأساة هذا الرجل لتكون موضوعاً لأول فيلم طويل له. وهو الفيلم الذي أخرجه تحت اسم دريفوس خلال عام 1899 أي بعد ثلاثة أعوام من تأليف تيودور هرتزل لكتابه الدولة اليهودية وقبل ثلاثة أعوام من تأليفه لكتابه الثاني الأرض القديمة الجديدة.
وأغلب الظن أن النجاح الذي حازه فيلم جورج ميلييس عن دريفوس قد نَبّه قادة الحركة الصهيونية ودُعاتها- ومنذ وقت مبكر- إلى أهمية السينما باعتبارها أداة دعاية سريعة وفعالة للفكر الصهيوني.
وكان أول ما ظهر من سينما مباشرة في خدمة الصهيونية فيلم اسمه (حياة اليهود في أرض الميعاد) ليعقوب بن دوف وهو مخرج صهيوني من أصل روسي استقر به المقام بفلسطين قبل نشوب الحرب العالمية الأولى. وقد أخرج هذا الفيلم خلال عام 1912 أي في الفترة التي اشتد فيها ساعد الصهيونية بهزيمة ثورة 1905 بروسيا القيصرية، وبدء موجة الخروج من سجن الشعوب تلك الموجة التي عُرفت باسم الهجرة الثانية.
ومن بعد صدور الوعد أصبحت الصهيونية إزاء وضع جديد كل الجدة يتطلب الإسراع بتهجير عدد متزايد من اليهود إلى فلسطين لتيسير إنشاء الوطن القومي الموعود. وفي سبيل بلوغ هذا الهدف اعتمد دعاة الصهيوينة على الاستغلال الدعائي لأمرين: أولهما الدين من خلال قصص العهد القديم وأساطير الأولين، والثاني الطاعون النازي وما يحمله من فكر عنصري معاد للسامية.
ولسنا نتعرض في هذا المقام بالتفصيل لاستغلال دعاة الصهيونية للدين فذلك غير خافٍ على كل من له علم- ولو قليل- بنشوء الحركة الصهيونية، وإنما ما نريد أن نتعرض له ونقف عنده وقفة يسيرة هو استغلال الصهيونية للدين في السينما.
من المُسّلَم في الدين اليهودي أن (عودة) اليهود من الشتات إلى جبل صهيون في أورشليم (القدس) أمرٌ حتمي. ومن المُسّلَم في التاريخ اليهودي أن حنين اليهود وبالذات فقرائهم إلى الأرض الأم في فلسطين إن هو إلا رد فعل عاطفي لفظاعة الحياة واليأس من صلاح الأحوال في المنفى. ولعل خير تعبير عن هذا الحنين هو نشيدهم الذي يجري بهذه الكلمات: لا نزال مشردين في هذا العالم، ولكن في العام القادم سنكون في أورشليم.. ولا نزال في العام القادم سنكون أُناساً أحراراً.
ومفهوم هذا النشيد أن ما يعذب في الشتات هو التشرد والعبودية، وأن ما يبعث الأمل هو العمل لا من أجل حرية اليهود في الأرض التي بها يعيشون وإنما من أجل الخروج للعودة إلى أورشليم.
ولا يسع من يقرأ التوراة إلا أن يعترف بما في قصة موسى وهو يقود شعبه من أرض الفراعنة إلى أرض اللبن والعسل من معان ورموز تستطيع الصهيونية أن تطوعها لخدمة الدعوة بين يهود الشتات للتحرر من العبودية والخوف بالعودة إلى أرض الميعاد.. ويتضح من القصة أنها تُفيد الصهيونية لو أُحسن إخراجها في لغة السينما ففيها التشرد والعبودية والأمل والعمل من أجل الخروج والعودة بالشعب المختار إلى الأرض الموروثة. ومن هنا وقوع اختيار شركة بارامونت لصاحبها أدولف زوكور على قصة موسى لتنتجها تحت اسم الوصايا العشر مرتين، المرة الأولى صامتة بلا ألوان عام 1923 في أيام قلَّ فيها اقبال بني إسرائيل على الهجرة إلى أرض الأنبياء. والمرة الثانية ناطقة بالألوان عام 1956 عقب إعلان قيام دولة إسرائيل في أيام انحسرت فيها موجة هجرة أبناء الشعب المُختار.
وفي كلا الفلمين كان سيسيل ب دي ميل هو المخرج وفي كليهما كان لا همَّ للمخرج الأمريكي- الذي شاهدناه إلى جوار أدولف زوكور وهربرت روتشيلد في صورة ترجع إلى أيام الرواد عقب ارسال الوعد إلى لورد روتشيلد بقليل- إلا أن يتناول قصة موسى وبني إسرائيل أثناء وجودهم في أرض مصر ثم أثناء الخروج منها على وجه مشوه المُراد به باطل هو تصوير أهل مصر وكأنهم أبناء شعب منبوذ كُتب عليه ذل العيش في أغلال العبودية لفرعون وقومه الظالمين.
وهذا السبيل الذي سلكه دي ميل لا يُثير دهشة أحد، فالتاريخ ليس من الأمور التي يُهتم بها أو يُهتز لها، آية ذلك أنه لما اعترض النقاد على استعمال اسم الأميرة (نفريتري) أو (نفرتيتي) في الوصايا العشر- رغم أن التاريخ يقول أن هذه الأميرة عاشت في غير عصر موسى- لم يُعر اعتراضهم التفاتاً وزاد من حيرة نقاده حين قال في استهتار بَيّن أن ثمة أميرتين بهذين الاسمين يفصل بينهما قرن ونصف من عمر مصر القديمة. وأن الأميرة العاشقة (آن باكستر) لموسى (شارلتون هستون) في الفيلم نفرتيري ونفرتيتي في آن واحد. وأنه في فيلمه عن السيد المسيح ملك الملوك ألقى مسئولية موت المخلص على كايفاس بدلاً من يهوذا مُراعاة منه لشعور اليهود. وإنما الذي يُثير الدهشة أن يجيء دي ميل إلى مصر خلال عام 1945 ليصور فيلمه في ربوعها، وأن يشارك الجيش المصري في بعض المشاهد لشعب مصر لاسيما مشهد البحر الأحمر وهو ينفلق كالطود العظيم لينجو موسى ومن معه أجمعين ثم يُغرق الله الآخرين أي فرعون ومن معه من الجنود المصريين. وأن يلعب عباس البغدادلي وهو ضابط مصري سابق من سلاح الفرسان- دور سائق عربة رمسيس فرعون مصر (يول براينر). وأن يتوج ذلك بحفل افتتاح كبير يُعرض فيه فيلم الوصايا العشر في مدينة نيويورك يوم التاسع من نوفمبر عام 1956 أي فور اجتياح القوات الإسرائيلية لشبه جزيرة سيناء بأيام بل قل ساعات معدودات.
وإذا ما تطرقنا إلى استغلال الصهيونية للطاعون النازي في السينما خدمة لما ترسم وتخطط من مشروعات لتبين لنا أن الصهيونية لم تعاد النازية لمعاداتها لليهود، وأنما اتخذت من هذا العداء ذريعة لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي.
وفي الحق إن ما فعلته النازية في يهود أوروبا فعلت أكثر منه بكثير في شعوب الاتحاد السوفيتي ويوجوسلافيا وغيرها من شعوب شرق أوروبا، ولكن الصهيونية لا تركز في السينما إلا على ما فعلته النازية في حق اليهود.
ولا جدال في أن النازية برجعيتها السوداء وتأكيدها على نقاء العنصر الآري من خلال الحط من شأن العنصر السامي قد مهدت الطريق إلى رجعية سوداء أخرى تؤكد على نقاء شعب الله المختار من خلال تحقير الشعوب الأخرى لاسيما الشعوب العربية. فمن يرى الأفلام المعادية للسامية التي انتجتها ألمانيا الهتلرية وبخاصة اليهودي الخالد لصاحبه الدكتور فريتز هيبلر واليهودي سوس لصاحبه فايت هرلان لابد وأن يُصاب بالغثيان من وباء العنصرية وكيف فقد حكام ألمانيا كل صواب. فما يعيب اليهود في نظر السينما الهتلرية هو ما يعيب الشعوب المتخلفة كافة وبخاصة الملونة منها.
وهذا الجنون العنصري كان لابد وأن تفيد منه الصهيونية.. فبفضله بثت الذعر في قلوب اليهود ودفعت جموعهم إلى الإنتماء إلى الحركة المنادية بالعودة إلى الوطن المُختار للشعب المُختار. وبدأت هوليوود تُنتج أفلاماً تُركز على اضطهاد اليهود في أوروبا المُحتلة بقطعان النازية وبالتجاهل لأي اضطهاد آخر.
والراجح أن الفيلم الذي استهل حركة التنوير باضطهاد اليهود إبان العهد النازي وأفادت منه الصهيونية دون وعي من صاحبه أو بوعي لا يصل إلى درجة التواطؤ مع الفكر الرجعي الصهيوني هو الدكتاتور العظيم (1940).
إلا أنه منذ الدكتاتور العظيم، وبعد أن كشف النقاب عن جرائم الهتلرية، والسينما حيثما للصهيونية نفوذ لا تركز عند التعرض للأحداث إبان فترة احتلال قطعان هتلر لأوروبا الا على اضطهاد اليهود.
على أن من الخطأ البيّن أن نعتقد أن الصهيونية في السينما وقفت عند حد التركيز على محنة اليهود تحت سلطان هتلر. إنها منذ اندحار ألمانيا النازية وقيام اسرائيل على أرض فلسطين وهي تعدد أنواع الاضطهاد لهم في كل أرض غير أرض الميعاد كما تُهيئهم نفسياً للخروج من منفاهم في الشتات نحو الفردوس الموعود!
وهكذا بدأت أفلام تتكلم عن العنصرية ضد اليهود في الولايات المتحدة من بينها فيلم النار المتشابكة (1947) لصاحبه أدوارد ديمترك وهو المخرج الذي ذهب إلى اسرائيل عام 1953 حيث أخرج فيلم المحتال الذي قام بأداء الدور الأول فيه كيرك دوجلاس، وفيلم اتفاقية الجنتلمان أو الحائط الخفي (1947) لصاحبه إيليا كازان الذي وقع اختياره على جريجوري بك ليؤدي فيه أحد الأدوار الرئيسية.
ولعل خير فيلم يضرب به المثل على أن الصهيونية في السينما حريصة غاية الحرص على تنبيه اليهود إلى خطر العيش خارج اسرائيل هو الخروج (1960). فهذا الفيلم- وهو عن قصة للأديب الصهيوني ليون اوريس- يصف بتفصيل وبأسلوب شاعري غنائي ميلاد اسرائيل. وقد اختارت هوليوود لانتاجه- وهو انتاج ضخم لأن الصهيونية أرادت له أن يكون فيلماً من مائتي دقيقة وأن يكون شأنه بالنسبة لاسرائيل شأن فيلم ميلاد أمة بالنسبة للولايات المتحدة- دالتون ترامبو. وهو أحد عباقرة فن كتابة السيناريو بعاصمة السينما، واتو بريمنجر الذي يُعتبر واحد من أهم مخرجي السينما الأمريكية المعاصرة، وبول نيومان لأنه أكثر النجوم شهرة وأشدهم تعصباً للصهيونية. وبعد الفراغ من انتاجه وقبل توزيعه وقع الاختيار عليه ليكون الفيلم الذي يُفتتح به مهرجان كان عام 1961.
وإننا لوشاهدنا الفيلم لوجدنا فيه كل جراثيم الدعاية الصهيونية التي نجد بعضاً منها في الأفلام المعاصرة أو التالية له. ولفهمنا الاهتمام به.
فالاسم المختار له هو “الخروج” ذلك اللفظ السحري الموغل في القدم والذي تستثمره الصهيونية للإيحاء لليهود بأن الخروج من العالم المُحيط باسرائيل لازم بل فرض كما كان الحال أيام فرعون حين قاد موسى بني اسرائيل خروجاً من مصر. أما موضوعه فينساب في خطين مرتبطين الأول عن محاولة دخول الباخرة “الخروج” فلسطين بما تحمل من بقايا يهود معسكرات الاعتقال النازي الناجين من الإبادة الجماعية ومقاومة السلطات البريطانية عودة يهود الخروج الذين كُتبت لهم النجاة من فرعون ألمانيا إلى أرض الميعاد. والثاني ميلاد دولة اسرائيل وشروع العرب في وأد المولود الجديد بشن الحرب التي انتهت بانتصار الاسرائيليين بفضل إيمانهم وتقدمهم على العرب الغُزاة.
ونحن بعد مشاهدة الخروج نحس من أول لقطة أننا بإزاء فيلم صهيوني قح لا عهد لنا بمثله من قبل في تاريخ السينما فهو يدخل في عِداد أفلام الانتاج الضحم، ومخرجه يعرض للتاريخ القريب على هدى ما رسمه شيخ المخرجين سيسيل ب دي ميل لمخرجي هوليوود منذ ما يقرُب من نصف قرن أي بالتشويه والتحريف.
فعند مخرج الخروج لا حياة لليهود في عالم غير اليهود لأن العالم فاسد ولا يحمل ناسه لأبناء الشعب المختار إلا الكراهية لا فرق في ذلك بين من كان حليفاً بالأمس (الإنكليز) وبين من كان عدواً فالكل سواء في الحقد والبغضاء ولذلك فمن حق اليهود بل ومن الحق عليهم أن يعودوا إلى أرض الميعاد حتى ولو أدت هذه العودة إلى اقتلاع شعب فلسطين من مكانه. لأن الشعب المختار له من الحقوق ما ليس للشعوب الأدنى منه. ولا نظير فيما أعرف من أفلام لهذا التبجح على التاريخ إلا في الأفلام النازية أو في الأفلام الأمريكية التي عرضت لمأساة الهنود الحمر على وجه يُسيء إلى نضالهم بحيث يُبرر إبادتهم.
وقد نكون مبالغين إذا قلنا أن الخروج أحاط بكل الأفكار الصهيونية. ولكن لا شك في أنه عرض لجوهرها. وليس غريباً أن يكون الخروج- وهو فيلم أمريكي توزعه شركة الفنانين المتحدين الأمريكية- مطابقاً في أفكاره السائدة للدعوة الصهيونية من ألفها إلى يائها فجنسيته في الواقع أقرب إلى الجنسية الاسرائيلية منها إلى الجنسية الأمريكية أو بمعنى أصح أقرب إلى الجنسية المزدوجة الجانحة في جموح إلى الجنسية الاسرائيلية.
وهذه الجنسية المزدوجة يتمتع بها الكثير من أفلام السينما الصهيونية سواء أكانت منتجة داخل هوليوود أو خارجها، ومصداق ذلك ما جاء في قاموس السينما والتليفزيون لموريس بيس وجان لويس شاردان بباب التعريف بالسينما الاسرائيلية. فمما يُلفت النظر في التعداد الوارد في هذا الباب لبعض الأفلام الاسرائيلية أن من بينها أفلاماً كان يُقال عنها فيما مضى أنها أمريكية فلما آن الأوان أُعلن أنها أفلام اسرائيلية ومن أهم هذه الأفلام مذكرات آن فرانك والخروج.
ومهما يكن من أمر الجنسية أهي واحدة أم مزدوجة فالشواهد تدل على أن فيلم الخروج يُعتبر نقطة تحول في تاريخ الصهيونية في السينما داخل اسرائيل وخارجها. فمن قبله كانت السينما الاسرائيلية في المهد ما تزال، فاللسان العبري لم يكن قد انطلق بالكلام في كل الأفلام. وعدد الأفلام الروائية الطويلة لم يكن ليتجاوز أصابع اليد الواحدة (ثلاثة أفلام عام 1953) لأن أغلب الاهتمام كان موجهاً للأفلام القصيرة وبخاصة الوثائقية منها باعتبارها المدرسة المُثلى لتعليم النشء لغة السينما هذا إلى أن مستوى السينما الاسرائيلية لم يكن قد وصل بعد إلى المستوى العالمي الذي يسمح لأفلامها بالخروج من أرض اسرائيل انطلاقاً إلى العالم الفسيح للدعاية بين اليهود وغير اليهود.
أما بعد الخروج فقد تحولت جميع الأفلام الاسرائيلية إلى الكلام بلغة التوراة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى فرض العبرية على بعض مشاهد الأفلام الأمريكية لاسيما الغنائية منها. فنحن نُفاجأ بجولي أندروز في فيلم ميلي لصاحبه جورج روي هيل (1967) وهي تتمايل طرباً في فرح يهودي بنيويورك وتُغني إلى العريس وعروسته بلسان عبري. كما نُفاجأ بماريسا بيرسون وفريتز ويبر في فيلم كاباريه لصاحبه بوب فوس (1972) وهما يتكلمان في المعبد اليهودي بلغة العهد القديم.
وزاد عدد الأفلام الاسرائيلية على مهل ليصل إلى عشرة أفلام روائية طويلة عام 1966 وإلى خمسة وعشرين فيلماً روائياً طويلاً خلال عام الاحتفال بمرور عدد مُعادل من الأعوام لهذا العدد من الأفلام على ميلاد الدولة الصهيونية. ومن بين هذه الأفلام ما هو بالأبيض والأسود وما هو بالألوان، هذا بالإضافة إلى أفلام قصيرة كثيرة بعضها روائي والبعض الآخر تسجيلي والبعض الثالث تجريبي.
وبدأ خروجها إلى العالم خارج أسوار اسرائيل. وهو خروج توج بمنح الفيلم الاسرائيلي فجوة في القمر لصاحبه أورو زوهار جائزة أحسن فيلم في مهرجان كان عام 1965 وبمنح الفيلم الاسرائيلي ثلاثة أيام وطفل جائزة أحسن ممثل للطفل (أودد كوتلر) في مهرجان كان عام 1967 وكان ذلك قبيل معارك حزيران بأيام. ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المجال واقعتين حدثتا أثناء هذا المهرجان لما في ذكرهما من بعض بيان لمدى عناية الصهيونية بالدعاية للسينما الاسرائيلية ومن بعض تذكرة لمدى اهتمامها بلغة السينما لما لها من سحر وتأثير.
من المعروف أن ثمة تقليداً في مهرجان كان من مقتضاه أن يُعرض الفيلم بصالة الاحتفال الكبرى ثم تعقد ندوة عنه يحضرها النقاد ومن يكون موجوداً من فناني الفيلم وبخاصة مخرجه في صالة صغيرة أطلقوا عليها اسم الشاعر جان كوكتو. وقد لوحظ عند الاطلاع على برنامج اليوم المخصص لندوة الفيلم الاسرائيلي أن ثمة لقاء بين رجال الصحافة وبين الممثل الكوميدي جيري لويس الشهير بصهيونيته. وأن موعد هذا اللقاء قد حُدد بحيث يكون تالياً مباشرة للندوة. وحكمة التحديد على هذا الوجه واضحة وهي أن تزدحم الصالة بجمهور جيري لويس وهو جمهور كبير فيفيد من هذا الازدحام الفيلم الاسرائيلي. وقد تحقق ما رسم له مخططو الدعاية فازدحمت الصالة إلى الحد الذي اضطر معه بعض الصحفيين والنقاد إلى الوقوف أو الجلوس أرضاً أثناء الندوة في انتظار لقاء النجم الكوميدي.
ولم تكتف الدعاية للفيلم الاسرائيلي بهذا القدر من النجاح، وإنما نظمت الأمور بحيث يدخل النجم الصهيوني الصالة قبيل الندوة فيبدو وكأنه قد فوجئ بوجود المخرج الاسرائيلي وكأنه لم يقابله من قبل. وهنا ينبري الناقد روبير بنيامين فيعرف النجم بالمخرج وسط التصفيق والتهليل.
أما الواقعة الثانية فهي خاصة بالرجل العجوز والطفل. لصاحبه المخرج كلود بيري وهو فيلم تدور أحداثه في فرنسا إبان الاحتلال النازي حول طفل يهودي (آلن كوهين) تريد أسرته العاملة أن تنقذه من الذبح العظيم على يد هتلر وقومه الكافرين فتعطيه إلى صديقة لتذهب به إلى الريف بعيداً عن المدينة ليعيش بمنجاة في حماية والدها (ميشيل سيمون) وهو ثري عجوز يكره اليهود وسيرتهم، وبالطبع يُنَبّه على الطفل أن يُخفي دينه عن الرجل العجوز المتعصب وأن يظهر بمظهر الكاثوليكي المؤمن بالمسيح عدو اليهود. وتختلف على العجوز والطفل وعلى فرنسا الأحداث ويتعلق قلب العجوز بالطفل. وتنتهي الحرب باندحار النازية وتطلب الأسرة العاملة طفلها. ويعرف العجوز أن الطفل يهودي ورغم ذلك لا يرتد عن حبه له. وفي آخر الفيلم يوضع الطفل في قطار يمضي به إلى أهله في مكان مجهول ثم نحن لا نعلم من أمره بعد ذلك شيئا.
وقد حاول أنصار الصهيونية في السينما الفرنسية- وهم كُثَّر- أن يؤثروا على لجنة اختيار الأفلام فيدفعوها إلى اختيار الرجل العجوز والطفل لمهرجان كان. فلما فشلوا أثاروا ضجة من أجل تكريم ميشيل سيمون. وكان لا مناص من الرضوخ لحماسهم الذي يُراد به باطل لأن أحداً لا يستطيع أن يُنكر عطاء ميشيل سيمون للسينما الفرنسية. وهكذا رُتبت الأمور بحيث صعد الممثل العجوز على خشبة المسرح بصالة العرض الكبرى يوم اختتام المهرجان ليتسلم جائزة تكريمه من يد الطفل آلن كوهين وسط التصفيق والتهليل.
وبعد، فقد يكون من الخير أن نذكر قبل أن نتحدث عن الاتجاهات السائدة في السينما الصهيونية في المرحلة التالية لفيلم الخروج، أن نصيب السينما الاسرائيلية في مهرجان فينيسيا عام 1972- وهو المهرجان الذي يُختتم به موسم المهرجانات السينمائية في أوروبا- كان خمسة أفلام من بينها فيلمان روائيان طويلان، فإذا أُضيف إلى ذلك فيلم تحيا أورشليم وهو فيلم تسجيلي صهيوني لصاحبه المخرج الفرنسي هنري شابييه وكاباريه وهو فيلم موسيقي صهيوني لصاحبه المخرج الأمريكي بوب فوس وهما الفيلمان اللذان وقع عليهما الاختيار الأول لتستهل به عروض الأفلام الوثائقية التي تسجل مشاكل عصرنا والثاني ليُفتتح به المهرجان رسمياً، فإن نصيب الصهيونية في السينما يكون، والحالة هذه، سبعة أفلام. هذا في الوقت الذي لم يكن للأمة العربية من المحيط إلى الخليج في المهرجان سوى فيلمين أحدهما تسجيلي قصير لمصر لا يتجاوز عرضه عشر دقائق والثاني روائي طويل للكويت ليس فيه من الدعاية للعرب شيء.
والآن ماذا عن الاتجاهات السائدة داخل تيار الصهيونية في السينما بعد فيلم الخروج؟ إن أول ما يُلاحظ من متابعة أفلام هذا التيار أن موجة الأفلام الصهيونية المستوحاة من التوراة ومن أساطير الأولين التي طغت على أفلام هوليوود المُنتجة بهدف الابهار بعد إعلان قيام دولة اسرائيل بقليل- هذه الموجة قد انحسرت من بعد عرض فيلم الخروج عام 1961.
فعقب قيام الدولة بادرت هوليوود إلى انتاج شمشون ودليلة من إخراج سيسيل ب دي ميل وتمثيل فيكتور ماتيور وهيلي لامار (1949) وداود وباتشيبع تمثيل جريجوري بك وسوزان هيوارد (1951) وخطايا إيزابيل، تمثيل بوليت جودارد (1953) والوصايا العشر (1956) وسليمان وملكة سبأ من إخراج كنج فيدور (1959) واستر والملك لمخرجه راؤول والسن (1960) وسدوم وعاموره للمخرج روبرت الدريش (1961).
أما بعد الخروج فلم تنتج هوليوود من أفلام هذا النوع سوى فيلم واحد ضخم هو الانجيل في البداية للمخرج الشهير جون هوستون (1966) الذي أخرج من بعده فيلمين أحدهما خطاب الكرملين وهو فيلم معاد للاتحاد السوفيتي والثاني رحلة مع الحب والموت وهو فيلم اختير له آساف ديان، ابن موشى ديان، ليؤدي دور محارب يموت من أجل السلام.
في الواقع ففيلم جون هوستون عن التوراة يعتبر واحداً من أهم الأفلام التي مهدت عن طريق الدين والأساطير للتوسع الإسرائيلي عام 1967 فهو لا يتوقف من منتصفه حتى نهايته أي زُهاء تسعين دقيقة إلا عند إبراهيم ليؤكد في ذهن المشاهد تارة بالتصريح وتارة بالتلميح أن اسماعيل هو أبو العرب ومن نسل العبيد لأنه عن أم أمة (هاجر) وأن اسحق هو أبو اليهود ومن نسل السادة لأنه عن أم أميرة (سارة) وأن أرض اسرائيل تمتد من الفرات إلى النيل بالوعد من الله إلى إبراهيم.
وعلى كُلّ فإن الصهيونية في السينما- ومنذ خروج فيلم الخروج- وهي تسلك طرقاً أخرى تهدف إلى التحذير من الحياة في الشتات وإلى التذكير بالحق في العودة الي ارض الميعاد مع التركيز على أن العرب عبيد بلا حق وذلك من خلال موضوعات معاصرة لا ترتد إلى عصور الرسل والأنبياء بل قل من خلال أفلام مرحة مُتشحة بثوب الرقص والغناء.
وظاهرة استغلال هذا النوع الأخير من الأفلام للدعاية لأهداف الصهيونية وتطلعاتها قد استهلت بفيلم ميلي 1966 الذي غنت فيه جولي اندروز باللسان العبري دعاية. ثم ازداد الجنوح إليها بعد هزيمة حزيران فكان أن انتجت هوليوود فيلم فتاة مرحة لصاحبه ويليم ويلر والذي مثلته باربرا ستريسند مع عمر الشريف (1968) وفيلم هيللو دوللي من إخراج جين كيللي وأداء نفس ممثلة فتاة مرحة (1969) وفيلم كاباريه أداء ليزا مينيللي وفيلم عازف على السطح وقد أخرجه نورمان جوديسون وقام بأداء أدواره ممثل اسرائيلي الجنسية اسمه حاييم توبول. وهذه الأفلام الأربعة قد أُنفق على انتاجها مبالغ تجاوزت الخمسين مليون دولار. وهي في مجموعها تدور وجوداً وعدماً حول أحد أمور ثلاثة تُميز شعب الله المختار اضطهاده في الشتات أو عودته إلى أرض الميعاد: ففي “فتاة مرحة” تجاهر باربرا ستريسند وتفاخر بيهوديتها. وفي “هيللو دوللي” تعود في دور خاطبة يهوديه “دوللي ليفي” وهو دور يرمز به في نظر الناقد الفرنسي جان جيلي إلى انتصار القيم اليهودية بما تتسم به من يقظة وانطلاق وسحر وخيال وسعي إلى النجاح المادي. وخير مثال على هذا الانتصار هو عودة دوللي ليفي- وبعد غياب طويل- إلى الحدائق التي تنتمي إليها. حدائق الهارمونيا حيث تُقابل بالترحاب من الملأ الذي يُحييها مُنشداً كلمات تتغنى بتألقها وبقوتها.
وفي “كاباريه” الكل فاسد وشاذ عدا فتاة ماريسا بيرسون من أسرة ثرية يهودية تحب فتى غير يهودي. إلا أنها تُضحي بهذا الحب من أجل دينها. وتتابع الأحداث فيعلن المُحب أنه كان يهودياً من قبل أن يكون مسيحياً ويعود إلى الدين الحق ويتزوج من حبيبته في المعبد اليهودي المحاصر بقطعان النازية التي تتهدد اليهود في برلين قبيل استيلاء هتلر على السلطة.
وفي عازف على السطح يعيش تيفي مع زوجته وبناته الخمسة في إحدى قرى روسيا القيصرية حياة تُرفرف عليها السعادة لا يُعكر من صفوها سوى فقر يحتمل وحب لا يحتمل من إحدى بناته لشاب غير يهودي وتمر الأيام هادئة والنفوس مطمئنة إلى أن تهب عاصفة قيصرية مميتة فتودي سمومها بالأمل، أي أمل في أن تعيش أسرة تيفي كما كانت تعيش من قبل. ويبزغ فجر أمل جديد من خلال عودة الوعي بالخطر الذي يتهدد الأسرة في الشتات ويبدأ الخروج.
وغني عن البيان أنه ما كان يمكن للصهيونية في السينما أن تكتفي بالأفلام الاستعراضية أداة لبث دعايتها وبخاصة عقب عدوان حزيران. إنها من بعده وهي تستعمل جميع أشكال التعبير بالصورة المتحركة وعلى نطاق واسع يمتد من الفيلم الوثائقي إلى الفيلم الروائي سواء أكان قصيراً أو طويلاً.
والأمثلة على ذلك كثيرة في مجال الفيلم الوثائقي لعل أهمها ثلاثة أولها لفريدريك روسيف مخرج فيلمي ثورة أكتوبر والموت في مدريد. وهو في فيلمه الصهيوني يصور العرب دعاة حرب مستسلمين واليهود دعاة سلام محاربين من خلال عرض زائف لتاريخ الصراع بين الشعوب العربية والصهيونية وقد أُطلق عليه اسم حائط أورشليم (1969) وضمنه مغالطات عديدة من بينها لقطة لموشى ديان أمام حائط المبكى خاشعاً داعياً الله أن يجيب الدعاء ويعيد السلام إلى أرض السلام.
والفيلم الثاني لهنري شابييه وهو ناقد فرنسي اختار القدس لفيلمه الذي أسماه تحيا أورشليم (1972) كما اختار الفرنسي الصهيوني جوزيف كبسيل ليقدم له. والفيلم ذو نزعة صوفية جوهرها أن القدس عادت إلى أصحابها بعد طول اغتصاب وأن حلم الإنسان في السلام قد تحقق بتلك العودة. والفيلم الثالث لصاحبه مارسيل أوفلس ابن المخرج الألماني الشهير ماكس أوفلس الذي يؤرخ لمدينة فرنسية هي كلير مونت فيران أثناء الاحتلال من خلال الأسى والشفقة 1969 وهو فيلم يطول عرضه لأكثر من أربع ساعات ويحكي فيه ضمن ما يحكي عن محنة اليهود أيام الحكم النازي وكيف أن أهل فرنسا كانوا أكثر جنوحاً إلى كراهية اليهود من سلطات الاحتلال وأشد جموحاً في تنفيذ عملية اصطيادهم لإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال حيث الحل النهائي القائم على تطهير القارة من يهودها.
أما بالنسبة للأفلام الروائية فقد يكون ما فيها من صهيونية واضحاً لكل من له عينان كما هو الحال في مذكرات آن فرانك للمخرج الأمريكي جورج ستيفنز وحدائق فينزي كونتيني (1971) للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا وبيك وبيك وكولجرام (1972) للمخرجه الفرنسية راشيل فينبرج وهي أفلام تعرض لمحنة اليهود نساء ورجالاً على يد هتلر، تلك المحنة التي تنتهي في فيلمي جورج ستيفنز وفيتوريو دي سيكا بأن فرانك وميكول فينزيي كونتيني إلى أفران كان يُباد فيها اليهود.
وقد لا يكون ما في الأفلام الروائية من صهيونية بمثل هذا الغلو في الوضوح. ولنضرب المثل على ذلك بثلاثة أفلام أولها للمخرج الفرنسي هنري فيرنيي والثاني للمخرج السويدي انجمار برجمان والأخير للمخرج الاسرائيلي باروخ ديهار.
في الفيلم الأول واسمه اللصوص يتنازع البطولة جان بول بلموندو وعمر الشريف الأول في دور لص شريف خفيف الظل حاضر البديهة والثاني في دور ضابط غير شريف خائن لواجبه كضابط واسمه زكريا. وينجح اللص الشريف في سرقة مجوهرات تصل قيمتها إلى المليون جنيه. ولكن الضابط غير الشريف بالمرصاد للص الشريف لأنه يريد كل الحلى المسروقة لنفسه ويحاول اللص الشريف اقناعه باقتسام المسروقات مناصفة بينهما غير أن محاولاته تضيع سدى لأن رغبة شرهة جامحة تدفع الضابط زكريا إلى رفض الاقتسام. وفي ختام الفيلم يغلب اللص الشريف الضابط الغير شريف وجنده المدججين بأرقى الأسلحة وأحدثها ويهلك عمر الشريف الرافض للاقتسام غرقاً في أمواج بحر من القمح.
وواضح من هذا السياق ومن اختيار عمر الشريف ليمثل دور ضابط غير شريف اسمه زكريا أن الفيلم زاخر برموز منها ما هو مستوحى من داود يغلب جوليات بالمقلاع، ومنها ما هو مستوحى من قصة ابتلاع اليم لفرعون وجنوده، وأن هذه الرموز تستهدف اتهام الرافضين للاقتسام وتبرير احتلال عموم فلسطين.
وفي الفيلم الثاني اللمسة- وهو أول فيلم للمخرج السويدي يموله الرأسمال الأمريكي- البطل اسرائيلي الجنسية هاجر مع عائلته من ألمانيا النازية إلى نيويورك ثم منها إلى اسرائيل. وهو في الفيلم ببعثة حفريات أثرية إلى السويد حيث يكشف التنقيب عن تمثال خشبي للعذراء وابنها له من العمر خمسمائة عام. وفي البداية نرى هذا التمثال جميلاً لا عيب فيه. وقرب النهاية نرى في أنحائه حشرات جميلة كامنة أيقظها النور فهي تقضي عليه. وظاهر من هذا العرض الموجز أن فيلم انجمار برجمان زاخر هو الآخر بالرموز. وفي أغلب الظن أنه يرمز بدافيد- وهو اسم البطل- إلى نور الصدق. ويرمز بتمثال العذراء إلى ظلام الكذب الذي لا يستطيع أن يصمد للنور. والنور هنا آت من اسرائيل.
وفي الفيلم الأخير واسمه خد اثنين (1972) البطل مخرج اسرائيلي يقاوم مطاردات فتاة أمريكية مولعة بالسينما تريد أن تتدرب معه على أصولها ثم يرضخ في النهاية بالاستجابة إلى رغبتها أن تكون مساعدة له. وتتبعه كظله إلا أنها لا تفهم مما يفعل شيئاً. فهو يصور أمامها مشهد أطفال داخل مخبأ بمزرعة تعاونية (كيبوتز) على الحدود في فترة يسود فيها السلام. ثم إذا بها بعد تركيب الصوت على الشريط تفاجأ بسماع أصوات مدافع يتحول المشهد بفضلها إلى مشهد حرب. وهو يصور أمامها في مطار اللد رجلاً ملتحياً مهاجراً من الاتحاد السوفيتي يحمل حقيبة كبيرة يزعم أن بها رفات أبيه الذي أوصاه بنقلها إلى الأرض المقدسة.
ثم إذا بها تفاجأ- وهي في طريق المطار منتظرة عربة الأستوديو- بالمهاجر الروسي يخرج من العربة ويخلع لحيته ويتبادل النكات والتهاني على حسن تقمصه الدور. فتغضب لهذا الزيف. وعبثاً يحاول المخرج أن يردها إلى صوابها بأن يذكرها بأصول لغة السينما وما تقضيه من إعادة بناء الماضي عبثاً لأنها لا تستطيع أن تفهم.. ولا تستطيع معه صبرا.

 

من الموجة الجديدة إلي السينما الشابة


“حين يتناول مخرجو السينما الشابة مشاكل الشباب بالمعالجة، فإنما يتناولونها من خلال رؤي تختلف تماما عن رؤي مخرجين في صيف أو في خريف العمر، وأميز ما يميز هذه السينما إنما هو انطباعها الصادق بجزع الشباب وحيرته وضياعه وعجزه عن التمييز بين الخير والشر”.
لعل الكلمات القليلة التي فاه بها ألان رينيه مخرج “هيروشيما…حبيبي” وهو في مجال التعريف بالموجة الجديدة هي أصدق الكلمات التي قيلت في بيان بعض أبعاد هذه الموجة الجديدة التي أعادت للفن السابع شبابه.
يقول ألان رينيه صاحب ” الحرب انتهت ” إن موجة المشاهدين الجديدة الأجدر بالإهتمام من موجة المخرجين الجديدة.
وهذا القول هو الحق لأن الموجة الجديدة هي في الواقع استجابة من عالم السينما لظهور مشاهد من نوع فريد لا يتوجه إلي دار العرض معصوب العينين ، جاهلا بما هو مقبل علي مشاهدته.
وليس من شك أن مثل هذا التحول في عقلية ونفسية المشاهد كان لا بد وأن يؤءثر علي الإنتاج السينمائي، لا سيما وأنه جاء مواكبا لأزمة طاحنة أخذت بخناق السينما العالمية ؛ ففي الولايات المتحدة هبط التردد علي دور العرض بنسبة ٤٠ ٪‏ ، و في إنجلترا فقدت دور العرض ٧٥٪‏ من من جمهورها في الفترة بين عامي ١٩٥٧ و١٩٦٥ ، كما انخفض عدد دور العرض من ٤٧٠٠ دار عام ١٩٤٦، إلي ٢٤٠٠ دار عام ١٩٦٣.
وفي ألمانيا الغربية، فقدت دور العرض حوالي ٥٥ ٪‏ من روادها فيما بين عامي ١٩٥٨ و١٩٦٤.
و في فرنسا هبط رواد السينما من ٤١٢ مليونا في موسم ٥٦/ ١٩٥٧ إلي ٢٦٢ مليونا في موسم ٦٣/ ١٩٦٤.
أما بالنسبة لأوروبا الغربية في مجموعها فقد هبط عدد رواد السينما الإجمالي من أربعة مليارات و١٢٠ مليونا عام ١٩٥٥ إلي مليارين و٧٤٠ مليونا عام ١٩٦٢ وذلك رغم الزيادة التي طرأت علي السكان في نفس المدة، وهي زيادة قدرت بحوالي ٧ ٪‏.
ولقد كان من نتاءئج هذه الأزمة أن طرأ تغيير جوهري علي الهيكل الإقتصادي للسينما، فأخذت دور العرض الكبيرة في الإختفاء لتحل محلها دور عرض صغيرة لا تتسع لأكثر من ثلثمائة مشاهد، وبدأ رأس المال يتحرك بحثا عن موضوعات جديدة، وطرق تناول فني جديدة، وأقيمت مكتبات سينمائية كبيرة تحفظ فيها ذخيرة الإنسانية من الأفلام، وانتشرت دور العرض المسماة سينما الفن والتجربة، كما امتدت شبكة كبيرة من نوادي السينما وجمعيات الأفلام علي وجه فاق الأحلام.
وكان لابد وأن يؤدي كل ذلك إلي انخفاض عدد الأفلام الهابطة، وإلي زيادة ملحوظة في عدد التجارب السينمائية الجديدة تؤدي بدورهاالى ارتفاع المستوي الفني للأفلام.
ومما ساعد علي هذا التحول أن عنصر الشباب أصبحت له الغلبة العددية بين جمهور المشاهدين، فقد تبين من بحث أجراه المركز القومي الفرنسي للسينما أن ٩٢٪‏ من الشباب فيما بين سن ٢٤ و٢٥ يرتادون دور العرض، وأن ٧٥٪‏ منهم يرتادونها بانتظام، في حين أن ٦٥٪‏ فقط من أولئك الذين تجاوز عمرهم ٢٤ سنة يرتادون دور العرض، و٣٥ ٪‏ منهم يرتادونها بانتظام.
ومرة أخري لعل إجابات ألان رينيه علي الأسئلة التي ووجهت إليه بمناسبة إخراج رائعته “هيروشيما …حبيبي” قد تسعفنا ببعض التفسير لظاهرة تجدد شباب السينما.
إن المخرج الشهير يحرص في إجاباته كل الحرص علي بيان دور الشباب فى نهضة السينما، وعلي إرجاع الفضل في انطلاق السينما نحو آفاق جديدة إلي وجود جيل من الشباب أقل تحيزا وتحزبا عن ذي قبل، وأكثر تطلبا للكمال الفني.
وفِي محاولة منه لكشف المجهول من مصير هذا التجدد في الفن السابع، تنبأ بأن ثقة المنتجين بالمخرجين الجدد ستزداد علي مر الأيام، وبأن السينما لن تستمر عَلي ماهي عليه مجرد أداة لسرد قصة، بل ستتحول إلي وسيلة تعبير حقيقية، أخذا منها بسبيل التطور الطبيعي الذي سبق إليه مخرجون مجددون من الجيل القديم أمثال رينيه كلير وجان رينوار وروبير بيرسون.
وتتحقق نبوءة الفنان الفرنسي، فمن سنة إلي سنة تتجدد السينما كما يتجدد الربيع عاما بعد عام.
بيد أن السينما في تجددها وتغيرها إنما تتجدد وتتغير علي سنة الحياة.
ففي زمننا هذا، زمن الصراع المرير بين القديم والجديد، كان لا بد وأن يكتب الإنتصار للجديد.
فمن السنة التي كشف فيها الان رينيه عن المجهول أي من حوالي عشر سنوات، تجدد في السينما العالمية كثير.
تغيرت خريطة السينما، انطفأت أسماء، ولمعت أسماء. لمع اسم رومان بولانسكي البولندي صاحب “قتلة مصاصي الدماء البواسل ، عفوا أنيابك في عنقي” وميلوس فورمان التشيكي مخرج “غراميات شقراء” وبوفيدربرج السويدي خالق “الفيرا ماديجان” وبازوليني الإيطالي الذي أخرج “الشحاذ” وليستر الإنجليزي مبدع “بيتوليا” ولولوش الفرنسي المشهور برجل وامرأة، وستانلي كوبريك الأمريكي منشد “أوديسية ٢٠٠١” وغيرهم كثير.
ويتتابع عرض أفلام غاية في الغرابة، لم يسبق لجمهور السينما أن شاهد مثلها من قبل. ووجه الغرابة فيها إنما يرجع إلي أنها أعمال فنية جادة تبحث عن معني الأشياء، وتعمل علي نجاح الإنسان في أن يتجاوز نفسه فيتغلب علي الأنانية والغضب والكراهية والخوف، أي علي كل الرذائل التي التي تنتهي عادة بمن أصيب بها إلي الإنحدار نحو مرتع مصاصي الدماء.
يعرف الفيلسوف الألماني هيجل الفن بأنه صراع ضد الطبيعة.
وغني عن البيان أنه لا مكان للفن السينمائي حسب تعريف هيجل في مجتمع يسود فيه الذوق التجاري ويتحكم رأس المال „سواء كان أهليا أم حكوميا“ في لحظات الخلق وهي جد نادرة.
إن ايفالد شورم المخرج التشيكي ، صاحب فيلم ” شجاعة كل يوم ” يري أن سر المعنى و أصل الأشياء كلاهما مختف وراء باب صغير، وأن الخلق السينمائي يرتهن بفتح هذا الباب، إنما لا بد لذلك من طرد التجار من المعبد.
وجان لوك جودار رائد الموجة الجديدة الفرنسية لا يري أن هناك فرقا بين قيامه بكتابة النقد وبين قيامه بتصوير فيلم. إنه الناقد بالقلم والكاميرا معا. ولكن أليس من الغريب أن يتاح النقد لجودار عن طريق أكثر الفنون الشعبية رغم الدور الطاغي الذي ما يزال رأس المال يلعبه في عملية الإنتاج السينمائي، وهو دور لا يساعد علي تهيئة المناخ الملائم للخلق الفني.
كيف نفسر إذن ظاهرة كهذه؟ كيف نفسر أن فنانا مثل جودار استطاع أن يخلق أعمالا سينمائية لا هدف لها إلا النقد والسخرية بالقيم الإجتماعية البالية؟
وأن فنانا آخر مثل أنطونيوني أتيحت له الفرصة، في مجتمع مريض بعبادة المال وتستلبه الأشياء، أن يخرج رائعته “انفجار” هذه التحفة اللونية ذات التركيب الإبداعي، التي ساعدت كل من شاهدها علي اكتشاف أجزاء مستترة من الحقيقة.
وأن فنانا ثالثا مثل ستانلي كوبريك استطاع أن ينشد بالصورة في ملحمة “أوديسة الفضاء ٢٠٠١” مجد الحياة بكل أسرارها وتحولاتها اللانهائية من فجر الإنسانية حتي عصر الإنطلاق في الفضاء.
لاتفسير لهذه الظاهرة إلا في وجود ظواهر أخري أقوي من كل حواجز المال والبيروقراطية والتزمت وانعدام الفهم، هذه الحواجز التي تقف سدا حاجزا أمام الإبداع الفني السينمائي.
وأظهر ما في هذه الظواهر :
أولا: ذلك الإنتشار الهائل لنوادي السينما وجمعيات الأفلام، ودور عرض سينما الفن والتجربة.
ثانيا: ذلك الجمهور من الشباب الذي يرتهن استمرار السينما أداة للتعبير الفني بإقباله علي دور العرض.
لقد كان من ثمار غلبة عنصر الشباب علي جمهور السينما أن أصبح من اللازم لاستمرار جذب الشباب إلي السينما أن تعالج مشاكل الجيل الجديد بمعرفة شباب السينمائييين، ومن هنا جاءت فرصة إتاحة العمل السينمائي لعدد كبير من الشباب، مما أدي إلي ميلاد سينما أخري يجري في عروقها دم جديد.
وحينما يتناول مخرجو هذه السينما مشاكل الشباب بالمعالجة فإنما يتناولونها من خلال رؤي تختلف تماما عن رؤي مخرجين في صيف أو خريف العمر.
إن هؤلاء المخرجين، وقد انقطعت كل صلاتهم بمشاكل الشباب منذ أمد بعيد، لا يستطيعون أن يتناولو هذه المشاكل في عمق، إن تناولهم لها لا بد وأن يجيء مشوها لأنه وليد الأسي علي لحظات عمر ولت، والندم علي فرص حية ضاعت والنواح علي فردوس مفقود.
وعلي النقيض من ذلك أمر مخرجي السينما الشابة، فسن العشرين عندهم ليست بسن الربيع لإنهم يعرفون „بحكم معايشتهم لواقع الشباب المر“ أن الشباب يواجه في هذه السن تحديات إثبات الوجود في مجتمع معاد كل مافيه يعمل جاهدا إما علي احتوائك و إما علي لفظك.
وإذا تتبعنا أفلام السينما الشابة، وجدنا أن نظرة الأبطال فيها للحياة نظرة جادة صارمة مشوبة بالحزن أحيانا، وبالخوف المتدثر بثوب الثورية أحيانا أخري.
“فجاك رادو” بطل الفيلم الأمريكي “الحافة” الذي أخرجه “روبرت كرامر” يشترك مع رفاق له في اللجنة الثورية التي تكافح من أجل السلام في فيتنام، ومن أجل الحقوق المدنية، غير أنه سرعان ما يقع فريسة لليأس، فيختار أقصر طريق للتغيير في رأيه: طريق الإغتيال السياسي.
وفي الفيلم الكندي “القطة في القفة” من إخراج “جرو” تصف باربارا حبيبها كلود فتقول “يظنني خائفة في حين أنه هو الخائف، إنه يخاف الحياة”
وكلود، هذا الرجل الخائف من الحياة، لايجيد إلا استعمال لغة الثوار، وكثيرا ما يتساءل عن جدوي هذا الإلتزام الشفوي.
“هل أنا متمرد؟ لاأعرف. ما أكثر العبارات والكلمات التي أود لو استطعت التحرر منها”
إنه يطمح إلي تغيير هذا العالم، ولكن التغيير يرتهن بالمعرفة؛ فليرحل إذن إلي الريف ليفهم العالم من خلال تأمل الطبيعة وقراءة الفلسفة!!
وهكذا يظن كلود أنه سائر بفضل هذا السلوك الطفلي التآمري في طريق تغيير العالم.
وقد يكون اكثر أفلام الشباب فهمًا لمأساتهم وعمقا في تناولها الفني هو فيلم المخرج المجري استفان زفايو “عصر الأوهام”، فبطل هذا الفيلم “جانوس” متخرج في كلية الهندسة ومتخصص في الهندسة الإلكترونية. كان يتوهم لحظة تخرجه أنه يحمل جواز مرور نحو مستقبل مشرق ، غير أنه الآن في قبضة الضياع ، فهذا العلم الذي يُحسنه لا يفتح له أبواب السيادة علي العالم. إن الحياة أكثر تعقيدا مما كان يظن، أكثر تعقيدا من الآلات الإلكترونية، فالآلات يعلم عنها الكثير، كل جزء منها له وظيفة دقيقة محددة، أما الحياة فهي عالم غامض كله أسرار، عناصره الأولي ما تزال مجهولة استعصي فهمها عليه.
ويتمرد الشاب، ويسري الشك في دمه سريان السم. إن الناس جميعا في نظره كاذبون، مخادعون مستهترون، لا تنطوي قلوبهم إلا علي العداء له. لا فائدة إذن في هذا الدبلوم الذي يحمله ولا في هذا العلم الذي يختزنه، فهما لن يفتحا له باب اليقين إلي مستقبل يليق بعلمه. فالجيل القديم يقف حجر عثرة في الطريق علي أهبة الإستعداد لاستغلال الشباب، ولن يتخلي أبدا عن مراكزه. ان هذا الجيل هو الحائط العازل الذي يجب العصف به، حائط الباهتين المترهلين الصفر من المواهب، هؤلاء الذين يقودون ويخططون ويصدرون الأوامر والتعليمات ويتصرفون بأساليب بالية وعتيقة، هؤلاء الجهلة بماهية التكنولوجيا، وبروح العصر. ورغم ذلك يغدق لهم العطاء.
وكما كانت إيطاليا موطن الواقعية الجديدة فإنها تعتبر حاليا موطن السينما الشابة الغاضبة، فهناك “سالفاتوري سامبيري” مخرج فيلم “شكرًا يا عمتي” و “روبيرتو فاينزا” مخرج فيلم “التصعيد” وكلاهما تقل سنه عن الخامسة والعشرين وكلاهما قد تأثر بالثورة التي أحدثها المخرج ماركو بللوشيو في حقل السينما الشابة بإيطاليا.
وبطل فيلم “شكرًا ياعمتي” ابن رجل ثري تربطه بعمته علاقة سوء، وهو يعاني من وهن في إرادته وضعف في خلقه يعجزانه عن الإحتجاج علي طريقة الحياة في الدغل المحيط بفنيسيا، ويقعدانه عن التمرد.
وكذا الحال بالنسبة لبطل فيلم “تصعيد”، فهو الآخر ابن لرجل من رجال الرأسمالية الإيطالية الجديدة، هارب من مسؤولياته، لا يهمه في شيء أن يعيش مليونيرا صاحب سطوة في الفردوس الإستهلاكي.
ويعد “ماركو بللوكيو” رائد الموجة الغاضبة في إيطاليا، وله فيلمان أحدثا دويا هائلا في وسط الدوائر السينمائية والسياسية: الأول “قبضات في الجيب” والثاني “الصين قريبة” وكلاهما مرآة صادقة للفوضي الثقافية التي يعاني منها الشباب في إيطاليا حيث يحكم يسار الوسط، ولانعكاس أثر هذه الفوضي عليهم في شكل اضطرابات عاطفية. وتتسم نظرة ماركو بللوكيو إلي الحياة السياسية والجنسية في إيطاليا بأنها نظرة مخرج شاب ساخر متحرر من هذا الحنين الرقيق إلي الماضي الذي تتميز به أفلام فيلليني. ومن هذا البرود العلماني الذي يغلف أفلام أنطونيوني ومن هذا التناول المرح السطحي السوقي الذي اشتهر عن كل من بيترو جيرمي وجريجوريني، ولعلنا لا نغالي إذا ذكرنا أن أغلب أفلام السينما الشابة إنما تصور حياة الشباب في مجتمعات مفتوحة استبد بها القلق والتردد في الاختيار بحيث أصبح التمرد عليهالا معني له.
ولا غرابة فى هذا لان المجتمع الذى يفيض بالحماسة والحيوية, ويلتزم بنظام خلقى معين وبقواعد سياسية ودينية محددة, هذا المجتمع هو الذى يكون مسار التمرد فيه مرسوما فى وضوح.
والتمرد في مثل هذا المجتمع يتخذ أشكالا متنوعة، فالمتمرد قد يكون مفكرا حرا، أو مناصرا لدريفوس أو معاديا للحرب إلي آخر ذلك.
وعلي النقيض من ذلك المجتمعات الغربية المعاصرة فهي بحكم أنها مجتمعات قلقة ومترددة في اختياراتها، وأكثر انفتاحا من أي عهد، فإن الشباب بها قد أصبح أسير حيرة الإختيار بين الإندماج فيها أو الرفض لها.
وليس من نتيجة هذا القول إن الإلتزام الأيديولوجي قد فقد كل معني له لدي الشباب.
فالأزمات التي يتناولها بالمعالجة المخرجون الشبان داخل المجتمعات الغربية ما تزال في أصولها وجوهرها ذات طابع سياسي في الغالب الأعم من الأفلام، فالوعي بالإضطهاد الذي تعاني منه مقاطعة كويبك الفرنسية في قارة يسودها الأنجلوساكسون, هذا الوعي هو نقطة البدء في رفض كلود للحياة السهلة وتعلقه بحب باربارا في فيلم “القطة في القفة” وتردد فابريزيو في قبول الإلتزام السياسي الذي يعرضه عليه صديقه الشيوعي سيزار هو محور محاولاته التحرر من عائلته، ومن الوسط البورجوازي الخانق المحيط به، وهي المحاولات التي يدور حولها فيلم برتولوتشى “أول الثورة”
وعلي هذا فإن أميز ما يميز السينما الشابة ليس فقط فقدانها للطابع السياسي، وإنما انطباعها الصادق بجزع الشباب وحيرته وضياعه وعجزه عن التمييز بين الخير والشر.
ولعل تفرد السينما الشابة بهذه الخصائص الفريدة خير شهادة لها، وأقوي دليل علي أن السينما، باعتبارها لغة العصر، تستطيع أن تكون تعبيرا ذكيا وصادقا عن مشاكل الشباب مستقبل الإنسانية.