الملهاة الموسيقية من البداية حتي كابوريا

من بين الأوهام في دنيا الأفلام، الظن بأنه يكفي أن يحشد المخرج عدداً لا بأس به من الأغاني في فيلمه حتى يتحول به إلى ملهاة موسيقية.

الأمر ليس بهذه البساطة فعندما نستعرض تاريخ الفيلم الموسيقي من خلال سينما هوليوود باعتبارها أول سينما تكلمت وغنت ورقصت، نستطيع أن نفرق في سهولة ويسر بين ما هو حقيقي وما هو زائف في ذلك العالم الوردي الجذّاب، عالم الملهاة الموسيقية.

ولد الفيلم الموسيقي قريباً من نهاية عقد العشرينات وبالتحديد في السادس من أكتوبر عام 1927، يوم أن نطقت السينما بعد صمت طويل، في فيلم مغني الجاز، الذي أنتجته شركة اخوان وارنر آملة بفضله التحرر من آثار الضائقة المالية الآخذة بخناقها.

في ذلك الفيلم تكلم قليلاً المغني الأمريكي ال جولسون بادئاً بهذه العبارة النبوءة “هو أنتم لسه سمعتم حاجة”، وغنى كثيراً مستهلاً بأغنية تناسب ميلاد السينما الناطقة تماما.

وبكل المعايير كان الفيلم بشعاً، ومع ذلك فبفضله ولد عهد جديد.

ومنذ هذا الميلاد والموسيقى تلعب دوراً هاماً في أفلام مصانع الأحلام، حتى وصل الأمر في البداية بجميع نجوم هوليوود فيما عدا جريتا جاربو والكلب رن تن تن، والاثنان كان لهما شأن كبير في ذلك الزمان، إلى الاندفاع نحو تلقي دروس في الرقص والغناء ابتغاء اغتنام دور ولو صغير فيما هو آت من أفلام قوامها في كل لقطة من اللقطات الرقص والغناء فضلاً عن ضوضاء الكلام.

السحر الخفي

ومهما يكن من الأمر، فسحر الصور تنطق أصواتاً تغني، وتشع أطيافاً ترقص، كان ولايزال سحراً لا يقاوم.

فالذين شاهدوا الأفلام الرائدة التي تكلمت وغنت ورقصت لا يستطيعون أن ينسوا “فريد استير” يخاصر “جنجر روجرز” يرقص معها في “الطيران إلى ريو” رقصة الكاريوكا.

بل أن تأثير هذا الثنائي الشهير برقصته تلك كان داهماً إلى حد أن راقصة شابة تألقت فيما بعد بحيث أصبحت راقصة مصر الأولى، قد اتخذت من تلك الرقصة اسماً لها.

كما أن أحداً من الذين شاهدوا أول فيلم لمحمد عبد الوهاب، ثم أول فيلم لأم كلثوم في النصف الأول من عقد الثلاثينات لا يمكن أن تنمحي من شاشة ذاكرته لحظة الدهشة والانبهار بسماع صوت مطرب الملوك والأمراء منطلقاً من الشاشة البيضاء متغزلاً في وردة الحب الصافي، أو صوت كوكب الشرق وداد يشارك الطير الأسير مرارة الفراق والحرمان.

الكمّ والكيف

ومع ذلك فمن المعروف أن الفيلم لا يدخل في عداد ما اصطلح علي تسميته بالملهاة الموسيقية مثل الأرملة المرحة (1934) الغناء تحت المطر (1952) وصوت الموسيقى (1965) إذا ما زاد عدد الرقصات والأغاني ويخرج منها إذا ما نقص العدد إلى حد الانعدام.

فهناك من الأفلام بدءًا بـ”استعراض الحب” (1929) وانتهاء بـ”أنت ولد كبير الآن” (1967) للمخرج كوبولا صاحب الأب الروحي. ما لا يثور خلاف بين اثنين حول أنها من نوع الملهاة الموسيقية وذلك رغم أن أحداً في البعض منها لم يخط خطوة واحدة مصممة وفق أصول فن الرقص وفي البعض الآخر لم يفتح فمه بكلمة واحدة منغومة.

وبالعكس فتاريخ السينما حافل بأفلام من نوع آخر متخم بالرقص والغناء كأغلب الأفلام الهندية وكبعض الأفلام التي تطوع لخدمة صوت واحد أو واحدة من أهل الطرب عندنا كفريد الاطرش ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وصباح.

فضلاً عن أن ثمة أفلاماً “كمظلات شربورج” للمخرج الفرنسي جاك ديمي الحوار فيها يدور كله بالغناء لا بالتموج بين الطبقات العليا والدنيا كما في الأوبرا. ولا بالتحول من وإلى الغناء ذهاباً واياباً كما في الأوبريت ورغم ذلك فأي من تلك الأفلام لا يحسب ضمن الملهاة الموسيقية والسبب أنها لم تتشبع بعنصر الموسيقى بحيث تكون معه مزيجاً جديداً من الابداع.

ولا حيلة لنا – فيما أظن- عندما نتعرض لهذه الأفلام إلا أن نعتبرها من قبيل الدراما العادية، وأن ما حدث في شأنها هو في حقيقة الأمر انتقال بها إلى وضع مفتعل يعبر فيه بالغناء أو بالرقص او بالاثنين معاً، عما جرت العادة أن يكون التعبير عنه بالكلام.

والواقع أن الأفلام التي لها بعض نصيب من الأغاني والرقصات لأن حانة من حانات الليل أو مسرحاً من مسارح المتنوعات يشكل جزءًا من خلفيتها، هذه الأفلام في أغلبها ليس لها حق الانتساب إلى عالم الملهاة الموسيقية.

الشيوع والبساطة

فالفيلم حتى يمكن اعتباره كذلك، لابد أولاً أن يكون بناؤه العام قائماً علي الموسيقى بحيث تشع في كل ركن من أركانه شيوع الماء في العود الرطب.

وثانياً أن يكون ذلك البناء قائماً على خطة بسيطة لا تزدحم بالأشخاص والحوادث. لا تتغلغل إلى المعاني والطبائع.

وقد لا اكون مغالباً إذا ما جنحت إلى القول بأنه في حالة توافر هذين الشرطين فإن الفيلم لابد أن يستغرق كل ذهن المشاهد من أول لقطة فيه إلى آخر لقطة.

ومن عجب توافرهما أخيراً في ثلاثة أفلام مصرية جرى ابداعها في أزمنة متقاربة هي الأراجوز، سمع هس وكابوريا.

ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى أن الأفلام الثلاثة قد جرى التقاطها بواسطة كاميرا مدير تصوير واحد، الشاب الصاعد محسن أحمد.

فإذا أضيف إلى ذلك أن سيناريو وحوار كل من الأراجوز وكابوريا من إعداد شاب موهوب آخر “عصام الشمّاع” وأن أغاني سمع هس وكابوريا من تلحين الشقيقين مودي وحسين الامام، وكلاهما من الشباب الذي تعلق عليه في دنيا الموسيقى آمال كبار.

فضلاً عن أن الذي أدى دور رئيس المحكمة الخرب الذمة في سمع هس هو المخرج خيري بشارة، صاحب كابوريا.

انتصار الشباب

فإننا في ضوء ذلك كله، نستطيع أن نقول في ثقة أن الأفلام الثلاثة قد سرت فيها روح واحدة تسودها خصائص، لو أننا أمعنا النظر فيها لألفيناها هي بعينها خصائص الشباب التي أهمها تحطيم القيود وجموح الخيال.

ولن أقف عند الأراجوز لصاحبه المخرج هاني لاشين ولا عند سمع هس لصاحبه المخرج شريف عرفة، لن أقف إلا قليلاً لا لشيء سوى أن الفيلم الأول قد سبق وأن تصديت له بالكتابة في الهلال قبل عام، وأن الفيلم الثاني ستجئ فرصة الكتابة عنه بما يستحق من استفاضة لدى عرضه عرضاً عاماً في مستقبل قريب.

وعلى كُلٍ، فالفيلمان يمتازان ببساطة الفكرة التي نراها في فيلم لاشين تقدم لنا من خلال محرك الأراجوز عمر الشريف المعبر عن الغلابة الذين حاربوا وضحوا من أجل الوطن المثخن بالجراح حتى نجحوا في انتشاله من هاوية الهزيمة والعار.

في مواجهة خساس الناس الذين لم يحاربوا ويضحوا ومع ذلك انفردوا بجني ثمار الانتصار.

الوهم والحقيقة

أما الفكرة في فيلم عرفة لصاحبها كاتب السسيناريو الشاب ماهر عواد، فقد جرى تقديمها لنا من خلال فنانين مشاغبين صعلوكين فقيرين حمص وحلاوة، (ممدوح عبد العليم) و(ليلى علوي) اللذين يستهل بهما الفيلم وهما في سرادق يغنيان ويرقصان علي لحن وكلمات أغنيتهما اليتيمة أنا حمص.. حمص وحلاوة..

وسرعان ما يختلس المطرب الرسمي غندور (حسن كامي) أغنيتهما مستبدلاً بكلماتها كلمات شنانة رنانة لا تقول شيئاً أو بمعنى أصح تقول عبثاً.

أنا وطني بانشد واطنطن.. واتباهى بمجدك ياوطن.. على كل الأوطان متسلطن.

وما أن تصل إلى سمع حمص وحلاوة كلمات أغنيتهما منطلقة من شاشة التليفزيون بعد أن جرى تشويهها علي الوجه سالف البيان، حتى يبدأ بينهما وبين المطرب الرسمي المحتال صراع مرير من أجل استرداد حقهما السليب، تتخلله من حين إلى حين استعرضات شيقة غير مقحمة صمم رقاصاتها الشاب عاطف عوض، لعل أهمها استعراض “الفلوس كل شيء” و”فوق.. فوق”.

القاع والقمة

فإذا ما انتقلنا إلى كابوريا لوجدنا أنفسنا امام ملهاة موسيقية قوامها فكرة بسيطة أخرى لعصام الشماع جرى تقديمها لنا من خلال صعاليك أربعة من قاع المدينة يتزعمهم ملاكم هاو “هدهد” (أحمد زكي) في مواجهة امرأة فاتنة لعوب حورية (رغدة) وزوجها المليونير سليمان (حسين الإمام).

أما كيف التقى أهل القاع بأهل القمة، فهذا ما يحكيه خيري بشارة، في فيلمه الروائي الخامس بأسلوب ساخر، زاخر بالدعابة يمتزج فيه الواقع بالخيال المنطلق من القيود الضارب في آفاق لا تعرف الحدود.

وأول الدعابات في مسلسل المفاجآت الملئ بها كابوريا لقطة البداية التالية مباشرة لانتهاء العناوين ويالها من بداية.

انها تصور وجهي سيدتين في خريف العمر، تتبادلان أطراف حديث لا نفهم منه شيئاً لا لسبب سوى أن كلمات الحديث ليست بلغة الاباء، إنما بلغة الفرنسيس.

صراع الديكة

فاذا ما تحركت الكاميرا بعد ثوان إلى وراء اكتشفنا أن الحديث داخل فندق عائم، وأن ثمة خشبة مسرح يتوسطها المطرب الشعبي شفيق جلال مرتدياً بدلة سهرة بيضاء مشنفاً الآذان، بأغنية فرانكو آراب ما أن تنتهي حتى يزف إلى الحضور بشرى بدء مباراة يتقاتل فيها ديكان يتحلق حولهما الجمع المنقسم إلى فئتين مبعث تخاصمهما مراهنة إحداهما علي ديك، والثانية علي الديك الآخر.

وقد يبدو هذا النوع من اللهو غريباً على مجتمعنا.

ولكن لم استبعاده وسط الشرائح الواسعة الثراء وليدة الانفتاح، تلك الشرائح المعروف عنها ولعها الشديد بكل ما هو أجنبي، والتي هي بحكم مصالحها لا تستثمر أموالها إلا في الخارج حيث الأمن والأمان، وبحكم ميولها الاستهلاكية لا ترنو إلا إلى كل ما هو مستورد، حتى ولو كان لهواً ولعباً.

وقريباً من الفجر، وبعد التعرف علي حورية وزوجها المليونير أثناء الرهان على الديكة، تتجه الكاميرا من العوامة (يلاحظ أن أول فيلم روائي مهم  لبشارة اسمه العوامة 70) إلى سطح النيل حيث نرى قارباً يتهادى بشبان ثلاثة بينهم هدهد الذي كان يردد مع صاحبيه كلمات أغنية “قزقز كابوريا.. أكل الكابوريا لا يعلى عليه”.

النداء

وهي كلمات استرعت انتباه حورية السيدة الجميلة الغنية فحفزتها إلى مناداة الشبان الثلاثة، طالبة إليهم الصعود وذلك للاستماع إلى أغنيتهم والاستمتاع بما تنطوي عليه من غريب الكلمات.

وطبعاً لبوا النداء، غير أنهم ما كادوا يدخلون العوامة حتى لمحهم زوج حورية المليونير واستفزه سوء هيئتهم الذي اعتبره نشازاً خليقاً بالطرد والإبعاد.

فإذا ما قاوموا ذلك، نشبت بينهم وبين حراس فتوات معركة جرى فيها تبادل اللكمات حتى انتهت بهم إلى تخشيبة قريبة سجناء.

وفي فجر اليوم التالي تم الافراج عنهم جميعا بكفالة دفعتها السكرتيرة أو بمعنى أصح الوصيفة سحر رامي، بأمر من سيدتها حورية لغرض في نفسها سرعان ما يستبين لنا فيما هو قادم من مفاجآت.

هكذا بدأ الفيلم بداية بليغة حددت في لقطات قليلة مختصرة الاطار الذي ستجري داخله الأحداث .. إطار الملهاة الموسيقية.

على باب الله

بعد هذه المقدمة التي حددت للفيلم اطاره، ينتقل بنا صاحبه إلى حي شعبي حيث نرى هدهد يتلاكم في مبارة فوق حلبة مقامة بواسطة الأهالي في إحدى الساحات.

وها هو ذا يختلس بين الحين والحين النظر إلى فتاة قمر تتابع المباراة من إحدى النوافذ المطلة على الساحة.

ومن خلال عدد جد محدود من المشاهد التالية لتلك المباراة تتضح لنا ملامح شخصيته.

إنه شاب منصرف عن العمل في ورشة أبيه صانع القوارير الزجاجية مختلفة الألواح، طموحه هو صاحباه إلى الصعود بفضل الملاكمة إلى الأوليمبية (يقصد الأوليمبياد). متعلق بحب جارته قمر التي يرفض أبوها خطبته لها لأنه صعلوك لا مهنه له، ملتقط رزقه بوسائل غير مألوفة تلعب فيها العضلات دوراً حاسماً.

وما أن تنتهي تلك المشاهد، التي من بينها مشهد رائع في مولد حيث ينضم إلى الشلة شاب رابع ضخم مفتول العضلات، كان هدهد قد كشف احتياله أمام المتفرجين مضيعاً عليه بذلك عرق جبين ليلة بكاملها حتى ترسل السيدة الجميلة وصيفتها إلى هدهد وشلته عارضة عليهم القيام بمباريات ملاكمة علي حلبة مقامة في حديقة قصرها المنيف.

المصارعون الجدد

وبدءًا من لحظة قبولهم لذلك العرض المغري ينعطف الفيلم انعطافاً شديداً، فإذا بنا أمام مشاهد داخل ذلك القصر يقامر فيها أصحابه علي الآدميين بدلاً من الديكة، مشاهد تهزنا إلى الضحك بما تعرض أمام أعيننا من مناظر سمعنا عن متشابهات معها علي مدار التاريخ، فنضحك من سخفها أو نتفكه بمفارقاتها.

مناظر تذكرنا بعهود طغيان الأباطرة الرومان حينما كانوا يدفعون بالعبيد إلى ملاعب للاقتتال كالوحوش الكاسرة، وسط صيحات غضب او استحسان مندفعة من حناجر متفرجين متعطشين للدماء.

وكأن صاحب الفيلم يريد بذلك أن يقول أن شيئا لم يتغير فالصعاليك الذين يتم اصطيادهم فجراً كي يتسلى بهم علية القوم ليلاً، شأنهم في ذلك شأن الكابوريا التي يجري اصطيادها مع مطلع الفجر كي يتسلى بأكلها من معه ثمنها، ليلاً، هؤلاء الصعاليك لا يختلف أمرهم كثيراً عن أمر العبيد الذين كان الأسياد يلهون بهم في سالف الزمان.

الذوق السليم

وأخيراً فكم كنت أحب أن أعرض شيئاً من خصائص الفيلم الفنية التي تتصل أولاً بأغانيه التي أراها رغم كل غرابة كلماتها خالية من أي ابتذال يقف حائلاً رقابياً دون سماعها على أشرطة تسجيل.

وثانياً بملابس كل من رغدة وسحر رامي التي أراها قد جنحت إلى ابهار لا يتحلى بأي ذوق سليم.

وكم كنت أحب كذلك أن أتحدث تفصيلاً عن حياة الصعاليك الأربعة في تيه القصر المنيف، وكيف راودت حورية هدهد عن نفسه، وكيف كتب له هو وصحبه التحرر من سحر القصر الخفي، والنجاة بأنفسهم كما يوليس في أساطير الأولين.

ولكن شيئاً من هذا لا أستطيعه لضيق المكان كل ما استطيعه في هذا الخصوص هو أن أقول أن الفيلم قد خلص بصعاليكه إلى النهاية الحتمية في أي عمل سينمائي له طابع الملهاة الموسيقية، النهاية التي تقول بأن الكل سعيد بل قل في منتهى السعادة !!

اسكندريه كمان وكمان في الميزان

السينما صناعة  وهي إذا كانت تختلف عن صناعة الأدب من بعض الوجوه فانها تشبهها في بعض الوجوه الأخرى، وأية ذلك قيام مخرجي السينما بإبداع أفلام عن الأفلام.

فثمة وجه شبه بين ذلك النوع من أنواع الابداع وبين قيام الروائيين من حين لآخر بكتابة روايات مدارها أمثالهم من الروائيين أو جنوح المسرحيين من حين إلى حين إلى كتابة مسرحيات ليس لها من موضوع سوى ما يدور في كواليس المسرح من وقائع وأحداث.

وهناك مبررات للأفلام التي من ذلك النوع – من بينها رغبات مبدعيها في تعرية أنفسهم من جميع الأسرار والأوزار واستعادة ذكريات ما كان من أمرهم مع المنتجين والاستديوهات، والتعبير عن غضبهم على نظام يستغلهم بلا حسيب أو رقيب.

يبقى مبرر آخر – ولعله الأهم، وهو وصف العالم الذي كل ما فيه مكشوف لهم، في تناول أبصارهم وأفكارهم على وجه ليس في مقدور الغير سواء كان هذا الغير من خاصة أو عامة الناس، آملين بفضل ذلك الالتفات إلى الوراء الإدلاء ببيان على الشاشة قد يكون مسوغاً لتبادل النظرات والاختبارات والآراء.

وعلى كل حال، فقد اشتهر عن دنيا الأعمال في مجال السينما القسوة البالغة في المعاملات.

ولا غرابة إذن إذا ما عكست أغلب الأفلام التي محورها الأفلام تلك القسوة، فضلاً عن التعبير بدرجات متفاوتة من التكثيف عن المأزق الذي يعيشه مبدعو الأطياف.

والسؤال ما هو هذا المأزق وما أسبابه ؟

والجواب على هذا السؤال ليس عسيراً.

فأولاً ثمة ذلك الصراع الدائم من أجل التمويل والجهد المجدب الذي يثقل كاهل المبدعين، وغالباً لا طائل فيه ولا غناء.

هذا – أول

ثم تلك المعارك التي تستنزف الطاقات مع رؤساء استديوهات حظهم من الثقافة أقل القليل، ومنتجين مستبدين يقاسون من غباء شديد ونجوم كل شيء من أمر نزواتهم وأهوائهم غريب عجيب !

وفوق كل هذا ممارسات فاسدة وشريرة في صناعة ما استطاعت آية صناعة أخرى أن تبلغ شأنها في الفساد ولا تساويها ولا تضاهيها في النكر والشر.

فعلى امتداد تاريخ السينما – وهو تاريخ قصير- كثيراً ما كان يجد صاحب الفيلم نفسه مواجهاً بالتعدي المذل على ابداعه بالتعديل والتبديل، تارة بإعادة التصوير، وتارة بإعادة التوليف.

فإذا ما كتب لفيلمه أن يتوج في الشباك بالنجاح، ضيعوا عليه بالغش والخداع نصيبه العادل من الأرباح.

أما فيما لو لم يقبل الجمهور على مشاهدة فيلمه، فهذه النقمة لابد وأن تنتهي به موصوماً محروماً من مواصلة الابداع، والحواديت المرعبة التي تُروى في هذا الخصوص لا عدّ لها ولا حصر.

أسئلة وأجوبة

وفي الحق، فما أن يلتقي صانعوا الأفلام، حتى يبدأ الحديث، وتتتابع الأسئلة لاهثة حول الخيانات والاساءات وصنوف التشويهات التي لا تعرف قصداً ولا اعتدالاً.

لماذا عاد “اليا كازان” إلى كتابة الروايات تائباً عن إخراج الأفلام ؟

ولماذا كلما جاء ذكر لحياة “اورسون ويلز” الفنية اعتبرها الكثير حياة أقرب إلى المأساة.

ولماذا وجد “فرانسيس فورد كوبولا” نفسه، وهو يصور “الأب الروحي” مرفوتاً بدل المرة خمس مرات؟

ولماذا لم تتح لشادي عبد السلام فرصة إخراج “اخناتون” بعد رائعته “المومياء”؟

ولماذا تراجعت “مترو جولدين ماير” عن اتفاقها مع “فريد زيغمان” الذي كان على وشك الشروع بموجبه في إخراج قصة “اندريه مالرو” الشهيرة “مصير انسان”؟

ولماذا امتنع على “جورج كوكور” مواصلة إخراج “ذهب مع الريح”؟

ولماذا لم يستطع “جون هوستون” الوفاء بالتزامه إخراج “وداعاً للسلاح”؟

ولماذا انتهى الأمر بالمخرجين العبقريين “اريش فون شتروهايم” و”دافيد جريفيت” إلى حياة عامة كلها بؤس ويأس؟ ولماذا مات المخرج “نيازي مصطفى” مقتولاً قبل ثلاثة أعوام، ولم يعثر على الجناة حتى يوما هذا؟

وماذا عن كتاب السيناريو الذين أدرجت أسماؤهم في قوائم سوداء تحول بينهم وبين الاستمرار في الإبداع والممثلين الذين ضيق عليهم الخناق حتى آثروا مفارقة الحياة بالانتحار؟

ولماذا كل هذا الكم الهائل من الفضائح والخلافات والخصومات؟

ولماذا الانحدار بالمواهب الجميلة دون أخذ ندرتها في الاعتبار؟ اسئلة كثيرة لا نهاية لا لها.

وطبعاً، وفي كل حالة ثمة إجابة لكل واحد منها.

قانون الغاب

ولكن الإجابة العامة عليها جميعاً إنما تكمن في خصائص صناعة السينما، تلك الصناعة التي تقوم على انتاج سلع ليس لها قيمة تستطيع بها أن تتجاوز حدود قدرتها على التسلية والامتاع.

وهكذا لا تعتمد، لاستمرار بقائها إلا على قوة الذوق العام، وهي قوة يصعب التنبؤ بها وحسابها حساباً دقيقاً فصناعة السينما، وعلى عكس غيرها من الصناعات كالصلب والفحم والسيارات، تتعرض بحكم طبيعتها إلى ضغوط اقتصادية شديدة الصرامة، وتلك الضغوط يتولد عنها تقلبات عنيفة مؤدّاها تمزق الأفراد، والتحول بهم أحياناً إلى مسوخ شائهة أو إلى حطام.

فدنيا الأعمال في مجال السينما دنيا فاسدة، متقلبة، قاسية لا ترحم.

وكل ذلك يرجع إلى عدة أسباب أهمها تزاوج جميع المشاكل الملازمة لأي نوع من أنواع تجارة الاستعراض (وتجارة الأفلام لا تعدو أن تكون امتداداً لتجارة الكرنفال والسيرك) بالمشاكل الملازمة للمضاربة في رأس المال الكبير.

فمن المعروف أنه ما أن يتعرض رأس المال الكبير للخطر، حتى يعاني الفنان.

فمن الصعوبة بمكان التوفيق بين متطلبات النجاح في الشباك، وبين تحقيق فنان السينما لذاته من خلال التعبير بلا قيود عما يحس ويشعر.

ومن عجب أنه، ورغم كل ما تقدم فعدد الأفلام التي تدور وجوداً وعدماً حول عملية إبداع الأفلام قليل بل قليل جداً، إذا ما قيس بالآلاف المؤلفة من الأفلام التي جرى انتاجها على امتداد قرن من عمر الزمن.

التجديد والتقليد

وأعجب العجب أن أهم تلك الأفلام القليلة – إذا ما استثنينا “الردئ والجميل” (1952) لصاحبه “فنسنت مينيللي” و”السكّين الكبير” (1955) لصاحبه “روبرت الدريش” لمخرجين من غرب أوربا “فثمانية ونصف” (1963) للمخرج الايطالي “فيديريكو فيلليني” و”الاحتقار” (1963) للمخرج السويسري “جان لوك جودار”، و”الليل الأمريكي” (1973) للمخرج الفرنسي الراحل “فرانسوا ترينو” و”حالة الأشياء” (1982) للمخرج الألماني “فيم فندرز”.

وأكثر تلك الروائع الأربعة غموضاً هو”الاحتقار” وليس هذا بالأمر الغريب، لما هو معروف عن صاحبه “جودار” من ميل جامح نحو الابتكار والتجديد.

والآن، يمكننا أن ندخل في عداد تلك الأفلام الجدّ قليلة فيلم يوسف شاهين الأخير “اسكنرية كمان وكمان”.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما جنحت إلى القول بأنه أول فيلم متكلم بلغة الضاد، يعرض لموضوع من هذا القبيل.

وهو بهذه المثابة، يعتبر في نطاق الوطن العربي عملاً سينمائياً رائداً. وأول من تنبه إلى أن “اسكندرية كمان وكمان” هو من ذلك النوع النادر من الأفلام كان مراسل التايم الأمريكية في القاهرة (عدد 3/9/1990) الذي كتب عنه قائلاً “أنه فيلم تتشابك فيه الكوميديا الموسيقية بالتسجيلية الاجتماعية والفانتازيا والهزل والهازل”. كل ذلك والمخرج منهمك بالبحث عن الحقيقة ومعرفة الذات إنه المعادل لفيلم “فيلليني” “ثمانية ونصف”.

ورغم كثرة الكلام عن الفيلم في جميع محلاتنا وصحفنا، وهو كلام في جملته يتسم بالإسراف في الإشادة والإطناب.

وكل ما يمكن أن أقوله في شأن هذا الكلام هو ترديد فاتحة “جان بول سارتر” لدراسته “ما الأدب؟”، “ما أكثر الحماقات وما أسرع ما يقرأ الناس، وما أقل ما يفهمون، وما أكثر ما يحكمون قبل أن يفهموا” رغم ذلك فإن أحداً من أصحاب هذا الكلام الكثير لم يشر إلى “ثمانية ونصف” لا من قريب ولا من بعيد.

وفي اعتقادي أن “شاهين” قد تأثر وهو يُعمل فكره في سيناريو”اسكندرية كمان وكان” لا بفيلم واحد، وأنما بفيلمين أحدهما “ثمانة ونصف” والآخر”الاحتقار”.

ولا عيب في التأثر بهاتين الرائعتين فلا أحد مولع بالسينما إلا ومعجب بهما.

والإعجاب أول التقليد والتقليد أول الابداع. ولعل تأثره بالاحتقار يحمل بعض التفسير لغموض المغزى المقصود من مشاهد “الاسكندر الأكبر” و”كليوباطرة” وغموض صلة تلك المشاهد بالخط الرئيسي للفيلم، وغموض تقاطعها وتعارضها مع ذلك الخط.

وليس من شك أن كل هذا الغموض المشوب به الفيلم قد جعله بمنأى عن الفهم.

ولو استطعنا الفهم، وهو أمر من الصعوبة بمكان في حالة الاكتفاء أولاً بمشاهدة الفيلم مرة واحدة وثانية بسماع الحوار، لا سيما ما جاء منه على لسان “يحيى الاسكندراني” (يوسف شاهين) دون الاستعانة بترجمة له على الشريط بإحدى اللغات الأجنبية.

العلاقات الخطرة

لو استطعناه لاستبان لنا أن الخط الرئيسي في الفيلم محوره علاقة معقدة بين مخرج “يحيى الاسكندراني” وممثل شاب “عمرو عبد الجليل” كان الأول قد اكتشفه واتاح له فرص التألق في أفلام من إخراجه عرض بعضها في مهرجانات أولها “برلين” وآخرها “كان”.

والفيلم يبدأ بالممثل الشاب متمرداً رافضاً أداء دور “هاملت في الاسكندرية” فيلم أستاذه الجديد.

وما هي إلا مدة قصيرة حتى كان الفتى قد تحرر نهائياً من وصاية الأستاذ بالزواج من الفتاة التي أحبها، فضلاً عن إخراج مسلسلات تليفزيونية سوقية يجري تمويلها ببترو دولارات قادمة من الخليج تنشر الفساد.

ويعاني الأستاذ من عذاب فراق الفتى، بل قل التمثال الجميل الذي أحسن تشكيله على صورته بحيث يكون امتداداً لشبابه الذي ولى بلا أمل في أن يعود، فإذا به بفضل الفتى يعود.

ويمتد به العذاب على امتداد عرض الفيلم لأن حبه للفتى لم يكن حباً عابراً ولا سطحياً وإنما كان من هذا الحب الذي لا يكاد يبلغ القلوب حتى يستقر فيها ويستأثر بها.

وهو من فرط حب هذا الذي ملك عليه كل شيء يتصور الفتى في أدوار هاملت والاسكندر الأكبر.

الاعتصام.. لماذا ؟

فاذا ما انقلب الحب بينهما من شراب صفو إلى سم زعاف لاسيما بعد أن أصبح الفتى بفضل ذهب الخليج من تلك الفئة القليلة صاحبة العربات المرسيدس الفارهة وبعد أن امتنع عن الذهاب إلى دار نقابة السينمائيين للتعبير عن تضامنه مع المعتصمين والمضربين عن الطعام احتجاجاً على القانون رقم 103 لسنة 1987.

رأينا الأستاذ قريباً من نهاية الفيلم، وقد جنحت به ساديته إلى تصور الفتى في وضع دموي ممعن في القسوة.

فها هو ذا، وفقاً لهذا التصور، راقد داخل تابوت زجاجي في حجرة فرعونية تحت الأرض يخترق سقفها خازوق يصل إلى قلب الفتى مفجراً دماءه التي تسيل حتى تغطي الشاشة تماماً.

وفي أثناء هذا كله، ثمة خط فرعي مقحم على حكاية وقوع الأستاذ في غرام الفتى، مداره اعتصام نفر من الفنانين احتجاجاً على قيام مجلس الشعب باصدار القانون المُشار إليه في الخفاء.

فبفضل هذا الاعتصام الذي صاحبته ضجه كبرى، وانتهى في الواقع كما في الخيال الفيلمي إلى لا شيء، بفضله يلتقي الأستاذ في دار النقابة بفتاة متمردة “نادية” (يسرا) حلوة الحديث، تجمع إلى براعتها في فن التمثيل، ثقافة واسعة وظرفاً فاتناً.

وسرعان ما تترك الفتاة في قلبه جذوة لا سبيل إلى اطفائها، فيتصورها كليوباطرة، ويعلق عليها آمالاً عراضاً تنسيه حبه القديم، وتدفع به إلى مواجهة قضية حياته مع الفن في أفقها الوسيع والعميم.

الغائب والحاضر

يبقى أن أقف قليلاً عند ثلاث ملاحظات لا تزيد. الأولى أن الخط الرئيسي في الفيلم ليس محوره الصراع بين المخرج والمنتج كما هو الحال في روائع مثل “ثمانية ونصف” و”الاحتقار” و”حالة الأشياء”.

وأنما نوع آخر من الصراع غريب بين مخرج هيمان بممثل، ولا يريد له أن يكون حراً مستقلاً يختار الحياة خاصة كانت أم عامة وفقاً لمزاجه ولما يراه محققاً لمصالحه.

وعندي أن ثمة سبباً لمجئ الفيلم خالياً من أي صراع بين المخرج والمنتج حتى ولو كان تلميحاً، وما استتبع ذلك من نتائج ليس أقلها الافتقاد لأي نقد جاد لفساد الأمكنة والعلاقات في دنيا السينما.. فما هو؟

إنه يكمن في أن صاحب الفيلم يجمع بين وظيفتي الانتاج والاخراج وغني عن البيان أنه ما أن تجري المفاضلة بين الاثنتين، إلا وتكون الغلبة للتاجر على حساب الفنان في أغلب الاحيان.

والثانية أن الفيلم دار حول معان كثيرة دون أن يقدمها لنا بجلاء ومنطق واضح يترتب لاحقه على سابقه.

صوت الرجعية

وبالتالي عجز عن أن يبعث فينا الاحساس بمأساة الضياع والفقدان.

ولعل مشهد الفتى، وهو يرقص وحيداً على صوت أم كلثوم وهي تشدو “فات الميعاد” تعبيراً منه عن أوجاعه الناجمة عن عدم فوزه بجائزة التمثيل في مهرجان كان، هذا في نفس الوقت الذي نرى فيه الأستاذ غير مكترث بحال الفتى، محتسياً مع الرفاق الأجانب الشمبانيا، وكأن شيئاً لم يحدث.

لعله أحد المشاهد التي تدل دلالة قاطعة على ذلك العجز عن البيان.

فصاحب الفيلم يريد أن يقول بهذا المشهد أن صوت أم كلثوم رمز للتخلف.. وأن الفتى باستمرار الاستماع اليه والتأثر به مشدود لا محالة إلى الوراء.

وليس من شك أنه وبفرض صحة ذلك القول – وهو في رأيي غير صحيح – فالرمز للتخلف بصوت أم كلثوم أمر غير مفهوم إلا لقة من الناس.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتنحصر في أن مشاهد الاسكندر الأكبر وكليوباطرة إنما تروع بسوقيتها وما أحب أن أدخل في أعماق تلك السوقية وتفاصيل تيهها فذلك شيء لا يتسع له هذا الحديث.

كل ما أستطيع أن أقوله الآن عن تلك المشاهد أنها من نوع فن “الكيتش”، وهي لفظة إلمانية تعني التافه أو الهراء أو النفاية في بعض الأحيان.

محرقة اليهود في الأفلام

كلمة “هولوكوست” من الكلمات التي لها تاريخ يرتد إلى أيام الرومان، فهي لاتينية الأصل، تعني الإبادة الكاملة، لاسيما بالاحراق.

ولم يكن للإبادة بذلك المعنى علاقة باليهود لا من قريب ولا من بعيد.

وظل الحال كذلك إلى أن بدأت محاكمات مجرمي الحرب في نورمبرج عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بانحدار المانيا الهتلرية.

فبفضل تلك المحاكمات تكشف للعالم أن من بين جرائم النازية- وهي كثير- تبني سياسة تقوم على أساس تقسيم الشعوب عنصرياً إلى شعوب راقية تتحكم وتسود، وأخرى منحطة لا تستحق البقاء.

العاصفة المميتة

وكان من مقتضى تلك السياسة المسرفة في عنصريتها حشد الأفراد المنتمين إلى تلك الشعوب المقول بانحطاطها، حشدها في معسكرات اعتقال تمهيداً للإلقاء بهم في أفران أعدت خصيصاً لقتلهم جماعياً بغازات سريعة المفعول، حتى إذا ما جاءهم الموت بغته، تم حرقهم بنيران حامية لا تبقى من جثثهم شيئاً.

وما أن ذاع أمر هذه الجريمة البشعة، حتى تطلعت على الانسانية كلمة “هولوكوست” يعبر بها عن أهوال الاصطلاء بنيران تلك الأفران.

فإذا بها تعطي الآثر المراد من استعمالها لا أقل ولا أكثر وإذا بها منصرفة منذ البداية إلى جميع ضحايا المحرقة سواء أكانوا من الروس أو البولنديين أو الغجر أو اليهود أو غير ذلك من الشعوب التي اصطلت بتلك النيران.

وجملة القول أنها كانت كلمة مناسبة تماماً للمقام.

تحريف التاريخ

ثم تتقدم الأعوام، وإذا بأخبار كابوس المحرقة ينتشر رويداً على وجه يوحي باقتصار المحنة الكبرى على اليهود دون غيرهم من الشعوب.

وإذا بالكلمة تتعرض لتشويه أحالها إلى لفظة لا تعني كلما قيلت سوى شيء واحد.. محرقة اليهود.

ونتيجة لذلك كاد جميع ضحايا تلك المحنة، فيما عدا اليهود، أن يختفوا من على شاشة الذاكرة.

وهكذا كتب على ضحايا المحرقة- باستثناء اليهود- الإبادة مرتين الأولى بواسطة هتلر وجلادية والثانية بواسطة محرفي التاريخ.

والآن، وبمناسبة ذكرى مرور نصف قرن من عمر الزمن، على نشوب الحرب العالمية الثانية وخمسة وأربعين عاماً على انتهائها، خرجت علينا مطابع دور النشر في الغرب بكتب عديدة عن المحرقة من بينها “الكل أو لا شيء”: المحور والمحرقة (هولوكوست) لصاحبه “جوناثان شتا ينبرج”، “لماذا تظلم السماوات – الحل النهائي ” لصاحبه “ارنومايير” و”نهاية المحرقة.. تحرير المعسكرات” لصاحبه “يون بريد جمان” و”الشرطي ابتسم” لصاحبه “باري تيرنر” و”ظلال لا تنمحي.. الفيلم والمحرقة” لصاحبته الدكتورة “انيت انسدروف” “الطبعة الثانية”.

وهذه الكتب – جميعها وبلا استثناء – تتناول مأساة المحرقة من منطلق أن اليهود وحدهم هم الضحايا.

وأسجل، منذ الآن، أني لن أعرض من بين الكتب سالفة الذكر، إلا للكتاب الأخير، لا لشيء سوى أنه الكتاب الوحيد الذي تناول محرقة اليهود في السينما، فضلاً عن أن تناوله لها قد اتسم بالإمعان والتعمق.

وما أزعم لهذه المحاولة احاطة وشمولاً فهي لا تعدو أن تكون تمهيداً للكلام عن أهم أفلام أمريكية تناولت محرقة اليهود مما جرى عرضها خلال الأشهر الأخيرة.

وهي أفلام ثلاثة لا تزيد، أحدها “انتصار الروح” سبق وأن عرضت له باستفاضه هنا في مجلة الهلال (مايو 1990).

أما الفيلمان الآخران “أعداء.. قصة حب” و”صندوق الموسيقى”، فقد اتيحت لي فرصة مشاهدتهما أثناء زيارة أخيرة لباريس.

القديسون الجدد

وقبل الكلام عنهما أعود إلى كتاب “ظلال لا تنمحي”، فأقول أن صاحبته تنحدر من أسرة يهودية تعرضت للاضطهاد إبان فترة خضوع أوروبا للنير الهتلري، حتى أن والديها قد زجَّ بهما في غيابات معسكرات الاعتقال حيث أوشكا على الهلاك في محارق الأفران.

وثمة مقدمة لكتابها في طبعته الثانية بقلم “ايلي ڨيسيل” الحاصل على جائزة نوبل للسلام، وهو بدوره من المنتمين لشعب الله المختار، ومن الذين عانوا عذابات معسكرات الاعتقال، إلى أن هيأت له السماء مع فئه قليلة معجزة النجاة من موت أكيد.

وفي وصف من بقى من تلك الفئة على قيد الحياة، قال أحد أبطال فيلم “صندوق الموسيقى” أنهم بمثابة قديسين أبرار!!

وعلى كُلٍ، “فڨيسيل” في مقدمته تلك يقول أن عالم معسكرات الاعتقال “أوشڨتز” و”تربلينكا”، يتحدى  التعبير بالكلمات.

ويتساءل، هل توجد وسيلة أخرى، لغة أخرى يمكن التعبير بها عن ذلك العالم.

وبعد أن يطرح الصورة وسيلة بديلة للتعبير، يعود فيقول أنها بدورها تثير مخاوفه، بل أن تخوفه منها أكثر بكثير.. لماذا ؟

لأن موضوع الإبادة الجماعية لليهود تنفيذاً لمخطط الحل النهائي، هو في حقيقة الأمر موضوع مقدس، وأي تناول له بواسطة وسائل الإعلام الجماهيرية، وبخاصة الأفلام، إنما يحمل في طياته خطر التدنيس لتلك القدسية.

غير أنه سرعان ما يستدرك قائلاً أن ثمه أفلام عن المحرقة تذهل بمصداقيتها، وأخرى تصدم بسوقيتها.

وفي رأيه أن من بين أفلام النوع  الأول “الليل والضباب” للمخرج الفرنسي “آلان رينيه” صاحب “هيروشيما حبي” و”حديقة فينزي كونتيني” للمخرج الايطالي “فيتوريو دي سيكا” و”قيثرات الحفل” للمخرج الفرنسي”ميشيل دراش” و”الحانوت في الشارع الرئيسي” للمخرجين التشيكيين “يان كادار” و”المار كلوس”.

عش الغراب

أما بالنسبة للافلام الموصومة بالسوقية، فلم يتوقف “ڨيسيل” إلا عند المسلسل الأمريكي الشهير “المحرقة” قائلاً أن عرض أهوال المحرقة في صورة مغامرة رومانسية، لأمر مهين للموتى، جارح للاحساس.

وفي مقدمة أخرى، ولكنها لصاحبة الكتاب، جاء على لسانها ما مفاده، انه رغم أن ما شاهدته من أفلام عن المحرقة حتى عام 1980، قد بلغ عدده ستين فيلماً على الأقل، إلا أنها ما كادت تنتهي من وضع اللمسات الأخيرة على الطبعة الأولى لكتابها (1982)، حتى كان قد تم طرح عشرين فيلماً جديداً عن المحرقة ثم تكاثر عدد الأفلام التي من هذا القبيل على وجه يشبه تكاثر عش الغراب، حتى وصل الأمر قريباً من نهاية عام 1988 إلى أن ثمة حوالي مائة فيلم جديد ما بين روائي (40 فيلماً) وتسجيلي (60 فيلماً).

وهي جميعاً ليس بينها فيلم واحد لا يستحق أن يُشار إليه في الكتاب، ولو ببضع كلمات..

هذا ولو كان قد كتب للطبعة الثانية من كتابها أن يتأخر ظهورها وقتاً قصيراً، لوجدت نفسها أمام عدد غير قليل من أفلام جديدة تعرض للمحرقة من بينها “أعداء.. قصة حب” و”صندوق الموسيقى”.

وأغلب الظن أنها، ومهما اصطنعت الحذر والاحتياط، فما كانت لتطمئن لهذين الفيلمين، وما كانت لتتحمس لهما لا لسبب سوى أن الأول مسرف في السوقية، والثاني مفرط في الفاشية.. كيف ؟

تعدد الزوجات

“هرمان برودر” (رون سيلڨر) بطل “أعداء.. قصة حب” الفيلم المأخوذ عن رواية للأديب الأمريكي اليهودي “اسحاق سنجر”؛ ذلك البطل أحد الناجين من النار.. نار الأفران.

والفيلم يبدأ به مختبئاً في جرن، وكلاب النازي من حول المكان تنبح مسعورة.

أنه في كابوس، يشقى به أثناء اليقظة، وأثناء النوم وها هو ذا، يهب مفزوعاً، لنكتشف أنه ليس في أوروبا أيام النازية، وإنما في أمريكا وبالتحديد “كوني ايلاند” بنيويورك.

ولنكتشف، بعد ذلك، أنه يعيش مع “يادويجا” (مارجريت سوفي شتاين)، وهي فلاحة كانت تعمل خادمة في بيت عائلته اليهودية ببولندا، وكان لها فضل انقاذه من المحرقة بتوفير مكان أمين له في الريف حيث ظل مختبئاً زهاء ثلاثة أعوام إلى أن كتب له النجاة.

ورغم زواجه منها عرفاناً منه لجميلها عليه، إلا أن هذا لم يحل بينه وبين اقامة علاقة غرامية عاصفة مع “ماشا” (لينا أولين)، وهي أمراة يهودية ألّمت بها خطوب العذاب الذي لا يشبهه عذاب في معسكرات الاعتقال النازية والسوفييتية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتهى، ازاء الحاح “ماشا”، إلى عقد قران بينهما جرى وفقاً للطقوس اليهودية.

كل ذلك، والزوجة “يادويجا” لا تعلم من أمر تلك الخيانة شيئاً.

وتمضي الأيام، وإذا بهرمان يلتقي فجأة في وسط نيويورك “بتامارا” (انجيليكا هوستون)، وهي أمراة يهودية كان قد تزوجها في بولندا قبل نشوب الحرب.

وكان من المفترض أنها وأولادها منه قد ماتوا جميعاً مقتولين برصاص الألمان.

وهكذا نجد “هرمان” وقد عبثت به الأقدار فإذا به صاحب ثلاث زوجات في آن واحد وهو نتيجة لذلك في حيرة مهلكة، لا يعرف لنفسه غاية يقف عندها، ولا يعرف كيف يصل إلى قرار.

ولعل خير وصف لحيرته تلك أحد مشاهد الفيلم حيث نراه داخل إحدى محطات مترو الأنفاق متردداً بين القطارت أيها يستقل.. قطار”كوني ايلاند” حيث “يادويجا” أم قطار “برونكس” حيث “ماشا” أم قطار وسط نويورك حيث “تامارا”.

الجنس اللذيذ

وفيلم له موضوع كهذا، ومن انتاج هولويوود وإخراج “بول مازورسكي”، لابد وأن يكون زاخراً بمواقف لا تخلو من فكاهة، ومشلهد لا تخلو من جنس فاضح، وآية ذلك المشاهد التي تصور علاقة هرمان  بماشا.

فهي تصور حبهما الجامح المندفع كالسيل من خلال لقطات لهما، وهما عاريان يتصببان عرقاً.

وفي ظني أن تلك المشاهد هي التي حدت “بڨارايتي” أقدم مجلات السينما وأوسعها انتشاراً إلى وصف الفيلم.. وهي في مجال الثناء عليه – بأنه جنسي لذيذ.

وليس من شك أن الفيلم بتلك المشاهد التي آراها تجارية شديدة الابتذال، قد أساء إلى قداسة المحرقة القائل بها “ڨيسيل” في مقدمته سالفة الذكر.

فإذا ما انتقلنا إلى “صندوق الموسيقى”، لوجدنا أنفسنا أمام فيلم قال عنه صاحبه المخرج “كوستا جافراس” في حديث له مع مجلة “سينيياست” الأمريكية (العدد الثالث 1990)، أنه أراد بإخراجه إعادة المحرقة إلى الذاكرة، وبخاصة ذاكرة الشباب.

الماضي المجهول

والمحور الذي يدور حوله الفيلم وجوداً وعدماً هو العلاقة بين “مايك لازلو” الذي قام بأداء دوره الممثل الألماني الكبير “أرمين مويلر شتال” وابنته “أن تالبوت”، وقد قامت بأداء دورها النجمة الذائعة الصيت “جيسيكا لانج” و”لازلو” حسب سيناريو الفيلم الذي أبدعه “جواشترهاس”، مجري ترك وطنه مهاجراً إلى الولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية بثلاثة أعوام. وبعد أن مضت الأيام حتى أصبحت أربعين عاماً، جاءه كتاب من وزارة العدل الأمريكية مفاده أنه متهم بإخفاء حقيقة مهنته في طلبه الذي مُنح بموجبه الجنسية الأمريكية.

وأنه في حالة ثبوت تلك التهمة، فلابد من ترحيله إلى المجر حيث تتجه النية إلى محاكمته عن جرائم بشعة اقترفها في حق اليهود.

وطبعاً ينكر “لازلو” الاتهامات الموجهه إليه، مُصّراً على أنه كان فلاحاً بسيطاً، وليس حارساً في فرق التعذيب والإبادة.

الولاء لمن؟ 

وتنبري ابنته “آن”– وهي محامية ماهرة– إلى الدفاع عنه، وذلك لأنها كانت تؤمن ببرائته مما يصفون.

وما أن تنتهي القضية بصدور حكم ببرائته، حتى يتضح لها، بفضل صور ثابتة لأبيها لا تقبل الشك، أنه من عتاة مجرمي الحرب.

وهنا يتنازعها ولاءان أحدهما الولاء للأسرة، والآخر الولاء للمجتمع.

وبعد تردد لم يدم طويلاً، تغلبت مسئوليتها نحو المجتمع على ولائها نحو أسرتها.

وها هي ذي تتصل بمكتب الإدعاء طالبة إليه إعادة إقامة الدعوى العمومية ضد أبيها على أساس الصور الثابتة التي في حوزتها.

والفيلم بتلك النهاية، إنما يريد أن يقول أن على الأبناء أن يشوا بالآباء إذا كان في ذلك تحقيق للصالح العام.

ومثل هذا القول لا يختلف في جوهره عما كان يدعو إليه أنصار النازية في سالف الزمان.