نابليون وحملة النيل

لست فى حاجة إلى أن أُعَرِّف نابليون بونابرت، ونحن بمناسبة غزوه لمصر، فيما سُمّيَ على لسانه “بحملة النيل”، وذلك قبل مائتي عام، نسترجع على شاشة ذاكرتنا، جرائمه فى وطننا التى جعلت من أرضه، فى أقل من ثلاثة أعوام، خراباً متصلاً.

فهو الوحيد بين المشاهير، الذى حول سيرته، جرى تأليف أكثر من مائتى ألف كتاب.

وهو، كما يُعرف عنه فى تاريخ الحروب والفتوحات، الزعيم الثانى للعسكرية، غير منازع، بعد الاسكندر الأكبر.

وهو أول قائد غربى، يوجه نداء إلى يهود العالم من أرض فلسطين، طالباً إليهم فيه أن يسارعوا، بوصفهم ورثتها الشرعيين، باستعادة حقوقهم فيها التى سلبت منهم لآلاف السنين.

فالعلم بمكانته فى كل هذا، وبالدور الذى لعبه فى حياة الجمهورية الفرنسية، وجهاده فى القضاء عليها، وموته فى هذا الجهاد، أمر معروف لأولى الالباب.

وغنيٌ عن البيان، أن كل هذا من أولويات المعلومات التى يتعين ارشاد الشباب إليها فى المدارس والمعاهد والجامعات والندوات.

صورة مختلفة

ولكننى مع ذاك، سأتحدث عن نابليون، لأعرض منه صورة تنحصر أبعادها فى خمسة عشر شهراً من عمره، وهي شهور بقائه على أرض وطننا غازياً محتلاً.

صورة أقل ما توصف به أنها مخالفة بعض الشيء لما توارثت الأجيال من أمره، منذ قرنين من عمر الزمان.

ولست أنا الذى استكشف هذه الصورة، أو ابتكرها، فلست من هذا كله فى شيء، وإنما الذى استكشفها وعرضها على الملأ عالم أمريكي فى التاريخ الاستاذ “آلان شوم” الحاصل على أرفع الشهادات من جامعتى “بركلى” بكاليفورنيا، و”دورهام” بانجلترا.

وهو يعرضها علينا فى كتاب ضخم “نابليون بونابرت” تنيف صفحاته على تسعمائة صفحة، مقسمة إلى واحد وأربعين فصلاً.

ولقد جرى نشره فى منتصف العام الماضي، فتلقاه النقاد أحسن لقاء، لانه أية من آيات البحث العلمى الرفيع.

ومن بين فصوله، سأكتفي بالوقوف قليلاً عند أربعة لا غير، هى الفصل السابع “أرض الفراعين” والتاسع “فى ظل الهزيمة”، والعاشر “تيڤولي وما بعدها” وأخيراً الحادى عشر “الطريق إلى دمشق”.

الغازي والبيان

والآن إلى أول بيان وجهه نابليون إلى المصريين، أثر دخول قواته مدينة الإسكندرية (2/7/1898).

استهل الغازى بيانه على الوجه الآتى: “جئت كي أسترد لكم حقوقكم، واعاقب المغتصبين!! أكن لله ونبيه محمد احتراماً يفوق بكثير احترام المماليك”.

ومن أجل طمأنة المصريين، واستمالتهم إلى جانبه، ضمن بيانه قيوداً شديدة على تصرفات قواته، وعقوبات قاسية توقع على من تخول له نفسه ارتكاب جرائم فى حق المصريين، من بينها الإعدام رمياً بالرصاص “لأي فرد من الجيش يثبت فى حقه النهب، أو الاغتصاب”.

وعملا بسياسة فرّق تسد، وتأليب المصريين على حكامهم، زف البيان إلى الأهالي بشرى صدور أمر بالقبض على جميع المماليك، ومصادرة ممتلكاتهم سواء أكانت منقولاً أم عقاراً.

ومع ذلك، فقد انطوى البيان على أمر للمصريين بضرورة تسليم أسلحتهم خلال مدة لا تزيد عن أربع وعشرين ساعة، فضلاً عن ارسال وفود رسمية، نيابة عن كل طائفة أو جماعة، تقوم بتقديم فروض الولاء للفرنسيين، وذلك مقابل وعد بصدقاتهم وحمايتهم.

كما انطوى على وعيد وتهديد بالحرق لأية قرية ترفض الاذعان لهذا الأمر، وتضبط متلبسة بحمل السلاح ضد الجيش الفرنسى.

منحة ومحنة

هذا، وكان ثمة استثناء من أملاك المصريين لم يحمه الببيان، ذلك الاستثناء هو النقل بجميع رسائله.

فأينما ذهب الجيش الفرنسى، كان يصادر الخيول، الحمير، الثيران، والجمال.

وفيما عداه، كانت حرمات الشعب المصرى مصونة، على الأقل من الناحية النظرية، وذلك على عكس الحال بالنسبة للطبقة الحاكمة من المماليك.

وفيما عداه، كانت حرمات الشعب المصرى مصونة، على الأقل من الناحية النظرية، وذلك على عكس الحال بالنسبة للطبقة الحاكمة من المماليك.

وبطبيعة الحال، كان على رأس هذه الحرمات الدين والقادة الدينيون.

ولأن الشعب لابد وأن يكون ممتناً لأفعال قوات الاحتلال، وفى مقدمتها تحريره من نير المماليك فقد ختم نابليون بيانه طالباً إلى كل مصرى أن “يشكر الله، وقد تم القضاء على المماليك، ويهتف عالياً المجد للسلطان .. المجد للجيش الفرنسي، اللعنة على المماليك والسعادة لشعب مصر”.

وهكذا بدا واضحاً من الأيام الأولى للاحتلال أن سياسة نابليون تنحصر فى كسب تأييد الشعب المصرى (وليس المماليك)، وإعداد البلاد للخضوع لحكومة يعاد تنظيمها على الطريقة الفرنسية، وغزو سلمي قدر الامكان، وذلك تمهيد لتحويل مصر إلى مستعمرة فرنسية.

ولكن مع أول مواجهة عسكرية مع المماليك فى شبراخيت، سرعان ما تبخرت وعود البيان للمصريين بالأمان. وفي وصف الذعر الناجم عن نهب وسلب كتائب الجنرال “ ڤيال”، يذكر الكولونيل “لوچييه” متوجعاً “دموع رجال القرية، وصرخات نسائهم كادت تحدث ضجة تصم الآذان”.

ووفقا لوصفه كانت نساء القرية تصعد إلى سقف منازلهن المسطحة، المصنوعة من الطين، وهن يولولن منتحبات، وبسعر يحركن شيلانهن إلى الخلف والأمام.

وكل ذلك تحت بصر القائد نابليون الذى أمر الجنرال “دوجوا” وهو فى سورة غضب، أن يبقى مع رجاله فى المكان، حتى يعيد النظام ويوفر التموين للقوات.

وما أن وقع بصره على النيل وواديه بزرعه وخيراته.

ومن بعيد ظهرت أهرمات الجيزة، ومآذن القاهرة، تناطح السماء..

ما أن وقع بصره على كل هذا ، وكان جنده جوعى متمردين، حتى تناسى تعليماته، فأمر بمصادرة ماشية ومحاصيل المصريين.

ولن أقف عند تفاصيل معركة الأهرمات التى انتهت فى الواحد والعشيرين من يولية عام 1898، بمقتل ألفين وخمسمائة من المصريين، وحوالي مائة فرنسى، فهى معروفة لنا، ولن يكون فى ذكرها شيء جديد مفيد.

مغامر وفاجر!

كل ما أريد أن أشير إليه هنا، أنه مع استسلام القاهرة وجه نابليون بياناً إلى سكانها، كان من بين ما ورد فيه أنه ما جاء إليهم إلا منقذاً وذلك بالقضاء على عنصر المماليك، وحماية بقية المصريين وتجارتهم من ذلك العنصر. وأنه لا خوف على عائلاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم، ولا خوف على دين النبي الذى يكن له كل تبجيل.

من أوصاف الشيخ محمود شاكر فى نابليون انه ميكياڤيللى، مغامر، مفتون وفاجر.

وميكيايڤليته عبّر عنها بغير لف ودوران بقولته :

“فى هذا العالم على المرء أن يبدو ودوداً، يكثر من الوعود، حتى ولو لم يكن فى وسعه أن يفي بأي منها”

وهذه الميكيايڤلية كشفت عنها الأحداث التى تتابعت سريعا، أثر دخوله القاهرة فاتحاً (22/7).

بداية النهاية

فلم يمض على انتصاره فى معركة أهرمات الجيزة سوى عشرة أيام، حتى كان الاسطول الفرنسى فى قاع خليج أبى قير غارقاً، بعد معركة مع الاسطول البريطانى بقيادة نلسن، لم تدم سوى بضع ساعات. وحتى كان جيشه محاصراً فى مصر وقد انقطعت السبل بينه وبين وطنه فرنسا.

ومن قصر الألفي بك، حيث كان يقيم ويدير شئون ما احتله من أرض مصر عمل نابيلون كل ما فى وسعه من أجل إخفاء خطورة الوضع، وإبعاد الكارثة التى حاقت بحملته، من جراء موقعة أبى قير أو موقعة النيل، حسب تسمية البريطانيين.

وها هو ذا يفكر فيما آلت اليه الحملة، وكيفية إنقاذ ما يمكن انقاذة من جيش فقد سبعة ألاف من رجاله فى أقل من شهرين، وتقلص عدد محاربية الفعليين من ثلاثة وثلاثين ألفاً إلى عشرين ألف محارب. وخزانة خاوية، خاصة وقد نجح القائدان المملوكيان إبراهيم بك ومراد بك فى الهروب بجيشهما من مصيدة الإبادة، الأول إلى شمال شرق مصر والثاني إلى جنوبها، ومعهما ما خف حمله وغلى ثمنه من خزائن بيت المال.

السلب والنهب

ومن هنا، مجموعة الأوامر التى أصدرها نابليون بدءا من 31 يوليه، وبموجبها تم تحصيل ثلاثة ملايين فرنك فرنسى، بصفة عاجلة، من أكثر تجار مصر ثراء. فضلاً عن تحصيل مبالغ أخرى كبيرة، جرى الاستيلاء عليها من ثروات المماليك، أو ابتزازها من أموال كبار تجار القاهرة (محتكري أسواق الصابون والسكر والملابس).

وطبعا لم تدخل فى حساب كل هذا الضرائب العادية التى كان يعد العدة لتحصيلها فى المستقبل القريب.

هدم المساجد

غير أن القشة التى قصمت ظهر البعير، كانت الأنباء التى تناقلتها الألسن ومفادها أن الجنرال بونابرت فى سبيله إلى عقد مجلس من جميع أعيان المقاطعات المصرية الست عشرة، من أجل إعادة تنظيم النظام القضائى، بشقيه المدنى والجنائى، فضلاً عن إعادة تسجيل الأراضي وملكيتها، تسهيلاً لتقدير وتحصيل الضرائب.

وسرعان ما تحول الشعور بالقلق من جراء هذه الإنباء إلى شعور بالضيق والتذمر فى جيمع أحياء القاهرة، عندما وصل إلى الأسماع أنه، ولأول مرة، منذ مجيء الإسلام إلى مصر، خلال القرن السابع ميلادياً، تتجه النية إلى فرض ضرائب على الأراضي المملوكة للمساجد والجماعات الإسلامية والأوقاف.

ومما زاد من التذمر، حتى تحول به إلى غضب وعداء، قيام الفرنسيين، تنفيذاً لأوامر شخصية من نابليون، بازالة عشرات المبانى حول القلعة القديمة، كان من بينها مسجدان على الأقل، وذلك بهدف افساح المجال لنيران المدفعية الفرنسية التى جرى تثبيت قواعدها داخل القلعة.

وهكذا ارتكب نابليون خطأً قاتلاً، بأن عامل مسلمي مصر مثلما عامل من قبل كاثوليك ايطاليا، وذلك بتدمير أو تدنيس بيوت عبادتهم، دون ترو، ومع توقع رضوخهم للأمر الواقع والاستسلام.

الضحايا

وكان رد فعل المشايخ والعلماء مخالفاً لكل ما توقعه، ومفاجئاً له على كل المستويات. فها هم يقرءون فرمانات عثمانية آتية من عاصمة الخلافة تعلن الجهاد ضد الكفار وتبشر المجاهدين بأنهم فى حمى الرسول سيبيدون الهمج الوثنيين.

والبادي من تصرف نابليون إزاء رد الفعل هذا، أنه لم يعره، فى بادئ الأمر إلتفاتاً. ولعل غروره لعب دوراً، إذ هيأ له أنه بحكم إنه صاحب الجيش الوحيد فى القاهرة، فماذا تستطيع أن تفعل جماهير غير مسلحة، وغير مدربة على القتال.

ففي فجر الحادي والعشرين من أكتوبر ولما يكن قد مضى على فتح أبواب القاهرة لنابليون وجنده سوى ثلاثة أشهر، فى فجر ذلك اليوم، وبينما كان يتفقد برفقة الجنرال “كافاريللى” و”دومارتين” المواقع الجديدة للمدفعية ومستودعات السلاح والذخيرة فى مصر القديمة وجزيرة الروضة، بدأت ثورة القاهريين بمصرع العميد “دوبو” قائد حامية القاهرة، برمح أصابه فى مقتل، ومصرع جميع مرافقية.

وما أن وصل إلى نابليون خبر الاضطرابات وكان ذلك فى الساعة العاشرة صباحاً، حتى أسرع عائداً إلى المدينة، حيث أمر بقذف جامع الأزهر بالقنابل.

انتقام السفاح

هذا ولم يبدأ القذف إلا ظهر اليوم التالي، وبعد ساعات من القذف المتواصل اقتحم المشاه الفرنسيون أبواب الأزهر، يتبعهم فرسان ممتطين جيادهم ملوحين بسيوفهم، مدمرين أى شيء فى طريقهم، بما فى ذلك الكتب والمصابيح والمقتنيات الدينية النفيسة.

حتى القرآن لم يسلم من التدمير والدهس عليه بالأقدام، مع جثث المدافعين.

وفى هذه الاثناء أمر نابليون الجنرال “بون” قائد حامية القاهرة الجديد بتدمير الجامع الكبير، حتى يسوى بالأرض. كما أباح لجنده حرية ذبح الرجال والنساء والأطفال.

الرءوس الدامية

وفى تمام الساعة الرابعة مساء وصلت قوات فرنسية إلى ميدان الأزبكية، ومعها حمار يحمل زكائب، ما أن فتحت حتى تدحرجت منها رءوس دامية لقتلى مصريين.

وكل هذا لم يكن سوى بداية لفظائع أخرى، يشيب من هولها الولدان. فبينما سحب الدخان تتصاعد مما تبقى من الجامع الأزهر، أمر نابليون الجنرال”برتييه” بقطع رءوس السجناء الذين وقعوا فى الأسر، ومعهم سلاح، وبإلقاء جثثهم مقطوعة الرءوس فى النهر.

وكان أن ساد سلام القبور فى القاهرة على نحو أتاح لنابليون أن يؤكد للجنرال رينييه، بعد سته أيام (27أكتوبر) أن كل شيء تمام.

والفضل فى ذلك إنما يرجع إلى أننا “نقطع فى كل ليلة رقاب حوالي ثلاثين” من بينهم خمسة عشر من أكثر قادة المدينة الدينيين نفوذاً، ومن بينهم بعض أعضاء الديوان، ذلك الديوان الذي أنشأه نابليون عقب احتلاله القاهرة بأيام (25يوليه) بقصد ايهام المصريين، بأنه وقد خلصهم من نير المماليك، قد صاروا أحرارا متسيدين.

كلمة أخيرة

إذا كان لهذا الحديث عن غزو نابليون لمصر مغزى، يحسن أن نقف عنده، فهو أنه لا يعدو أن يكون غزواً استعمارياً، شأنه فى ذلك شأن غيره من الغزوات الاستعمارية التى ابتليت بها أغلب شعوب الكرة الأرضية، بدءا من اكتشاف العالم الجديد.

والسعي إلى تبرئة الحملة الفرنسية بادعاء أن لها عدداً من الايجابيات، كاكتشاف حجر رشيد، ليس إلا محاولة للجنوح بنا إلى نسيان ماضيها المشين، وما أحدثه من تشوهات فى مجتمعنا، نعاني من آثارها، حتى يومنا هذا.

وهنا أرى من المناسب أن أنهي الحديث بما قاله “شوم” فى خاتمة اضافها إلى كتابه “نابليون بونابرت”، فى مجال المقارنة بينه وبين طاغية آخر فماذا قال؟

“مقارنةً مع نابليون، تبّيّض صفحة جنكيزخان”!!

سلعة المشاهير نعمة أم نقمة

للمخرج الإيطالي”فيديريكو فيلليني” فيلم جعل عنوانه “الحياة اللذيذة” (1959).

ولقد كان من الشخصيات الكثيرة في هذا الفيلم الذي جاء بالشهرة لصاحبه، شخصية مصور مفترس أطلق عليه كاتب السيناريو انيو فلايانو اسم بابارازو.

ويعرف عن “فلايانو” أنه استواحاه من “كوريولانو بابارازو” اسم صاحب فندق في “كاتانزاوا” جاء ذكره في مؤلف لشاعر بريطاني “جورج جيسينج” كان قد أقام في ذلك الفندق أثناء فترة تجواله بأقليم كالابريا في ربوع إيطاليا، وذلك قبل قرن من عمر الزمان وفي أحد المشاهد التي لا تنسى، وما أكثرها في “الحياة اللذيذة” نرى البابارازايين (جمع بابارازو) وتعني الآن المصورين، وقد تجمهروا أمام سلم طائرة، مصوبين عدسات، ولا أقول فوهات الكاميرات نحو الباب انتظارا لـ”سيلفيا” (انيتا اكبرج) النجمة السويدية الأمريكية، القادمة إلى روما لأداء دور مهم في أحد الأفلام.

وما أن انفتح باب الطائرة لتظهر “بلحمها ودمها” حتى انقضوا عليها، لا كبشر، بل كخساس الطير، مفترسين باللقطات.

وهكذا كان “فيلليني” كعهدنا به، سابقاً في كشف إحدى عورات العصر الحديث.

فمن الأكيد، أنه بدءًا من حياته اللذيذة، صارت كلمة”بابارازي” تعني المصوري الذين يطاردون المشاهير، لالتقاط صور لهم، حتى وهم يمارسون حياتهم الخاصة، كسائر البشر بعيدًا عن الأنظار.

عبادة الشهرة

وإنه لجدير بالذكر هنا أن أقول أن هذه الكلمة قد تلازمت مع ظاهرة عبادة الشهرة، تلك الظاهرة التى أفرزها القرن العشرون، وما كانت لتوجد في غياب تكنولوجيات الاتصال الحديثة الكاميرا، الخدمة السلكية، الشاشة الفضية.

والآن “الإنترنت” آخر صيحة في ثورة المعلومات.

وظاهرة عبادة الشهرة بدأت مع نظام النجوم الذي ابتدعته استديوهات هوليوود في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين.

فقبل هذا النظام كان أحد لا يدخل في عداد المشاهير إلا اذا كان صاحب انجاز كبير، كأن يكون اكتشف شيئاً ما، أو ألف كتاباً ما، أو انتصر في معركة ما أما الآن فالمشاهير من أمثال الأميرة ديانا ينتمون إلى فصيل آخر.

فلو تساءلنا ماذا أنجزت الأميرة وما هو عطاؤها، لما حصلنا على جواب يشفي الغليل.

فباستثناء، أنها انجبت ولدًا قد يتوج ملكاً لبريطانيا في مستقبل قريب أو بعيد، فهي والحق يقال، لم تكن ثمة وظيفة واضحة لها في الحياة، تؤهلها بفضل انجازاتها فيها لاقتحام عالم المشاهير.

وبهذا المعني يسوغ لنا القول بأن شهرتها من نوع شهرة “جاكلين كيندي أوناسيس” وليست من نوع شهرة “أيفابيرون” أو”مارلين مونرو” أو حتى “جريس كيلي”.

ومع ذلك، فإن نحاول العثور على وظيفة للأميرة الراحلة، بحثاً عن تبرير لشهرتها، أمر فيه، ولاشك خروج عن جادة الصواب فتطور وسائط الإعلام العالمي، وصناعات الترفية كلاهما قد جعل من الشهرة سلعة لها كيانها القائم بذاته، والمستقل إلى حد كبير.

اقتصاديات الشهرة

وعن ذلك كتب “تيلور كووين” أستاذ الاقتصاديات بجامعة “جورج ماسون” بولاية فيرجينيا، في مؤلفه “اقتصاديات الشهرة” ما مفادة أن ثمة صفقة ضمنية بين المشاهير والمعجبين بهم، بموجبها يتحقق لهم الكثير من الأحلام ولكن أعباء الصفقة، قد تتحول بحياتهم إلى كابوس مقيم، وكلاهما أي الحلم المتحقق والكابوس المقيم تزيد من تأثيره وسائط الاتصالات الحديثة.

ونقطة البداية بالنسبة لصفقة من هذا القبيل، هي إقبال المجتمع على طلب المشاهير.

والحق، أن هذا الطلب قد ازداد بشكل مثير للدهشة إبان القرن العشرين ويبدو أن ثمة قوتين تدفعان بالطلب نحو الأزدياد.

قدامى الأبطال

أولاهما رغبة المجتمع الثابتة في أن يكون له رصيد من الأبطال حتي وإن كانوا من فصيل آخر غير فصيل الشاعر بايرون أو الرحالة من أمثال “ستانلي” و”لفنجسون” أو الثوار من عينه “جاريبالدي” و”ارنست جيفارا”.

والأخرى نمو وسائط الإعلام على وجه لم يكن في الحسبان.

فكان أن قامت، نتيجة لذلك قنوات لتوزيع الشهرة بدأت قومية لتصير الآن عالمية، يشمل بثها مشارق الأرض ومغاربها.

وهنا نستطيع أن نقول أن الطلب على الأبطال بالمواصفات القديمة، سواء أكانوا من السياسين أم المحاربين، أخذ في الانحسار منذ مدة بحيث يكاد يكون منعدماً الآن.

فهذا النوع من الأبطال قد فقد، بلا جدال، قدرته على كسب العقول والقلوب.

والبديل له حالياً، نوع آخر متحكم في السوق، من شروطه أن يكون البطل سواء كان من جنس الرجال أو النساء محبوباً من الكاميرا، منفتحاً على الناس.

وفوق هذا أن تكون شخصيته مشوبه بعيب، يثير معه التعاطف والمشاركة في المعاناة.

شروط التسويق 

لقد كان التصور للأبطال في العصور الماضية أن يكونوا أقرب إلى الكمال حتى جاء عصرنا ليغير هذا التصور من أساسه وذلك بأن أحل محل صفة الكمال صفة أخرى لم تكن أبداً من صفات الأبطال، ألا وهي ضعف الإنسان.

فتلك الصفة هي المطلوبة الآن كشرط لنجاح تسويق من يجرى إعداده للدخول في عداد المشاهير.

ملكة القلوب

كل هذا كان متوافر بسخاء في الأميرة ديانا فوقوع الكاميرا في أسر حبها، وانفتاحها على الناس البسطاء، رغم أنها أميرة ويلز، وأم لصبي، مقدر له أن يعتلي العرش ليكون ملك بريطانيا في يوم من الأيام كلاهما أمر لا جدال فيه، وكلاهما مهد الطريق لشعبيتها المنقطعة النظير. غير أنه بدون اعلانها على الملأ بأنها مريضة بالاكتئاب والبوليميا.

وبدون اعلانها أن زواجها من ولي العهد زواج غير سعيد وما تبع ذلك من انفصال ثم طلاق عاصف، فمعارك ضارية مع القصر الملكي، أظهرتها بمظهر ضحية تسعى لحماية نفسها بالانتصار.

بدون كل ذلك، ما كان في إمكانها أن تكون بطلة في نظر قطاع كبير من الشعب البريطاني.

وأن تؤهل بفضل ذلك الصعود إلى قمة الشهرة حيث أصبحت ولسنوات، أشهر امرأة على كوكبنا.

علاقات خطرة

والغريب، أنها لم تكتف بكل ذلك بل عملت على إنشاء علاقة مع فتى لعوب كان الوارث الوحيد لأب مسلم، واسع الثراء، يمتلك أكثر المحلات التجارية في بريطانيا أناقة.

ورغم ذلك فطلبه الحصول على الجنسية البريطانية كان محل رفض، لأكثر من مرة من قبل السلطات وليس من شك ان تصرفها هذا وهو آخر تصرف في حياتها الصاخبة القائمة على الكيد لأعدائها في القصر، خاصة ولي العهد، زوجها الأول والأخير، قد كشف عن عبقريتها الفذة في المزاوجة بين الغرام والانتقام!!

وعلى كُلٍ، فإنه لمما يلفت النظر في مشاهير هذه الأيام أمران :

سيطرة الأنجلوسكسون

الأول معظمهم من المتكلمين باللغة الانجليزية وليس محض صدفة أنه، فيما عدا إيفا بيرون، فجميع الشهيرات عالمياً “مارلين”، “جاكلين”، “جريس”، و”ديانا” من المتكلمات بتلك اللغة.

وذلك بعكس ولا شك الهيمنة الأمريكية، الانجليزية، الاسترالية على كل من وسائط الاعلام العالمية، والصناعات الترفيهية.

والثاني أن النساء يشكلن نسبة كبيرة داخل صفوف المشاهير. وهذا يعني أن صناعة المشاهير من الصناعات القليلة التي في وسع النساء أن يتنافسن فيها على قدم المساواة مع الرجال.

وفي هذه الصناعة برزت الأميرة ديانا، بحكم الندرة تلك الصفة التي انفردت بها، دون غيرها من النساء الشهيرات. فهوليوود، على سبيل المثال، في وسعها أن تنتج ما تشاء من النساء الصغيرات الجميلات.

أما أن تنتج نساء صغيرات جميلات تجري في عروقهن الدماء الزرقاء، فهذا أمر دونه خرط القتات.

منتج نادر

وهكذا أصبح لديانا، ذلك المنتج الذي توافرات لعرضه صفة الندرة، سوق عالمية تباع فها صورتها، إذا كانت جيدة ليس في بريطانيا وحدها، وإنما حول العالم شرقاً وغرباً، ويحدث هذا بتكاليف لا تتجاوز قيمه مذكرة صغيرة وكاميرا قيمه تحسن التصوير من قريب أو بعيد.

وهي تكاليف ضئيلة، خاصة إذا ما جرى مقارنتها بالأرباح المحتلمة، فيما لو نشرت الصورة على نطاق واسع. وأن يكافأ المشاهير، فهذا أمر ليس حوله جدال.

وليس من شك أن الاستتحسان أحد الصور التي يجري مكافأتهم بها. وهو لا يكلف المجتمع إلا أقل القليل وأعباء تكلفته يكاد يتساوى في تحملها الفقراء مع الأغنياء.

وهذا يعني أن الشهرة في جوهرها سلعة قوامها المساواة في الاستحسان الذي يضفيه خاصة وعامة الناس على المشاهير.

الجاه والمال

ومع ذلك، فمعظم المشاهير يفضلون أن تكون المكافأة بالمال، يغدق عليهم بالملاين فنجوم السينما، والمغنون، ولاعبو الكرة، ومصممو وعارضات الأزياء يرون شهرتهم منعكسة بغير لف ودوران فيما يدفع لهم من أجور أو في مبيعات المنتجات المتصلة بها أسماؤهم عن طريق الاعلان.

وفي رأي “تيلور كووين” صاحب “اقتصاديات الشهرة” أن ثمن مشاركة المشاهير بصورهم أو بأسمائهم في الدعاية للمنتجات قد ارتفع خلال السنوات الأخيرة ارتفاعاً فلكياً.

ولا غرابة في هذا فتأجير وجه مشهور في عالم معلوماته لا تنفد صار إحدى وسائل التميز والتفوق على الآخرين في أسواق تشتد فيها حرب المنافسة على وجه غير مسبوق.

هذا، ونادراً ما يجني المشاهير من أعضاء العائلات المالكة ثمار هذا النوع المباشر من المكافآت، وإن كانت “سارا فيرجسون” زوجة شقيق ولي العهد قد جنت أربعة أو خمسة ملاين دولار خلال شهور قليلة من بيع سيرة حياتها والدعاية لبعض المنتجات.

وعند هذا المنحنى من سياق الحديث أرى أنه قد يكون من المناسب أن أقول:

الأميرة والعظمة

أولاً أن الأميرة الراحلة لم تقاس من مطاردة الصحافة لها، حتى في حياتها الخاصة. بالعكس كانت سعيدة كل السعادة باستمرار تسليط الأضواء عليها، دون انقطاع مغتبطة في أغلب الأحوال، باهتمام الصحفيين بها، الذي كان أشبه باهتمام الكلاب.

ومن حين لآخر كانت تلقي لهم بعظمة سرعان ما تظهر في اليوم التالي منشورة بعناوين مثيرة على صفحات إحدى الجرائد الشعبية الصفراء، بوصفها أي العظمة خبراً انفردت به عالمياً.

وثانياً أن الشهرة وإن كانت تحقق لمعظم المشاهير أحلامهم في الجاه والمال إلا أنها تتعهدهم في الوقت نفسه، بمخاطر جسام فهي في تقدير “كووين” تجنح إلى الاضرار بالمشاهير.

ووفقا لحساباته فنسبة مرتفعة من المشاهير تعاني من مرض القلب والفشل الكلوي وادمان الخمور والمخدرات.

لعنة الشهرة

وكثيرٌ منهم يفارقون الحياة في سن مبكرة، مارلين مونرو بالانتحار وهي في السادسة والثلاثين.

ايفا بيرون بالسرطان، وهي في الثالثة والثلاثين، أميرة موناكو “جريس كيلي” والأميرة ديانا كلتاهما بالقتل في حادث سيارة، وليس لهما من العمر سوي اثنين وخمسين، وستة وثلاثين على الترتيب وهو أي “كووين” على ظن يبلغ درجة الرجحان الشديد بأن هذه الظاهرة إنما ترجع إلى أن السعادة لا تنبع في الغالب الأعم إلا من الإنجاز.

ولأنه بعد الوصول إلى قمة الشهرة غالباً ما يفقد معظم المشاهير القدرة على تحقيق أي أنجاز ولو كان صغيراً، فسرعان ما تنتاب بعضهم حاله من الاكتاب تنتهي بهم بائيسن ومما يزيد حالتهم سوءًا وسائط الإعلام المتربصة لهم، المترقبة أي خطأ يرتكبونه ولو كان صغيراً، لتهول من شأنه على وجه، يجعل من حياتهم جحيماً، ويتحول بشهرتهم من نعمة إلى لعنة.