السينما بين فاطمة وليلة القبض عليها وكارمن ويوم قتلها

إذا كانت 1984 سنة “اورويل” ونبؤته السوداء، فهي بالنسبة للسينما المصرية سنة الكلام عن “فاطمة” وساحات القضاء، وبالنسبة للسينما العالمية سنة “كارمن” المرأة الحرة المرة ومأساة الرجال معها.

الثابت أن الأحداث السينمائية عندنا قد بدأت في ساحة القضاء بطعن “لنادية الجندي” ضد حكم لمحكمة القضاء الإداري رفعته أمام المحكمة الإدارية العليا طالبة فيه الحكم بالافراج عن درّتها الحبيسة “خمسة باب”.

ومن بعده بادرت نقابة السينمائيين إلى إقامة دعوى أمام محكمة جنح عابدين طالبة فيها الحكم بمصادرة فيلم أمريكي عن “السادات” أينما كان ومعاقبة المسئولين عن إنتاجه في هوليوود أشدّ عقاب.

ثم بادر نفر من المحامين إلى إقامة دعاوي كثيرة أمام القضاء الجنائي بطول مصر وعرضها طالبين في غضب الحكم بالقبض على “الافوكاتو” حياً أو ميتاً ومجازاة كل من أسهم في تمويله وإنتاجه وإخراجه وتمثيله ولو بنصيب قليل.

زوبعة الفنجان

وما أن هدأت هوجة التقاضي هذه أو كادت إلا وكانت السحب تتجمع داكنة منذرة بزوبعة قد يطلق عليها المؤرخون “زوبعة  الخادمة ” (نادية الجندي).

إذن فالسينما على أرض مصر كانت مشغولة طوال 1984 بالكرّ والفرّ في ساحات القضاء وبزوابع نادية الجندي وجبروتها (يلاحظ أن السنة تنتهي بفيلم لها اسمه “جبروت امرأة” وأن سنة 1985 قد تبدأ بفيلم آخر لها أطلقت عليه اسم “طماطم والبلطجي”.

وعلى كُلٍ، فما تقدم ذكره من أحداث غريبة لم يكن وليد صدفة، فليس في عالم السينما شيء اسمه المصادفة.

ذلك أنه من المسلمات أن كل سبب مسبب وأن لكل معلول علة.

ومن ثم فهذه المشاحنات والزوابع إن هي إلا إفراز السينما المصرية وثمرة مصدرها وعجزها عن مسايرة روح العصر.

حكمة مجرب

ورغم ما تقدم فثمة ظواهر إيجابية في رحلة السينما عبر 1984 لعل أهمها أن تعود “فاتن حمامة” إلى الشاشة في فيلم “ليلة القبض على فاطمة”.

وعن تمثيلها في هذا الفيلم والجهد الذي بذلته – وهو جهد عظيم – لتغطية ثغرات الضعف والركاكة في القصة والسيناريو والحوار نذّكرها بما كان يقوله المخرج الراحل “عبد الرحيم الزرقاني” للممثل إذا ما أحسن أداء نص لا قيمة له.

كان يقول له ناصحا: “احسنت.. إلا أنك نفخت رئتيك في باطل”. وأن تتاح الفرصة لسمير سيف أكثر مخرجي الجيل الأول المتخرج في معهد السينما عشقاً للفن السابع ومعرفة بقواعده وأصوله كي يخرج ثلاثة أفلام أهمها ولاشك “آخر الرجال المحترمين”.

وحكاية آخر أفلام “سيف” – وهو فيلمه التاسع – مستوحاة مما يحدث كل يوم في القاهرة بعد أن تضخمت فتحولت إلى مدينة بدينة مترهلة تسقط فيها الأحلام وتغتال الزهور.

فلا يمرّ يوم أو بعض يوم إلا ونقرأ نبأ اختفاء طفل أو نسمع خبر العثور على جثة طفلة مشوهة بين الخرائب والأطلال.

وتمرّ الأيام ويصبح الطفل المفقود أو الطفلة المقتولة نسياً منسياً.. يهمل شأنها وكأن شيئاً لم يحدث.

من هذا المخزون الهائل من الفواجع المنسية اختار كاتب السيناريو “وحيد حامد” مادته، تفتق ذهنه عن فكرة نسج من حولها موضوعاً ساحراً ساخراً دبج له حواراً لاذعاً يقطر رقة ومرارة.

ومن خلال مشاهد قصيرة سريعة الايقاع، وبفضل خبرته في التشويق وفي تحريك الممثلين وفي اختيار مواقع الأحداث استطاع المخرج “سيف” أن يقول في نقد المجتمع وأمراضه الشيء الكثير.

حصاد العواصف

ومن اللازم هنا – ونحن في مجال الكلام عن الايجابيات – التنوية بفيلم المخرج “محمد خان” (الحريف) تمثيل “عادل إمام” و”فردوس عبد الحميد” وذلك لطابعه المتميز وأسلوبه الخاص جداً.

وبفيلمه الآخر “خرج ولم يعد” لخروجه من مهرجان قرطاج متوجاً بالجائزة الثانية ولحصول بطله “يحيي الفخراني” من نفس المهرجان على جائزة أحسن ممثل.

ومن أفلام “1984” التي يجدر الإشارة إليها “بيت القاضي” لجرأة موضوعه بفضل سيناريو مأخوذ عن قصة لإسماعيل ولي الدين أحسن كتابته “عبد الحيي أديب” وأساء إخراجه “أحمد السبعاوي”.

و “أيوب” لنجاح مخرجه “هاني لاشين” في توظيف “عمر الشريف” – وقد دخل مرحلة الكهولة – لأداء دور رجل أعمال يتجرع عبودية الشلل ومرارة الفشل.

و”الأفوكاتو” لابتعاد صاحبه “رأفت الميهي” به كل البعد عن الشكل التقليدي للفيلم الكوميدي ففيه كسر لكثير من مفرداته، هروب من لغة سينما لا تقول شيئاً.. لا تعني شيئاً.. لا تنقل حرارة ولا رطوبة.. هو أقرب إلى الكوميديا المجنونة التي ابتدعها “ميل بروكس” في “الأسرجة الملتهبة” و”فرانكشتين الصغير” و “وودي آلن” في “اخطف الفلوس واجري” و”موز” و”الحب والموت”.

وهذا النوع من الكوميديا يتسم بانفراط مسبحة الحبكة الروائية وبافتقاد الرسم العميق للشخصيات، فضلاً عن الدوران حول شخصية واحدة عدوانية لابد أن ينتهي الفيلم بها فائزة منتصرة.

وهي في “الأفوكاتو” شخصية “حسن سبانخ” يؤديها “عادل إمام”.

فسبانخ وحده دون شريك يطلق النكات والقفشات وبه وحده دون القصة، تتحدد معالم الفيلم بناءً وايقاعاً.

ونظرة سريعة على فيلم “رأفت الميهي” تؤكد أن الخيال حلّق به إلى عالم اختلط فيه الواقع بالحلم.. والممكن بالمستحيل، عالم عجيب وقائعه الغريبة اتخذت وسيلة – ليس إلا – لكشف عالم مجنون.. مجنون.. وتخفيف وطأته بالتعرية له..

المخرج الغائب

وفوق كل هذا يلزم الوقوف قليلاً عند الفيلم التسجيلي “انقاذ” لصاحبه المخرج الشاب “مختار أحمد حسن”.. لماذا؟

لأنه عندي الفيلم الذي أنقذ سمعة السينما المصرية في مهرجان قرطاج من عارالسقوط. فلولاه لما فازت أقدم وأقوى سينما في الوطن العربي بأية جائزة كبرى ذات قيمة. ولخرجت من المولد تجر أذيال خيبة الدخان الذي لا يطير.

ومع ذلك فعندما نودي على المخرج الشاب كي يسلم جائزة “التانيت الذهبي” لم يصعد إلى المنصة أحد. ساد صمت الانتظار طويلاً. وإذ بموظف إداري من العاملين بوزارة الثقافة يصعد الدرجات مزهواً لاستلام الجائزة نيابة عن المخرج الغائب وتساءل الحضور لماذا؟

وكانت الإجابة أن صاحب “انقاذ” متخرج في معهد السينما حديثاً. وأن أمثاله لا مكان لهم في المهرجانات.

وقد تبين بعد ذلك أن المخرج الغائب ذهب إلى المسئولين الإداريين بالوزارة المذكورة مشاغباً مطالباً بحقه في مرافقة فيلمه إلى قرطاج.

ولكن أحداً لم يعره التفاتاً وبدلاً منه ونيابة عنه سافروا وأضاعوا عليه فرصة العمر أن يتلقى بيديه الجائزة الذهبية. أن يندهش – ومن شدة الفرح – يحتضن المستقبل.

والمخرج الغائب يعرض فيلمه لمأساة انهيار المباني القديمة وتوفير السكن لمن أصبحوا معذبين بلا مأوى.

و “إنقاذ” يبدأ بانهيار منزلين ثم القطع على عناوين الصحف تشير إلى عدد الضحايا. ومع خلفية موسيقية تتحرك الكاميرا صامته تتجول بين أنقاض المنازل المنهارة وأطلال الوجوه المشردة. ومنها تنتقل إلى الخيام التي أصبحت لهم مأوى بل قل جهنم وبئس المصير.

وفي الدقائق العشر التالية الباقية من “انقاذ” تطرق آذاننا أصوات آتية من خارج الكادر تحمل شكاوى النساء والرجال ممن تم ترحيلهم إلى منازل أقرب إلى الكهوف شيدت في منطقة جبلية نائية تتقطع أنفاس الناس كلما تسلقوها صعوداً إلى حيث المستقر الأخير.

خلاصة الخلاصة أذن أن السينما المصرية سنة 1984 في وضع مهزوز، الجيد من أفلامها قليل يعد على أصابع اليد الواحدة لم ينقذ سمعتها سوى فيلم قصير من أربع عشرة دقيقة فقط لا غير.

والأفق خال من أيه مؤشرات على أنها بمستطيعة في المستقبل القريب على تجاوز الغوغائية والتحرر من داء الاستسهال وبكل تأكيد فهي بدون هذا التجاوز والتحرر لا تستطيع أن تفتح فتحاً عظيماً أو تنجز إنجازاً يترك أثراً…

ظاهرة كارمن

فإذا ما انتقلنا إلى السينما العالمية فسنجد أنفسنا أمام ظاهرة عجيبة تستوجب الوقوف والتأمل.

مع بدايات 1984عرض للمخرج السويسري “جان لوك جودار” فيلم “الاسم الأول.. كارمن” بعد ذلك بأسابيع قليلة عرض للمخرج الأيطالي “فرانشسكو روزي” فيلم تحت اسم “كارمن” فإذا ما تذكرنا إنه – قبل ذلك بأشهر معدودة – عرضت أربعة أفلام تدور حول كارمن لوصل عدد الأفلام المستوحاه من مأساتها خلال أقل من عام إلى ستة أفلام.

ومن هنا لا يملك المرء إلا أن يتساءل لماذا كارمن؟ لماذا هذا التهافت من قبل السينما العالمية على حكاية هذه المرأة بالذات؟

لماذا يقبل أربعة من ألمع مخرجي أوروبا وأكثرهم موهبة “كارلوس ساورا” من أسبانيا و “روزي” من إيطاليا و “جودار” من سويسرا و “بيتر بروك” من “انجلترا” على سيرة هذه الغجرية من الأندلس يستلهمون وحي الابداع؟

بل لماذا يصل الأمر بأحدهم “بروك” إلى حد أن تشتبك حياته بحياة غانية اشبيلية، فتذهب به الخيالات مذاهب شتى تدفعه إلى أن يخرج في وقت واحد ثلاثة أفلام عن سحرها كيف يستحوذ على الرجال؟

هل كل هذا لأنها امرأة حرة تسمع صوت القلب، لا تحيد عما يرغب ويريد. ومن هنا وقفة الاعجاب بها والتأييد؟ أم لأنها امرأة مرة تندفع وراء نداء الجسد بشهواته ولذاته. ومن هنا الخوف من بهيج السموم وضرورة التحذير؟ أم لأسباب أخرى لا علاقة لها لا بذاك ولا بهذا؟

بداءة من هي هذه الغانية اللاهية ملهمة المخرجين الأربعة الكبار؟ ما حكايتها؟

الحب والموت

لو رجعنا إلى ما كتبه عنها الأديب الفرنسي “برسبير ميراميه” في أقصوصة تحمل اسم “كارمن” لما وجدنا أنفسنا أمام شيء كثير جدير بالذكر، فالأقصوصة تدور حول غجرية ساحرة أو فاجرة تدفع عسكرياً “دون جوزيه” إلى أن يجرع مرارة حبها معصورة من قلبه، تمتلكه حتى تكاد تسلخه عن نفسه، تثير فيه الغيرة إلى مدى يدفعه إلى حد اختيار الخلاص منها قتلاً.

فإذا ما انتقلنا إلى الأوبرا المستوحاه من الأقصوصة كما كتب كلماتها “هنري ميلهاك” و “لود فيك مالفر” وأبدع ألحانها الموسيقار الفرنسي “جورج بيزيه” لصادفنا عملاً فنياً كبيراً بفضله تحولت “كارمن” إلى رمز مزدوج للحب والموت ثم إلى أسطورة غرام وانتقام.

سحر الأصالة

نحن في “اشبيليه” بأزقتها البيضاء الضيقة الملتوية، شذاها تتشربه المسام الجدران تشع أصالة وقدماً، الجو مشبع بأنغام الفلامنجو والحب وحطام الأحلام.

أمام مصنع تبغ، العاملات يتسكعن مستعرضات المفاتن، يدخن، يتبادلن عبارات الغزل مع فتية لا حديث لهم ولا سؤال إلا عن أكثرهن صيتاً، الكارمنسيتا “الغجرية”.

وما أن تظهر إلا ويتدافع من حولها الفتية اشتياقاً واشتهاءً.

ولكن أحداً منهم لا يثير، لا يطير بها هياماً إنها جميلة تعرف أنها جميلة.. مرغوبة تعرف أنها مرغوبة إلا من العسكري “دون جوزيه” الوحيد المتعالي الذي لا يسعى إلى جمالها يحييه.

إذن لابد من إشعال النار في قلبه، من جعل أنفاسه ملتهبة راقصة مع أنفاسها .. كيف؟

هنا تنطلق حنجرتها بكلمات أغنية “الهابانيرا” الشهيرة – وهي المفتاح لفهم شخصيتها – “الحب طير متمرد، ما يعرف الحدود ولا القيود، إن كنت ما بتحبني، باحبك، وإن حبيتك ياويلك”.

ومع نهاية هذه الكلمات الطلقات تلقي إليه بوردة حمراء تغري بها القلب، تجعله يهيم ويستسلم، يشتعل ويذوب.

مجنون كارمن

وتبدأ المحنة فبعد أن قطف “دون جوزيه” الثمرة المحرمة، تذوق حلاوتها، يريد من التي ألهته عن واجبه، صرعته، يريد منها أن تبقى رفيقة الحياة حتى نهاية العمر.

ولكن هيهات لقد غاب عنه أنها امرأة متقلبة، لا تستقر على حب واحد، تستبدل الرجال كما تستبدل حذاء بحذاء.

وفي ختام الأوبرا يصل به الهوان إلى حد استعطافها، تسول حبها بعد اتهامه لها بخيانته مع مصارع الثيران “اسكاميللو”.

فإذا ما تهدّدها بالموت، سخرت منه غير مبالية متحدية. “كارمن لا تركع أبداً.. كارمن ولدت حرة، وحرة تموت”.

ثم اندفعت إلى حيث عشيقها الجديد في حلبة المصارعة ينازل الثور منتصراً.

يغلي الدم في عروق العاشق المهووس، يقطع الطريق عليها، يغمد خنجره في قلبها، يلقي بنفسه على جسدها الذي تبخرت منه الحياة منتحباً صائحاً: “آه كارمن.. كارمن حبيبتي”. باختصار هذه هي الحكاية.

وعندما ووجه “ساورا” المخرج الأسباني الذي بدأت به حمى “كامن” في السينما بنفس السؤال السابق طرحه في البداية “لماذا كارمن”؟ جاءت إجابته سريعة قاطعة “ولم لا؟”

“أنها حكاية تقطر جمالاً، يمتزج فيها سحر الأندلس بعطر الفن.”

الأسطورة والواقع

فمنذ أن كنت صغيراً واسم كارمن له عندي دلالة خاصة، لا أعرف لماذا كنت أتخيله مرتبطاً بصورة فتاة أندلسية شعرها الفاحم ينسدل محيطاً بوجه خمري تزينه شفاه ممتلئة وعيون كعيون المها.

كنت وأنا تلميذ عندما أسمع “كارمن” أتصورها فتاة رائعة الجمال، قوية الإرادة.

الآن كبرت الفتاة، أصبحت امرأة كاملة الأنوثة، تسكن عالم الأساطير.. لها فيه ما “لفاوست” من منزلة ومقام وما “لدون جوان من سلطان”.

أما المخرج الايطالي “روزي” فقد تصورها امرأة جمالها لا يلفت الأنظار. تفيض أنوثة، تشع سحراً غامضاً، تغير على حريتها، تعتبر أي مساس بها مساساً بكرامتها. وفوق هذا فهي بحكم طبعها الشرس المتميز، تدفع بالرجل الذي يهيم بها إلى الثأر لكرامته الجريحة بقتلها.

وللمخرج العبقري “جودار” رؤية لكارمن خاصة جداً إنها عنده أسطورة أنثوية كبرى.

وعنها يقول: “أشعر أن كل واحد منا يعرف حدوته “كارمن” ولكن أحداً لا يعرف ما حدث بين “دون جوزيه” و “كارمن” بالتفصيل.

الكل يعرف كيف بدأت الحدوتة وكيف انتهت ولكن أحداً لا يعرف الوقائع متسلسة من البداية وحتى النهاية بحدثها الفاجع.. إذا كانا في المطبخ معاً فماذا قالا، وإذا كانا في السيارة فماذا دار بينهما من حديث.

ومهما يكن من أمر فالمشهور المذكور عن كارمن في فيلم “جودار” الحاصل على الجائزة الكبرى لمهرجان فينيسيا، إنها فتاة عصرية تلبس البلوجينز، تغري من يسكر بنشوة حبها بسرقة المصارف، بارتكاب أشياء أخرى تسحبه إلى طريق تحف بها المهالك.

الحيرة والخوف

يبقى المخرج الانجليزي “بروك” لقد ذهب مع كارمن بعيداً… فصنع لها أفلاماً ثلاثة لأنه كان حائراً كيف يرسم شخصيتها، أي وجه لها يختار، أيرسمها امرأة مدنسة بالجنس تعيش به وله، أم امرأة تعشق حريتها لا تقبل لها بديلاً، أم امرأة ترمز إلى القدر المحتوم.. استسلام الحب للموت على الدوام.

والآن عود إلى نفس السؤال الذي مازال يبحث عن إجابة.. لماذا  كارمن؟

في اعتقادي أننا لو تأملنا الجو الفكري والنفسي العام الذي جرى فيه إخراج أفلام “كارمن” الستة وغصنا في الأعماق لتكشف لنا أنه جو مشحون بالتخوف من تحرر المرأة، بالشعور إن خطأً أو صواباً بأن هذا التحرر إيذان بأن وقت أفول مملكة الرجل قد حان.

فكارمن، كما هو معروف، نموذج بارز للمرأة المتحررة المميتة.

رمز يرتكز على مبدأ أساسي هو أن الرجل ضحية المرأة. أسطورة تشير إلى الجحيم القديم الذي ينتظر أدم فيما لو عاد الميزان فمال لصالح حواء.

وأغلب الظن أن المخرجين الأربعة – وكلهم رجال – يعانون من عقدة الخوف هذه.

ومن هنا هوس كارمن !!

-رحلة حول فيلم يمجد غزو مصر – الوداع يابونابرت

لو كان عنوان فيلم “يوسف شاهين” القادم “إلى الجحيم يا بونابرت” بدلاً من “الوداع يا بونابرت” لاطمأن القلب فالوداع كلمة لا تُقال عادة إلا لمن كان عزيزاً على النفس، فراقه يُعذب القلب ويُضني الفؤاد.

وبونابرت لم يُفلح في كسب حب العرب.. لا عرب مصر، ولا عرب الشام.
توقع الترحاب.. أن تتكرر مشاهد الأفراح في إيطاليا التي احتفلت به غازياً مُحرراً. أن يُقابل هو وجنده وعلماؤه من الشعب العربي في القطرين بالأحضان والورد والريحان. ولكن ما أن نزلت قواته على الساحل المصري إلا وخاب ظنه وتبخرت أحلامه.

قاومت الإسكندرية وعَبّرت عن مقاومتها تحت قيادة حاكمها السيد/ محمد كريم- وهو من الأشراف- كتب بونابرت في تقرير مرفوع منه إلى حكومة الإدارة، “أن كل بيت كان قلعة” و”أن هذه الأمة تختلف كل الاختلاف عن الفكرة التي أخذناها من رحلاتنا. إنها أمة هادئة، باسلة، مُعتزة بنفسها”.

وكتب “ميييه”- وهو جندي اشترك في الهجوم على المدينة- في مذكراته: “ظننا أن المدينة استسلمت وشدّ ما أدهشنا أن ينهال علينا رصاص البنادق ونحن نمر أمام أحد المساجد، فأمرنا قائد اتفق وجوده هناك أن نقتحم باب المسجد ولا نُبقي على أحد فيه. وهكذا هلك الرجال والنساء والأطفال بحد السناكي”.

قصة المدينتين

قاومت القاهرة. وعن مقاومتها يقول “الجبرتي”: صعد “عمر مكرم” إلى القلعة فأنزل منها بيرقاً كبيراً سماه العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله الآلاف من العامة بأسلحتهم التي هبّوا ليقاوموا بها الغزاة.
وكتب “مالو” أحد أعضاء اللجنة الخماسية التي أناط بها بونابرت مهمة الإستيلاء على المدينة “أنه لما هبط الليل دخل الضباط الخمسة القاهرة تحرسهم سريتان من المشاة على عزف الموسيقى. وكان سكانها 300.000 نسمة. ولم نلتق إنساناً واحداً في طريقنا.. ولم يدلنا على وجود الأهالي غير صرخات النساء المتصاعدة من جميع المنازل”.

بداية النهاية

قاومت عكا.. أمام أسوارها كان الاندحار الأول بداية نهاية الطاغية في سهول روسيا وتحت ثلوجها، تتقلص بها إمبراطورية الاستبداد إلى جزيرة صغيرة نائية في المحيط يتذكر منها الإمبراطور الأسير جرائمه، يجتر أحزانه وأشجانه إلى أن يجيئه الموت وحيداً.

تحت أسوار قلاعها الباسلة تهشمت ذراع الجنرال “كفاريللي” اثر إصابتها بقذيفة مدفع تركي.. ما لبث بعد بتره أن أصيب بحمّى شديدة وبدأ يعالج سكرات الموت.
وعندما سأل بونابرت سكرتيره “كيف حال كفاريللي” أجاب “لقد أشرف على نهايته”.

وفي وصف كفاريللي كتب “الجبرتي” “كفرلي المُسّمى بأبي خشبة.. وهو يمشي بها بدون معين ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح، ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة، وكان من جملة المُشار إليهم فيهم، والمدبر لأمور القلاع وصفوف الحروب، ولهم به عناية عظيمة واهتمام زايد..”

الأعرج والأعور

وحول هذا الجنرال العالم الأعرج تدور أحداث فيلم يوسف شاهين وجوداً وعدماً. وهنا- ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين- لا يسعني إلا أن أتذكر جنرالاً عالماً أعوراً لعب هو الآخر- وبعد مُضي زُهاء قرنين من عمر الزمن على حملة بونابرت- دوراً مُشابهاً كدور كافاريللي في بر مصر والشام.. هذا الجنرال العالم اسمه موسي ديان.

ويوسف شاهين في فيلمه يحاول أن يرد الاعتبار إلى هذا الجنرال الذي كان موته بعد بتر يده تحت أسوار عكا إيذاناً باندحاره وتراجعه مع فلول جيشه المهزوم من الشام إلى القاهرة، وبانحسار مد الاستعمار الفرنسي في المشرق العربي- ولو إلى حين.

أهلاً بالاستعمار

ومما يؤيد أن رد الاعتبار هو القصد من الفيلم الذي هو انتاج فرنسي مصري مشترك ذلك الحديث الخاص المنشور في مجلة “اليوم السابع” “الإثنين 10 أيلول- سبتمبر 1984”.
ففي هذا الحديث وجّه “خميس الخياطي” إلى “يوسف شاهين” السؤال الآتي: “عنوان فيلمك هو “الوداع يا بونابرت” ولكن عند قراءة السيناريو كان بالإمكان تسميته “أهلاً بكافاريللي” لماذا أهملت قليلاً شخصية بونابرت؟”

وعلى غير عادته جاءت إجابته واضحة صريحة إذ قال “هذا طبيعي.. فالاستقبال الحسن ليس موجهاً لكافاريللي فقط بل لكل إنسان لا يأتي إلى بلدي بنية احتلاله، اغتصاب فكره أو استعماره، بل يأتي ليُقيم معي علاقة شاملة، علاقة عطاء وأخذ.

أرى أن العلاقة المستحسنة بين بلدين هي القائمة على هذه النظرة حتى وإن مرا في مرحلة المُستَعمَر والمُستَعْمِر.. علاقة التَسّلط هذه قصيرة.. فالشيء الذي لا يأتي عليه الزمن هو التفاهم القائم على الحب. فعندما تنظر إلى الحروب القائمة حولنا والكراهية المهيمنة على العالم تعرف ما هي قيمة الحب الحقيقية”.

العطاء الكبير

إذن هذا الجنرال المُدبر لأمور القلاع وصنوف الحروب، والذي تعتني به الحملة عناية عظيمة وتهتم به اهتماماً زائداً. والذي بدأ بموته تحرر العرب شواماً ومصريين من رقة الاحتلال الفرنسي- هذا الجنرال في رأي يوسف شاهين قد جاء إلى الوطن العربي لا بنية الاحتلال، وإنما بنية إقامة علاقة شاملة.. علاقة عطاء وأخذ مع العرب.

وعطاء كافاريللي أو بمعنى أصح الحملة الفرنسية لنا هو العلم.. رفع المُعاناة عنّا نحن العرب الأجلاف بنشر المعرفة وفلسفة التنوير بين صفوفنا بإدخال المخابز.. المطابع.. طواحين الهواء.. وما إلى ذلك من عجائب الغرب وغرائبه.

ومقابل هذا العطاء لا يريد كافاريللي سوى الحب. فهو وفقاً لسيناريو الفيلم كما قرأته في نسخته الفرنسية التي لم يجر تسليمها إلى الرقابة المصرية إلا بعد الإنتهاء من تصوير المشاهد الخارجية.. رجل عاشق لمصر.. متغزل بها وبسواد عيون غلمانها.

وبينما هو يحتضر أمام قلعة عكا قريباً من نهاية الفيلم تنفك عقدة لسانه بكلمات أخيرة تقطر بحب مصر.. وحب الوسيم “علي” أحد أبنائها المتفرنسين.

وطبعاً الحقيقة التاريخية عكس هذا الهراء تماماً- فكافاريللي- وهو يُشرف على النهاية- طلب إلى “يوريين” سكرتير “بونابرت” أن يقرأ عليه مقدمة “فولتير” لكتاب “مونتسكييه” “روح القوانين” ثم أدركه النُعاس.

وعندما سمع بونابرت هذه الرواية على لسان سكرتيره عقب “عجباً! أراد أن يسمع هذه المقدمة هذا مضحك”!!

التاريخ المُفترى عليه

وافتراء سيناريو “يوسف شاهين” على التاريخ لا يقف عند حد. فهو في الوقت الذي يُركز الأضواء على “كافاريللي” باعتباره إنساناً وهاباً لخير المعرفة والعلم، كارهاً للحرب، صانعاً للسلام. لا يخشى أن يُفصح عن حبه حتى ولو كان من نوع الحب الشاذ المستحيل.
نجده لا يهتم بمشايخ الأزهر الذين تزعموا ثورة القاهرة الأولى ضد الاحتلال الفرنسي.

فإذا ما استفسر منه خميس الخياطي في محاوراته عن السر في هذا الإهمال لشأن هؤلاء القادة البواسل رغم أن كتب التاريخ تقول أن تلك الثورة نشبت تحت قيادة مشايخ الأزهر مثل الشرقاوي والسادات. إذا به ينسى أو يتناسى أنه اختار بطلاً لفيلمه واحداً من أهم جنرالات الحملة الفرنسية وأكثرهم خطورة في مجال المعارك..

وإذا به يقول: “إننا نبحث دائماً عن البطل. لماذا يجب أن يكون قواد ثورة كاملة وحملة عجيبة أسماء أشخاص مُعينين؟ لماذا لا تكون هذه القيادة جماعية؟

إذا كان لي أن أجيب عن هذا السؤال الآتي من الذي كان نابغة تلك الأيام؟ أقول: لا أحد بالتحديد، كل الناس غرقت نوعاً ما في الخداع.

ولكن الذين خرجوا من ديارهم بدون سبب وماتوا هؤلاء هم الأبطال.

لا يمكن أن أحكي قصة مشوار حضاري من خلال علاقة بين قائدين. بالنسبة لي المسألة أكبر بكثير من كل هذا.. الشعوب التي دفعت الثمن هي التي تهمني.

والجندي المجهول أهم من أكبر قائد.

هؤلاء القادة كانوا مجانين، لذا أدير وجهي عنهم وأهتم بأبطال الحياة اليومية الذين يتحملون شجاعة كل يوم.

فيلمي هو لقاء بين حضارتين لذا عنوانه هو الوداع يا بونابرت.

والتوديع هنا لشخص بونابرت.

إن تبادل العطاء بين المصريين والفرنسيين أهم من شخصيات بونابرت والمشايخ. حصيلة فيلمي هي من أعطى لمن؟.. وماذا أعطاه؟

لقد تغير كافاريللي في الفيلم وعرف أن ما يقدمه قد يخلده. قدّم معرفته لشاب في سن السابعة عشرة ولكنه مُتحضر ويحب معدات علم الفلك.

وعندما يعرف “علي” أن كافاريللي قدّم له شيئاً ثميناً يشكره بقوله “لقد كنت أستاذاً طيباً” فَيُجِيبُه كافاريللي “سيدي أنت متواضع” ذلك لأن كل واحد قدّم شيئاً للآخر.

الشيء الذي أريد أن أقوله هو ليس في إمكان أحد أن يعيش في معزل عن الآخر. وأول ما يلاحظ على هذه الإجابة الطويلة جداً أنها جاءت منطوية على تناقض صارخ. فهو فيها يعترف بأهمية دور الفرد “كافاريللي” وينكرها في آن واحد.

نوم العقل

وهذا التناقض يرجع إلى كون عقل يوسف شاهين يتعامل مع الممكنات الذهنية لا مع المعطيات الواقعية.

ففي تصوره، ومن منطلق مفهوم فوضوي، أن التاريخ إنما يتحرك بفعل الجماهير وحدها ودون أن يكون للفرد أدنى دور.

وعلى كُلٍ، ودون الدخول في تيه عقل صاحب “الوداع يا بونابرت”- وهو عقل غير قادر على تدشين قطيعة مع نموذج الاستعمار الغربي وبالذات النموذج الفرنسي المعاصر، فالقدر المتيقن من خلال الاطلاع على كل من حوار “اليوم السابع” وسيناريو الفيلم المطبوع بلغة الفرنسيس أن يوسف شاهين يحاول في فيلمه أن يلتمس للحملة الفرنسية وجهاً حضارياً.

فهو يعتبرها مشواراً حضارياً تم أثناءه تبادل العطاء بين المصريين والفرنسيين. ولست أدري كيف تحولت الحملة الفرنسية إلى مشوار حضاري؟ ما هي العصا السحرية التي أدت إلى هذا التحول المُعجز؟

من المعروف أن الحملة الفرنسية على المشرق العربي لا تختلف من ناحية أهدافها الاستعمارية عن حملات فرنسية مماثلة على الهند الصينية.. الجزائر.. تونس.. المغرب.. وموريتانيا..

فحكومة الإدارة في فرنسا التي أعدت الحملة لم تَقُم بارسال بونابرت وجنده إلى مصر بغرض تحرير المُعذبين على أرضها من نير المماليك أو العثمانيين.. ولا من أجل نشر العلم وفلسفة التنوير.

فأمر هؤلاء المُعذبين ما كان ليدور في خُلد هذه الحكومة الفاسدة المنهارة التي انتكست بالثورة الفرنسية.

الفراغ الحيوي

الذي كان يدور في خلدها ويثير اهتمامها هو أن تحقق بفضل احتلال بونابرت لمصر ومن بعدها المشرق العربي أهدافها التي أفصح عنها “تاليران” في إحدى رسائله السرية إلى سفير فرنسا المعتمد لدى الباب العالي.

“إن جميع تجارة البحر المتوسط يجب أن تنتقل إلى أيدي الفرنسيين”. تلك هي الرغبة الخفية لحكومة الإدارة ثم إنها ستكون النتيجة المحتومة لمركزنا في ذلك البحر. ومصر التي كانت فرنسا تتمنى على الدوام الاستيلاء عليها هي بالضرورة من نصيب الجمهورية. وهذا المشروع الاستعماري كان ثمرة تخمر استمر عشرات السنوات.

نادى به في القرن السابع عشر الفيلسوف الألماني “ليبنز” عرضه على الملك الشمس “لويس الرابع عشر” ودعاه إلى غزو مصر.

ولم تكن هذه الدعوة مُنبته الصلة بالمصالح الاقتصادية. فالدوائر ذات النفوذ داخل البرجوازية الفرنسية وبخاصة كبار التجار وأصحاب السفن في مارسيليا والموانئ الفرنسية الأخرى المطلة على البحر المتوسط كانت- ومنذ زمن بعيد- على صلة قوية بمصر وبساحل الشام.

وفي تقدير “شارل رو” صاحب المؤلف الضخم “أصول الحملة المصرية” “1910” أن حجم التجارة السنوية بين فرنسا ومصر بلغ في منتصف القرن الثامن عشر حوالي خمسة ملايين من الجنيهات.

رواد صهيونية

وليس محض صدفة أن تكون فرنسا أول من طرح بشكل جدي الفكرة الاستعمارية الداعية إلى توطين اليهود في فلسطين. فإبان عام غزو مصر “1798” أعدت حكومة الإدارة خطة سرية لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي.

وما أن نجح بونابرت في النزول بقواته على أرض مصر إلا وكان قد أصدر بياناً حثّ فيه يهود آسيا وأفريقيا على الالتفاف حول رايته من أجل إعادة مجدهم الغابر وإعادة بناء “مملكة القدس القديمة”.

ثم ما لبث أن وجه نداء آخر أثناء حصار عكا كان مما ورد فيه: “أن العناية الآلهية التي أرسلتني على رأس هذا الجيش إلى هنا قد جعلت العدل رائدي وكفلتني بالظفر. وجعلت من القدس مقري العام، وهي التي ستجعله بعد قليل في دمشق التي يضيرها جوارها لبلد داود”.

وتابع بونابرت نداءه مُخاطباً اليهود باعتبارهم ورثة فلسطين الشرعيين. طالباً منهم مؤازرته والعمل على “إعادة احتلال وطنهم” ودعم “أمتهم والمحافظة عليها بعيداً عن أطماع الطامعين لكي يصبحوا أسياد بلادهم الحقيقين”.

خراب مصر

وقد يكون من المفيد في هذا الخصوص الرجوع إلى ما كتبه المؤرخ الأمريكي “كريستوفر هيرولد” في ختام مؤلفه النفيس “بونابرت في مصر”.

هو يعتقد أن الحملة الفرنسية لم تحقق سوى خسارة الأرواح والخراب. ومصر في رأيه كان مآلها إلى التغيير حتى ولو لم يظهر بونابرت في سمائها.

فآيات الفن وروائعه في الكرنك وما حوله كان مصيرها إلى الكشف حتى لو لم يزحف “ديزيه” “أحد جنرالات الحملة” على الصعيد.

والرموز الهيروغليفية كانت ستفك حتى ولو لم يٌكتشف حجر رشيد إلا بعد الحملة بسنوات. وقناة السويس كانت ستحفر حتى ولو لم يأمر بونابرت بمسح البرزخ.

إذن فالحملة كانت حماقة كبرى ارتكبها بونابرت أو حكومة الإدارة أو الإثنان معاً. ولو نجحت لما كان لها من نفع سوى زيادة ثراء أغنياء فرنسا على حساب فقراء مصر.

ولكن صاحب السيناريو يكابر فيعتبرها مشواراً حضارياً، شراً جلب لمصر خيراً كثيراً.

خلط مقصود

ومن افتراءات صاحب السيناريو على التاريخ أنه يبدأه بأكذوبة كبرى. ففي المشاهد الأولى من السيناريو نرى الأبطال من المصريين- وهم ثلاثة أشقاء أبناء خباز السيد “محمد كريم” حاكم الإسكندرية- نراهم وقد قرروا الهجرة بالعائلة إلى القاهرة وذلك لأن حاكم الإسكندرية كاره للنضال، راغب في الاستسلام.

والواقع أن ما حدث تاريخياً كان عكس ذلك تماماً، محمد كريم قد ناضل ولم يستسلم. وفي النهاية أصدر بونابرت حكماً بإعدامه مع إعطائه فرصة افتداء نفسه بمبلغ 150 ألف شلن. ولكنه أبى أن يدفع الفدية ومن ثَمّ جرى إعدامه رمياً بالرصاص وحُمِل رأسه في الشوارع ليُعرض على الملأ.

والحديث عن الإفتراءات الأخرى على التاريخ لا ينتهي. ولعل أكثرها غرابة وإثارة للدهشة الإيحاء بأن كبار علماء ومشايخ الأزهر قد ذهبوا في التعاون مع بونابرت إلى أبعد الحدود. وبأن ثورة القاهرة في 21 من أكتوبر سنة 1798 قد أخذتهم كما الفرنسيين على غرة وذلك لأنها كانت بقيادة شباب الأزهر والوطنيين من الأقباط “فلتاؤوس” واليهود “إسحاق” صاحب الفندق.

والحق يُقال أن هذه الإفتراءات تُكذبها وقائع التاريخ. فمحاولات بونابرت التقرب من العلماء والمشايخ باءت كلها بالفشل.

فالسيد عمر مكرم انسحب مع المماليك والعثمانيين إلى يافا بفلسطين حيث ظل يرقب الموقف رافضاً عضوية الديوان المعاون لجيش الاحتلال، مفضلاً النفي على مهادنة الغزاة غير عابئ بنهب الفرنسيس داره واستيلائهم على أملاكه وفصله من نقابة الأشراف حيث أحلوا محله خليل البكري أحد الشيوخ المتعاونين.

والفرمان الذي أذاعه السلطان خليفة المسلمين على الشعب ضد الفرنسيين قرأه كل إمام ومؤذن في جميع مساجد مصر. والاحتفالات بالمولد النبوي أقيمت بأمر بونابرت بعد أن قرر الزعماء الدينيون العدول عن الاحتفالات العامة في عام الغزو بسبب تعطيل الأمور وتوقف الأحوال.

شهداء.. لماذا؟

وخلافاً لما توقعه بونابرت شبّت ثورة القاهرة بقيادة الفقهاء المتقين. وقد خص التاريخ بالذكر منهم ستة شيوخ على رأسهم العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد الشرقاوي.

اعتقلوا في بيت الشيخ البكري ومنه نقلوا إلى القلعة ليلة الثاني من نوفمبر سنة 1798. وفي صباح اليوم التالي- وبعد أن أدانهم مجلس عسكري في محاكمة صورية- قُطعت رقابهم وماتوا شهداء.

وأخيراً وليس آخراً فالأكيد أن الاستعمار الفرنسي قد عمل كل ما في وسعه لقمع الثقافة الوطنية العربية الإسلامية وتقزيم نموها، محاولاً فرض ثقافته وبخاصة على شعوب المغرب العربي. وكان رد الفعل هو الاتجاه نحو إحياء الثقافة الوطنية تثبيتاً للهوية وحفاظاً على مقومات الشخصية.

والأكيد.. الأكيد أن محاولته هذه قد باءت بالفشل، فلم يستطع تدمير الثقافة الوطنية العربية الإسلامية، ولا طمس معالمها.. لماذا؟

لأنها كانت ولا تزال ثقافة حية لغةً وأدباً وديناً وفكراً، متغلغلة في العقل والشعور.. في الفكر والسلوك.

وفوق ذلك كانت ولا تزال ثقافة الماضي الممجد الحاضر دوماً في الذاكرة مع كل مشاعر الاعتزاز والشجن والحنين المتخذ ملجأ وحمى ضد تهديد الآخر وتسلل الغريب.

وسيناريو فيلم “الوداع يا بونابرت” بحكم جنوحه إلى الإنبهار بالثقافة الفرنسية وتعظيمه لها في مرحلة غزوها الوطن العربي إنما يُضعف من مقاومة الثقافة الوطنية لمظاهر الاستلاب إزاء الغرب.. وهذا أمر ولا شك كريه.

ظهور واختفاء الفلاح من السينما المصرية

السينما المصرية لا تنفرد بغياب الريف عن الشاشة، ولا بقلة أو ندرة الأفلام التي تعتبر مرآة للحياة فيه بكل ما تزخر به من مشاكل وصراعات.

فهذا العيب منتشر الوباء، نلمسه في سينما هوليوود حيث لا مكان للريف الأمريكي بأسياده وأجرائه بيضاً كانوا أم سود إلا في قلة قليلة من الأفلام مثل “أعناب الغضب” و”طريق التبغ” و”فدان الرب” ورائعة “تيرينس ماليك” الثانية “أيام السماء” “1978” عن عمال التراحيل في ولاية تكساس، والتي يكفي أن نذكرها لنعرف أن الريف من بعدها قد اختفى أمام زحف أفلام الفضاء وازدحام الشاشة بحكايات النجوم، وحروب فيما بينها لا تنتهي، وأن صاحبها قد اختفى هو الآخر من عالم السينما، فلم يكتب له- وعلى مدى خمسة أعوام أو يزيد- أن يخرج فيلما ثالثاً..

ونلمسه كذلك في سينما شبه القارة الهندية حيث الأفلام في معظمها مسخ وتشويه للمجتمع، أو كما وصفها الأديب الهندي الأشهر “ملك راج أناند” في كلمة واحدة “نفاية”!!

وهنا أتذكر حماس هذا الأديب سنة 1947 لفيلم “أولاد الأرض”، وكيف طار به فرحاً، فاعتبره في مقال له نشرته مجلة المسرح الجديد الإنجليزية أول فيلم هندي عظيم.. لماذا؟ لأنه عرض ببساطة لحياة بعض الأسر في قرية صغيرة بولاية البنغال أيام الرخاء النسبي قبيل إعصار المجاعة، كيف انهزمت تحت تأثيره الأحلام.. كيف بدأت هذه الأسر مسيرة طويلة من العذاب إلى خارج منطقة الدمار.. إلى كلكتا..

إذن أن تكون غالبية أفلامنا نفاية أوغير منسجمة مع الواقع بمنأى عن الريف وما يعتمل فيه من تحولات، فليس في هذا شذوذ، وليس فيه خروج عن مسار السينما العالمية منذ نشأتها الأولى.

الشيء المُحير بالنسبة للسينما عندنا أنها في البدايات اتجهت إلى الريف.

فأول فيلم روائي طويل مصري يُعرض في القاهرة “ليلى”- 6 نوفمبر سنة 1927- أحداث قصته تدور في قرية حول فتاة جميلة- يتيمة “عزيزة أمير” يكفلها العمدة.
يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم أحمد الذي يعمل دليلاً للسائحين..

تشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بالشاب الشهم.. تغريه بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل. تُطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف أنها حامل من حبيبها الذي خانها. وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة، يتوقف “رءوف بك” بعربته ويصطحبها إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

قد يكون من الصعوبة بمكان تصور قصة بمثل هذا القدر من التفاهة والبعد عن الواقع والحط من شأن جماهير الفلاحين ومع ذلك فقد تعرضت “عزيزة أمير” لحملة من الانتقادات.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من نوفمبر سنة 1927 في مجلة “الصباح” خير مثال يُساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات وخطورتها على الفن السنيمائي. ففيه يأخذ كاتبه على “عزيزة أمير” جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة، ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة- وهو في أشد حالات الاستياء- عن سبب إصرارها على إظهار مصر وكأنها ما تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد فيه الكثير مما نفخر به”.

وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش الفلاحين.

وكرد فعل لهذا النقد أعلنت “عزيزة أمير” عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة لفيلمها التالي تجري أحداثها في المجتمع الراقي.

مخاطرة محسوبة

بعد هذا النقد فلا عجب إذا ما انصرفت السينما عن تناول أي موضوع له صلة بالريف من قريب أو بعيد.

ومع ذلك فقد كان لـ”زينب” للدكتور محمد حسين هيكل- وهي قصة من صميم الرومانسية التي يطغى فيها الخيال على المنطق- تأثير السحر على المخرج “محمد كريم” الذي كان بدوره غارقاً إلى أذنيه في صميم الرومانسية.

وكان أن انتهى به الأمر إلى المخاطرة بإخراج فيلمين مأخوذين عنها الأول صامت “1930” والثاني متكلم “1952”.
وفي الحالتين كانت المخاطرة محسوبة.. كيف؟ لأن زينب في القصة والفيلمين ولئن كانت فتاة ريفية تحب إلا أنها تحب أنقى الحب. زوجوها بمن لا تحب ولكنها لا تخون عهد الحب، ولا تخون عهد الزواج. تعيش حياتها ترضي الطرفين في حدود القيم وأخلاق القرية!!

ولأن المخرج حرص- وهو يصور زينب الصامت- على إظهار كل الفلاحين يلبسون “البلغ” في أقدامهم، وعدم إظهارهم “حُفاة”.

ولأنه وعد “جبريل نحاس”- وهو يقنعه بإنتاج زينب المتكلم- بأنه سيعرض الريف على الشاشة كما يجب أن يكون، لا كما هو عليه، وكان عند وعده.

وتأييداً لذلك اقتطف من مذكرات “محمد كريم” الفقرات التالية:

“لم يعجبني التراب فوق القمم الخضراء لحقول القصب. طلبت أن يغسل الحقل كله. وظل موضوع غسل حقول القصب بهذا المطر الصناعي مما يتندر به الذين شاهدوا هذه العملية ويحمدون الله على أنني لم أصور وقتها الهرم وإلا طلبت غسله بصابون “أومو” ليكون أكثر بياضاً” “ص172 من المذكرات، جزء ثان”.

“شاهد الفيلم “هيكل باشا” في عرض خاص وعلق قائلاً: أهنئك يا أستاذ كريم.. أنا سعيد بـ”زينب” وبك.. إننا نريد أن يكون عندنا في مصر ريف مثل هذا الريف الذي خلقته لنا في الفيلم”.

الريف الحق

الأكيد إذن أن زينب الصامت والمتكلم لا صلة بينهما وبين الحياة الواقعية في الريف، وآية ذلك أنه مزوق باعتراف المخرج.

والشيء الأكيد أن أياً من فيلمي “زينب” لو عُرض حالياً على المتفرج لما خرج منه بشيء مفيد عن الريف.

ذلك أن الريف الحقيقي في مصر كان أغلب سكانه من صغار الملاك الزراعيين والفلاحين المُعدمين، وكان لا فارق كبير بينهم من حيث ظروف المعيشة.

فكلاهما كان يعيش عيشة بائسة جداً تقترب من حد الكفاف إن لم تكن أقل.

وكانت هناك عائلات بأكملها تعيش على أجر لا يتعدى بضعة قروش لا تكاد تكفي وجبة واحدة من خبز الذرة، وقطعة من الجبن وبعض الخضراوات.

فالرقابة بمحظوراتها التي وصلت بموجب التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية في فبراير سنة 1947 إلى أربعة وستين محظوراً، كانت تعتبر من الأمور غير المقبولة أن يُساء إلى سمعة مصر باظهار “بيوت الفلاحين الفقراء ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة”.

ومنتجو الأفلام وموزعوها- وهم في غالبيتهم من الأجانب واليهود والمتمصرين- لم يكن من مصلحتهم أن تشد الكاميرا الرحال إلى الريف.. أن تكشف جريمة الاستعمار وحلفائه في حق أصحاب الجلاليب الزرقاء.. وفي مجتمع كهذا، يضع الريف في قائمة المحرمات والممنوعات، يتقلص الوطن الذي تتعامل معه السينما.. يضيق.. لا يبقى من غاياته سوى شجرة.. وتصبح أفلامه في حقيقتها فيلماً واحداً متكرراً لا حياة فيه.

الموجة الجديدة

كل هذا كان قبل 23 يوليو سنة 1952. أما بعدها، وبنهاية عصر أسرة محمد علي بدأت ارهاصات سينما تحاول أن تنسجم مع التحولات السياسية العنيفة التي صاحبت الثورة.

وكان أخطر ما فعلته تلك السينما هو أنها سافرت إلى الريف في محاولة منها لكي تكون مرآة للحياة فيه كما هي، لا كما يجب أن تكون.

وبسفرها هذا ربحت مساحات جديدة من أرض الواقع.

فليست أفلام “دعاء الكروان” لهنري بركات “1959” و”صراع الأبطال” لتوفيق صالح “1962” و”الحرام” لهنري بركات و”الجبل” لخليل شوقي “1965” و”جفت الأمطار” لسيد عيسى “1967” و”الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف و”البوسطجي” لحسين كمال و”يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق صالح “1968” و”المومياء” أو “ليلة حساب السنين” لشادي عبد السلام “1969” و”الأرض” ليوسف شاهين “1970” و”حادثة شرف” لشفيق شامية “1971”- ليست سوى بعضاً من جزر الواقعية التي أهدتها حرية التعبير للفيلم المصري.
وأول ملاحظة تسجل على هذه الأفلام هي أنها في معظمها مستوحاة من روايات لبعض من أهم أدباء مصر: طه حسين، يوسف إدريس، فتحي غانم، رشدي صالح، يحيى حقي، توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي.
والملاحظة الثانية التي يتعين تسجيلها في سياق الحديث عن مصادر هذه الأفلام هي أن أكثرها إسهاماً باتجاه العمق في الريف، هما فيلما “صراع الأبطال” و”ليلة حساب السنين” وكلاهما عن سيناريو مبتكر غير مأخوذ عن عمل أدبي سابق.

والملاحظة الثالثة التي يلزم الوقوف عندها هي أن ستة من هذه الأفلام: الأرض، ليلة حساب السنين، الحرام، دعاء الكروان، البوسطجي، صراع الأبطال قد فازت في الاستفتاء الذي أقامته مجلة الفنون عن أحسن عشرة أفلام مصرية انتجت خلال فترة الثلاثين سنة التالية للثورة. ودخلت في عداد الأفلام العشرة الأولى.
الجنس والجوزة

والملاحظة الرابعة والأخيرة التي لابد من وقفة عندها هي أن موجة هذه الأفلام قد بدأت في الانحسار أمام موجة أفلام الجنس والجوزة بعد انكسار الهزيمة، فليس محض صدفة أن ينتج فيلم “أبي فوق الشجرة” خلال سنة 1968، وأن يُعرض فيلم “ثرثرة فوق النيل” خلال سنة 1971، وأن يكون “حادثة شرف” آخر أفلام موجة الريف.

فبعده، وطوال عقد السبعينات، اختفى الفلاح المصري تماماً من السينما الروائية المصرية.. أصبح وكأنه لا وجود له.

وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبته الرقابة في انتكاسة السبعينات هذه.
فمن تقريرها المؤرخ 19 يولية سنة 1971 عن “حصان الطين” للمخرجة “عطيات الأبنودي”- وهو فيلم تسجيلي قصير جداً- الذي انتهى برفض السماح له بالتصدير للخارج اقتطف الفقرات الآتية:

“الفيلم يحتوي على مشاهد تُسيء للشعب المصري وهي:

  1. ظهور الفلاح المصري بمظهر البؤس والشقاء فهو يرتدي الملابس الممزقة ويأكل القليل.
  2. اشتراكه مع حيوانه في الشرب والاستحمام من ماء النيل في وقت واحد.

والآن نقف وقفة قصيرة عند فيلمي “صراع الأبطال” و”ليلة حساب السنين” لما فيهما من دلالات.

الأطعمة الفاسدة

الفيلم الأول يعرض لصراع طبيب شاب في الريف، كان يحلم بمعالجة الفلاحين من أمراضهم. ترك حياة المدينة، ذهب إلى القرية. أدرك أن المرض يهون في حياة الفلاحين أمام مشاكلهم الاجتماعية الشديدة التعقيد.

وجد عندما ظهر وباء الكوليرا أن التطعيم ضده مرفوض من الجميع. اكتشف أن رسالته لابد أن تبدأ بتشخيص الواقع الاجتماعي والبحث عن علاج له، أي أن يكون بادئ ذي بدء سياسياً.

وضحت له الرؤية بعد أن تبين له أن الفلاحين يعملون في أرض مقابل الطعام. وضح له أنه يقاتل فوق أرض وعرة، يخوض حرباً اقتصادية.. المرض أهم جولاتها.

اقتنع أن المعركة في مجتمع يغلب عليه السحر والتنجيم والتخلف.. معركة طويلة ومريرة.

فإذا ما انتقلنا إلى “ليلة حساب السنين” لوجدنا أنفسنا أمام ريف يحكي مأساته من زاوية أخرى.
فقصة الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، حيث مات “سليم” كبير العائلة و”وانيس” ثاني أولاده يُبكيه، وجثمانه يوارى التراب. ويوم الدفن مساءً يرى عمه يمزق مومياء يسلبها ما حولها من حُلي، ويتساءل أهكذا عاش أبوه والأجداد؟

يعجب أفراد القبيلة لنفوره.. أوليست هذه الجثث غريبة؟ أليست بلا آباء، بلا أولاد، وبلا أسماء؟ وأليس أفندية القاهرة يطمعون فيها دون وجه حق؟ وأليسوا هم الأحياء أولى بالذهب المُكدس في القبور؟

ويحتار “وانيس” لكل هذه الأسرار الجديدة عليه، حتى يقابل بين جدران المعابد فلاحاً شبيهاً له، وكأنه توأمه، من سكان الوادي يخبره أن تماثيل الموتى ليست أحجاراً صماء، وأن الرسوم التي عليها إنما هي كتابات ذات معنى كبير، وأن “الأفندية” إنما يبحثون عن قوم نعيش على أطلالهم يسمونهم الجدود ويقرأون على الأحجار نقوشهم.

هذه الأحجار التي يتعلق بها قلب “وانيس” قد لازمته منذ نعومة أظافره، فكيف يترك جثث أصحابها نهباً للصوص؟

إنه الآن يشقى بعذاب التمزق.. يحاول ما وسعته الحيلة أن ينعتق من رق الشك والحيرة.

وفي النهاية لا يجد سبيلاً للخلاص إلا بسماع صوت الهاتف قادماً من ماضٍ بعيد.. يأمره بالبوح بالسر الكبير إلى أفندية القاهرة.

ولو أوغلنا في الفيلم بحثاً عن المحور الذي يتحرك عليه لتبين لنا أنه أنما كان يتنبأ ببداية هجمة استعمارية شرسة.
ومن العلامات الدالة على ذلك:

أولاً: وجود الخبراء الأجانب “ماسبيرو” وغلبة أفكارهم غير الإنسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين.

ثانياً: طبقة أفندية القاهرة (الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك أوروبا متعاونة معها ضد الفلاحين الذين تستمد منهم الحياة.

ثالثاً: الفلاحون يمارسون حياتهم اليومية، مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة، والإهدار للتراث.
والواقع أن هذه القوى المتعددة في أعماق الريف التي عرض لها الفيلم ما تزال موجودة تتصارع.

والشيء الأكيد أنها تعرضت خلال السبعينات لتحولات اقتصادية وسياسية جذرية، صاحبتها تحولات مماثلة في عقل الفلاح المصري وتطلعاته.

فمثلاً في الخمسينات والستينات كان التعليم بالنسبة له هو أسرع السبل نحو الحراك الاجتماعي إلى أعلى.

أما الآن فالهجرة إلى بلد عربي غني بالنفط- وليس التعليم- هي السبيل إلى الصعود.

والغريب أن تقف السينما بمعزل عن هذه التحولات الخطيرة في الريف متفرجة.. تشاهد ولا تشارك.