الطوق والإسورة بين الفيلم والأسطورة

لو وضعت “الطوق والإسورة” في كفة الميزان، ووضع  في كفته الأخرى أغلب ما كُتب من أدب القصة عندنا عقب زلزال الخامس من يونيو “حزيران” لرجحت في ظني قصة يحيي الطاهر عبد الله ومن هنا صعوبة التحول بها إلى لغة السينما شأنها في ذلك شأن أية رائعة من روائع الأدب العالمي.

وعلى كُلٍ وقبل الكلام عن الفيلم، وكيف أقدم “خيري بشارة” على إخراجه عن سيناريو استوحاه بالإشتراك مع الدكتور يحيى عزمي عن “الطوق والإسورة” أرى من اللازم الوقوف قليلاً أولاً عند صاحب القصة وثانياً عند الإبداع فيها.
.الكابوس الأسود.

مر يحيى الطاهر عبد الله بهذا العالم مروراً سريعاً فلم يعش فيه إلا ثلاثة وأربعين عاماً أنفق جزءاً غير قليل منها في الطفولة والصبا متأثراً بما حوله في قرية الكرنك مركز الأقصر حيث ينام الرجل الصعيدي وبندقيته وزوجته وأولاده والكلب والحمار في حجرة واحدة.

وحيث تسلك الذئاب والثعالب تلك الدروب الضيقة على المارة، وحيث يتعذر على الغريب أن يُميّز الآدمي من الوحش والناس والأشياء.

.أيام في المدينة.

وبعد الحصول على دبلوم الزراعة المتوسطة أنفق بعض حياته في مدينة قنا حيث التقى بالشاعرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وحيث كان محاصراً بالسكون والظلمة والتعب وحيث أحس بأن روحه منهكة، وأنه فعلاً مضطهد ومقهور، وإنه حقيقة يتعذب .

فلما رحل (1964) بجسم نحيل وعينين براقتين وكلام مهتاج من الصعيد إلى القاهرة كي يظفر بشيء من الحياة الفنية المستقلة، لم يلتمس عملاً آخر غير كتابة القصة القصيرة يكسب منها القوت.

ورفض النصيحة “خصوصاً من الجيل السابق، لأنه مؤمن بأنه يفتح صفحة جديدة بريئة من الرتابة والصنعة وشكوك التقليد والاقتباس من بعيد لبعيد”

.الجثة.

ثم لا يكاد الربع الرابع من القرن العشرين يتقدم قليلاً حتى يكون قد حقق لنفسه فرحه الخاص بما كتب، فالكتابة بالنسبة له “متعة كما هو الأكل” وحتى يكون بعين مملوءة بالدمع والدم على موعد مع ملاك الموت في سكة القاهرة- الواحات سنة 1981(9 أبريل).

وها هو ـ بعد أن تمكن الموت من الريح وفرغت الحدوتة- يعود طائراً- وهو الذي لم يدخل الطائرة سوى نعشه- إلى مسقط رأسه الكرنك حيث رأت عيناه المضيئتان النور لأول مرة، وحيث دفن مع الشمس وكفن بالضباب.

وها هو محلقاً يسمع لآخر مرة صوت “الأبنودي” في ختام رثاءه يناجيه “دي مش نهايتك يا يحيى.. يمكن تكون دي البداية”.

.شموس.

أظهر ما يمتاز به قصص يحيى الطاهر من الخصائص أنه يصور الموت والقلق من مكر الدنيا الذي يوشك أن يبلغ اليأس وأين..؟ في قرية مركزها الكرنك في الأقصر أي “طيبة القديمة”، وعنها قال يحيى في حديث صحفي لعله الأول والأخير “أرى أن ما وقع على الوطن وقع عليها.. وهي قرية منسية منفية، كما أنا منفي ومنسي.. كما أنها أيضا قرية في مواجهة عالم عصري.. إذن عندما ابتعد عن قريتي أسعى إليها في المدينة، وأبحث عن أهلي وأقربائي وناسي الذين يعيشون معي.

وأنا لا أحيا إلا في عالمهم السفلي.. فحين التقي بهم نلتقي “كصعايدة” وكأبناء “كرنك” ونحيا معاً ألمنا المصري وفجيعتنا العربية وبعدنا عن العصر كشخوص مغتربة.

وأحداث “الطوق والإسورة”- التي هي واحدة من نفائس عقد يحيى- إنما تدور وجوداً وعدماً في قريته هذه، لا تخرج منها أبداً.
.عطر الحبيب.  

فحتى “مصطفى” البطل الغالي الغائب عن جحيم الكرنك بعيداً في السودان ومن بعده فلسطين فالقنال، والذي لا نراه طوال الأيام التي طويت من أعمار أفراد أسرته الصغيرة، وذلك لأنه لا يعود إلى القرية إلا قريباً من النهاية، يعود أمياً كما كان، وفوق هذا مهزوماً مهاناً، حتى هذا البطل الغائب الغالي نحس به وكأنه حاضر في القرية، فهو في عقل الأب “بخيت البشاري” الذي صار بعد العمر الذي مرّ كالقفة.

وهو في قلب الأم “حزينة” الملهوفة التي تخطف رسائله من السودان أرض السحر والأحجبة والمهدي المنتظر، ومن فلسطين الشام جنة الله في الأرض تسلل إليها اليهودي كاره العربي، تخطفها لتشمّها وتقبلها ثم تدسها في الصدر الحنون.

وهو في حواس الأخت “فهيمة” التي تحبه، تتذكر وجهه، الرجل يظفر بالدم الأحمر الدافئ، والعروق في رقبته تنفر وتكاد تنفجر.

.ولادة أسطورة.

وهنا وقفة أخرى لابد منها، ذلك أن “الطوق والأسورة” بما انطوت عليه من كشف ما في نفس صاحبها الغنية، ومن فضح ما في الحياة التي تكرّ حوله في الكرنك من فقر وضحل وبشاعة وغثيان لم تخرج إلى الناس كاملة غير مفتوحة كما هي الآن.. بل خرجت مبتورة في شكل قصتين قصيرتين من مجموعة الدف والصندوق (1974) تحت اسمي “الشهر السادس من العالم الثالث” و”الموت في ثلاث لوحات”.

وهاتان القصتان تشغلان تسع صفحات إلا قليلاً، في حين أن “الطوق والأسورة” تزيد صفحاتها على ذلك بكثير حتى تبلغ سبعة أضعاف هذا الرقم أو يزيد.

ويبدو من الاطلاع عليهما أن “يحيى” قد باشر تأليفهما، وليس في رأسه غير فكرة واحدة وهي أن يصور كيف رحل إنسان بعيداً مع رجال التراحيل، وكيف أثّرت غربته هذه على أسرته حتى انتهت بأفرادها جميعاً إلى موت أكيد.

وبغتة- أجل بغتة- فتق له أن يعود إلى حكاية الغائب والموت، وأغراه بالغ الإغراء أن يتخذ من مصطفى ومأساته ترجماناً لأفكاره، فيصور ما كان من شأنه مع أبيه وأمه وأخته خلال أعوام من العناء المتصل والشتاء المقيم صرفوها في الكرنك، والمسافات تباعد بينهم والزمان يعاديهم.

فكان أن أقبل على كتابة “الطوق والأسورة” (1975)، وقد امتلأ خياله صوراً لأهل بيت مصطفى في غربته. وبسحر ساحر تهيأ له القالب الذي يريده والشخصيات التي كان يفتش عنها.

فكان أن تخلّقت شخصيات بنت الأخت “نبوية”- في الفيلم أسموها ” فرحانة” لا اعرف لماذا؟ـ وابن الشيخ الفاضل والحداد العاجز وشقيقته الحدادة الماكرة وابنها السعدي العاشق ومحمد الشرقاوي الصحفي.
.لعنه الطاحونة.   

ولكن لم يكن بينها صاحب الطاحونة “منصور الصادق” (أحمد بدير) تلك الشخصية التي تلعب دوراً محورياً في الفيلم، فمن أين جاء؟

لصاحب “الطوق والأسورة” قصة قصيرة اسمها “طاحونة الشيخ موسى” نشرت ضمن مجموعة “ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالا” (1970).

وبطلها بنصف عين فقط، عثر على ماكينة طحين نصف عمر.

وبعدها جاءته المتاعب تباعاً بسبب كلام فارغ عن أطفال لابد وأن يرمي بهم داخل الماكينة حتى تدور. كلام يتردد صداه رجفة بقلوب آباء يعبدون الأبناء، وأمهات يفضلن تعب المشوار وشتاء العمر ولا المصيبة في الولد.

وحول هذه المتاعب تدور القصة التي تنتهي بانتصار صاحب الطاحونة بفضل بركات الشيخ موسى.

ولعل هذا الانتصار في المواجهة بين معتقد أهل القرية في أن الماكينة لا يمكن أن تدور دون التضحية بطفل ومعتقدهم الثابت في بركة الشيخ.. لعله هو الذي حدا بالأديب الراحل إلى استبعاد الطاحونة وحكايتها تماماً من حلقة الطوق والأسورة الجهنمية التي تحيط بشخصيات القصة، وهم مسلوبوا القدرة على مواجهتها حتى ينتهي بهم الأمر إلى موت سخيف حقير أو حياة مرة بائسة.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أن حشر هذه الحكاية في سياق السيناريو سار بالفيلم القهقري، ورجع به إلى وراء.. كيف؟

لأنه كان على حساب الروح التي يشعها “الطوق والأسورة” ولأنه أدى إلى بعض الغموض والاضطراب في السرد بحيث كثيراً ما اختلطت الأمور.

ومهما يكن من شيء ففيما عدا هذه الهفوة التي كادت تكون قاتلة، فالفيلم كان في معالجته لأحداث درة يحيى الطاهر أميناً إلى حد كبير.

فهو يبدأ كما القصة بالأب “عزت العلايلي” كالقفة تحملها زوجته “حزينة” “فردوس عبد الحميد” وابنته “فهيمة” (شيريهان) من الشمس إلى الظل ومن الظل إلى الشمس.

وينتهي كما القصة بالابن “عزت العلايلي”- يقوم بدوره علاوة على الأب لا اعرف لماذا؟- ساقطاً من عداد الرجال شاحراً كالذبيحة.

وفيما بين البداية والنهاية يحدثنا الفيلم كما القصة عن الأب كيف تخلص من الأوجاع والعمر المكروه بالذهاب إلى الله الرحيم.
ويحدثنا عن ابنته فهيمة، وقد عقد قرانها على الحداد الهامد “أحمد عبد العزيز” الذي يوسعها ضرباً لأنه لا يستطيع أن يفلح أرضاً، ومن ثم ينفلت في بكاء مرّ.

وحين تعلم “حزينة” بحال ابنتها هذه تذهب بها إلى المعبد القديم المشيّد من الحجر الكبير حيث ينشرخ إناء، وتنمو خرافة الأسطورة في رحم “فهيمة” فيطلقها الحداد، وتنجب طفلة “فرحانة” ثم لا تلبث أن تصاب بحمى يتعذب لها الجسد ولا يستريح إلا بالموت.

.الخيوط تتشابك.

وكذلك يحدثنا عن فرحانة “شريهان” مرة أخرى! يتيمة من الأم والأب الذي مات محترقاً بفعلته مع زوجته الجديدة بنت الصياد.

إنها صبية فقيرة لا تكاد تميز الأشياء.. تعيش حياة ضيقة ضئيلة.. تسعى مع جدتها على رزقها في بيت الشيخ الفاضل حيث حدث الذي لا يقدر على منعه أحد حين يختلي ولد وبنت مولعة به.

فلقد انشرخ الإناء مرة أخرى، ولكن عن غير طريق الأسطورة.

وطبعاً نقلت “حزينة” الخبر المفجع لابنها “مصطفى” الذي أشبع بطن “فرحانة” بما يحمل من حرام رفساً بقدميه، وتركها كوم لحم مهشم العظام حتى انتهى من حفر حفرة أنزلها فيها، وأهال التراب على جسمها حتى العنق، ثم تركها على هذه الحال حتى تموت، وحتى تبوح بمن فعل.

ويعلم بالخبر العاشق “سعدي” ابن الحدادة.

وفي مشاهد- ما أظن أن لها مثيلاً في الجمال المقترن بالقسوة طوال تاريخ السينما في الوطن العربي- يحرر السعدي “فرحانة” من أسر الأرض يحملها كما المحبين إلى الطاحونة لا ليعتلي الفرس وينطلق بها في دنيا الله كما كان يحلم، وإنما ليحصد بالمنجل العنق الشامخ.

كل ذلك يحكيه الفيلم بلغة سينمائية راقية بفضل مخرجه “خيري بشارة”، وبفضل كاميرا المصور الموهوب “طارق التلمساني”.

ولولا هفوة الطاحونة وما صاحبها من ظلال لبدت حسنات “الطوق والأسورة” ساطعة وهّاجة.

سر السقوط

تحولت السينما المصرية في السنوات الأخيرة إلى سينما مناسبات، لا يجري عرض أفلامها علي مدار السنة، كما كان حالها أيام زمان، وإنما يكتفي بعرضها في مناسبات خاصة كالأعياد.

وكثيراً ما ينقطع عرضها في مناسبات خاصة أخري، كدوري كرة القدم ومواسم الامتحانات وشهر رمضان.

وسينما هذا هو وضعها الآن، وهو وضع مزعج بكل المعايير، لا يُرجى لها أي شفاء، فيما لو استمر الحال على هذا المنوال.

ومعروف أن أهم مناسبتين يجري فيهما عرض أفلامنا هما العيدان الصغير والكبير.

وفي أثناء العيد الأخير، قبل شهرين أو يزيد، جرى عرض، ولا أقول فرض، أربعة أفلام على جميع دور السينما بطول وعرض البلاد.

و”ساعة الانتقام” أحد هذه الأفلام، وأقلها شأناً من الناحيتين الفنية والتجارية.
ولن أقف عنده إلا قليلاً لأقول: إن مخرجه أحمد السبعاوي، وأن موضوعه يدور وجوداً وعدماً حول انتقام البطل “الشحات مبروك” من عصابة تتاجر في الرقيق الأبيض، قتلت شقيقه طالب الطب، عندما كان يحاول إنقاذ فتاة “نهلة سلامة”، لجأت إليه لانتشالها من براثن تلك العصابة، التي دفعت بها مكرهة، إلى ممارسة مهنة بيع جسدها إلى الرجال.

ومما يعرف عن أي فيلم للثلاثي “السبعاوي”، ” الشحات” و”نهلة” أن عرضه في دور السينما، إنما يَمُرّ مَرّ الكرام، ولولا العيد السعيد لما حظى بمكان بين الأفلام .

وأنتقل إلى الأفلام الأخرى وهي “البطل” و”مجرم مع مرتبة الشرف” و”دانتيلا”،لأعرض لها باختصار، أرجو ألا يكون مخلاً.

خيبة الأمل  

وأبدأ بـ”البطل” لأنه أول فيلم شاهدته وكان ذلك في حفلة الصباح من أول أيام العيد.

ولأن أحد أبطال الفيلم الثلاثة محمد هنيدي، فأغلب الحضور كانوا من الصغار.

وكم كان الفيلم مخيباً لما علقوا عليه من آمال كبار.
فهنيدي ، على عكس المتوقع، يلعب في الفيلم دور شاب مهزار، سرعان ما تتحول به الأحداث إلى بطل مناضل من أجل الاستقلال، وذلك بعد مقتل أحد رفاقه برصاص جيش الاحتلال.

ولم يكتف كاتب السيناريو “مدحت العدل” بهذا التحول المفاجئ، بل أضاف إليه استبسالاً في النضال انتهى بهنيدي مقتولاً، هو الآخر، برصاص المحتلين، محمولاً نعشه على الأعناق، حتي مثواه الأخير!!

وطبعاً كل هذا ما كان ليرد علي بال جمهور الفيلم بأي حال من الأحوال.

ومن هنا عدم استعداده لصدمة مشاهدة نجمه الهزلي، وقد تحول، دون مقدمات، إلى بطل مأساوي أشبه بأبطال الملاحم الإغريقية في سالف الزمان.

وخروجه من الفيلم محبطاً.

المأساة.. متي؟ 

ولا غرابة فيما أصاب الجمهور، فهنيدي بحكم تكوينه أهل لأن يكون نجماً كوميدياً رائعاً، وليس تراجيدياً.

وربما يتأهل للأدوار ذات الطابع المأساوي، مع زحف الشيخوخة بعد عمر طويل، مثله في ذلك مثل شارلي شابلن، عندما أصبح كهلاً، فلعب أدواراً تمتزج فيها الملهاة بالمأساة بدءاً من”المسيو فيردو” سفاح عجائز النساء.

ورغم أن كل هذا من البداهة، فإنه، ولا مراء، غاب عن إدراك المخرج الواعد “مجدي أحمد علي” صاحب “يا دنيا.. يا غرامي”. فكان أن أسند إلى هنيدي دوراً غير ملائم لشخصيته، مما كان سبباً في إضعاف مصداقية الفيلم إلى حد كبير.

ومن بين النماذج الأخرى المطروحة في الفيلم، وما أكثرها، نموذج النجار الشاب الذي يهوى الملاكمة، فضلاً عن سعد باشا زغلول زعيم الأمة ويؤدي دوره “أحمد زكي”.

الجديد الوحيد

وأحداث الفيلم تدور حول نجاحه في تحقيقه كل طموحاته، بمصاحفة زعيم الأمة في أثناء إلقائه خطاباً أمام الجماهير، وبالانتصار في مباراة ملاكمة عالمية على أحد الأبطال الأوروبيين، وبالزواج من امرأة تفانت في حبه، فأنجبت له الصبيان والبنات.

ودور أحمد زكي في الفيلم لا يعدو أن يكون تكراراً لدوره كملاكم في فيلمي “النمر الأسود” للمخرج عاطف سالم، و”كابوريا” للمخرج خيري بشارة.

والحق، أنه لا يصلح لهذا الدور الآن، وذلك بحكم زحف الأيام وترهل الأجسام.

ولعل الشيء الجديد الوحيد في الفيلم هو “مصطفي قمر” المطرب الشاب الذي يلعب دور فتى من أصل يوناني، عاشق لكل ما هو مصري، رافض لمعاملته وكأنه أجنبي، متمرد علي كل شيء مشارك في النضال.

سمك لبن تمر هندي

وإذا كان العيب الرئيسي الذي شاب “البطل” مرجعه التحول بهنيدي إلى ممثل مأساوي.

فعيب “مجرم مع مرتبة الشرف” مرجعه سيناريو اختلط فيه الحابل بالنابل، على نحو تحول بالفيلم إلى سمك، لبن، تمر هندي.
ففيلم “مدحت السباعي” ليس فيلماً واحداً وإنما عدة أفلام.

فهو يبدأ فيلم حركة وتشويق، تغلب عليه المغامرات والمطاردات، تصاحبها اللكمات والطلقات.

غير أنه ما إن تلتقي “دنيا” “بفؤاد” أو “رغدة” بـ”هشام عبد الحميد”، حتى يتحول إلى فيلم غرامي، ناعم، يتبادل فيه الإثنان القبلات، ويدور الحديث بينهما حول أيام ضاعت من العمر، قبل اللقاء.

من أجل ولدي

ولا يدوم الفيلم الغرامي طويلاً، إذ سرعان ما نواجه بأحداث فيلم آخر ميلودرامي عماده التضحية بالغالي والرخيص من أجل الأولاد، فلذات الأكباد.

وما نكاد نفيق من هول صدمة موت الطفل الصغير ابن “فؤاد”، وهو في أحضانه، داخل إحدى لقطات العودة إلى الماضي، قصد بها المخرج وكاتب القصة والسيناريو والحوار “مدحت السباعي” بيان أسباب انخراط “فؤاد” في عالم الإجرام.

أقول ما نكاد نفيق من هول تلك الصدمة، وصدمات ميلودرامية مماثلة، حتي يظهر أمامنا علي الشاشة فيلم أبطاله أصحاب ذقون سوداء ونفوس فظة، غليظة القلب، يتحرقون شوقاً لإرهاب المجتمع وترويعه بالقتل العشوائي، الذي ينحدر إلى حد الشروع في تفجير حافلة مدرسية، مزدحمة بالأطفال.

وبفضل هذا الظهور المفاجئ، تحول “مجرم مع مرتبة الشرف” إلى فيلم سياسي قوامه الدعوة إلى محاربة الإرهاب.

ومع هذه الكثرة في الموضوعات، كان لابد وأن تتعدد الشخصيات، وتتداخل على نحو مُحير للألباب.

أول القصيدة   

وإذا سلمنا بما جاء في العناوين فالفيلم من إنتاج “هشام عبدالحميد”، الذي يلعب فيه دور لص، نبيل، ليس في طبعه الإجرام.

وأغلب الظن أن أحد دوافع إقدامه على الإنتاج، هو المشاركة بفيلمه في معركة حماية الوطن من خطر طاعون الإرهاب.

والمشاركة علي هذا النحو، دافع ولا شك نبيل.

ومما يُعرف عن مخرج الفيلم أنه من فئة المخرجين المؤلفين.

ولقد خانه التوفيق أولاً في اختيار الممثلين وثانياً في المعالجة السينمائية لخطر الإرهاب.

فرغدة وماجدة الخطيب، كلتاهما تبدو في الفيلم أكبر سناً، الأولى من حبيبها هشام والثانية من زوجها “عبد العزيز مخيون” الذي يتقمص شخصية طبيب واسع الشهرة والثراء. كما أن رغدة في دور الأم الملتاعة على ابنتها الوحيدة المريضة بالقلب، لم تكن مقنعة.

أما لماذا خان التوفيق “السباعي” في معالجته السينمائية لخطر الإرهاب، فذلك لأنه خلط بين أكثر من نوع، بمواقف مضحكة مواقف محزنة، بمواقف عبثية مواقف جادة، وهكذا.. وهكذا، فكان أن جاء فيلمه “خلطبيطة”، كعنوان فيلم آخر له أخرجه قبل أربعة أعوام.

الانفراد بالتكريم

والآن إلى رابع أفلام العيد “دانتيلا”.
وبداية أقول: إنه انفرد دون الأفلام الأخرى بمشاهدة وزيرين مخضرمين له وهما وزيرا الثقافة والكهرباء.

كما انفرد باختيار لجنه المهرجانات بوزارة الثقافة له، ممثلاً للسينما المصرية في مهرجان شيكاغو السينمائي.

وفوق هذا انفرد صانعوه المخرجة إيناس الدغيدي، ونجمته يسرا، وكاتب السيناريو رفيق الصبان، انفردوا بتمثيل مصر في مهرجان “كان” الأخير، على حساب وزراة الثقافة، وهنا لا يفوتني أن أذكر أنه من بين من اختارتهم تلك الوزارة لتمثيلها في ذلك المهرجان “رغدة” نجمة “مجرم مع مرتبة الشرف”، والشاعرة التي لا يشق لها غبار، لاسيما بعد اختفاء “نزار”.

خيش أم دانتيلا

و”دانتيلا” لعله أول فيلم لإيناس بعد “لحم رخيص” الذي يعد بحق واحداً من أكثر أفلام السينما سوقية وسوءا.

هو لا يختلف في السوقية والسوء كثيراً عن لحم رخيص.

حقاً هو أفضل من الفيلم الأخير في التصوير، وفي تكوين بعض اللقطات، ولكنه أسوأ منه في أكثر من مجال.

ويكفي هنا أن أقول أنه أكثر ابتذالاً خاصة في مشاهد السرير التي تتكرر، لا لهدف سوى دغدغة الحواس.

ومشاهد يسرا، وهي تغني أوف.. أوف ودانتيلا.

وياليتها ما خضعت للإغراء، فشوهت صورتها في نظرنا، نحن المتفرجين، بغناء أقرب إلى تأوهات الغانيات، في أحضان طالبي اللذات.

والفيلم يبدأ بلقطات غير ملونة “أبيض وأسود” لفتاتين، إحداهما على وشك أن تغرق في البحر، والأخرى تنقذها من موت أكيد.

قبح وتشويه

وفي اعتقادي أنني لست بعيداً عن الصواب، بجنوحي إلى القول بأن تلك اللقطات، من أقبح ما شاهدته عيناي إخراجاً وتمثيلاً.

وسرعان ما يتضح لنا أمر هاتين الفتاتين، فإذا بإحداهما فتاة سيرك والأخرى بنت أكابر.

وإنهما، ويا للعجب، صديقتان.

وما هي إلا بضع دقائق، حتى تنتقل بنا صاحبة الفيلم من اللقطات البيضاء، السوداء الشديدة القبح إلى مشاهد ملونة أشد قبحاً.

فها هي ذي “يسرا” فتاة السيرك سابقاً، تتلوى وتتثنى في ملهى ليلي، درجة ثالثة، وهي تغني “أوف.. أوف” بين صياح سكارى، أشباه رجال.

وبعد ثوان، تسرع صاحبة الفيلم بمفاجأتنا بإلهام شاهين بنت أكابر، قادمة من القاهرة إلى الإسكندرية، كي تقيم مع حبيبة العمر “يسرا”.
أما لماذا غادرت بيت العز في القاهرة، ولماذا أقامت عند غانية، سكيرة، سيئة السمعة، وذلك رغم أنها محامية، وبنت ذوات، فكل هذا لا نجد له إجابة في سيناريو كتبه ثلاثة كبار “مصطفى محرم”، “إيناس” و”الصبان”.

الشرطة في خدمة الغانيات

وعلي كُلٍ، ولصيق المجال، فلن أعرض بالتفصيل لالتقاء الصديقتين أو الحبيبتين بضابط الشرطة “محمود حميدة” في أحد الأقسام.

ولا لوقوعه في حب بنت الأكابر التي ضحت بحبها له من أجل يسرا.

فكان أن عادت إلى بيت العز، حيث تزوجت من رجل أعمال، اصطحبها إلى كندا، حيث عاشت مملولة، إلى أن تخلصت من أسر الزيجة بالطلاق.

وإنما أكتفي بأن أقول بأن “إلهام” لم تعد إلى بيت العز في القاهرة، وإنما إلى بيت الغانية يسرا في الإسكندرية، حيث فوجئت بها زوجة لحميدة في الحلال.

وإذا بها تغضب لذلك غضباً شديداً، وهي التي سبق لها، وأن ضحت بحبها لحميدة من أجل سعادة حبيبة عمرها يسرا.

ولأن كيدهن عظيم تنجح إلهام في إغراء حميدة، حتى يتخذها زوجة وضرة ليسرا الهائجة عمّال علي بطّال.

وهنا ينحدر الفيلم إلى ملهاة رخيصة، عمادها مواقف مفتعلة أشدّ افتعالاً، تدور حول الصراع من أجل فحولة رجل بين امرأتين، ولا أقول، ذئبتين مفترستين.

ويستمر الفيلم في عبثهم العابث، حتى يصلوا بنا، نحن المتفرجين الضحايا، إلى ختام قلّ أن يكون له مثيل في الافتعال.

ولا يبقى لي مع فيلم كهذا سوى أن أقول: إنه به وبما شابهه من أفلام كان حتماً سقوط السينما في بلادنا سقوطاً مدوياً.

سينما اليأس – نساء قاتلات ورجال أموات

ما يلفت النظر فيما عرض من أعمال سينمائية خلال الأشهر الأخيرة من مسيرة الزمان تكفي لتبيان أننا أمام أفلام ظاهرها اليأس كل اليأس من الحاضر ومن المستقبل، ولا ترى في أيهما بارقة أمل.

والعجب كل العجب أنه رغم انعدم التجانس بين صانعيها في الروح والهدف، ورغم الاختلاف بينهم في كل شيء، فإنهم يتفقون في النظر إلى ما يدورحولهم بمنظار أسود متشائم كل التشائم يعتبرون الحياة من حولنا كلها نكر وشر، وبؤس ويأس “فبشير الديك” يرى المجتمع في “الطوفان” أول فيلم من إخراجه- وقد تحول إلى دغل يسيطر عليه المال، فينقلب بالانسان إلى كائن شائه أشبه بالوحوش الكاسرة، بل أشد هولاً.
فالأبناء في فيلمه “فاروق الفيشاوي” و”عبد الرحيم أبو ريه” و”ليلى يسرى” يتآمرون للتخلص من أمهم “أمينة رزق” لا لشئ سوى أنهم لو تركوها تشهد بالحق أمام المحكمة لضاعت عليهم أرض زراعية موروثة، أصبحت بالفساد أرض مبان، ولتبدد حلم الثراء بغير حساب وفي ختام مفجع، ينتهي بهم صاحب “الطوفان” إلى قتل الأم بالسم.
القتل الحلال

وقد يبدو للعين البريئة أن فيلمي “الحكم آخر الجلسة” لصاحبه المخرج “محمد عبدالعزيز” و”عفواً أيها القانون” لصاحبته المخرجة “إيناس الدغيدي” أقل هولاً.
ولكن لو دخلنا في الأعماق، وأمعنا النظر لتبين لنا أن بهما ضروباً وضروباً أشد من الطوفان هولاً.

فكلاهما يتناول مشكله الإنسان في مواجهة القانون، وكلاهما يعرض لها من منطلق حق المرأة في أن تتساوى مع الرجل فيما له، وفيما عليه.

فالمرأة سواء أكانت “أوصاف” (بوسي) الحاصلة علي الدكتوراة في علم الأجنة ووراثة الجنون أو “هدى” (نجلاء فتحي) الأستاذة الجامعية في النفس، وما يصيبها من اضطرابات، المرأة في كلا الفيلمين مهددة في حريتها بقانون لا يرحم.. القانون المكتوب.

وهي دفاعاً عن الذات، إنما تستلهم قانوناً آخر قانون السماء.

. الموت للحياة.   

وللحق فموقف المرأة إزاء القانون الظالم في الفيلمين إنما يذكرنا بـ”أنتيجون” بطلة مسرحية “سوفوكليس”.. تلك البطلة التي تقف وحدها متحدية قانون المدينة.

وهنا قد يكون مفيداً من باب المقارنة أن نسترجع أحداث تلك المسرحية التي اعتبرها كل من “جوته” و”هيجل” أعظم عمل فني كُتِب للناس.

شبّت حروب دموية اقتتل فيها شقيقا “انتيجون” وكلاهما وارث للعرش، وانتهت بإنقاذ طيبة وموت الشقيقين المتناحرين أثناء المعركة.

وبعد ذلك أصدر الملك الجديد “كريون” فرماناً مقتضاه التمييز بين الشقيقين في الدفن، فأحدهما، وهو الذي دافع عن تراب طيبة، يوارى جثمانه الثرى بمراعاة طقوس الدفن بما تنطوي عليه من خشوع وإجلال للأبطال.

أما الآخر، وهو الذي تحالف مع العدو، فقد تركت جثته نهباً لخساس الطير والكلاب تنهشها في العراء.

وهنا تتدخل “انتيجون”.. لماذا؟ لأنها تعتبر أن من الحق عليها نحو شقيقها الميت أن ترتكب جريمة دفن جثته حسب الطقوس إنزالاً لحكم السماء.

وطبعا يلقى القبض عليها، ويصدر “كريون” فرماناً يعاقبها فيه بالإعدام. ويحتج خطيبها “هايمون” محاولاً دون جدوى، تبصير أبيه الملك إلى عاقبة الظالمين.

وبعد فوات الآوان- وتحت تأثير الرائي “تيريسياس” وشيوخ المدينة يتوب “كريون” يُبدي ندمه على فعلته في حق “انتيجون” وشقيقها غير المدفون.

أقول بعد فوات الآوان لأن “انتيجون” كانت قد فارقت الحياة.. و”هايمون”خطيبها كان قد انتحر حزناً عليها.. و”اوريديس” أمه كانت هي الأخرى قد اختارت من بعده الانتحار طريقاً للخلاص.

وها هو ذا “كريون” وحيدا محاصار بالموت أو بمعنى أصح بالحياة لأن انتيجون، وهي تقوم بدفن جثمان شقيقها متحدية القانون الظالم إنما كانت تسعى بذلك إلى إعداد أخيها بعد الموت لحياة أخرى، لأنه بدون دفن فلا بعث ولاحياة.

أما أوصاف وهدى في فيلمي “الحكم آخر الجلسة” و”عفواً أيها القانون” ففاجعتهما ذات طابع آخر مخالف تماماً.
فهما تقاومان الطغيان لا من أجل استمرار الحياة وإنما من أجل حق غريب كل الغرابة، شاذ كل الشذوذ، حقهما في تسليم الحياة للموت بالقتل العمد.

فالأولي تتعمد قتل الجنين في أحشائها خوفاً من أن يكون ملوثاً بجنون موروث عن زوجها “نور الشريف” لا أمل في علاج منه أو شفاء.

والثانية تقتل زوجها “محمود عبد العزيز” بوابل من رصاص، وهوفي الفراش، وأثناء المحاكمة يطلب الدفاع البراءة لها لأنها ضبطت القتيل متلبساً بخيانتها.

وغني عن البيان أنه في كلتا الحالتين ثمة افتعال لمآس تبريراً لقتل الأطفال والرجال.

فإذا ما انتقلنا إلى فيلمي “للحب قصة أخيرة” لصاحبه المخرج رأفت الميهي و”مشوار عمر” لصاحبه المخرج محمد خان لوجدناهما في كل مشهد، بل في كل لقطة يقطران يأساً أو ضياعاً.
جزيرة ورمز 

فأحداث أولهما تجري على ضفاف النيل أمام القاهرة في أرض خراب اسمها جزيرة الوراق، حيث يختلط الريف بالحضر وحيث توجد صناعة طوب بناء في طريقها إلى الزوال.

وبفضل لقطات سريعة يبدأ بها الفيلم تعرف أن بطله “رفعت” (يحيى الفخراني) مدرس إبتدائي وصاحب قلب عليل، يماطل الداء، لا يحسبه رجفة في القلب تزول بالحماية والوقاية، ومع ذلك فهو يعيش ما تبقى له من أيام غير متذمر مقبلاً على الحياة، لا يكبل خوف الموت خياله واستمتاعه.

وإذا كان “رفعت”- ورغم مرض الموت، يرى الحياة جمالاً وسلاماً ومحبة، فزوجته (معإلى زايد) لا تواجه المأساة هكذا بروح متفائلة، إنها تكوى بأوجاع الخوف عليه من هذا الموت القريب الذي يعكر صفو الحياة.

وكذلك حال أمه (تحية كاريوكا) التي يعتصر الألم قلبها لأن ابنها الوحيد قد تزوج بالتحدي لإرادتها.

وفوق هذا لأنه لو جاءه الموت فثروة العائلة من صناعة الطوب- وهي ثروة طائلة- يتهددها الضياع.. لماذا؟

لأن امرأة ابنها عاقر، ولا أمل في أن ترزق بولد يرث أرض الجزيرة ومن عليها.

.عذابات وخزعبلات.   

ولو اقتصر خطر الموت على “رفعت” لهان الأمر، فأغلب الأفلام يتشابك فيها الموت بالحياة دون أن يطغى عليها، ولكن للموت شأناً آخر في فيلم “رأفت الميهي” الأخير، إنه أقوى من الحياة التي تبدو بجواره ظلالاً باهتة.

فطبيب الجزيرة الشاب (عبد العزيز مخيون) يعيش أسير أم عجوز بلغت من الكبر عتياً (95عاماً)، تعاني سكرات الموت منذ سنوات، وهي في غيبوبة لا تعي من أمر نفسها شيئا، حتي إذا ما كتب لها أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، رأينا ولدها الطبيب يمارس الجنس مع عاهرة مرتاح البال منشرحاً، يكاد لموتها يطير فرحاً.

و (عبد الحفيظ التطاوي ) وزوجته (روحية جمال) يعيشان على شاطئ الجزيرة الملعونة بالموت والخزعبلات (عودة الشيخ التلآوي) أزمة انقطاع أخبار وحيدهما “سامي”، هو يخفي عنها أنه هارب من الأيام مع مطاريد العدالة في متاهات الجبال، وهي تخفي عنه ما نُشر في الجرائد من أن دمه قد سُفِك، وأن وهدة الموت تفصل بينه وبينهما إلى الأبد.

والخالة “دميانه” هي الأخرى تستسلم للموت فجأة بعد أن غارت قطرات حياتها في مسار الزمان.

وها هو ذا جثمانها محمول في موكب جنائزي حافل مهيب ما عرفت الجزيرة نظيره، منقولاً عبر النيل إلى المقابر شرقي القاهرة الساهرة بعيون لا تنام.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أنه ليس لمشهد الموكب الجنائزي هذا مثيل في تاريخ السينما علي أرض مصر، بل هو من ناحية امتداد عرضه زهاء ربع الساعة يكاد يكون وحيداً في نوعه خلال عمر السينما وهو مائة عام إلا قليلاً.

وإذا كنا لا نسمع في ” للحب قصة اخيرة” سوى صوت واحد.. صوت الموت، فإن الصوت الوحيد الذي نسمعه في مشوار “مشوار عمر” هو صوت الضياع.

مونت كارلو .. لماذا؟

وأول مفاجآت هذا الفيلم المأخوذ عن سيناريو مبتكر كتبه الناقد “رءوف توفيق” مع المخرج هو شريط الصوت، فلا موسيقى تصويرية تصاحب المشاهد بضوضاء حمقاء كما المعتاد في معظم الأفلام المتكلمة بلغة الآباء.

فمنذ لحظة ظهور العناوين تحمل أسماء مبدعي مشوار الضياع، ونحن لا نسمع مع متابعة اللقطات سوى صوت راديو مونت كارلو منطلقاً تارة بالأخبار، وتارة بالحوار مع نجوم المجتمع في التافه والجليل، وفي أكثر الأحوال منطلقاً بموسيقى الروك والديسكو حارة صاخبة تشد السامع إلى أسفل سافلين، ولا تعطي الفكر راحة، تتركه مضطرباً، متوتراً.
فعمر “فاروق الفيشاوي” بطل المشوار، وإن كان متخرجاً في كلية الحقوق، إلا أنه شاب مدلل لا يعمل، حياته مدارها اللهو واللعب إنه يمتلك سيارة فارهة إلكترونية اشتراها له أبوه الثري “محمد رضا” تاجر المصوغات بأربعين ألف جنيه فقط لا غير، وهو أسير هذه السيارة اللعبة مسلوب الإرادة إزاء سحرها، لا يعيش إلا بها ولها، لا يتركها إلا ليعود لها.

وطبعا صوت مونت كارلو من لزوم الانحباس فيها.

والمشوار يبدأ به في سيارته يطارح فيها إحدى الفتيات الغرام.. إنه إذن شاب مستهتر، تستبد به إمبراطورية الحواس، يحركه سلطان الغرائز، لا يستطيع أن يفرق بين ما هو صواب، وما هو خطأ، بين ما يجوز فعله وما لا يجوز.

.سكة الضياع.   

وبعد هذه الفاتحة يكلفه أبوه بتسليم كمية من الذهب الثمين إلى أحد التجار في طنطا.

ومن هنا المشوار مع نماذج بشرية، وصور من حياة مضطربة متنافرة بعيدة كل البعد عن الاستقرار.

وأول انحراف عن سكة السيد البدوي يقع عندما يتجه “عمر” بسيارته أو معشوقته إلى مطار القاهرة حيث يستقبل صديقاً عائداً من انجلترا، لم يجن من سنوات الغربة سوى بعض حقائب طويت علي ملابس، وبعض ذكريات لمغامرات مع نساء ساقطات، وقارورة ويسكي هدية “لعمر” صديق العُمْر.

وتتابع الأحداث من خلال لقاءات مع أنماط غريبة أولها شاب ريفي ساذج (أحمد بدير) يريد العودة إلى “بنها” يشير إلى السيارة بالتوقف، يسمح له “عمر” بالركوب إلى جانبه من منطلق التفاخر والإبهار.

ولكنه تخوفاً من جنون السرعة وحرصاً علي حياته سرعان ما يغادر السيارة فزعاً، بعد أن يكون “عمر” قد انعطف بها في سكك زراعية جانبية تهرباً من مطاردة شرطة المرور.

وهنا يبدأ مسلسل من مفاجأت تتحول بالمشوار إلى فيلم آخاذ مثير، يريد أن يقول في الضياع الشيء الكثير.

فها هو عمر نراه، وقد أطلت عليه جاموسة من وراء زجاج نافذة السيارة.

وها نحن نكتشف أنه قد بات الليل بطوله داخلها، وأنه يواجه معضلة كيف يحصل لها علي وقود.

وما أن ينتهي هذا المشهد المدهش الذي أبدع تصويره الفنان الصاعد “طارق التلمساني” حتى يبدأ مشهد مدهش ثان لسيارة لوري تحمل عمال تراحيل، فيستقلها “عمر” إلى أقرب محطة بنزين حيث يلتقي بنقيضه، فلاح ضائع من المعذبين في الأرض يعمل في المحطة، ويحمل بدوره اسم “عمر” (ممدوح عبدالعليم).

.الخسران المبين.

وعلي قارعة الطريق، فيما بين السيارة والمحطة، تجري الوقائع لاهثة حتى ينتهي الأمر بعمر القرية منقذاً لعمر المدينة من جريمة نكراء كان سائق اللوري (أحمد عبد الوارث) قد أوشك على اقترافها.

وبصرف النظر عن التفاصيل الشيقة اللاحقة لمشهد الجاموسة وعمال التراحيل فالفيلم- بعد أن يقبل “عمر” المسكين عرض “عمر” الغني العمل في محل أبيه- ينتقل بهما إلى سكة كلها بشاعة وعبث فقريباً من القرية يلتقطان غانية من بورسعيد “نجاح” (مديحة كامل) ومرة آخري ينحرف “عمر”: يتغلب الحيوان الذي فيه.. ينصاع إلى الجوع الذي في دمه، ينقاد إلى نداء الجسد بجواره يشتري لذة لحظة بندامة عمر.

فعلى نغمات موسيقى مونت كارلو، يعربد العمران والغانية يحتسون خمر قارورة الويسكي حتى الثمالة حتى إذا ما أفاقوا لم يجدوا من متاع الحياة شيئاً، فقد اختفت السيارة، واختفى معها ذهب الأب، وتفرّق الجميع بعضهم لبعض عدو.

ويجئ الختام مناسباً منطلقاً من شريط الصوت. إنه سعر الدولار نسمعه مع “عمر” خبراً مذاعاً من راديو السيارة بعد العثور عليها حطاماً فوق صخرة بارزة من صخور شاطئ البحر الأحمر.

ومع صوت الدولار نرى “عمر” حبيس السيارة وحيداً، ضائعاً عاجزاً، معلقاً لا يدري إلى أين يمضى..