مهرجان القاهرة.. عنف وحرية ووعي بأهمية السينما

شاءت الأقدار لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي العاشر الذي جرى افتتاحه تحت شعار “الفن يحتاج إلى الحرية، بقدر ما تحتاج الحرية إلى الفن”، شاءت له أن تستهل عروضه بنسخة مستهلكة لفيلم قديم له من العمر ثمانية أعوام أو يزيد.

فما هو الفيلم الذي جرى اختياره بالخروج على أصول وتقاليد توجب افتتاح عروض أي مهرجان متصل بالفن السابع، بفيلم جديد يكون له دويّ شديد؟

إنه “صرخة النساء” أحد أفلام المخرج “جول داسين” زوج وزيرة الثقافة اليونانية في حكومة باباندريو الحالية، وضيفة شرف المهرجان “ميلينا ميركوري” وفوق هذا بطلة الفيلم حيث تلعب دور ممثلة “مايا” تعاني من العجزعن تقمص شخصية “ميديا” على خشبة المسرح، تلك الشخصية التي أبدعها خيال الشاعر اليوناني التراجيدي “أوريبيديس” في النصف الثاني من القرن الخامس السابق على الميلاد، مستلهماً مأساتها من خرافة “جاسون” و”ميديا” في مسرحية هذا الشاعر الكبير تعيش مع طفليها في بلاد الغربة “كورينث” مهجورة من زوجها “جاسون”، هذا الزوج الذي ما أن رأته في وطنها الموحش البعيد “كلوخيس”، حتى غمرها إحساس ثائر، استولت عليها عاطفة جارفة، لم تستطع معها إلا أن تخون أباها ملك “كلوخيس”، وذلك بأن هيأت لمن تسلل حبه إلى أعمق أغوار قلبها سبل الاستيلاء على الفروة الذهبية التي ترجح ألف كنز، ثم الفرار بها مستصحباً إياها إلى أرض اليونان في “كوريث” حيث تجري أحداث المسرحية التي تبدأ بخبر أن “جاسون” قد خان العهد، مقرراً الزواج من ابنة ملك “كورينث”.
غرام وانتقام

وما يكاد يعلن عن خطبته، حتى يجن جنون “ميديا” التي أسودت الدنيا في عينيها، هالها نكرانه لجميلها.

وبعد طول معاناة وتفكير استقر قرارها على القتل، في البداية فكرت في التخلص من أعدائها الثلاثة المتسببين في محنتها، “ثلاثة جثث في يوم واحد.. الأب، الخطيبة، وزوجي”.

واشتعل الخيال، رأت نفسها تحرق أو تتسلل إلى غرفة الزوجين رافعة الحسام.

ومع هذه الخيالات صاحت الجوقة “دقت ساعة انتصارالنساء”!!

ولكنها بعد الالتقاء “بجاسون” تكشف لها أنه لا يؤمن بشيء، يتكلم لغة السفسطائيين، ينطق بأكثر الكلمات قدسية الحب، الوفاء، العدالة بغير اكتراث، وبوقاحة منقطعة النظير.

فهو يُبرر زواجه الثاني بالحب الذي يكنّه لطفليه منها بما سيجنيان من ثمار المصاهرة الملكية، المال والتعليم الرفيع.
عرقوب أخيل

والأهم تكشّف لها موطن الضعف فيه، فهذا الرجل الأناني الذي لا يحب إلا نفسه، قد زلّ لسانه بكلمة افصحت عن تعلقه بحب طفليه منها.

وفي هذا الافصاح غير المقصود كان هلاكه، كان عرقوب أخيله الذي أتاح لميديا أن تطعنه في مقتل، أن تتحول بنصره عليها مؤقتاً إلى هزيمة نكراء.

فقد عزمت على توجيه ضربة وحيدة فيها القضاء على “جاسون” كل القضاء فكان أن دست إلى أميرة “كورنيث” السم الزعاف في هدايا حمّلتها طفليها إليها، وعقب ذلك شحذت سكينها ثم أجهزت بها على ولديها منه، وهي تتوجع وتئن.

صرخات وهمسات

وعلى كُلٍ فللخروج في الفيلم من مأزق العجز عن تقمص شخصية هذه المرأة التي تغّلب فيها شيطان الانتقام على الإرادة… على قلب الأم، ارتأت “مايا” أن من الواجب عليها، أن تذهب إلى السجن حيث توجد امرأة انجليزية “برندا” (ايلين بيرستين الحاصلة على أوسكار أحسن ممثلة 1974) وراء القضبان متهمة بقتل دفع صحف اليونان إلى إطلاق لقب “ميديا جلانيادا” (مكان وقوع الجريمة) عليها ، في محاولة منها للالتقاء بها كي تعرف منها لماذا- بعد أن غدر بها زوجها- قتلت أطفالها منه، ثم حاولت الخلاص من هذا العار بالانتحار.

ولم ترفض “برندا القاتلة” الالتقاء بها لأنها كانت- في غربتها- وحيدة، في أشد الاحتياج للتعبير عمّا يجيش في صدرها، وبخاصة أنها لا تجيد الحديث إلا بالانجليزية في بلد لا يتكلم أهله سوى اليونانية.

وسرعان ما تولد بين المرأتين شيء أشبه بالصداقة “فمايا” قد انجذبت إلى براءة هذه المرأة المتهمة، والتي كان هدوءها الظاهر يخفي ناراً حارقة، تأتي عليها.

وطبعاً، كان لابد من كل فن “بيرستن” وما تتمتع به من قدرة مذهلة على اتقان الأداء، كيما يستطيع المتلقي أن يتبين أن تلك الانجليزية المنتمية إلى الطبقة الوسطى ليست- ورغم ملامحها العصرية المألوفة- إلا “ميديا” بطلة المأساة اليونانية المعروفة.

وطبعاً كان هذا الاكتشاف بالنسبة “لمايا” إلهاماً ساعدها على تقمص شخصية “ميديا” على خشبة المسرح بنجاح فاق كل التوقعات.

فالتجربة الحية التي مرت بها- من خلال لقاءاتها المتكررة مع “برندا” أدت إلى تفجير طاقات التعبير الكامنة فيها، إلى انماء ما تحمله بين جوانحها من رومانسية وذكاء ورقة شعور، على وجه ارتفع بأدائها إلى مستوى رفيع فيه كثير من الفهم لمأساة “ميديا”.

ومهما يكن من أمر هذا البناء الدرامي المعقد بعض الشئ، فقد أتاح لمخرج الفيلم- الذي هو في نفس الوقت كاتب السيناريو والحوار- فرصة العرض لبعض ما يواجه المرأة المعاصرة من مشاكل، من بينها حسب قول صاحب الفيلم “المخاطرالتي تركبها المرأة عندما تبني حياتها في كل صغيرة وكبيرة حول الرجل، والعنف الذي يمكن أن يتولد عندما تقع خيانة لتلك الثقة العمياء”.
إغراء العنف

وفي الحق فهذا العنف العنيف الذي أحسسنا به صارخا في “صرخة النساء” تراه متكرراً فيما تلاه من عروض لأهم أفلام المهرجان، وبالذات ما كان منها متعلقاً بالمرأة ومشاكلها، وما أكثرها “فحدث في أمريكا” لصاحبه المخرج الإيطالي “سيرجي ليوني” يبدأ بمشهد لامرأة تعود إلى شقتها حيث تواجه ميتة رهيبة تنحبس لها الأنفاس برصاصات غدارات ثلاثة من عتاة الإجرام.

و”موناليزا” للمخرج والأديب الإنجليزي “نيل جوردان” ينتهي بمشهد “سيمون” (كاتي تيسون) الغانية السمراء، وهي تطلق الرصاص على نفر من تجار المسحوق والرقيق الأبيض، فإذا بالدماء وأجزاء من أجسامهم متناثرة، ملتصقة بالأرض والجدران.

و”بتي بلو” ثالث أفلام المخرج الفرنسي غير الواعد “جان جاك بينكس” تتناثر فيه مشاهد العنف بالجنس، حتى إذا ما اقترب من النهاية آثرت بطلته “بتي” (بياتريس دال) أن تقتلع بيدها إحدى عينيها، وآثر بطله “ذورج” (جان هوج انجلاد) أن يخلصها من حياة كلها همّ وغمّ، بقتلها في المستشفى خنقاً بكتم أنفاسها تحت الملاءة على طريقة فيلم “طار فوق عش المجانين”.

“والحياة والموت في مدينة الملائكة” آخر أفلام المخرج الأمريكي “ويليم فريد كين” يستهل بمشهد لإرهابي ملغم الجسم، معلق بحبل خارج الفندق الكبير حيث يقيم رئيس جمهورية الولايات المتحدة.

وفي لحظات تنطلق رصاصات من غدارة أحد حراس الرئيس، فإذا بالإرهابي المعلق منفجراً في الهواء، لم يبق منه شيء.

وبعد هذه اللقطات السريعة، تظهر عناوين الفيلم ثم تعقبها أحداث عنف لاهث، قاطع للأنفاس، يذهب ضحيته الرجال والنساء على حدٍ سواء.

و”جوانزا حامل الرمح” فيلم المخرج الياباني “ماساهيرو شينودا” المستوحى من إحدى مسرحيات “مونزايمون شيكاماتزو” شكسبير بلاد الشمس المشرقة- وهو واحد من أجمل أفلام المهرجان، بل لعله أجملها ينتهي بمشهد على جسر حيث نرى بطلي الفاجعة الساموراي “جونزا ساسانو” والسيدة المتزوجة “اوزاء” المتهمين زوراً وبهتاناً بالزنا، وهما يذبحان ذبح الشاه عقاباً وثأراً للشرف المهان.

و”أجسام غريبة” للمخرج الأمريكي “جيمس كاميرون” بطلته رائدة الفضاء الحسناء “سيجورني ويفر” تقود الرجال والنساء إلى كوكب مسكون بحثاً عن كائنات مفترسة كانت سبباً في هلاك كل من كان معها من الزملاء أثناء رحلة سابقة في الفضاء.

وهي في رحلتها الثانية أميرة انتقام “رامبوليتا” تنتصر وحدها على الأعداء. وبعد أهوال قضت على كل رفاقها، تعود إلى الأرض مصطحبة طفلة عثرت عليها تائهة بين أطلال الفضاء.

وطبعاً كل هذا مرصع بمشاهد عنف يخلع القلوب، من بينها ذلك المشهد الغريب القريب من نهاية الفيلم حيث ينقسم جسم آخر الرجال الأحياء من طاقم سفينة الفضاء بفعل إحدى الكائنات الغريبة التي لا نعرف من أين تأتي، وإلى أين تذهب، فإذا به شطران أحدهما الحامل للرأس والصدر والأمعاء يسعى في أرض السفينة وكأن صاحبه من الأحياء.

و”نسور القانون” لصاحبه “ايفان ريتمان” المخرج المنحدر من أصل تشيكوسلوفاكي، يبدأ الفيلم كوميدياً اجتماعياً شبيهاً “بضلع أدم” ذلك الفيلم الراقي الذي مثلته “كاترين هيبورن” مع النجم الراحل “سبنسر تراسي” قريباً من نهاية العقد الرابع من القرن العشرين.

وفجاة يتحول فيصبح فيلماً زاخراً بمطاردات وانفجارات وحرائق تلتهم الأخضر واليابس، تهدد تارة حياة بطليه “روبرت ردفورد” و”دبراونجر” وتارة حياة المتهمة الحسناء “داريل حنا” وتارة ثالثة لوحات زيتية تقدر قيمتها بالملايين.

صقور الصحافة

وحتى فيلم جاد “كقلب يحترق” لمخرج المسرح والسينما “مايك نيكولس” صاحب “الخريج” و”من يخاف فيرجينيا وولف” و”سيلكوود”- حتى هذا الفيلم وموضوعه منقطع الصلة بالعنف قد جاء متضمناً مشهداً فيه شيء من العنف.. كيف؟

من المعروف أن “قلب يحترق” مأخوذ عن قصة حكت فيها “نورا افرون” الصحفية وكاتبة سيناريو الفيلم ملابسات فشل حياتها الزوجية مع “كارل برنشتين”، ذلك الصحفي الذي كانت تحقيقاته مع زميله “وود ورد” في “الواشنطن بوست” حول جريمة التنصت على المعارضة بفندق “ووترجيت” سبباً في طرد نيكسون من البيت الأبيض بمصير أسود.

وهي في القصة، ومن بعدها الفيلم الذي تغير اسمها فيه من “نورا” إلى “راشيل” (ميريل ستريب)، تحكي كيف وقعت في حب “كارل” الذي تغير اسمه إلى “مارك” (جاك نيكلسن)، كيف تزوجت، حملت ثم أنجبت منه طفلة.

وأخيراً عند اكتشاف خيانته لها، كيف غضبت عادت ثم اختارت في النهاية طريق القطيعة والانفصال، فكان أن تركته مع طفليها منه غير آسفة على شيء.

واضح إذاً أن “قلب يحترق” فيلم ناعم، يتناول بأسلوب رومانسي قصة حب بين رجل وامرأة من صقور الصحافة، انتهت بعد معاناة مرارة الغيرة والاصطلاء بنارها المحرقة، في هدوء وسلام ومن هنا استبعاد وجود عنف في فيلم اجتماعي رقيق كهذا يعرض لعلاقات بين زوجين انتهت كما بدأت دون أيّة مفاجآت مثيرة تستوجب اللجوء إلى الغدارات وما شابهها من أدوات الهلاك ومع ذلك لم يستطع صاحب “قلب يحترق” مقاومة إغراء العنف، حشره حشراً في مشهد للبطلة أثناء وجودها غاضبة في نيويورك بعيداً عن عش الزوجية في واشنطن.

فدون مقدمات يقتحم عليها الشقة وهي في رفقة بعض الأقارب والأصدقاء، لص شاهراً غدارته، طالباً من الحاضرين ما قد يكون معهم من أشياء غلى ثمنها وخفّ حملها.

وعلى كُلٍ، ورغم هذا المشهد الدخيل، فإنه مما يُحسب “لينوكلس” أن فيلمه- وعلى عكس “بعد ساعات العمل” رائعة “مارتين سكورسيزي”التي عرضت في المهرجان- قد جاء خالياً تماماً من دماء حمراء تراق وجثث مبعثرة هنا وهناك- وهذا ولا شك أمر محمود في السينما المعاصرة التي ليس لها من غذاء سوى العنف المتصاعد.

والحديث عن نورا أو سارة بطلة “قلب يحترق” وزواجها الذي انتهى نهاية غير سعيدة يسحبنا إلى الوقوف قليلاً عند فيلمين من أفلام المهرجان يعرضان لشقاء المرأة، ولكن من منطلقين مختلفين.

غادة الكاميليا

أولهما “الترافيانا” أو “المرأة الضالة” لمبدعهما الموسيقار الإيطالي الشهير “جيسيي فيردي”.

والفيلم المستوحى من هذه الأوبرا أخرجه “فرانكو زيفريللي” الذي استطاع أن ينجو به من عبودية المسرح، فلم يجعله مجرد أوبرا مصورة، وإنما جعله فيلماً أوبرالياً متحرراً من الجمود، محلقاً دون قيود.
فمنذ اللقطات الأولى المصاحبة للعناوين، وهي لقطات صامتة صمت القبور، ونحن مع كاميرا حزينة في سماء رمادية كابية تطل على باريس عابسة غضوب، تنساب بنا فوق كنيسة نوتردام ونهر السين، تمر بشوارع وبيوت شبه مهجورة حتى تتوقف عند بيت كبير ندخله معها، وفي رفقة نفر من عمال وأشباح كالغربان.

رياش وتحف مبعثرة هنا وهناك في الممرات والقاعات، لوحات وأشياء أخرى ثمينة يحملها عمال تراقبهم عيون محضرين لا تنام.

ومثلما دخلنا البيت تدخل مقدمة فيردي الموسيقية رقيقة متهادية كالحلم حتى تصل بنا إلى غرفة حيث نرى “فيوليتا” مريضة مستلقية على أريكة تحارب وحدها الوجع، تسمع الأصوات، فتنتفض كمن أفاق من كابوس، تتدثر بثوب وتخرج إلى الممر حيث العمال والغربان.

كل ما حولها أشياء جامدة، بليدة، مغلفة بظلال زرقة مجهدة تعكس نهاية رحلة عمر.

وما هي إلا لحظات حتى تلتقي عيناها بعيني فتى جميل مفتون بها، يقف أمامها مبهورا.

ويبدأ شريط الذكريات

الآن، والآن فقط تختفي من أمامنا الزرقة الكئيبة، لنبصر بدلاً منها الألوان التي نشتهي. ألوان الأحمر والأصفر والبني تتزاحم من مزيجها خيالات جو أعياد وأعراس ومهرجانات.

ثمة حفلة زمنها القرن الماضي في عهد الإمبراطورية الفرنسية أيام العز.

ومع ذلك فثمة لمسة حزن سرعان ما تتحول مع الأحداث إلى غمامة تمطر همّاً.

وهكذا وبفضل لقطة سينمائية من أجمل لقطات استرجاع الماضي “فلاش باك” نرى “فيوليتا” (تيري سراتس) متوردة الوجنات، في حالة استنفار وتوقع.
نهاية

إنها تحس داخها باحساس غريب يهز كيانها، يحدث خلخلة في الأشياء من حولها، هل هي حمى الحب؟

إنها في حيرة من أمرها، هل تعيش امرأة وحيدة ضائعة في تلك الصحراء المزدحمة المعروفة عند الرجال بمدينة النور؟ أم تودع حياة اللهو واللعب من أجل الحب من أجل “الفريدو” (بلاسيدو دومنجو)؟ إنها متوجسة خيفة، وكيف لا والحب عند مثيلاتها انكسار وسقوط في هاوية المجهول.

وطبعاً، وكما هو معروف، تسمع نداء الحب، تستسلم له وتضحي من أجل “الفريدو” بكل شيء، حتى بحبها له إنقاذاً منها لاسم أسرته وسمعته.

وغني عن البيان أن تضحيتها هذه لا يكتشفها الحبيب إلا بعد فوات الأوان وها هي الزرقة الكئيبة تعود فتغطي المكان و”فيوليتا” كما في البدء نسمع أصداء الموت في صوتها ونراه على وجهها.

فإذا ما دخل عليها الحبيب، نهضت ، حاولت ألا تظهر له شيئاً مما تعاني، مرددة معه لحناً من نشيد السكينة الأبدية، حتى إذا ما اقترب الموت صحت مع صحوته، كأنها الحياة تعود.

ومن بعد أن تنطق بالكلمات الأخيرة تتهاوى، وقد انعتقت روحها من الأرض ومتاعبها.

نكبة الفراق

أما الفيلم الثاني فهو “اللون أرجواني” للمخرج المعجزة “سيتفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” و”أي تي” و”انديانا جونز” وقد استوحاه من قصة المؤلفة السوداء “اليس ووكر” تلك القصة المتوجة بأهم جائزتين للأدب في الولايات المتحدة “بوليتزر”و”الكتاب الأمريكي” (1983).
والفيلم الذي نحن بإزائه يعتمد كما القصة على شخصيتي الشقيقتين”سيلي” (ووبي جولد برج) و”نيتي” (اكوساوا بوزيا).

وهو يبدأ بهما في الشتاء(1905) بين مروج بهية تغطيها زهور أرجوانية في الجنوب الأمريكي حيث يستعلي البيض على السود.

إنهما تلهيان، تلعبان بين الزهور، تضحكان، تنشدان الحب الفريد الذي في القلوب منذ الطفولة “انا انت. لن نفترق أبداً” ولكن سرعان ما يفرق الزمان بينهما.. ولو إلى حين “فسيلي” يبيعها زوج أمها التي ماتت مجنونة إلى أرمل غليظ القلب “السيد ألبرت” (داني جلوفر) لتكون شريكة حياته بالإكراه بدلاً من زوجته التي ماتت مقتولة، تاركة وراءها أطفالاً مشاغبين.

أما “نيتي” الأخت الصغرى فهي الأخرى لم تتح لها فرصة الاستقرار طويلاً مع زوج أمها، فالقلق والاضطراب ومخافة العار كل ذلك اضطرها في ربيع (1909) إلى الفرار حيث تعيش أختها “سيلي” أسيرة حياة زوجية ما أكثر التعرض فيها للذلة والهوان، وبحكم أن حظها من العلم والحكمة كان أكثر بكثير من حظ أختها الكبرى، فقد عملت على تعليمها القراءة، وتحريضها على الثبات لزوجها الفظ ومقاومة الاستبداد.

ورغم أن “سيلي” كانت مبغضة أشد البغض لهذا الزوج فإنها كانت مقصوصة الجناحين، ضعيفة مذعنة لعبث أقدار لا مردّ لها، ولا مصرف عنها..
وطبعاً ما كان لنيتي أن تطيق هذه الحياة الممتلئة بالخطوب والاستسلام.

لقد صدت “السيد زوج أختها” صانت كرامتها واستمسكت بالإباء، فكان أن طردها شرّ طردة، محدثاً بذلك فراقاً بين الأختين دامت لوعته نحو عشرين عاماً.

وفي صيف 1916، ومن كينيا بأفريقيا حيث سافرت “نيتي” بعثت برسائل إلى أختها التي لم تعرف عنها شيئا لأن “السيد” لجأ إلى وسيلة لا تخطر على بال ، احتجز الرسائل، أخفى أمرها عن زوجته.

وهكذا أصبحت “سيلي”- وقد انقطعت أخبار أختها تماماً- مغتربة، مثقلة القلب بالهموم، تساورها خيالات موت الأخت، تكابد الحياة والناس وحيدة، تشكو ما كان من أمرها في هذه الدنيا إلى السماء.

وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة (ولاية كارولينا الشمالية)، ومظاهر مؤسية من فساد الأزمنة والعلاقات، انطوت تسعة أعوام من عمر “سيلي” تمثلها خلالها كل من حولها نقية شفافة شفيقة، صبورة على الآلآم.

ومرت خلالها أحداث لكل منها تـأثيره على نمو وعيها فيما هو آت من أيام، كان من بينها الإلتقاء “بشوج” (مارجريت اتيري) تلك المغنية الشهيرة التي لم يكن يشغلها من شئون الحياة غير إرضاء نزعاتها الفنية.

ورغم أن الاختلاف بين هاتين المرأتين كان بعيداً إلى أقصى غايات البعد، فإنهما التقيتا في شيء واحد.
فقد بات صوت شوج أعزب الأصوات عند “سيلي” وبات لها في عيني “شوج” الواسعتين أمر بغير قرار من المحبة.

الكيد العظيم

وفي ربيع 1936، تشاء الصدف أن تعثر “شوج” على رسالة موجهة من “نيتي” المقيمة في أفريقيا إلى “سيلي” فات على السيد زوجها إخفاؤها وهنا تشترك المرأتان في تفتيش غرفة “السيد” أثناء غيابه بحثاً عن رسائل أخرى.

وينتهي بهما البحث إلى العثور على عشرات من الرسائل تحكي فيها “نيتي” اكتشاف القارة السوداء، وحياتها مع آل “شاموئيل” وطفليهما بالتبني.

وبعد هذا كله، فما أريد أن اكشف موقف “سيلي” من زوجها “السيد” إثر اكتشافها واقعة إخفائه رسائل شقيقتها زهاء عشرين عاماً من عمر الزمن.

وما أريد أن ألخص النهايات والمفاجآت السعيدة التي يزدحم بها الفيلم وهو يقترب من الختام.

كل ما أريد أن أقوله أنه ما أسرع الانغماس مع “اللون أرجواني” في الحياة الأمريكية كما تعيشها الطبقة المتوسطة السوداء، حتى كأن المتفرج يحياها مع أصحابها، لا إنه يشاهد أحداثها، وصورها أطيافاً على شاشة فضية.

وهذا وحده كاف للثناء على أول فيلم جماهيري جاد “لسبيلبرج” وذلك رغم هفوات النهايات السعيدة.
المهرجان الوليمة

وبعد فالأكيد أن المهرجان قد ساهم بما عرض من أفلام جاءت القاهرة من القارات الستة.. من الوطن العربي، من السويد شمالاً إلى استراليا جنوباً، من الأرجنتين وكندا غرباً إلى الهند واليابان شرقاً، ساهم في النهوض بوعينا السينمائي والأكيد.. الأكيد أنه دلنا إلى أهمية الكلمة البلسم.. الكلمة الوحي والواحة في الفن.. الحرية.

السينما في مفترق الطرق

قبل أن يلملم  عام  1986 أطرافه ويختفي في العدم جاء “شادي عبد السلام” الموت في الثامن من أكتوبر، وهو في الستة والخمسين من سنيه، ليغادر الأرض مخلفاً فيلماً روائياً طويلاً واحداً من إخراجه على امتداد عشرين عاماً إلا قليلا، ومشروعاً لفيلم ثان يحكي مأساة عمرها ثلاثة آلاف عام أو يزيد.. حياة اخناتون الفرعون الكافر.
هذا المشروع الذي استهلك خمسة عشر عاماً قضاها صاحب “ليلة حساب السنين” في صنع المجوهرات، الصولاجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية، في إعادة البناء والرسم للمعابد التي لم يعد لها وجود، وللمقابر التي اغتصبت، جردت من محتوياتها الشيقة النفيسة منذ أمد بعيد.

كل ذلك جرى من أجل أن يبعث اخناتون الفرعون الذي خرج على دين الآباء والأجداد، كي يقيم عبادة جديدة عمادها تقديس قرص الشمس، وتكريسه إلهاً واحداً لا شريك له.

كل ذلك بُذل من عرق ودم وهمّ ليرتطم بجدار الأفق المسدود.

الجريمة لا تفيد

وما كادت تنقضي عشرة أيام على رحيل حكيم السينما عنا في هدوء كما عاش في وادينا هادئاً رقيقاً كالنسيم، حتى روع الوسط الفني بخبر مقتل نيازي مصطفى رائد السينما في مصر وشيخ مخرجيها، وهو في الخامسة والسبعين من العمر، ليترك المعترك مخلفاً مائة واثنين وخمسين فيلماً آخرها “التوت والنبوت” المأخوذ عن الحكاية التي تنتهي بها حرافيش “نجيب محفوظ” والتي نراها في الفيلم، وقد تحولت إلى زعيق وخناقات وضرب بالنبابيت، وامرأة يلهث وراءها رجالات الحارة وفتواتها، وغانية وخواجة يلهثان صباح مساء وراء زين الفتوات “سمير صبري” !!، وكذلك مشروعاً لفيلم اسمه “القرداتي” (فاروق الفيشاوي) شاءت الأقدار للمخرج القتيل ألا يرحل دون أن يكمله بتصوير آخر لقطاته، تاركاً أمر التوليف للخلف المستفيد من كل الضجيج والعجيج والأضواء الذي لابد أن يصاحب حادث قتل وتمثيل بجسم نجم له في سماء سينما الشباك شأن كبير.
حيرة وضياع  

ولو حاولنا أن نسترجع ما جرى للفن السابع في ديار مصر قبل الثامن من أكتوبر وبعده، لوجدناه في حالة جزر يثير القلق.

فأي متأمل لحصاد 1986من الأفلام المتسمة بالجدية أو المصطنعة لها يلاحظ عليها:

أولاً: أنها بالنسبة لرقم الأفلام التي عرضت خلال العام- وهو قياسي- قليلة جداً، فهي لا تزيد على عشرة أفلام بدأت بفيلم “للحب قصة أخيرة” لرأفت الميهي ثم “سعد اليتم” لأشرف فهمي “فقفص الحريم” لحسين كمال و”الطوق والأسورة” لخيري بشارة ” و”مشوار عمر” لمحمد خان و”البداية” لصلاح أبو سيف و”الجوع” لعلي بدرخان و”اليوم السادس” ليوسف شاهين” و”عودة مواطن” لمحمد خان وأنتهت “بآه يا بلد آه” لحسين كمال.

ثانياً: إنها في معظمها تتعامل بأسلوب بال عفا عليه الزمن، ومع موضوعات قديمة طرقت من قبل كالضياع والفساد والاستبداد وشقاء المرأة والفقراء إلى غير حد، وانتشار التنافس والتباغض والاحتيال إلى آخر هذه الرذائل التي تتكشف عنها الطبيعة الإنسانية حين تلم بها الخطوب، وتلح عليها الكوارث باختصار لم تسع بحثاً عن آفاق جديدة عن أحلام ترفض الاستسلام، تصعد بنا قليلاً لنبصر.

ثالثاً: أنها، فيما كان منها مأخوذاً عن أعمال أدبية كـ”قفص الحريم” والطوق والأسورة” و”الجوع” و”اليوم السادس”، إما قد خانت أمانة الرؤية الصادقة لهذه الأعمال، أو أسرفت في الاصطناع والتعقيد لتفاصيلها، أو تحولت بها من مرآة للحياة إلى كاريكاتور زائف لها.

رابعاً: إنها في غالبيتها لم تشف غليلاً، لم تطفئ ناراً ملتهبة في القلوب لم تثر اهتماماً ولو كان قليلاً، لم تظفر بنجاح جماهيري ولو كان ضئيلاً، وكما جاءت ذهبت دون أن تترك أثراً له وزن على مسار السينما في الوطن العربي.

الطوفان.. لماذا؟

ولعل الفشل المذهل الذي كان من نصيب الجوع يستلزم وقفة قصيرة عنده بالذات، في محاولة منا لإلقاء بعض الضوء على أسباب الفشل المزلزل الذي واجه أفلام العام بوجه عام.

في اعتقادي أن “الجوع” فيلم أتيح له من فرص النجاح ما لم يتح لفيلم آخر جاد منذ أعوام.
فمخرجه “علي بدرخان” صاحب “الحب الذي كان” وأفلام أخرى ظفر بعضها بإعجاب الكثير. ونجمته “سعاد حسني” مشهود لها بحضور على الشاشة آسر ساحر للقلوب. ونجمه “محمود عبد العزيز” له في التمثيل منزلة رفيعة لا يرقى إليها إلا القليل الموعود. ومصمم ديكوراته وأزيائه “صلاح مرعي” ذلك الفنان المرموق الذي لعب دوراً كبيراً في النهوض بالمومياء.

وفوق هذا فهو مستوحى من إحدى حكايات “الحرافيش” للأديب “نجيب محفوظ” وبالتحديد الحكاية التاسعة.

ومع ذلك، فما نكاد نمضي في مشاهدته، حتي يدركنا شيء من خيبة الأمل.. لماذا؟

الأصل والصورة

من المعروف عن حرافيش الأديب الكبير أنها ميلودراما صارخة من عشر حكايات، أولاها “عاشور الناجي” تنتهي به فتوة للحارة دون منازع، مقيماً فتوته على الأصول، ناشراً العدل والكرامة والطمأنينة.

فإذا ما اختفى ولم يعثر له على أثر في بداية الحكاية الثانية “شمس الدين” لم يتوقف الزمن.

فها هي عائلته في الحكايات التالية تمر بحياة محصورة في الحارة، كثرت فيها الفتن والمحن والكوارث، وصرخت فيها النفوس عن مكنونها، فظهر الضعف والقوة، والإخلاص والجبن.

ظهر كل ذلك وأكثر، وإذا الأيام تكشف عن أنيابها الحادة القاسية، ففيضان النيل شحيح، وشبح الجوع يتضخم، ويشيع أن الناس يأكلون الخيل والحمير والكلاب والقطط، وأنهم عما قريب سيأكل بعضهم بعضا.

في هذا الظلام الذي يسود الحكاية التاسعة “سارق النعمة” تخلقت معجزة، فثمة صرة حاوية لطعام تُدَس في أيدي المعذبين بالجوع ، تعقبها همسة تقول من “عاشور الناجي”، وفي الحق كان صاحب صرة الرحمة والهمسة هو “فتح الباب” حفيد الجد المختفي.

لقد كان فتى يرى جده “عاشور” في كل مكان، ينبض في قلبه وخياله، يشتعل في أشواقه وآماله.

ويرى في أجولة الغلال المكتنزة في مخزن أخيه “سماحة” ذي الوجه القبيح حقاً للسائل والمحروم.

وإذن فالصراع الدرامي في “سارق النعمة” إنما يدور بين الأخوين “فتح الباب” و”سماحة”.

وهو في الحكاية ينتهي بانتصار الأول على الأخير عندما سيطر الحرافيش على الحارة تحت قيادة الأخ الأصغر، اقتحموا مخزن “سماحة” الفتوة، نهبوا ما فيه من غلال حتى آخر حبة.

ولم يكتفوا بذلك، بل انهالوا بالطوب على الأخ الأكبر”سماحة” حتى انهار فوق عتبة الدار مسلماً الروح.

وسرعان ما عرف دور “فتح الباب” في المعركة، فتجسد أسطورة ونودي به فتوة للحارة.

ولكنه لسوء الحظ لم يكن يملك قوة جده “عاشور”، فلم يكد يتولى أمور أهل الحارة بالعدل، حتى حدد الأشرار إقامته في مسكنه حيث امتد به الزمن بلا حياة تنصف، ولا موت يسعف.

وذات صباح عُثر على جثته مهشمة في أسفل المئذنة، وقيل أنه آثر التخلص من الحياة بالانتحار وهكذا أنتهت سيرته وجهاده.

التحوير والتدوير

وهنا قد يكون من المناسب بيان كيف تناولت المعالجة السينمائية تلك الحكاية.

بادئ ذي بدء، يُلاحظ أن عنوانها “سارق النعمة” قد تغيّر في الفليم إلى عنوان أبشع هو “الجوع”.

والأغرب أن المؤلف قد أُغفل ذكر اسمه تماماً في عناوين الفيلم وملصقاته، وكأن الحرافيش لقيط بلا مبدع اسمه “نجيب محفوظ”.

والأكثر غرابة أن أسماء أبطال الحكاية قد أدخل عليها هي الأخرى التغيير والتبديل.

فكان أن تحول “عاشورالناجي” إلى “فضل الجبالي” و”سماحة” إلى “فرج” (محمود عبد العزيز) و”فتح الباب” إلى “جابر” (عبد العزيز مخيون) و”فردوس” إلى “ملك” (يسرا).

ومهما يكن من أمر كل هذا التحوير والتدوير في الأسماء الذي يصل إلى حد تعمد الإخفاء، فالأدهى والأمر هو تكليف الحكاية ما لا تطيق بإقحام شخصيات وبافتعال مواقف ونهايات.

عدوى الشباك

ولعل شخصيتي الزوجة الأولى الدميمة (سناء يونس) و”زبيدة” بائعة البطاطا (سعاد حسني) هما أهم شخصيتين جرى إقحامهما على سياق الحكاية بشكل مخل زاد الفيلم تعقيداً وترهلاً.. كيف؟
“ففرج” ذو الوجه القبيح في حكاية “نجيب محفوظ” لم يتزوج سوى مرة واحدة من الجميلة الصغيرة الغنية “ملك” بنت الحسب والنسب، مالكة محل الغلال التي وهبته “عطايا من العذوبة والنضارة، ورغداً من حياة القصور وأساليب المعيشة الرفيعة” أنساه ماضي الفقر والقهر الذي كان يحيط بالحرافيش في الحارة، ولايزال.

أما زوجة أيام الذل والهوان الأولى فهي شخصية مختلفة أتاح لها صاحب الفيلم وجوداً لم يكن لها في الحكاية.

ويبدو أنه أريد بها استغلال الإمكانيات الكوميدية عند الممثلة التي أدت دورها (سناء يونس) لانتزاع الضحكات.

إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن تمثيلها كان قوامه المبالغة، والافتعال على وجه انحدر بالمشاهد التي ظهرت فيها إلى مستوى مشوب بالابتذال.

ومن المعلوم أن أبغض الضحك ما يقوم على الحط من شأن المرأة بالسخرية السوقية منها.

وجابر”سارق النعمة” لم يٌكتب له في الحكاية أن يتزوج إلى يوم العثور عليه منتحراً.

بطاطا وثورة

إلا أنه في الفيلم وقع منذ البداية في حب بائعة البطاطا “زبيدة” التي تعترف له بأن أحد الفتوات قد اعتدى عليها، فيذهب إلى المعتدي الآثم: مطالباً إياه بإصلاح غلطته في حقها بالزواج منها دون جدوى.

ويمضي الفيلم فإذا بهذا المعتدي يُقتل في معركة بين الفتوات تصادمت فيها النبابيت وسالت الدماء، حتى انتهت “بفرج” منتصباً بين الحرافيش زعيماً بلا منافس.

وإذا بسارق النعمة يصلح غلطة الفتوة المقتول، فيتزوج من حبيبة العمر بائعة البطاطا الحامل سفاحاً غير حافل ولا مكترث.

ويمضي الفيلم هكذا على شر حال حتى يضبط متلبسا بانتحال شخصية جده “الجبالي” وبسرقة النعمة، فيأمر أخوه “فرج” بتعليقه من قدميه في السقف حتى تُصفى روحه نقطة بعد نقطة.

وهنا تتحول “زبيدة” بائعة البطاطا إلى امرأة ثورية، تحرض الحرافيش على العصف بقصر الذي طغى حيث تعثر على زوجها معلقاً، مدلي الذراعين، مغمى عليه بين الحياة والموت.
الطريق إلى جهنم

وطبعاً لا ينتهي الفيلم بسارق النعمة ميتاً كما في الحكاية، وإنما حيٌّ يُرزق في أحضان بائعة البطاطا التي استحالت داعية لإعداد النبابيت والاستعداد لمواجهة قوى الاستغلال الباغية.

وقد يكون من الخير هنا أن نلاحظ أخيراً أن الفيلم لا هو بالواقعي ولا هو بالمتجاوز لها، تحليقاً في آفاق الخيال وإنما هو شيء بين الإثنين يملأ النفس حيرةً وسأماً.

وأن شخصياته كثيراً ما ابتذلت من قبل في أفلام مدارها عالم الفتوات، آخرها حرافيش حسام الدين مصطفى والتوت والنبوت.

ولربما هذا- مع أزمة السينما- هو الذي أوقع “الجوع” في هاوية إعراض الناس عنه.

ورغم ذلك فالفيلم يستحق المشاهدة لأمرين، أولهما ديكورات الحارة والملابس التي أبدعها خيال صلاح مرعي.

والثاني.. ولعله الأمر الأهم- هو تأمل كيف ترتطم النوايا الحسنة في السينما بجدار الأفق المسدود.

ليلة حساب السنين – جريمة أم وليمة؟

كان أول فيلم عربي يبدأ وينتهي بكلمات مأخوذة من تراث قدماء المصريين.. كتاب الموتى “ألفا سنة قبل الميلاد” يبدأ بصور فرعونية يصاحبها صوت يقرأ تلك الكلمات يا من تمضي ستعود.. يا من تنام سوف تنهض يا من تموت سوف تبعث، فالمحبة لك. وينتهي- بعد إختفاء الفلك بمن عليه من فراعين- بتلك الكلمات:

إنهض فلن تفنى.. لقد نوديت باسمك، لقد بعثت.

وكان أول فيلم ناطق بلغة الآباء يعرض لحاضر مصر متصلاً بماضيها على مدى آلاف السنين. يعتز بميراث الأسلاف منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصرياً. يعبر بصدق عن أزمة وعينا بما أقيم من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها في أزمنة الفراعين.
قدر الأفلام الناجحه

وكان أول فيلم مصري الجنسية، عربي الهوية، يتوج بجائزة عالمية “جورج سادول” (1970)، يعرض في دار باريس بولمان- بلندن (1972)، يعتبر أحد أحسن عشرة أفلام عرضت في إنجلترا خلال سنه1972، يختار فيلم الافتتاح لدار جان كوكتو بقصر مهرجان كان (1974)، يفتتح به نادي سينما طوكيو، يطبع السيناريو الخاص به باللغة اليابانية، تكتب عنه دراسة باللغة الفرنسية في مجموعة “دوسيه السينما” يوضع ضمن أحسن ألفي وواحد فيلم اختارها قاموس لاروس للسينما (1986) من بين جميع الأفلام التي أخرجت للناس منذ اكتشاف الأطياف (1895).

كان “ليلة حساب السنين” لصاحبه “شادي عبد السلام” والذي اشتهر تحت اسم “المومياء” كل هذا وأكثر لأنه الفيلم الذي رد اعتبار سينما الوطن العربي، بأن أثار اهتمام نقاد الغرب بها، دافعاً بهم إلى السعي نحو اكتشاف مجاهلها.

يوم مولد

ولعل خير وصف لموقف النقد الغربي من ذلك وبخاصة السينما المصرية قبل المومياء، هو ماجرى به قلم “ديليز باول” الناقدة الإنجليزية المخضرمة في العدد الأسبوعي لمجلة “الصانداي تايمز” أثر مشاهدتها لفيلم “شادي” وقبل أن يهدأ انفعالها به.

“منذ زمن بعيد، وأثناء مشاركتي في مهرجان كورك أسأت إلى سمعتي، عندما قهقهت ضاحكة في تعالٍ على فيلم مصري أرادوا به أن يكون جاداً.

ولم يعدني إلى الصواب إلا تذكرة من جالس إلى جواري صدمه سوء سلوكي، بأن مخرج الفيلم معنا في قاعة العرض.

وعلى كُلٍ فقد كنت أظن أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الاهتمام بما تعرضه الشاشة المصرية.

غير أنني اكتشفت أن لزاماً عليّ أن أهتم.. وأهتم. وعقب هذه الكلمات الطلقات التي استهلت بها الناقدة مقالتها عن “المومياء” عرضت له باعتباره الفيلم الذي غيّر من نظرتها إلى السينما المصرية، وجعلها تهتم وتهتم!!
سكرة فصحوة

وتأكيداً لهذا الطابع المتميز الذي انفرد به المومياء حتى أصبح أشهر فيلم عربي، وواحد من نفائس السينما العالمية، استهل الناقد الفرنسي “كلود ميشيل كلوني” دراسة له مدارها فيلم “شادي” بالكلمات الآتية “طابعه الغريب، بل وأسلوبه يجعلان تصنيفه أمراً محالاً، واستطرد قائلاً: الذي لا يرقي إليه الشك أن هذا العمل يتميز بقدرة على الإبهار، وذلك بفضل أسلوبه البليغ، وجماله الشكلي، وقبس النور الذي بعثه “شادي” من ظلمة الليل البهيم كي نرى في ضيائه مصر الخالدة.. مصر التي تحلم وتتحرك.

وإلى حدٍ بعيد كان من الممكن اعتبار المومياء فيلماً غير مصري لولا أن مصر تقيم في ثناياه بماضيها، بديكورها، بواقعها ، بتمزقاتها، تُعبر داخله عن تفردها.

وشادي “يسافر بنا في فيلمه إلى ماض مرتد آلاف السنين “العصر الفرعوني”.. يوجه بصرنا إلى تلك الهوة السحيقة بين مصر المدينة وبين مصر القرية، ينتقل بنا عبر زمن يبدو ساكناً لا يتحرك.. زمن يجرفنا بشاعريته، يسحرنا ليشهدنا على قطيعة مفاجئة، على مولد عصر جديد كل الجدة، هذا العصر الذي يرغبه “وانيس”، يسعى إليه مدفوعاً بالبصيرة.

والمومياء قصيدة ذلك الصراع، وليس صدفة أن الفيلم ينتهي بصور للنيل يُطل عليه الفجر.

أشعة في غمام

ثم تطرق الناقد الفرنسي إلى إخراج “المومياء” فقال عنه أنه مختلف عن أسلوب الإخراج السائد في السينما العربية حيث تختلط الواقعية بالاستعراضات الغنائية والترفيهية. هذا وبفضل توازن محسوب بين الشعر وبين عنف الموضوعات المطروحة.. ارتقى “شادي” بفيلمه- بعد أن صفّاه من كل شائبة إلى مستوى قريب من العبادة .

أن المومياء بجمال تشكيله، وعطر شعره، فيلم له مقام خاص سواء في السينما العربية أو بين المدارس الغربية. إنه يعبّر دون ريب عن بعض جوانب الروح المصرية ودخائلها بأسلوب يتسم بالابتكار الآخاذ.
الكهوف المظلمة

ورغم كل هذا المديح والإطراء، ظل “المومياء”- بعد عرض يتيم له في نادي سينما القاهرة، ليلة السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- ظل حبيس توابيت العلب في مؤسسة السينما، مكتوباً عليه ألا يعرض داخل مصر زهاء خمسة أعوام.

ولعل خير بيان لمحنة “شادي” أولاً مع فيلمه الأول “المومياء” وثانياً مع مشروع فيلمه “اخناتون” هو ما كتبه الناقد الانجليزي “نيجل اندروز” في عدد الربيع 1973 من مجلة السينما الفصلية “سايت آند ساوند” (صورة وصوت) فعنده “أنه ليس ثمة ما يستطيع أن يجسد أوهام النجاح في مجال السينما خيراً من حالة شادي هذا المخرج الذي حيّته الأقلام رأت فيه أملاً للسينما المصرية. ورغم ذلك فلا يزال مشتبكاً في معركة طويلة مريرة من أجل الحصول علي دعم لمشروع فيلمه الجديد “اخناتون”؛ ثم تطرق الناقد إلى ماضي صاحب المومياء، فقال إنه نجح في تمويل فيلمه الأول بفضل حماس “روبرتو روسيلليني” ورعايته له، ذلك أنه ما أن قرأ المخرج الإيطالي مشروع السيناريو الذي كتبه شادي لفيلمه “ليلة حساب السنين” (المومياء)، إلا وكان قد بادر بالتصديق على طلبه فتح اعتماد حكومي ابتغاء إخراجه.

ومع ذلك، ورغم كل النجاحات التي أحرزها في العديد من المهرجانات الدولية، لم يحصل الفيلم على حق العرض في مصر إلا منذ وقت قريب جداً.

ثمن الخوف

وأغلب الظن أن سبب ذلك إنما يرجع إلى أن أولي الأمر في حقل السينما، يسيطر عليهم الخوف من تشجيع صانع فيلم يبدو أن اهتمامه منصب على ماضي مصر، دون حاضرها، ولا تحمل مشاريعه بصمة النجاح التجاري الأكيد.

ومهما يكن من الأمر، فإنه مما يُحزن أن يهمل شأن اخناتون، فلا يكتب لمشروعه أن يرى النور، لاسيما إذا وضع في الاعتبار أن صاحبه قد أعد للفيلم ما استطاع، فكتب السيناريو، وهيأ الديكور، واختار الممثلين للأدوار. لم يبق سوى أن ينتظر موافقة هيئة السينما على تمويل ميزانيته التي تُقدر بمبلغ لا يزيد على مائة ألف جنيه.

وقصة الفيلم تدور أحداثها في عهد إخناتون الذي كان أول فرعون يؤمن بالتوحيد، فيثور على ما كان يعتبر من السنة في أيامه، ويبتدع ديناً جديداً قوامه عبادة الشمس وعادة يوصف اخناتون بأنه أول فرد في التاريخ.

عصيان

ولا عجب في هذا، فهو الملك الذي تمرد على الاهتمامات القديمة لدين لم يكن له من شاغل سوى الموت، وما بعد الحياة وتحول عنه إلى الإيمان بإله واحد خَيّر، وهّاب للحياة.. الشمس.

والفيلم يعرض للصراع بين اخناتون، وهو يزداد عزلة بهرطقته، وبين السنة الباغية متمثلة في الكهان ورجال الجيش، تنتظر في صبر نهاية فرعون ابتغاء إعادة الاستقرار الديني والسياسي إلى البلاد بالارتداد إلى عبادة آمون.

وامكانات القصة الدرامية والمقابلات والدلالات العصرية الكامنة فيها لا تحتاج إلى مزيد من بيان.

ومما يدعو إلى الأسف أن تترك هيئة السينما المصرية شادي منتظراً المنّ في برد العراء، وذلك رغم أنه الوحيد بين صانعي الأفلام في مصر الحاصل على تقدير عالمي، فضلاً عن أن الأيام قد أثبتت أنه على مستوى عالٍ من الاحساس الفني، وصاحب قدرة فائقة على الإبداع من خلال التحكم في الصور المتحركة .
العجب العجاب

وللحق، فأنه لمن سخرية الأقدار أن تكون صناعة السينما في مصر- هذا البلد العريق صاحب الرصيد الحضاري الذي يعتبر من أغنى أرصدة العالم- دوماً فاشلة في السحب من هذا الرصيد.

ومضى الناقد قائلاً يحكي أنه لما سمع العالم الانجليزي “سيريل الدود” المتخصص في دراسة الحضارة المصرية القديمة بمشروع إخناتون صاح متعجباً “فيلم عن مصر القديمة لمخرج مصري . ياللغرابة” !!

ولسوء الحظ كانت دهشة العالم الانجليزي في محلها، فأحد من المحيط إلى الخليج لم يهتم أو يهتز لما كتب عن مشروع اخناتون.

ولم يسهم أحد بكثير أو قليل في مجالات إحياء المشروع والتحول به من حلم إلى فيلم.

ودارت عجلة الزمان مع شادي، واذا اخناتون- بعد سبع عشرة سنة من إخراج فيلمه الأول “المومياء” لايزال في علم الغيب.. لايزال قضية بلا حل.

لماذا؟

والآن يحق لنا، بل يحق علينا، أن نتساءل لماذا بعد كل هذه السنين التي صُرفت في البحث التاريخي والأركيولوجي.. في صنع المجوهرات، الصولجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية. في إعادة بناء المعابد التي لم يعد لها وجود والمقابر التي اغتصبت منذ أمد بعيد.

لماذا بعد كل هذا الذي بُذل من أجل بعث اخناتون الفرعوني المنتمي إلى الأسرة الثانية عشرة، والذي خرج على دين الآباء والأجداد ليقيم عبادة جديدة جوهرها تقديس قرص الشمس.

لماذا بعد كل هذا الوجد والتفاني والمعاناة، لم يستطع صاحب “المومياء” أن يتغلب علي قوى الظلام ويخرج باخناتون إلى النور؟

بصيص من نور

بادئ ذي بدء قد يُعين على الوصول إلى إجابة عن كل هذه الأسئلة، ذكر ما جرى لصاحب هذه السطور مع المومياء ومبدعها وقت أن كان رقيباً (1967).

في يوم مشحون بالعمل- ودون موعد- جاء إلى مكتبي بالرقابة فنان خمري اللون، ممشوق القوام، يتأبط سيناريو.. رجاني في استحياء شديد أن أقرأه. فلما أغراني حب الاستطلاع على تصفحه، وانتهيت من قراءته، دهشت من سموّ موضوعه، وشموخ بنائه الدرامي، وهو أمر لم أعهده من قبل في أي عمل سينمائي محلي مرّ وأنا رقيب .

تصفيات

والغريب أنه فور انبهاري به، تحدث إليّ هاتفياً رئيس مجلس إدارة شركة الانتاج السينمائي الذي كان يمقت الفن السابع مقتاً شديداً، طلب إليّ عدم الترخيص بعمل فيلم من سيناريو “شادي” انقاذاً لمؤسسة السينما من كارثة إنتاج فيلم غير جماهيري ليس من ورائه سوى الخسارة ووجع القلب.

ترددت محرجاً، ثم رددت قائلاً أن السيناريو لا ينطوي على موانع رقابية تحول دون الترخيص به وأذا به يفجؤني مصححاً: لا، إنه فيلم ضد البلد.. عن أمجاد الفراعنة، مُعاد للقومية العربية!!

ومما قد يعين كذلك في عملية البحث عن إجابة، الغوص في أعماق “المومياء” هذا الفيلم الفريد.

الأكيد أننا لو أوغلنا فيه سعياً إلى المحور الذي يتحرك عليه من بدايته إلى نهايته لوجدنا في أعماقه قوى متعددة تتصارع.

بين عالمين

وقد يساعد على فهم هذه القوى أن أحداث الفيلم تبدأ قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بأشهر معدودة.

فإذا ما انتقلنا بها إلى عرضه اليتيم في السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بتسعة شهور إلا قليلا- لاتضح لنا أن الفيلم إنما كان يتنبأ بقرب انتهاء الحقبة الناصرية، وبداية هجمة أحفاد بلفور والاتباع الدائرين في فلك وعده المشئوم.

ومن العلامات الدالة على ذلك، أولاً وجود الخبراء الأجانب كماسبيرو الذي يبدأ به الفيلم، وغلبة أفكارهم غير الانسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين ومصيرهم، ثانياً طبقة أفندية القاهرة ( الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك الأوروبيين متعاونة معهم ضد الشعب الذي تستمد منه الحياة، ثالثاً الأهالي يمارسون حياتهم اليومية مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة والإهدار للتراث، رابعاً “وانيس” بطل الفيلم يعي الفرق بين الخطأ والصواب ولكنه في حيرة من أمره، كيف يختار.. أيختار أن يعيش ابناً باراً للقبيلة، حافظاً سرها، وخارجاً على القانون؟ أم يكشف السر لسلطات القاهرة الكريهة؟

وهكذا.. وهكذا.. نجد أنفسنا أمام فيلم مليء بالرموز والدلالات. بالاسئلة التي يطرحها حول مشاكل مصر المعاصرة.. حول ماضيها الفرعوني والهوّة السحيقة بينه وبين ثقافتها الإسلامية المُفرغة من مضمونها.. حول اطلالها على الغرب وهويتها العربية ومعاناة التوفيق والاختيار.

البعث

وطبعاً فيلم بمثل هذا المستوى الرفيع من الوعي وطرح الأفكار لا يمكن أن يتكرر في السبعينات.

إنه جريمة لابد ألا تحدث مرة ثانية ولابد ألا تتاح لمرتكبيها فرصة إخرج فيلم آخر لاسيما إذا كان مداره سيرة اخناتون، أي الاستمرار في هرطقة المومياء.

وبعد فإذا كان فيلم شادي في نظر المرتجفين المرتعدة فرائصهم أمام المعرفة جريمة. فإنه في نظر الواقفين في كبرياء أمام علامات التاريخ إبتغاء فك رموزها، قراءتها، تمثلها وليمة لا مثلها، ولا قبلها ولا بعدها وليمة، بها نعرف ننهض لا نفنى، نبعث أحياء .