ثورة.. وسينما لم تكتمل

كثر الهراء غرابة في هذه الأيام ما تكتبه بعض الأقلام من كلام حاصله أن السينما عندنا كانت أحسن حالاً قبل فجر الثالث والعشرين من يوليه لعام 1952 منها بعده.

ووجه الغرابة في هذا الكلام الأقرب إلى اللغو، أنه لو استطعنا العودة عبر رحلة الذاكرة إلى السينما الروائية عند الميلاد على أرض الوطن، أي في الربع الرابع من عقد العشرينات، ثم الصعود مع سيرتها مرة ثانية نحو المستقبل حتى بلوغها سن الخامسة والعشرين ربيعاً في الربع الأول من عقد الخمسينيات، لو استطعنا ذلك لوجدنا أمامنا سينما وطنية تعيش عالة على السينما العالمية في كل صغيرة وكبيرة. فالمعدات مستوردة، والأفكار مستعارة، والأخطر من هذا كله ذلك الانبهار بسينما هوليوود الذي وصل إلى حد التأليه والسجود لأفلامها، والتقليد الأعمى لكل ما تنطوي من زبد لا ينفع الناس.

ولبيان هذا المدى في التأثير، تكفي نظرة طائرة على كل من “قبلة في الصحراء” للأخوين إبراهيم وبدر لاما (5 مايو لعام 1927) الذي يعتبر بحق أول فيلم عربي روائي تجاري طويل.
 و”ليلى” للمخرج “استيفان روستي” (16 نوفمبر لعام 1927)، والذي به- في رأي نفر من مؤرخي السينما– بدأ إنتاج الأفلام الروائية الطويلة في مصر، وذلك باعتبار أن نجمته ومنتجته “عزيزة أمير” تحمل الجنسية المصرية، الأمر غير المتوافر في حق الأخوين “لاما”.

الأرض الخراب

وسواء أكان أي من هذين الفيلمين هو الأول أم الثاني، فمن المتيقن أن الإنتاج السينمائي بدأ على أرض مصر، والوطن العربي، ماعدا المملكة السعودية وإمامة اليمن، ترفرف على جميع ربوعه من المحيط إلى الخليج أعلام الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والأسباني والحكم في مصر يتقاسمه الإنجليز والسراي وأحزاب لا تمثل سوى الأقلية، وشراذم من المغامرين والأفاقين الأجانب.

في هذا الجو الذي يشيع فيه الذل والخوف، بدت السينما في مصر، أو بمعنى أصح في الوطن العربي كما لو كانت لا تعزف إلا لحناً واحداً لا يتغير .

معبود هوليوود

ومهما يكن من الأمر، فما هو هذا اللحن الواحد الذي يعزفه الفيلمان الرائدان؟

أولهما: وهو منقول جملة وتفصيلا عن فيلم أمريكي قام بتمثيله “رودلف فالنتينو” معبود النساء تحت اسم “ابن الشيخ” يقول ضمن ما يقول من تفاهات أن شاباً “شفيق” من الأعراب المقيمين في الصحراء، رأته شابة أمريكية “هلدا” فهامت به من أول نظرة.

وكان “شفيق” مولعاً بسباق الخيل والمراهنة، دائم الشجار مع عمه لهذا السبب.

وحدث ذات يوم أن عثر “شفيق”على عمه قتيلاً،وحامت حوله الشبهات الأمرالذي اضطره إلى الفرار والاختفاء في الصحراء حيث انضم إلى عصابة من قطاع الطرق.

وتشاء الصدف أن تهاجم العصابة قافلة تضم “هلدا” ويأمر “شفيق” رفاقه بإخلاء سبيل القافلة بمجرد تعرفه عليها.

وبفضل خنجر مشدود إلى وسطه تتعرف هي الأخرى عليه، فتعود إليه لتعبر عن هيامها به، ويتعانقان، إلا أنه سرعان ما يتذكر أنه طريد العدالة، ولا يستطيع العودة معها إلى المدينة.

وبعد أن تستأنف رحلتها مع القافلة يزف اليه نبأ الحكم ببراءته، فيلاحق القافلة في الصحراء حيث يكتشف أن ثلاثة لصوص قد اختطفوا “هلدا” فيطاردهم حتى ينتصر عليهم ويسترد محبوبته.

طريق الضياع

ومن عجب أن الأخوين لاما ظلا مدمنين لهذا النوع من الهراء المستورد حتى آخر فيلم لهما “صلاح الدين الأيوبي” (1941) فهو لا يعدو أن يكون مسخاً اختلطت فيه الأمور، فالجيوش الصليبية تكر وتفر بأسلوب قطاع الطرق، تخطف، تنهب، تحرق.

و”صلاح الدين” مع نفر من الأتباع الأبرار يقف بالمرصاد للصليبيين الأشرار كما رعاة البقر في أفلام الغرب الأمريكي.

وللنهوض فنياً بفيلمه اختصر”إبراهيم لاما” الطريق، لجأ إلى ما نعتته مجلة “الراديو” وقتذاك بسرقة غريبة أو تدجيل من نوع جديد كيف؟

بأن قام بلصق أجزاء من المعارك الحربية في فيلم للمخرج الأمريكي الشهير “سيسيل ب . دي ميل” اسمه “الصليبيون”.

فكان أن بدت وجوه العرب “افرنجية الملامح” وعندما قرأ الأخوان “لاما” هذا النقد اللاذع بادرا بحذف المشاهد المختلسة، فكانت النتيجة أنهما– وفق ما جاء في مقال بنفس المجلة– زادا الأمر اضطراباً على اضطراب وعبثاً على عبث”

علية القوم

وفي الفيلم الثاني “ليلى” نجد نفس الهراء متجسداً في قصته التي تدورحول فتاة جميلة يتيمة يكفلها عمدة قرية صغيرة تقع على مشارف الصحراء.

يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم “أحمد” الذي يعمل دليلاً للسائحين.

وتشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بأحمد وتغرية بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل.

وطبعاً تطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف انها حامل من أحمد الذي غدر بها.

وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة، يتوقف لها “رءوف بك” بعربته ثم يصطحبها معززة مكرمة إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

وقد يكون من الصعوبة بمكان تصور قصة بمثل هذا القدر من التفاهة والبعد عن الواقع والحط من شأن الجماهير. ومع ذلك فقد تعرضت “عزيزة أمير” لحملة من الانتقادات، وأخذ عليها إفراطها في الاهتمام بالدهماء.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من نوفمبر لعام 1927 في مجلة “الصباح” خير مثال يساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات.

ففيه يأخذ كاتبه على “عزيزة أمير” جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة، ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة– وهو في أشدّ حالات الاستياء– عن سبب اصرارها على إظهار مصر وكأنها لا تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد “الكثير مما نفخر به”.

وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش.

وكرد فعل لهذا النقد أعلنت “عزيزة أمير” عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة لفيلمها القادم تجري أحداثها وسط الطبقات العليا في مصر.

متكلم وصامت

ولم تكن الفترة الصامتة من حياة السينما العربية على أرض مصر طويلة، فبعد فيلمي “قبلة في الصحراء” و”ليلى” بخمسة أعوام إلا قليلا، وبالتحديد يوم 14من مارس لعام 1932 أي في عهد إسماعيل صدقي باشا- وهو من أشد العهود سواداً في تاريخ مصر الحديث- عرض أول فيلم عربي ناطق “أولاد الذوات” الذي أخرجه “محمد كريم” ومثله “يوسف وهبي”.

وفي هذا اليوم التاريخي اكتشف جمهور الحفلة أنه كان ضحية غش كبير، فقد تبين له أثناء العرض أن “أولاد الذوات” نصفان الأول ناطق عربي اللسان والثاني صامت لا ينطق حرفاً واحداً.

وأن هذا الاستهتار ليس له من سبب سوى رغبة منتجي الفيلم في الحد من تكاليف جعله ناطقاً بالكامل، وهي تكاليف باهظة لا قبل لهم بتحمل أعبائها.

وهكذا ولدت السينما المتكلمة مريضة بداء الاستسهال والتسطيح والجري اللاهث وراء الكسب السريع، وهو داء يرجع إلى الخطيئة الأولى، ألا وهي ميلاد السينما العربية أصلاً في مصر والوطن العربي يئن تحت كعاب جنود الاحتلال الأجنبي.

الماضي المجهول

وبمناسبة قصر الفترة الصامتة من حياة السينما عندنا، لا يفوتني أن أشير هنا إلى ملاحظة ذكية للناقد نور الدين غالي ضمّنها مقاله “السينما المصرية بانعكاساتها وسرابها” المنشور بالعدد 83 من مجلة “جين سينما” الفرنسية.

فهو فيها يرجع فقر المرئيات في “الأفلام المصرية” إلى أن السينما المصرية “تكلمت وهي لاتزال في المهد صبية، فيكاد لا يكون ثمة وجود “لسينما صامتة مصرية” آية ذلك أن “أول فيلم طويل مصري” قد أنتج عام 1927 أي العام الذي نطقت فيه السينما العالمية.

ومن ثم افتقد “المخرجون المصريون” خبرة الفيلم الصامت، وذلك لعدم مرورهم بتجربة إكراه الصمت التي كان لابد أن تجبرهم على التعبير المرئي، فضلاً عن إجراء بحوث في مجالي التشكيل والإيقاع.

المسرح المعلب

وعلاوة على هذا التاريخ الذي يفتقر إلى ماضي صامت، فقد لعب المسرح هو الآخر دوراً في الإساءة إلى السينما والإضرار بها.

ففي البدء مع تكلم السينما وعدم توافر مبدعين سينمائيين، أنيط مصير الفيلم بكتاب سيناريو اعتادوا التعبير بالحوار وليس بالصورة.

وهولاء الكتاب وفدوا في معظمهم إلى السينما من عالم الأدب المسرحي أو الروائي، بل إن بعضهم اكتفى بأن يسجل سينمائياً المسرحيات التي سبق له أن كتبها أو أخرجها دون أن يكلف نفسه عناء حذف أو إضافة همزة أو وصلة.

ولعل يوسف وهبي المثل الصارخ على هذا الغلو.

فمن المعروف عنه أنه استغل شهرته المسرحية باعتباره ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً ومنتجاً في آنٍ واحد، فنقل إلى السينما موضوعات مسرحياته، وهي من نوع الدراما النفسية والاجتماعية الزائفة ذات الأنماط الإنسانية المبسطة.

وهكذا، ومنذ البداية فرض المسرح على السينما أسلوبه في التمثيل وطابعه في الإخراج، وهو وضع ضار كُتب له الاستقرار زمناً طويلاً.

ومن هذا المنطلق وخلال فترة لا تتجاوز العامين (34 – 1935) تم تقنين النمطين الرئيسيين للسينما التجارية في مصر، ألا وهما الفيلم المسرحي تحت رعاية “يوسف وهبي” و”نجيب الريحاني” وغيرهما من أهل المسرح والفيلم الغنائي الذي أرسى المخرج “محمد كريم” قواعده، وكان محمد عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء نجمه الأول بلا منازع.

القاعدة والاستثناء

وعن الظاهرة الأخيرة كتب الناقد “جي هينيبيل”– وهو من المهتمين بالسينما العربية– في مؤلفه “خمسة عشر عاماً من السينما العالمية” (ص 219)، قائلاً ففي مصر هم– يقصد المصريين- مولعون بالأغنية، فالكلمة عند العرب تفوق الصورة في الأهمية لأن الصورة ليست أمراً مستحباً في الإسلام!!

وليس محض صدفة أن الحضارة العربية ترجمت– وهي في أوج مجدها- كل الفلسفة الإغريقية، ولم تترجم المسرح.

وهكذا ظل العالم العربي حصيناً من المسرح الذي لم يستطع التسلل إليه إلا من جحافل الغزو الأجنبي وبخاصة الجنرال بونابرت، ثم انتشر بعد ذلك بفضل السوريين واللبنانيين من أهل الكتاب”.

واستثناء من هذه الأفلام ذات الطابع المسرحي والتي يغلب عليها البكاء والغناء وخروجاً على تقاليدها التي أصبحت من الثوابت، فاجأ كمال سليم الناس بفيلمه الأول الذي أراد له اسم “في الحارة”، وشاءت الأقدار له اسما آخر “العزيمة” (1940).

وهذا الفيلم الاستثناء ذهب نقاد الغرب في شأنه مذهباً واحداً، هو الإشادة به وبالدور الإيجابي الذي لعبه في تاريخ السينما العربية.

وهذا الإجماع في الحماس للعزيمة لم يحظ به فيلم عربي آخر على مدى ثلاثين عاماً أو يزيد.

بعد ذلك كله، فلا عجب إذا ما انصرفت السينما، لا في مصر وحدها بل في أقطار عربية أخرى كسوريا ولبنان، عن تناول أي موضوع جاد يؤدي إلى صحوة وطنية أو نهضة فكرية، بل الأعجب من هذا العجب أن يكون الأمر على خلاف ذلك في ظل احتلال أجنبي ليس له من هدف سوى حجب المعرفة عن الأمة العربية بمزيد من التشدد في الرقابة على حرية الفكر، وبالذات حرية التعبير بلغة السينما.

ومن هنا فليس من باب الصدفة أن أحداً لم يحاول في جميع الأفلام المنتجة في مصر، بل في الوطن العربي بأسره، وحتى عام 1952 حين بدأ “أحمد بدرخان” تصوير فيلمه عن حياة الزعيم مصطفى كامل، لم يحاول أحد أن يعرض لكفاح الأمة العربية ضد المحتل الأجنبي، وضد الظلم الاجتماعي.

وفي مواجهة تصاعد الحركة الوطنية المعادية للاستعمار عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار الفاشية- وقبل الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى بقليل– لجأت الدوائر الحاكمة إلى سلاح الحد من حرية التعبير، لاسيما في مجال السينما.

وإذا كانت مصر مرآة الوطن العربي كما يقول بحق “فؤاد عجمي” في كتابه “المأزق العربي” فإن التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي في فبراير 1947 بغرض تقنين ما جرى عليه العمل رقابياً في مصر فيما يتعلق بالسينما، هذه التعليمات المتشددة التي اشتملت على أربعة وستين محظوراً، كان لابد أن يكون لها انعكاساتها على السينما في الأقطار الأخرى من الوطن العربي.

وفي ضوء هذه المحظورات كان أمراً مقضياً أن تنصرف السينما على امتداد الوطن الفسيح عن معالجة أي موضوع اجتماعي أو سياسي يمس من قريب أو بعيد صراع المعذبين في أرض الوطن ضد الاحتلال والخوف والجوع.

فجر جديد

كل ذلك كان قبل فجر الثالث والعشرين من يوليه، والتحول بمصر من ملكية إلى جمهورية مستقلة متحررة من رق الاستعمار.

ومع هذا الفجر ظهر جيل جديد من المخرجين الشبان كصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وهنري بركات، حاول في بعض أفلامه “كالفتوة” “ودرب المهابيل” “وباب الحديد” “والحرام” أن ينتقد الأوضاع الاجتماعية.
وتدعيم التيار الجاد في السينما بانشاء معهد عال لها ومراكز فنية للأفلام التسجيلية والتجريبية، ونواد للتعريف بالفن السابع باعتباره الدرجة الأسمى التي وصل إليها الفن في تطوره الصاعد.

ومع ذلك ظل النقد الذي انطوت عليه أفلام هذا الجيل الذي ظهر مع الفجر، ظل محصوراً في وصف الأمراض الاجتماعية لا يتجاوزها إلى اقتراح الوسائل السياسية لعلاجها وإحداث التغيير المنشود.

وفوق هذا بقى عدد هذه الأفلام الجادة قليلاً تائهاً في خضم أفلام غريبة عن أرض الوطن لا تكترث بتراثنا العاطفي والاجتماعي والانساني بل قل تستهر به وتشهّر.

فيلم وزلزال

وبداهة ما كان لهذا الوضع الذي تحول مرة أخرى بواقع السينما العربية إلى مستنقع راكد أن يدوم، فبعد مرور أربعة عشر عاماً على الثالث والعشرين من يولية انقض على هذا الواقع المستنقع فيلم “معركة الجزائر” (1966).

ففي مهرجان فينسيا خرج هذا الفيلم متوجاً بالأسد الذهبي جائزته الكبرى، وكذلك بجائزة النقد الدولي.

والوقع الصاعقي الذي أحدثه في الوطن العربي حيثما عرض أو سمع عنه، هذا الوقع، إنما يرجع إلى أنه قادم من أول أرض عربية تحرر من الاستعمار بفضل ثورة شعبية مسلحة، هذا إلى أنه فيلم سياسي من ألفه إلى يائه، فضلاً عن أنه يعرض للثورة في الجزائر العاصمة بأسلوب جمالي يدفع المتلقي إلى فهم يؤدي إلى العمل على تغيير الواقع.

وعلى كل حال، فقد كان من أثر “معركة الجزائر” أن اهتزت السينما في الوطن العربي على وجه أدى إلى تدعيم الاتجاه نحو سينما واقعية جادة. ولا أقول سياسية.

وقبيل زلزال الخامس من يونية لعام 1967، وبعدها تلاحقت الأفلام السياسية داخل مصر وخارجها، وظهر في الساحة السينمائية العربية، ولأول مرة، ما يسمى بالمخرج السياسي، ولعل خير مثل على ذلك “برهان علوية” صاحب “كفر قاسم”.

وبحكم البداية، لم تكن جميع الأفلام السياسية إيجابية في مضونها، فبعضها كان ذا أثر سلبي إذ لعب دوراً من خلال كشف أخطاء ونقائص الأجهزة الحاكمة، وبخاصة الاتحاد الاشتراكي العربي في التشكيك في ثورية نظام عبد الناصر والنظم المماثلة له في أنحاء الوطن العربي، مما مهد الطريق لنكسة جديدة في مسار حركة التحرر الوطني والاجتماعي أدت إلى تفاقم أمر التشتت العربي.

وعن الدور الذي لعبه أحد هذه الأفلام “ميرامار” في هذا الخصوص ألقى صاحبه “كمال الشيخ” بعض الضوء بقوله في حديث له أن الفيلم لم يحصل على ترخيص الرقابة بالعرض إلا بعد أن شاهده نائب رئيس الجمهورية وقتذاك وأجازه مبدياً إعجابه الشديد.

متمردون ومخدوعون

فإذا ما انتقلنا إلى الأفلام السياسية التي لعبت دوراً إيجابياً في كشف الواقع ومواجهته بغرض التمرد عليه وتغييره إلى ما هو أفضل لوجدناها لا تزال نادرة.

وأهمها عندي، وذلك على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، رائعتا توفيق صالح “المتمردون” و”المخدوعون”. والأولى تم إخراجها في مصر بفضل القطاع العام، أما الثانية– فهي مستوحاة من قصة للأديب غسان كنفاني– فلم يستطع إخراجها إلا في سوريا، وأيضاً بفضل القطاع العام ثم “كفر قاسم” لبرهان علوية من لبنان “وصور من مذكرات خصبة” لصاحبه ميشال خليفة من فلسطيين المحتلة.. و”عمر قتلته الرجولة”.. لصاحبه “مرزاق علواش” من الجزائر و”ليلة حساب السنين” (المومياء 1969) رائعة شادي عبد السلام، وعندها أقف قليلاً.

السينما الغائبة

عندما كُتب لنقاد الغرب أن يشاهدوها في مطلع السبعينيات دفع الحماس نفراً منهم إلى أن يشبه “شادي عبد السلام” “بساتيا جيت راي” ويتنبأ له بأن يكون صاحب تأثير خلاق على “السينما المصرية” قريب من تأثير المخرج البنغالي الشهير على السينما الهندية.

غير أن “جون راسل تايلور” الناقد الإنجليزي ذهب، رغم فيض حماسه لشادي وفيلمه، مذهباً على عكس ذلك تماماً.

ففي الدراسة التي خصّ “ساتيا جيت راي” بها في مؤلفه القيّم “مخرجون واتجاهات” كتب في وصف رائعة شادي قائلاً “إنها عمل فردي يتسم بالغرابة والخروج على المألوف، وأغلب الظن أنه لا يعكس سوى مواهب مبدعه.

وفي ظني أن “راسل تايلور” كان في تقويمه لفيلم “ليلة حساب السنين” وأثره أكثر جنوحاً إلى الصواب من أغلب النقاد.

فهو، وبعد انقضاء زهاء عشرين عاماً على إخراجه، لم نر فيلماً أنتج من أفلام، وهي تعد بالمئات، شبيهاً له لا من قريب ولا من بعيد.

بل أن صاحبه امتنع عليه حتى اختفائه بالموت قبل شهور، أن يخرج من بعده فيلماً روائياً طويلاً آخر.

وإذن فليس غريباً إذا ما استخلص من ذلك أن رائعة شادي الشهيرة بالمومياء استثناء.

وفي عالم الأطياف الاستثناء لا مستقبل له، وبخاصة إذا كان الأمر متعلقاً ببناء صرح مدرسة وطنية سينمائية.

وعن مأساة المخرج الراحل ومعها مأساة السينما في الوطن العربي كتب الناقد الإنجليزي كين ولاشين في المجلد السادس من موسوعة الأفلام قائلاً “المومياء لشادي عبد السلام هو أشهر فيلم في فترة السبعينيات ولكن مخرجه لم يبدع أفلاما بعد ذلك، الأمر الذي يعكس حالة الصناعة المصرية”.. وكفى..!!

سينما مؤجلة إلي متي؟

عندما أعددت نفسي لأكتب هذه الكلمات عن “السينما المؤجلة” لصاحبه الناقد “محمد سويد”، قفزت إلى ذهني من ظلمات الماضي القريب نتائج استفتاء أجرته مجلة “اليوم السابع” لمعرفة أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية (22 فبراير و2 مارس عام 1987).
تركت قلمي حيث كان وطالبت نفسي أن تبحث عن الخيط الذي ربط في خواطري المنسابة بين هذا الاستفتاء ونتائجه وبين ما كنت قد هممت بكتابته عن “السينما المؤجلة”.
وبعد تفكير بدت أمامي رابطة أرجّح أنها هي الخيط الذي جذب نتائج استفتاء “اليوم السابع” في سيل الخواطر.
فما هي هذه النتائج، وما هي الرابطة بينها وبين دراسة الناقد البيروتي، تلك الدراسة التي تدور وجوداً وعدماً حول ما يُسمى بالسينما اللبنانية في زمن الحرب؟
الأفلام العشرة التي هزت السينما العربية وفقاً للاستفتاء، وحسب عدد الأصوات الحاصلة عليها ممن جرى اسفتاؤهم هي: (1) المومياء- شادي عبد السلام (2) الأرض– يوسف شاهين (3) باب الحديد– يوسف شاهين (4) المخدوعون– توفيق صالح (5) بداية ونهاية– صلاح أبو سيف (6) العزيمة– كمال سليم (7) أحلام المدينة- محمد ملص “سوريا” (8) الحرام– هنري بركات (9) عمر قتلته الرجولة– مرزاق علواش “الجزائر” (10) كفر قاسم– برهان علوية “لبنان”.
وقراءة سريعة لهذه النتائج يتبين منها:
أولاً: أن سبعين في المائة من مجموع هذه الأفلام لمخرجين من أهل مصر.
ثانياً: أن فيلماً واحداً “كفر قاسم” (1974) لمخرج من أهل لبنان، وبالتحديد جنوبه “برهان علوية”.
ثالثاً: إن جميع الأفلام الفائزة، فيما عدا “العزيمة” الذي أنتجه “ستديو مصر” (1939) و”باب الحديد” الذي انتجه واحد من أهل فلسطين “جبرائيل تلحمي” (1956)- جميعها من انتاج مؤسسات القطاع العام على امتداد الوطن العربي من مشرقه “سوريا” حتى مغربه “الجزائر” مروراً بقبلته “مصر”.
رابعاً: إن “كفر قاسم” إنتاج مشترك بين مؤسسة السينما في سوريا ومخرجه..
وهو فيلم لا يعرض لمحنة الشعب العربي على أرض لبنان، وإنما يعرض لمأساة الشعب العربي في أرض أخرى، هي أرض فلسطين المحتلة، في أيام لها تاريخ فيما بين قرار تأميم قناة السويس وقرار العدوان الثلاثي على الشعب العربي في أرض مصر .
وعنه قال صاحب دراسة “السينما المؤجلة” أنه فيلم “بقى في إطاره الفردي، ولم يشكل في حد ذاته التيار المؤثر والقابل للاستمرار”.
عبقرية المكان
ويستفاد من هذه القراءة أن سينما القاهرة لها نصيب الأسد فيما هو ممتاز وذو تأثير على مسار السينما في الوطن العربي من الأفلام، أما ما عداها من مراكز سينمائية في دمشق وبيروت والجزائر العاصمة وغيرها من أمهات مدن هذا الوطن الفسيح، فهي بإنتاجها المتقطع القليل، ذي التأثير الضئيل، لا تعدو أن تكون روافد سينمائية لتيار سينما القاهرة الجارف.
ولا غرابة في هذا، ففن السينما قد ظهر في الوطن العربي أول ما ظهر على أرض مصر سنة 1912 أي قبل التاريخ الرسمي لظهوره على أرض لبنان بفضل فيلم “مغامرات الياس مبروك” (1929) لصاحبه “جوردانو بيدوتي” المنحدر من أصل إيطالي، والذي “كان يعمل سائق سيارة مياومة عند عائلة جاك تابت بحي السراسقة في الأشرقية”.
وهنا من المفيد التأكيد مرة أخرى على أن انطلاق الانتاج السينمائي في الوطن العربي بدءا من أرض مصر لم يأت من فراغ فمصر بحكم وضعها الجغرافي المركزي الذي يجعلها بمثابة القلب من الوطن الكبير.
وبحكم التقدم النسبي لاقتصادها، ومتعة مدنها الكبرى المشعة ثقافة وفناً وبهجة، فضلاً عن تعرضها لتأثير الأفكار الحرة السائدة في العالم وبالتحديد أوروبا، بحكم ذلك كله كانت مؤهلة لأن تكون قاعدة وطليعة للوطن العربي في الفنون، لاسيما ما كان منها متصلاً بالفن السابع.
لبنان.. أولاً
والعجيب.. العجيب أن هذه الواقعة التي لا منصرف عنها، ولا تخلص منها قد وجدت من يعارضها يكابر فيها وأين؟
على أرض لبنان حيث ثمة أسباب طبيعية حتمت وجود الفيلم التجاري على مراحل متباعدة زمنياً..
أو كما يقول الناقد صاحب الدراسة بحق “من السابق لأوانه الإشارة إلى سينما لبنانية فعلية، يقوم فيها الانتاج على تراكم منتظم (ص 46، 47) ومتى؟
عندما صدرت قرارات التأميمات الكبرى في مصر (1961) لتشمل صناعة السينما، فكان أن انتهز اقتصاد الخدمات في بيروت الفرصة، ففتح الأبواب لبعض الطيور المهاجرة من القاهرة مما عكس ازدهاراً عابراً في انتاج سينمائي هابط بلا هوية..
حروب صغيرة.. أم طائفية
وعن هذه الفترة من عمر السينما في بيروت كتب صاحب الدراسة قائلاً:
“لبنان الستينيات ومطلع السبعينيات عرف فترة فنية غنية، لكنه كان على صعيد السينما يعيش مرحلة انحطاط في الانتاج رغم غزارته واختلاطه بالتجربة المشتركة مع السينما المصرية (يقصد السينمائيين المهاجرين من مصر تخوفاً من التأميم) ولصاحب الدراسة تفسير لظاهرة معاناة السينما على أرض لبنان من انقطاعات مفاجئة تستبعد أي تواصل أو استمرارية أو تكامل في التجارب والأجيال..
فهو يرجعها أولاً إلى وجود خلاف أصلاً حول وطنية لبنان أو بتعبير أدق حول لبنان– الوطن (ص50).
وثانياً إلى قيام تاريخ السينما في لبنان على أفلام وليدة ومغامرات فردية، باء معظمها بالفشل بحكم أنها لم تعط المردود الكافي لاستمرار عجلة الانتاج فضلاً عن بقاء العديد منها أسير العلب، كفيلم “برهان علوية” الأخير “بيروت اللقاء” (1981) .
باختصار هي أفلام لا تشكل تياراً متجانساً يمكن أن يطلق عليه “تسمية السينما اللبنانية”.
الحرب القذرة
وفي محاولة أخرى منه لتفسير هذه الظاهرة أرجع تقطع مراحل الانتاج السينمائي في لبنان إلى كثرة الحروب “فما أن كانت الثلاثينيات حتى جاءت الحرب العالمية الثانية وعهد الاستقلال..
وما أن كانت الأربعينيات والخمسينيات حتى كانت أحداث عام 1958، وما أن كانت الستينيات مرحلة خصبة للإنتاج التجاري المشترك مع مصر، حتي جاءت حرب الخامس من حزيران 1967، ثم كانت السبعينيات وتقلص نفوذ هذا الانتاج لتحل مكانه بعض المحاولات اللبنانية المتواضعة التي لم تلبث أن عطلتها قذائف الحرب في 13 نيسيان 1975” (ص18)
والغريب أن يتبنى صاحب الدراسة هذا التفسير، ولا يكاد يفطن أن مصر قد تعرضت هي الأخرى للحرب العالمية الثانية، فضلاً عن حروب خمسة مع إسرائيل وحلفائها، ومع ذلك لم ينقطع الانتاج السينمائي على أرضها رغم ما صاحب هذه الحروب من خطوب.
ومهما يكن من أمر، فثمة حرب تصلح تفسيراً لتلك الظاهرة، بل قل سبباً لاعتبار السينما على أرض لبنان- بشروط انتاجها الحالية – مغامرة محكوم عليها سلفاً بالإعدام.
وفي الفصل السابع والأخير من الدراسة وعنوانه “آفاق المستحيل” يجنح صاحبها إلى مزيد من اليأس..
فلبنان يشهد أحداثاً تصرف الانتباه عن التطلع إلى القضية القومية الكبرى، يتفتت، يقع فريسة افتعال نظريتي الخوف المسيحي، والغبن الإسلامي، يغرق في دوامة حرب أهلية بين الطوائف..
نهاية حلم
ومع هذا التمزق والتشتت وفقدان الأصل ومن هذا الواقع المتشرذم الأفاق، وعلي خريطته المبعثرة الأطراف، تورط سينمائيو لبنان في توازنات ومعادلات هذه الحرب القذرة. سقط رائدو السينما البديلة أو الأخرى في مستنقع “طوائفية المرحلة” عندما قاموا في أفلامهم برسم صورة للتفكك والتجزئة الطائفية في بنية لبنان على وجه كان لا مفر معه مثلاً من “ملاحظة مسيحية” “ثريا” في “حروب صغيرة” للمخرج “مارون بغدادي” أو شيعية “حيدر” في “بيروت اللقاء” وكذلك مسيحية البطلة وإسلامية البطل في “الانفجار” للمخرج “رفيق حجار”.
ومع بقاء “بيروت اللقاء” في علبه ورفض “حروب صغيرة” في منطقتي بيروت الشرقية والغربية، بدأ طغيان نجاح “الانفجار” في بيروت الغربية على نجاحه في بيروت الشرقية بمثابة نوع جديد من الانقسام المناطقي بالنسبة للفيلم اللبناني (ص104).
وإذا كان الأمر كذلك بالقياس إلى السينما البديلة أو الأخرى، فالسينما كلها على أرض لبنان سواء أكانت سائدة أم نخبوية أم توفيقية وقد اشتدت عليها أزمة تمزق المجتمع، وأخذتها الخطوب والأهوال من جميع وجوهها– هذه السينما قد انكشف أنها بدون بنية تحتية، بدون سوق لتصريف انتاجها .
وأي سينما بغير توافر هذين الشرطين مصيرها حتماً إلى الزوال، وذلك لأنه كما جاء بحق ختاماً للدراسة من العبث اختراق المستحيل بحثاً عن آفاق ليست سوى أوهام.

الدين في دنيا السينما

يكفي إلقاء نظرة على الواقع الفعلي في حياتنا الثقافية السينمائية، لنلحظ ندرة البحوث القائمة على أساس استطلاع أراء الجمهور في مصر فيما يشاهد من أفلام وعلى كل، فرغم هذا الاهمال، ثمة بحث في العوامل التي تجذب هذا الجمهور إلى الأفلام. أو تصرفه عنها نشرته المجلة الاجتماعية القومية في عددها الصادر في مايو 1974.
وأنواع الأفلام المصرية التي يرتادها المشاهدون وفقاً لما جاء في هذا البحث: قد جرى ترتيبها على النحو التالي:
الأفلام المؤثرة (بنسبة 60%)
أفلام المشكلات الاجتماعية (بنسبة 50.9%)
الأفلام الفكاهية (بنسبة 50.3%))
الأفلام التاريخة والدينية (بنسبة28.5%).
ومن الحق علينا أن نستخلص من هذه النتيجة أن الحاجة إلى الأفلام الدينية كبيرة، لاتنقضي، فأكثر من ربع المشاهدين يميل إليها، يقبل عليها، ويقول هل من مزيد.
ومما يدخل في باب العجب العجاب، أنه، ورغم هذا الاحتياج الشديد، فحتى بداية السبعينيات، كان عدد ما أخرج للناس على أرض مصر من أفلام عن الإسلام ستة أفلام لا تزيد.
الاختفاء لماذا؟
والأعجب أن الإسلام لم يدخل السينما عندنا إلا بفضل فيلم “ظهور الإسلام” (1951) المأخوذ عن قصة الوعد الحق للأديب “طه حسين”، أي بعد أن انقضى على صنع أول فيلم روائي طويل في مصر (ليلى 1927) خمسة وعشرون عاماً إلا قليلاً.
والأعجب من هذا العجب أيضاً أنه ولئن كان ظهور الإسلام قد حقق لمخرجه ومنتجه “إبراهيم عز الدين” من النجاح والأرباح ما كان سبباً في استغنائه نهائياً عن السينما وسيرتها– لئن كان ذلك كذلك- إلا أن أحداً من صانعي الأفلام عندنا لم ير في أحداث التاريخ العربي الإسلامي ما يستطيع أن يلهمه حين يكتب بلغة السينما.
حقاً نظر نفر منهم بين حين وحين إلى هذه الأحداث، واستخرج منها أفلاماً “كبلال مؤذن الرسول” لأحمد الطوخي (1953)، و”السيد أحمد البدوي” لبهاء شرف الدين (1954) و”خالد بن الوليد” لحسين صدقي (1958) و”شهيدة الحب الإلهي ” لعباس كامل (1962) و”رابعة العدوية” لنيازي مصطفى (1963) و”هجرة الرسول” لإبراهيم عمارة ( 1964) و”فجر الإسلام” لصلاح أبو سيف (1971) و”الشيماء أخت الرسول” لحسام الدين مصطفى (1972).
ولكن نظرتهم هذه كانت نظرة سطحية أضاعت ما لتلك الأحداث من جلال وتأثير.
الواقع والشعار
والغريب هنا أنه منذ عام 1972 وحتى يومنا هذا، توقف انتاج أي أفلام مستوحاة من أحداث الإسلام، وذلك رغم كثرة الكلام عن الأصالة والعلم والإيمان.
والأكثر غرابة هو جنوح رقابتنا في ظل هذه الازدواجية الخبيثة إلى منع فيلم “الرسالة” لصاحبه “مصطفى العقاد”، وجنوح أحد وزراء الثقافة والإعلام إلى تقليد السلف أيام الملكية بكل قلبه.. كيف؟
بأن قام بإصدار قرار وزاري تحت رقم 220 لسنة 1976 بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات حدد فيه المشروع والممنوع.
وكان من بين الممنوع بطبيعة الحال اظهار صورة الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة أو رمزاً أو صور أحد من الخلفاء الراشدين وأهل البيت أو سماع صوت أي منهم.
ولم يقتصر الممنوع على ما سلف بل انصرف كذلك إلى العشرة المبشرين بالجنة، حاظراً اظهار صورة أو سماع صوت أي واحد منهم.
عهد وميثاق
وهنا، قد يكون من اللازم والمفيد من باب المقارنة لا غير، أن نقف عند السينما في الغرب وتناولها للدين متى بدأ، وكيف؟
لو رجعنا إلى كتابي “الدين في السينما” للناقد “أيفان بتلر” و”فيما وراء الصورة.. اجتهادات حول البعد الديني في السينما” للناقد “رونالد هولودبي” لوجدنا أن الدين عند السينما في الغرب، وعند المتكلمين عنها هو إما العهد القديم أو العهد الجديد، ولا شيء آخر.
وأن عمر الدين في الفن السابع مواكب لعمر السينما، فما أن تحركت الصورة بفضل الأخوة “لوميير” على شاشة بيضاء بأحد مقاهي مدينة النور في الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 1985، حتى بدأ تهافت صانعي الأفلام على القصص الديني، بحيث اتسعت بحور السينما لكل ما هو مستوحى من التوراة، ومن عذابات السيد المسيح، ومن المعجزات وأساطير الأولين، إلى سير الوعاظ والمبشرين والرهبان والقديسين والقديسات الأحياء منهم والأموات.
عذراء الشاشة
وقصة الدين في السينما بدأت عام 1897 بالسيد المسيح وسيرته مستوحاة من مسرحية عن عذاباته، صورها “ماركو كلو” و”إبراهام ايرلانجر”.
ثم “بجان دارك” في العام التالي يخرجها “جورج هانو” ومن ملاحظات صاحب “الدين في السينما” أن حظ “عذراء اللورين” من الأفلام يفوق حظ أي شخصية تاريخية أخرى.
فلا أحد من مشاهير التاريخ ينافسها في عالم الأطياف سوى نابليون وراسبوتين الملعون.
وقد يكون من المناسب هنا أن أسوق سرداً تفصيلياً مستمداً من هذا الكتاب لأفلام القديسة الفرنسية، وأفلام الراهب الروسي، لعله يوضح مدى استغلال السير الدينية سينمائياً وحكمته سياسياً.
فمع بداية القرن العشرين (1900) أخرج “جورج ميلييس” فيلماً عن “جان دارك” عبارة عن “استعراض ضخم من اثنتي عشرة لوحة وخمسمائة ممثل يرتدون ملابس رائعة”.
وبعد ثمانية أعوام أنتجت كل من شركة “باتي” الفرنسية وشركة “شيني” الإيطالية فيلماً عن العذراء البتول.
وفي عام 1913 أعادت إيطاليا التجربة بفيلم من إخراج “نينو اوكسيليا” أدت فيه “ماريا جاكو بيتي” دور عذراء اللورين.
ثم تتقدم الأعوام شيئاً، وها هي الولايات المتحدة تعد شعبها لصدمة الزج به في أتون الحرب العالمية الأولى إلى جانب فرنسا، فتنتج هوليوود فيلماً عن العذراء المحاربة أخرجه “سيسيل. ب . دي ميل”. ومن بعد هذا الفيلم الذي أنتجه مصنع الأحلام في عاصمة السينما، مكثت العذراء بعيدة عن الشاشة البيضاء زهاء أحد عشر عاماً.
وذلك إلى أن كتب لها خلال عام 1928 أن تعود في واحد من أجمل أفلام الفن السابع بفضل “كارل دراير” المخرج الدنمركي الكبير ووجه “فالكونيتي” الممثلة الإيطالية التي أبدعت فخلدت طيفاً.
وما كاد يمر عامان على رائعة “دراير- فالكونيتي” حتى ظهرت العذراء من جديد في فيلم تحت اسم “القديسة جوان العذراء”.
ثم جاء دور الألمان، فانتجوا حول سيرتها فيلماً أسموه “جوان العذراء” (1935).
وتعيد هوليوود الكرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فتنتج هذه المرة فيلماً ملوناً فاشلاً عنها من إخراج “فيكتور فليمنج” وتمثيل “انجريد برجمان” التي قامت بأداء الدور في فيلم ثان من إخراج عشيقها رائد الواقعية الجديدة “روبرتو روسوليني” (1954).
وقبل ذلك بعام كان الفرنسي “جان ديلنوا” قد أخرج فيلماً من أجزاء ثلاثة ظهرت العذراء في الجزء الأول منها تمثلها نجمة فرنسا الأولى “ميشيل مورجان”.
فإذا ما مرت على عذراء “روسيلليني- برجمان” ثلاثة أعوام. اختار المخرج الأمريكي “اوتو برمنجر” الممثلة الناشئة “جان سيبرج” والتي جاءها الموت (1979) بالانتحار، اختارها لتؤدي دور “القديسة جوان” عن سيناريو كتبه الأديب الإنجليزي الشهير “جراهام جرين” مأخوذاً عن مسرحية الأديب الأيرلندي الساخر “جورج برناردشو” التي بنفس الاسم.
ثم جاء عام 1962 ليخرج “روبير بريسون”– وهو واحد من عمالقة الإبداع السينمائي في العالم– الفيلم الرابع عشر عن العذراء الشهيدة “محاكمة جان دارك”.
وكان خروج الفيلم الأخير إلى الناس إيذاناً باختفاء العذراء.
فمن بعده لم تظهر على الشاشات البيضاء.
أما “راسبوتين، جنس ودين” فقد بدأ ظهوره في السينما متأخراً عن “جان دارك” لأن العالم لم ينتبه إلى الراهب الفاسد إلا عام 1917، عام سقوط إمبراطورية آل رومانوف، وافتضاح الدور الذي لعبه راسبوتين بمجونه، وباسم الدين في هذا السقوط المدوي.
ففي عام السقوط هذا أخرج فيلم عنه تحت اسم “راسبوتين الراهب الأسود”.
وظل نسياً منسياً إلى أن تذكرته السينما السوفييتية عام 1929، فأخرجت عنه فيلماً صامتاً… من بعده تصدى الألمان لسيرته فتناولوها في فيلمين خلال عام واحد (1930).
ثم جاء دور هوليوود التي انتجت فيلماً “راسبوتين والقيصرة” مثله الأخوة “باريمور” (1933).
وغاب الراهب المفسد في الأرض عن الشاشات إلى أن أخرج عنه فيلم فرنسي مثله “بيير براسور” (1954).
وبعد ستة أعوام عاد إلى جمهوره في فيلم إيطالي “ليالى راسبوتين” ثم في فيلم أمريكي “راسبوتين الراهب المجنون” (1965) ليعقبه بعد عامين فيلمه التاسع “قتلت راسبوتين” الذي افتتح به مهرجان كان 1967.
ومرة ثانية ظل غائباً زهاء تسعة أعوام إلى أن عاد مع “نيقولا والكسندرا” ومع فيلم للمخرج السوفيتي “اليم كليموف” اسمه “أوجاع” ظل ممنوعاً من العرض داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه لسنوات طوال.
فكتابا الناقدين كلاهما حافل بالمعلومات عن الأفلام الستوحاة من العهدين القديم والجديد.
وهي معلومات يتضح منها أن اهتمام السينما الأمريكية بالعهد الأول يفوق اهتمامها بأي عهد.
وأن هذا الاهتمام زاد قبيل إعلان وعد بلفور وبعده.. وتفاقم بعد إعلان قيام دولة إسرائيل.
فقبل الوعد بقليل انتجت شركة فيتاجراف الأمريكية “ابنه يفتاح” و”سالومي” و”قضاء سليمان” و”شاءول وداود” و”حياة موسى” وأخرج “دافيد جريفيت” فيلمه “جوديث” الذي يعتبر باكورة الأفلام الضخمة المستوحاة من التوراة.
وكما انتجت شركتا “تنهاوزر” و”يونيفرسال” فيلمي “يوسف في أرض مصر” و”شمشون”.
وبعد الوعد انتجت السينما الأمريكية “سالومي” مرتين وفيلم الوصايا العشر من إخراج “دي ميل” (1923) و”سفينة نوح” (1930) و”المراعي الخضر” (1936).
وما أن ظهرت دولة إسرائيل إلى الوجود حتى أسرعت هوليوود إلى انتاج فيلم “شمشون ودليلة” للمخرج “دي ميل” (1949) وفيلم “داود وبتشيبا” (1951) و”خطايا جيزابيل” (1953) ومرة ثانية “الوصايا العشر” (1956) لنفس مخرجها أيام السينما الصامته وفيلم “سليمان وملكة سبأ” للمخرج “كنج فيدور” وفيلم “استر والملك” للمخرج راءول والش (1960) و”سدوم وعامورة” للمخرج روبرت الدرش (1961) و”التوراة في البداية” للمخرج جون هوستون (1966) و”الملك داود” (1985).
ولعل أخطر هذه الأفلام المستوحاة من العهد القديم هما “التوراة.. في البداية” و”الوصايا العشر”.
فالأول فيلم طموح يبدأ بالتكوين، وبطرد أدم وحواء من الجنة، ثم يمر مروراً عابراً على قتل “قابيل” لأخيه “هابيل” وعلى نمرود وهو يبني برج بابل متحدياً به السماء.. ثم على سفينة نوح، وهي تحمل من كل زوجين اثنين ليقف عقب انتهاء الطوفان وظهور حمامة السلام وقفة طويلة نهائية عند إبراهيم.. وقفة مليئة بالإيماءات إلى أن أرض إسرائيل تمتد وعداً إلى النيل.. بالتصريح والتلميح إلى أن هاجر أم إسماعيل أمة.. وأن سارة أم اسحق أميرة.. وهذا كله ابتغاء أن يترسب في عقل المتفرج أن العرب عبيد بلا أصل.. وأن اليهود أسياد اختارهم الله لتكون لهم الأرض ومن عليها.
أما الفيلم الثاني فيعتبر مكملاً لفيلم “التوراة” رغم أنه سابق عليه في الانتاج بحوالي عشرين عاماً.
و”دي ميل” مخرج “الوصايا العشر” صامتاً ثم متكلماً ملوناً، قد تناول قصة موسى وبني إسرائيل أثناء وجودهم على أرض مصر، ثم أثناء خروجهم منها– تناوله على وجه مشوه يراد به باطل، هو تصوير أهل مصر وكأنهم شعب منبوذ كتب عليه ذل العيش في أغلال العبودية لفرعون وقومه الظالمين إلى يوم الدين.
وهذا السبيل الذي سلكه “دي ميل” لا يثير دهشة أحد، فالتاريخ ليس من الأمور التي يهتم بها ويهتز لها، آية ذلك أنه لما اعترض النقاد على استعمال اسم الأميرة “نفرتيري” أو “نفرتيتي” في “الوصايا العشر” رغم أن التاريخ يقول أن هذه الأميرة عاشت في غير عصر “موسى”، لم يعر اعتراضهم التفاتاً.
وزاد من حيرة نقاده حين قال في استهتار فاضح أن ثمة أميرتين بهذين الاسمين، يفصل بينهما قرن ونصف من عمر مصر القديمة، وأن الأميرة العاشقة “آن باكستر” لنبي فيلمه “شارلتون هستون” هي نفرتيري ونفرتيتي في آن واحد.
وهذا التحريف والتشوية ليس بغريب على صاحب الوصايا العشر فإن من يقرأ سيرته ليدهش لغروره وجرأته على الحق ونفاقه الظاهر.
فهو دائم الزهو والتباهي بالحيل السينمائية التي استعملها مرة أيام السينما الصامتة في جواد لوب، ومرة ثانية أيام السينما المتكلمة من “أبي رواش” بالبحر الأحمر لتصوير هذا البحر، وهو ينفلق كالطود العظيم لينجو موسى ومن معه أجمعين ثم يغرق الله الآخرين أي فرعون ومن معه من الجنود المصريين، ممتنع عن افشاء سر هذه الحيل، وكأنها سر إلهي أوحى به إليه، ولن يوحى به إلى أحد سواه.
مجمع الأديان
وهو ممتنع كذلك عن ذكر اسم الممثل الذي نطق كلمات الرب إلى موسى بالوصايا العشر في سيناء، لا لشيء إلا لاحساسه بما يجب لهذه الكلمات من توقير وتبجيل.
وهذا النفاق له أصول تاريخية تبين من قراءة الباب الذي خصصه صاحب “الدين في السينما” للمسيح في دنيا الأطياف.
فـ”دي ميل” يقوم خلال عام 1927 بإخراج فيلمه عن المسيح “ملك الملوك”.
وهو كعادته ينظم حملة دعائية يزعم فيها ضمن ما يزعم أن اليوم الأول للتصوير بدأ بصلوات أداها ممثلون للمسيحية واليهودية والإسلام والبوذية!!
وأن الفيلم يجري تصويره في حضور رجال من “الجيزويت” واتحاد مجلس الكنائس لأخذ رأيهم في كل صغيرة وكبيرة.
وأن مسئولية موت المسيح قد ألقيت على “كايفاس” بدلاً من “يهوذا” مراعاة لشعور اليهود.
فضلاً عن أن “وارنر” ممثل دور المسيح لا يكلم– وهو مرتدياً ثوب المسيح- أحداً سوى المخرج ولا يتناول وجباته في حضور أحد.
هذا إلى أن صلوات أقيمت أمام مشهد الصلب الذي روعي أن يكون تصويره ليلة عيد الميلاد.
ورداً على هذا النفاق الأمريكي الزائد– وبعد حوالي أربعين عاماً– أخرج الفنان الإيطالي “بيير باولو بازوليني” الذي مات مقتولاً (1975) فيلماً روائياً قصيراً اسمه “جبنة بيضاء” (1963) عرض فيه لحقيقة تصوير مشهد الصلب في السينما… وهي حقيقة بعيدة كل البعد عن ادعاءات صاحب “ملك الملوك”.
فأدوار القديسين والقديسات يقوم بأدائها ناس من الناس يأكلون ويشربون.. يلهون ويهرجون أثناء التصوير.
ودور اللص التائب المصلوب إلى جوار المسيح “اذكرني يا رب إذا جئت في ملكوتك” يقوم بأدائه في “جبنه بيضاء” ممثل “كومبارس” عاطل جائع يداعبه زملاؤه المشتركين معه في تمثيل المشهد الحزين مداعبات غليظة.
وهو من فقره وجوعه يلتهم خلسة كميات هائلة من الجبن تؤدي إلى تخمة، تنتهي به إلى الموت على الصليب أمام المخرج “اورسون ويلز” داخل الفيلم.. وبجوار المسيح الذي لا يموت.
ولما في هذا الفيلم من قسوة كاشفة منع عرضه في إيطاليا، وهدد مخرجه بالسجن، وأخيراً عوقب بأربعة شهور حبس مع وقف التنفيذ. وهذه العقوبة ثم مصرع “بازوليني” بعدها بأحد عشر عاماً دليل ما بعده دليل على أن الدين في السينما باق كما هو.. باق كما يريده مصنع الأحلام.. ولأجلٍ طويل.. طويل .