المأساة الإغريقية

تمر بلاد اليونان، ذات الحضارة العريقة بأزمة اقتصادية، تكاد تعصف بمستقبلها ومستقبل شعبها الذي عاني الأمرين من عاديات الزمان وأثناء هذه العاصفة المميتة، وكأن الرزايا لا تجيء فرادي، طيرت وكالات الأنباء قبل بضعة أيام، وتحديدا يوم الخامس والعشرين من يناير، خبرا فاجعا آخر عن اليونان، حاصله مصرع «تيودوروس انجلو بولس» المخرج اليوناني الشهير، الذي كان له فضل الصعود بالسينما اليونانية الي أعلي عليين.
Theodoros-Angelopoulos

لقي المخرج الكبير مصرعه قريبا من «بيريه» الميناء الرئيسي للعاصمة أثينا، وذلك فيما كان يقوم بإخراج الجزء الأخير من ثلاثيته المسماة «البحر الآخر» ومما يعرف عن ثلاثيته تلك، أنه استهلها قبل بضعة أعوام بفيلم «المهرج الباكي»، ثم أتبع ذلك بعد أربعة أعوام، بجزئها الثاني تحت اسم «غبار الزمان» 2008 وكالمعتاد بدأت مسيرة الفقيد يوم السابع والعشرين من أبريل لعام 1935 ذلك اليوم الذي ولد فيه بمدينة أثينا حيث درس القانون.

وبعد إنهائه الخدمة العسكرية شد الرحال الي باريس حيث التحق بجامعة السوربون غير أنه سرعان ما غير رأيه، فغادرها مؤثرا الالتحاق بمعهد السينما «ايديهيان» وعندما عاد الي وطنه، عمل ناقدا سينمائيا في يومية يسارية «الاجي» وظل علي ذلك الحال الي أن قام الجيش بانقلاب عسكري عام 1967 فأغلق المجلة طوال مدة حكم الزمرة العسكرية التي استمرت سبع سنوات عجاف.

ولقد كان لحكم الجنرات الانقلابيين تأثيره الكبير علي المخرج الراحل، ظل محفورا في ذاكرته، موضوعا مطروحا في جميع أعماله، بطريقة مباشرة أو بطريقة فيها من المكر والتورية الشيء الكثير فأسلوبه المتميز بمايعرف في لغة السينما باللقطة المشهد، بطيئة الإيقاع يغلب عليها المجاز إنما هوأسلوب وليد تلك الفترة حالكة السواد من تاريخ اليونان الحديث، فأثناءها أبدع أول أفلامه الروائية الطويلة «إعادة البناء» 1970، وعلي كل فبفضل أسلوبه المتميز وعزمه الأكيد علي عرض مأساة وطنه خاصة بدءا من القرن العشرين سرعان ما أصبح له مركز مرموق في المشهد السينمائي العالمي.

ولقد لعبت أولي ثلاثياته دورا بارزا في هذا الخصوص، وذلك بفضل جزئها الأخير  «فريق الممثلين المتجولين» الذي جري عرضه في مهرجان «كان» 1975 حيث كان له وقع كبير علي المشاهدين، بحكم خروجه لغة السينما في ذلك الزمان.

بعد ذلك لم تتح لي أي فرصة أخري الي أن جاءه الموت، فشاهدت أول أفلام ثلاثيته الأخيرة «المهرج الباكي».

أما لماذا لم تتح له فرصة مشاهدة سوي فيلمين من بين ثلاثة عشر فيلما أبدعها انجلو بولوس علي امتداد سبعة وثلاثين عاما فذلك يرجع الي عدة أسباب أذكر من بينها احتكار أفلام مصنع الإعلام في هوليوود لسوق العروض السينمائية في ديار مصر والأهم وجود رقابة صارمة متزنة راسخة رسوخ الجبال!!

فيلم عصي علي الفهم

وأقصد به «كف القمر» فهو والحق يقال من ذلك النوع من الأفلام التي لابد لفهمها من مذكرة إيضاحية ترفق بتذكرة السينما، فضلاً عن ترجمة لحواره المكتوب بلهجة أهل الصعيد.
كف القمر

ولأنني دخلت دار السينما لمشاهدته، دون مذكرة إيضاحية وترجمة أكون بهما محصناً من عيب عدم الفهم لما ينطوي عليه الفيلم من رموز وألغاز، فك طلاسمها من الصعوبة بمكان.

فقد خرجت من دار السينما معتقداً أن الفيلم يدور موضوعه حول امرأة من بطون ريف الصعيد، تعيش حياة سعيدة، مع زوجها الذي أنجبت منه خمسة أولاد ذكور.. وسرعان ما نكتشف أن زوجها حرامي آثار وأنه ما أن اكتشف كنزاً من كنوز قدماء المصريين، حتي جري قتله بوابل من رصاص عصابة لصوص آثار.. ووسط مصاعب تنوء من ثقلها الجبال، سهرت الأم الشجاعة علي تربية أولادها الخمسة، حتي شبوا عن الطوق، فأصبحوا رجالاً.
Kaf-Elamar

ولضيق سبل العيش في وادي الصعيد الضيق، وجد الرجال الخمسة أنفسهم مضطرين إلي مغادرة بيت وأرض أصبحا خراباً إلي وجه بحري، بحثاً عن وسائل رزق، تنشلهم من معاناة الفقر والشقاء.. ومن خلال لقطات عودة إلي الماضي أثناء بحث كبيرهم «خالد صالح» عن أشقائه الأربعة ليعود بهم إلي الصعيد، للالتقاء الأخير بالأم «وفاء عامر» وهي تعاني سكرات الموت.. نكتشف أن نفراً منهم قد صادفه التوفيق، ونفراً آخر ضل الطريق.

ومن منطلق أن الفيلم يعرض لواقع الحياة القاسية في الصعيد من خلال أسرة تواجه عاديات الزمان بشجاعة، ذهب بي الظن إلي أن ثمة أوجه شبه بينه وبين «روكو وأخوته» رائعة لوكينو تيسكونتي، المخرج الإيطالي ذائع الصيت.

فرائعته هذه يدور موضوعها حول أسرة فقيرة من جنوب إيطاليا، وتحديداً صقلية، هاجرت إلي الشمال الغني، وتحديداً مدينة ميلانو، حيث تعرضوا لمآس، يشيب من هولها الولدان.. ولكن كم خاب ظني عندما قرأت بعد ذلك أقوالاً لبعض صانعي الفيلم من بينها قول نجمة الفيلم «وفاء عامر» إن الأم «قمر» إنما ترمز إلي مصر والقومية العربية.

وقال مخرجه «خالد يوسف»: إنه كان يفضل عرض فيلمه قبل الثورة لأنه تنبأ بالهدم وإعادة البناء، مفسراً بقوله هذا مشهد الختام حيث يقوم الأبناء الخمسة، لعوامل الهدم والتدمير.

والحق إنني لم أفهم الفيلم علي هذا النحو غير المألوف، وذلك لأنه لم يكن في وسعي أن أفهم أن «قمر» الأم إنما ترمز لمصر، وفوق هذا للقومية العربية، هي وأبناؤها الخمسة وأن كفها بأصابعه الخمسة، إنما يرمز إلي هؤلاء الأبناء.. وأن بتر كفها بعملية جراحية، إنما يرمز إلي تركها وحيدة، عندما غادر الأبناء القرية، بحثاً عن الرزق في بر مصر.

وإذا فإني أري كف القمر فلا أفهمه فيجب أن يكون شيئاً لا كالأفلام، ويجب أن يكون مذهب صاحبه شيئاً لا كالمذاهب السائدة حالياً في صناعة السينما.

ومثل هذا النوع من الأفلام المسرف في الغموض والإغراب والعسر، عفي عليه الزمان.

كارلوس نجم الإرهاب وحكاية كيف هوي

مرة أخري، أصبح «كارلوس» الإرهابي الشهير محل اهتمام وكالات الأنباء، والرأي العام، لا بوصفه بطلا، مناضلا لا يشق له غبار، ضد الاستعمار، ومن أجل تحرير الأرض السليبة في فلسطين.

وإنما بوصفه متهما بارتكاب جريمة في العاصمة الفرنسية، باريس، قبل حوالي ثلاثين عاما، كان من نتائجها مقتل أحد عشر شخصا، وجرح العشرات.

وفي حال ثبوت ارتكابه تلك الجريمة، فلا مناص من الحكم عليه بعقوبة اقصاها السجن المؤبد، وليس الإعدام، نظرا إلي تحريم دول المجموعة الأوروبية لعقوبة الإعدام.

وجدير بالذكر هنا انه سبق الحكم عليه بعقوبة السجن المؤبد من إحدي المحاكم الفرنسية، في بدايات العقد الأخير من القرن العشرين، وذلك عقب غدر النظام القائم في السودان به، حيث كان يعيش في الخرطوم لاجئا سياسيا، إلي ان تم ترحيله، وهو مخدر، علي متن طائرة، متجهة إلي باريس، حيث جري تسليمه إلي السلطات الفرنسية.

و«كارلوس» ليس اسمه الحقيقي، وإنما الاسم الحركي، الذي اتخذه، بعد ان غادر وطنه «فينزويلا»، إلي جامعة لومومبا، بالاتحاد السوڤييتي، ومنها إلي العاصمة البريطانية «لندن»، حيث أصبح مناضلا ثوريا، مهمته القضاء، علي الاستعمار وهو أمر لا سبيل إلي تحقيقه، حسب قوله إلا «بالمشي علي جثث الأعداء».
carlos_1

وعن سيرته، أبدع المخرج الفرنسي «أوليفييه آسايا» مسلسلا تليفزيونيا من ثلاث حلقات، جري عرضه، خارج المسابقة، في مهرجان كان لعام 2010.

ولم تمض سوي بضعة أشهر علي عرضه في ذلك المهرجان إلا وقد كان مسجلا علي ثلاث أسطوانات مدمجة (بلو راي) طرحت للبيع، ومن ثم أصبح في وسع عشاق الفن السينمائي الرفيع مشاهدته، أسوة بجمهور مهرجان كان.

والمسلسل الذي حوله صاحبه إلي فيلم قابل للعرض العام في دور السينما، يبدأ بكارلوس، وقد بلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، واستبدل «كارلوس» باسم الميلاد.

وبعد عدة عمليات اغتيال ناجحة، آخرها قيامه بقتل ثلاثة من رجال المباحث الفرنسية كادوا يكشفون امره، وجد نفسه مضطرا إلي مغادرة فرنسا، إلي ما كان يسمي باليمن الشعبية، حيث عاش لاجئا، إلي ان قام باستدعائه أحد القادة المنشقين علي منظمة التحرير الفلسطينية ليزف إليه بشري إعجاب «صدام حسين» بقدرته علي ركوب المخاطر، ومن ثم تكليفه بقيادة عملية جسوره، غير مسبوقة، وهي اختطاف وزراء البترول في الدول الأعضاء بمنظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك»، أثناء اجتماعهم بالعاصمة النمساوية «ڤيينيا»، ثم الإفراج عنهم، بعد قتل وزيري المملكة العربية السعودية وإيران.

وفي البدء، ينفذ «كارلوس» مع من تحت قيادته، عملية الاختطاف بنجاح منقطع النظير فها هم وزراء البترول، وعددهم أحد عشر كوكبا منبطحين أرضا في قاعة الاجتماع.

وها هو «كارلوس» يهمس في إذن الوزير السعودي «زكي اليماني»، بأنه سيقتله، في حين قريب.

وها هم جميعا، وزراء ومختطفون علي متن طائرة أعدها خصيصا لهم المستشار النمساوي وقتذاك «كرايسكي» متجهة بهم إلي مطار الجزائر، فمطار طرابلس ومنه إلي مطار الجزائر حيث دارت مفاوضات بين «كارلوس» و«بوتفليقة» وزير خارجية الجزائر وقتذاك، انتهت بإطلاق سراح جميع الوزراء الرهائن، دون استثناء، مقابل عشرين مليون دولار.

وبدءا من ذلك الاتفاق، وما انتهي إليه من استسلام إلي إغراء المال، أخذ نجم كارلوس في الأفول.

وشيئا فشيئا أخذ في التحول من ثوري مغامر إلي مرتزق، وبئس المصير.