قضية المرأة ومكانتها في سينما العالم الثالث

للنساء وضع خاص يتميزن به عن سائر الفئات الاجتماعية الأخرى، وذلك بحكم أنهن  ينتسبن  إلى وحدات قابلة للعزل فكما هو معروف هن نصف لكل شامل: الجنس البشري، وإذن فوجودهن أمر جوهري، بل لازم وليس له بديل ومن ثم لا يمكن أن يتماثل استغلالهن مع استغلال غيرهن من الفئات الاجتماعية، بل لابد أن تختلف الطرق والوسائل.

وعن ذلك قالت بحق جولييت ميتشل في مقال لها “النساء أطول ثورة”: إن الوجود الإنساني يرتهن بهن، لا يتصور بدونهن، ومع ذلك فهن أضعف الخلق، مجرد كائنات هامشيات فيما يُسند إليهن من أدوار اقتصادية واجتماعية وسياسية.

ومهما يكن من الأمر، فهذا الجمع بين اللزوم والهامشية في آن واحد، هو الذي أدى- مع عوامل أخرى- إلى كارثة فقدان النساء للحرية، ولما كان قائماً بين جنسهن وبين جنس الرجال من مساواة في سالف الزمان.

فإذا ما انتقلنا إلى عالم الأطياف في السينما، فسنكتشف أن أول فيلم روائي في تاريخ الفن السابع كان من إخراج امرأة اليس جي (1896)، ورغم ذلك فالإبداع السينمائي في معظمه كان، ومايزال، من صنع الرجال.

ومن هنا غلبة الفكر القائل بأن النساء أقل من الرجال عقلاً، وبأن من الحق عليهن أن يخضعن لسيادة الرجال، غلبته على ما تنتجه مصانع الأحلام من أفلام أو بمعنى أصح ركام لا نفع فيه، لاسيما في الدول المسماة بالنامية.

فمثلاً منذ مائة عام أو يزيد، وبالتحديد عام 1873- أي قبل اختراع السينما- اهتم العلامة المصري رفاعة رافع الطهطاوي بالمرأة، طالب بمساواتها بالرجل على أسس علمية، حتى إنه قال “فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة الرجل والمرأة، في أي وجه من الوجوه، في أي نسبة من النسب، لم يجد إلا فرقاً يسيراً، يظهر في الذكورة والأنوثة، وما يتعلق بهما، فالذكورة والأنوثة هما موضع التباين والتضاد”.

ومع ذلك، فأول فيلم مصري روائي طويل يعرض في القاهرة (16 نوفمبرعام 1927)، وهو ليلى الذي أخرجه استيفان روستي وانتجته ومثلته عزيزة أمير قد تناول قصة بطلته على الوجه الآتي: إنها فتاة جميلة يتيمة، يكفلها عمدة قرية صغيرة على مشارف الصحراء، يزور القرية الثري المعروف رؤوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم أحمد الذي يعمل دليلاً للسائحين. وتشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بأحمد وتغريه بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل ثم تطرد ليلى من القرية، بعد اكتشاف أنها حامل من أحمد. وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة، يقف لها رؤوف بك بعربته الفارهة منتظراً أن يصطحبها إلى قصره المنيف حيث النهاية السعيدة بالزفاف.

وقد يكون من الصعوبة بمكان تصور قصة بمثل هذا القدر من التفاهة والبعد عن الواقع، والحط من شأن المرأة، ومع ذلك فهذه النظرة المتخلفة للمرأة، مايزال لها السيطرة على صانعي الأفلام في مصر.

فهي في الغالبية الغالبة من أعمالهم كائن ساذج أو أبله، ضعيف معتدى عليه أشبه بالحيوان أو الطفل الكبير، وكل هذا يحيطونه بهالة من التمجيد والتعظيم.

ولا غرابة في استمرار هذه النظرة حتى الآن واستفحالها، فثمة ردة ثقافية وعلمية وأخلاقية خطيرة أدت حسبما جاء في تعليق للدكتورة نوال السعداوي على مقالة صرخة للدكتور زكي نجيب محمود إلى “اختناق عقول عدد من النساء والرجال داخل زنزانة الجنس المحدود المعنى، القاصر على فكرة واحدة ناقصة تختزل كيان الرجل والمرأة إلى مدلولات جنسية فحسب.

وعن هذه الردة كتب الدكتور سيد عويس في كتابه حديث عن المرأة المصرية المعاصرة ما يأتي: “إذا قرأ شخص من الأشخاص ما يكتبه الكثير من الأدباء المصريين عن المرأة المصرية يقرأ عجباً. وإذا استمع شخص آخر لما يذيعه بعض المذيعين أو الإذاعيين المصريين عن المرأة المصرية، يستمع لأمور لا تتصل بالواقع الحي لمجتمنا بسبب أن المرأة المصرية في آراء أولئك وهؤلاء، كما يقول فرويد لغز محير، وهي شخص لا يمكن أن يُفهم، بل يجب أن لا يُفهم، وهي شخص يحاول هؤلاء المصريون الذكور أن يخلعوا عليه صفات الذكاء أحياناً والبلاهة أحيانا أخرى.. وصفات الكذب والبهتان أحياناً والمراوغة وعدم الصراحة أحياناً أخرى.

والسينما المصرية المعاصرة في عرضها للمرأة ومشاكلها، تكاد تكون مرآة تنعكس عليها هذه الكتابات والإذاعات. فأدوارها، وبغض النظر عن الموقع الذي تشغله في الحياة الاجتماعية، إنما تنحصر أولاً وقبل كل شيء في إطار علاقتها بالرجل.

فهي في عدد لا حصر له من الأفلام أنثى ليس إلا، ينظر إليها باعتبارها تابعة للرجل، وليس نصفه الآخر المكمل له، باعتبارها كائناً يدور في فلكه بغرض الإرضاء له. وذلك بحكم أنه المولى والسيد المُطاع في الحق والباطل.

والأمثلة على ذلك كثيرة، فالست أصيلة (أمينة رزق) في فيلم العار (1982) لصاحبه المخرج علي عبد الخالق ـ وهو واحد من أنجح الأفلام تجارياً ـ تبجل زوجها إلى حد العبادة، تعمل على توفير الراحة له والسعادة، فإذا ما تبين بعد الممات أنه كان يتاجرفي المخدرات، فلا فرق عندها ولا تمييز، فهي تغضب من ابنها كمال (نور الشريف) إلى يوم القيامة لأنه أعلن حقيقة مهنة أبيه، متطاولاً على سمعة كبير العائلة.
وروقة (نورا) زوجة كمال في نفس الفيلم لا تناقشه فيما يفعل أهو حلال أم حرام. والمتعة عندها أن توفر له احتياجاته وتدغدغ حواسه كإعداد الأكلة الشهية والقعدة الطرية وغسل القدم، وبصوت منكسر فيه من الذل والمسكنة الشيء الكثير تقول له “أنا ملك إيدك”، وتقول عنه إنها “خائفة عليه من العين والمستخبي”، ويصل بها الانحدار والانسحاق إلى بذل حياتها من أجل عملية تهريب، مضحية بكل شيء بطريقة أقرب إلى العبث.

وتتكرر الصورة المهينة في أريد حلاً (1975) لصاحبه المخرج سعيد مرزوق ولا عزاء للسيدات (1979) لصاحبه المخرج هنري بركات.

فدرية (فاتن حمامة) في الفيلم الأول ـ ورغم حماقات شريك حياتها ومنغصاته ـ زوجة وديعة مطيعة، متسامحة.

وكذلك حال راوية (فاتن حمامة) في الفيلم الثاني، فهي تتحمل صابرة جميع نزوات زوجها وثورات غضبه، لا شغل ولا مشغلة لها سوى السهر على راحته.
ويمتد الهوان إلى صديقاتها إلى حد أن إحداهن تعبر عن انقيادها بقولها “وهي الواحدة تساوي حاجة من غير جوزها”.

على هذا النحو المحقر للمرأة، المؤكد لخضوعها، المثبت لاستمرار عبوديتها بدأت السينما على أرض مصر في النصف الثاني من العشرينات، وما تزال لا تريد أن تتخفف من أثقال الأوهام والتقاليد.

حقاً ثمة أفلام مصرية قليلة تضامنت بعض الشيء مع المرأة، ولكنها جاءت باهته لا تقدم ولا تؤخر، وذلك لأن تضامنها كان من منطلق التعاطف الميلودرامي ليس إلا، ودون أية محاولة للاقتراب من قضية تحرر المرأة باعتبارها معركة طويلة ومريرة.

وقد يكون مرد ذلك إلى أن أصحاب هذه الأفلام ليسوا ممن يمكن أن يلتزموا بما يبدعون، ويحتملوا التبعات المادية والأدبية.

وهنا قد يكون مناسباً لو اخترت فيلمين من بلدين ناميين مختلفين كل الاختلاف، مرّ أولهما بثورة عاتية عصف إعصارها بالقديم، وعاش ثانيهما في ظل ديكتاتورية عسكرية، وتحت وطأة أحكام عرفية قوامها الذل والهوان، وذلك للتدليل بهما على أهمية أن يكون مبدع الفيلم ملتزماً، محتملاً للتبعات، إذا ما كان يريد أن يقول قولاً مفيداً في قضية المرأة، يرتفع بمستوى الوعي بضرورة تحررها حتى تتحقق لها المساواة مع الرجل.

وهذان الفيلمان:

لوسيا (1968) رائعة المخرج الكوبي أومبرتو سولاس والطريق (1982) لصاحبه المخرج التركي يالمز جوني.

والفيلم الأول يتكون من ثلاثة أجزاء منفصلة تماماَ، كل جزء يصور حياة امرأة اسمها لوسيا خلال ثلاث أحقاب تاريخية، تشكل خلفية لها ثلاث طبقات هي “الأرستقراطية، و”البرجوازية، والفلاحون”.

أما الفيلم الثاني فيتكون من خمس قصص لخمسة سجناء أطلق سراحهم لمدة أسبوع واحد.

وكل قصة تصور ما دار لكل واحد من مآس، وما اقترف حولهم من آثام لا تحصى ولا تقدر.

ولوسيا الجزء الأول تقع أحداث مأساتها خلال عام 1895، أي أثناء حرب التحرر الوطني ضد أسبانيا.

والأسلوب والموقف في هذا الجزء، كلاهما مستوحى من “شعور” فيلم المخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي وقصته التي تدور حول امرأة إيطالية أرستقراطية ذهب بها جنون الحب لضابط نمساوي إلى حد خيانة ابن عمها ووطنها إبان الحرب ضد إمبراطورية آل هابسبورج من أجل وحدة إيطاليا.

ولوسيا هي الأخرى عندما تقع في حب رفائيل ـ وهو عميل أسباني ـ فإن جنون هذا الحب يذهب بها إلى حد إرشاده إلى بيت العائلة الذي تحيط به مزرعة بن مختبئة في حضن جبل حيث قيادة الثوار، ومن بينهم شقيقها الوحيد.

وطبعا يكشف رفائيل الذي افتعل اللقاء والحب ابتغاء الوصول إلى هذا الهدف موقع المزرعة للقوات الأسبانية، فيتم القضاء على الثوار في معركة ضارية يخر فيها شقيق لوسيا صريعاً.

وها هي مدفوعة بشهوة الانتقام، تطعن الرجل الذي خدعها، حتى إذا ما جرت بعيداً عن جثته الهامدة، رأيناها امرأة ضائعة في طريقها إلى جنون أكيد. إنها في كلمات، ضحية قوى لا تدري من أمرها شيئاً كانت تعيش قبل اللقاء الذي دمرها، وكأنها في مصيدة داخل عالم خانق بالتفاهات، ولغو حكايات العجائز والترهات، تحاول الفرار منه إلى البديل الوحيد المتاح لمن كان في مثل وضعها الاجتماعي وزمنها، وهو بديل مجدب لابد وأن ينتهي بمن تجنح له إلى نهاية فاجعة.

فلقد اختارت الحب والهيام بحسها وقلبها، مستلهمة خرافة تحقيق الذات الرومانسية “كل ما أريده هو أن أعيش سعيدة ولم تختر بعقلها، فيا بئس ما اختارت”.

ذلك إنه فاتها أنها تعيش في عالم كوبا الهش المعذب بالتخلف بعيداً عن أوروبا، وأنها بعشقها الرومانسي وأساليبه، قد غدت تقليداً غير طبيعي لأشكال مستعارة من الخارج لا أمل فيها ولا خير.

والمخرج سولاس في هذا الجزء من فيلمه يفرض تصوره للمرأة واضطرابها في هذا المجتمع التابع، المفتقد الأصالة، والذي هو في سبيله إلى زوال، يفرضه من خلال أسلوب انتقائي، عنيف، متسم هو الآخر بقدر من الاضطراب، بل قل من خلال أكثر من أسلوب. فهو، والحق يقال، يسوح بنا داخل عديد من المدارس السينمائية المعاصرة. فرحلة لوسيا إلى المزرعة، مخترقة غابة استوائية معتمة بالضباب  والأمطار، وما حدث خلالها من معارك، كل ذلك فيه من أسلوب المخرج الياباني كيروساوا الشيء الكثير.

وعلاقة لوسيا برفائيل بما أنطوت عليه من تداخل بين السياسة والعشق، هذه العلاقة نرى مشاهدها متناغمة بفضل لقطات أودع فيها المخرج سولاس العديد من التنهدات والتحركات المهتاجة والنظرات الثابتة المحملقة، والموسيقى المرتجفة، متأثراً في كل ذلك بأسلوب فيسكونتي في مرحلته الأخيرة الأوبرالية.

وبين الحين والحين يقطع المخرج سولاس هذه المشاهد منتقلاً بنا إلى أرض خراب محلقة في سمائها طيور نهابة، مما يذكرنا بمشاهد شبيهة في فيلم مخطوط ساراجوزا رائعة المخرج البولندي فوشيك جيرزي هاس.

ومع لوسيا في الجزء الثاني، نجد الأيام، وقد دارت دورتها بالأحداث من نهاية الربع الرابع من القرن الماضي إلى بداية ثلاثينات القرن العشرين وبالتحديد عام 1933، أثناء وما بعد سقوط الديكتاتور ماخادو.

ومن خلال أسلوب خافت هادئ يذكرنا بجول وجيم رائعة المخرج الراحل فرانسوا تريفو أو تيريز ديسكرو فيلم جورج فرانجو المستوحى من قصة فرانسوا مورياك، تستظهر لوسيا وقائع حياتها مع الدو، وهو شاب ثوري كرّس حياته حتى الممات لإسقاط نظام حكم ماخادو ومن بعده باتستا عندما خان بدوره رسالة الثورة.

وشخصية لوسيا هذه قد التمسها المخرج سولاس في أعمال عالم البرجوازية الأنيق المتفسخ، جعلها تفر منه إلى أحضان الدو الثائر. وعشقها هذه المرة عكس عشق لوسيا القرن الماضي تماماً، إنه مساير لحركة التاريخ.

ومع ذلك، ورغم أنها خطت خطوات واسعة نحو حريتها الشخصية، تاركة وراءها عالم أسرتها العقيم النرجسي إلى غير رجعة، لتعمل في مصنع للسيجار، متزعمة مسيرة احتجاج نسائية ضد النظام، إلا أنه كان لزاماً عليها، وحتى تسترد كامل حريتها، أن تكمل المشوار، تسير في دروب شاقة قاسية، فزوجها الدو هو الذي يتكلم ويحارب ويموت في الشارع برصاص جند باتيستا، أما هي فملتصقة به، وفيّه له “سأتبعك، أنا زوجتك يا الدو”، تحمل طفلها منه، ومن بعد موته تقاسي وحدها.

وليس محض صدفة أن ينهي المخرج سولاس هذا الجزء من فيلمه بوجه لوسيا يملأ الشاشة، وهو ينظر نظرة غامضة، وعليه مسحة من جمال مبهم، الأمر الذي يذكرنا بوجه أنا كارينا في (فيلم تعيش حياتها) لصاحبه المخرج الفرنسي جان لوك جودار.

وأغلب الظن أن هذه اللقطة الأخيرة، إنما أراد بها المخرج سولاس أن يتأمل حال لوسيا، وأن يجعلنا نتأمل معه ما هو غامض من أمور المرأة في تلك الحقبة.

وعلى كُلٍ فلوسيا في هذا الجزء تبقى بعيدة، موضوعاً للتأمل والتأمل فحسب، دون أن تصبح أداة لتغيير التاريخ.

وتدور أحداث الجزء الثالث والأخير من فيلم لوسيا في ربوع ريف كوبا ما بعد الثورة. وأسلوب المخرج هذا يتسم بنبرة خفيفة، كوميدية، ساخرة بالذات، من خلالها يحكي صاحب الفيلم حدوتة لوسيا وتوماس.

وهي حدوتة تبدأ بهما في عش الزوجية حيث يقضيان الوقت كله في السرير، حتى يتفجر الموقف عندما يُطلب إليهما أن ينهيا شهر العسل، ويتوجها إلى الحقول للعمل.

هنا لم يكتف توماس بالتمرد ومنع زوجته لوسيا من الخروج إلى العمل، بل ذهب مدفوعاً بغيرة مجنونة إلى حد إجبارها على البقاء محبوسة في البيت بسد النوافذ بألواح خشبية، وغلق الأبواب بالمزاليج، فإذا ما جأرت بالشكوى وقالت إنه يعتدي على روح الثورة أجاب بخيلاء “أنا الثورة”. وعلى كُلٍ، فبفضل مدرس شاب أرسلته حكومة هافانا إلى الريف في حملتها على الأمية، تنجح لوسيا في الفرار من سجن الزوجية.

لكن توماس يتعقبها في المستنقعات حيث تعمل مع نفر من النساء، وعندما تراه تجري منه هاربة، فيتعقبها، وتضامناً معها تتعقبه زميلاتها، وطبعاً لا ينتهي إلى غايته منها، وينتهي الفيلم بهما في حالة شجار وحب وصراع من أجل العثور على مخرج لحياتهما من بين خيوط تشابك فيها القديم بالجديد على وجه شديد التعقيد.

وهذا الشكل الواقعي الكوميدي الذي اختاره المخرج سولاس لهذا الجزء الثالث والأخير من فيلمه يتناسب تماماً مع الحياة في مجتمع ثوري.

فالكوميديا هنا إنما توحي بأن الصراعات الدائرة بين الجنسين والأجيال والذات والجماعة، وما تفرزه من إدعاءات ومزاعم متناقضة متنافرة، كل هذا الخلف والخصام.. مآله إلى الصلح والوئام.

والآن إلى (يالمز جوني) وفيلمه الطريق. كان المخرج يالمز جوني صاحب حياة عاصفة، وكان موته المفاجئ فاجعة، ويبقي جرحاً نازفاً في القلب الإنساني، يغور الجرح بعمق قدر المعرفة المتاحة به وبأفلامه.

كان بين صانعي الأطياف وحيد نوعه، كان يستبدل سجنا بسجن كما نستبدل حذاء بحذاء ويصرح “لقد أصبح مجموع الأحكام التي أصدروها في غيابي منذ أكتوبر عام 1981 يصل إلى 42 عاماً، بالإضافة إلى المائة القديمة. على أية حال، إنها الحرب بيني وبينهم. إلى متي؟ لا أعلم، أعرف فقط أنني سأبقى مفتح العينين لأفضح التسلط…”

وفعلاً فضح السلطة والتسلط بالإشراف من داخل سجنه في تركيا على مساعدة (شريف جورين) وهو يخرج نيابة عنه خامس سيناريو يكتبه من وراء القضبان: الطريق.

وبالهروب من السجن الكبير في الأناضول مع “متعجلات فيلمه” إلى سويسرا حيث أكمل توليفه، ثم بالذهاب به إلى مدينة كان حيث توّج بجائزة المهرجان الكبرى “السعفة الذهبية، (1982).

وما إن انتهى من إخراج فيلمه الأخير الحائط حتى عجل السرطان من عذابه، طرق الموت بابه، ذكر من نعاه أنه ولد في عام 1937 بإقليم أدنه حيث تعوي الريح والذئاب ويساقط الثلج فوق أكواخ قرى الأناضول، طوال فصل شتاء العالم. ومات كما يموت أبطال أفلامه الفقراء، مطارداً، مسجوناً منفياً، قاتلاً، مقتولاً. وظل الطريق ـ وهو أروع أفلامه ـ والنقلة العالمية القوية ليالمز جونيه الذي كان يشعر أنه مغترب أبدي”.

وأبطال فيلم الطريق سجناء في أجازة قصيرة،  كل واحد منهم مشوق أشد الشوق للالتقاء بالزوجات والعائلات.

ولكن قلوبهم ممتلئة شعوراً بالقلق واللهفة على العودة إلى الأهل، لا بسبب حياة السجن التي كلها بؤس ويأس، ولا بسبب طول الحرمان من حلاوة وعذوبة القرب من الأحباء، وإنما بسبب شيء غريب كل الغرابة، ملأ نفوسهم فزعاً ورعباً. هذا الشيء هو الخوف على الشرف، من أن تكون شريكة الحياة قد تورطت في خطيئة أثناء انقطاع الصلات بالفراق الطويل، بعبارة أوضح فإن أخوف ما كانوا متخوفين منه هو أن يكون النظام الأبوي قد انهار. فهم في حقيقة الأمر أسرى التقاليد، حيارى تتجاذبهم شريعتا الأب والدولة، وكلاهما مر، ويكاد الاختيار الحر بينهما أن يكون مستحيلاً.

وفي الحقيقة ففيلم الطريق أقرب إلى الملحمة منه إلى أي شئ آخر. فمن خلال “أوديسية” خمسة رجال استطاع يالمز أن يصور الإنسان البائس اليائس الذي أجبر على حياة لا يريدها، وعلى موت لا يريده، وخيل إليه أنه حر بالرغم من ذلك.

والمدهش أن صاحب الطريق استطاع ـ من خلال التناول المشحون بالتعاطف مع هؤلاء الرجال في محنتهم ـ أن يكشف عن مأساة أشدّ هولاً، وأن يرفع الستار عمّا تعانيه النساء من عذابات في سجن التقاليد.

وغني عن البيان أن النساء هنا لسن عاملات مناضلات يتقن فن الصراع والإضراب كما فعلت نورما راي في فيلم المخرج الأمريكي مارتن ريت، لا… إنهن أمهات وربات بيوت ضعيفات يعشن شبه مستسلمات للأقدار، في انتظار عودة الزوج الضال.

وهن بطبيعة الحال، ضحايا الخضوع للتقاليد، فإذا ما حاولن التمرد ولو قليلاً فالويل لهن وسوء المصير.

فزوجة محمد صالح تقف إلى جانبه من منطلق الإخلاص له والوفاء، لا تسمع لنصيحة أهلها الذين يعتبرونه عدواً لأنه تسبب بجبنه وتخاذله في مقتل شقيقها، تفر معه ليلقيا مصرعيهما سوياً في القطار برصاصات الانتقام تنطلق من غدارة أصغر الأشقاء.

وزينة زوجة سعيد تتبعه كظله شبه حافية، شبه عارية في واد غير ذي زرع مغطى بالثلوج، محكوماً عليها من أهله وأهلها بالإعدام لأنها في غيابه لم تصن العهد، لم تبق وفية صامدة.

ولن أقص تفصيل ما يعرض لزينة في وادي الموت هذا أمام عيون زوجها وابنها، لا أقص ما يعرض لها من خطوب، فذلك شيء يطول ويستحيل، وإنما أسجل شيئاً واحداً. عندما انطرحت زينة على الثلج، وأخذت من ضعفها لا تقاوم. ولا تحاول المقاومة، استرجع سعيد ميتة الحصان في نفس المكان، فانتصر للحياة، تذكر الحب، تمرد على التقاليد، صفح وغفر، سعى إلى انتزاع زينة من براثن الفناء، لكن هيهات، فقد فات الأوان.

وعند مشهد الموت والحب هذا أرى الوقوف قليلاً، لا لأنه أطول مشاهد الفيلم ـ فهو مكون من حوالي سبعين لقطة، تستغرق حوالي ثماني دقائق ـ وإنما لأنه أجمل مشاهد الفيلم وذلك بحكم بساطته المتناهية، فالشخصيات فيه ثلاثة لا تزيد، رجل وامرأة وابن وحيد، والمنظر الطبيعي مجرد أرض تلتحف ثلوجاً بيضاء وسماء خالية إلا من خساس الطير، وهذه الرتابة لا تنقطع سوى مرتين مرة ببقايا جثة حصان هالك، ومرة بشجيرة حزينة ارتحلت عنها أوراقها فتعرّت. وفوق هذا لأنه أكثر مشاهد الفيلم فاعلية وتأثيراً، ففيه تتجمع كل الخيوط، تتكثف أحداث الطريق حتى تصل إلى الذروة، بفضل توليف لاهث موظف لخدمة الصراع بين الموت متمثلاً في الطبيعة الموحشة القاسية، والتقاليد الأشد وحشية وقسوة، وبين الحياة تخرج منتصرة بالحب رغم فشل سعيد في إنقاذ زينة.

وختاماً فقد لا أكون بعيداً عن الصواب، إذا ما قلت أنه بفضل مشهد موت زينة هذا ـ وهو واحد من أرق وأروع المشاهد في تاريخ الفن السابع ـ بفضله ينمو الوعي بقيمة المساواة بين نصفي المجتمع، بضرورة التصدي للعادات والتقاليد المعادية للمساواة باعتبارها سجناً للرجال والنساء على حدٍ سواء.

وهكذا نجد في الفيلمين الكوبي والتركي نماذج بديلة للسينما المتعثرة في العالم الثالث، فكلاهما لا يقدم أنماطاً تقليدية للمرأة إلا لوضعها فنياً في محك النقد والتوعية وكلاهما لا يتبنى قضية المرأة من منطلق تعاطف ميلودرامي بل من أرضية إدراك ثوري ووعي ناضج بأبعاد قضية المرأة التي لا يمكن فصلها عن مجموعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع.

مهرجان القاهرة.. عنف وحرية ووعي بأهمية السينما

شاءت الأقدار لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي العاشر الذي جرى افتتاحه تحت شعار “الفن يحتاج إلى الحرية، بقدر ما تحتاج الحرية إلى الفن”، شاءت له أن تستهل عروضه بنسخة مستهلكة لفيلم قديم له من العمر ثمانية أعوام أو يزيد.

فما هو الفيلم الذي جرى اختياره بالخروج على أصول وتقاليد توجب افتتاح عروض أي مهرجان متصل بالفن السابع، بفيلم جديد يكون له دويّ شديد؟

إنه “صرخة النساء” أحد أفلام المخرج “جول داسين” زوج وزيرة الثقافة اليونانية في حكومة باباندريو الحالية، وضيفة شرف المهرجان “ميلينا ميركوري” وفوق هذا بطلة الفيلم حيث تلعب دور ممثلة “مايا” تعاني من العجزعن تقمص شخصية “ميديا” على خشبة المسرح، تلك الشخصية التي أبدعها خيال الشاعر اليوناني التراجيدي “أوريبيديس” في النصف الثاني من القرن الخامس السابق على الميلاد، مستلهماً مأساتها من خرافة “جاسون” و”ميديا” في مسرحية هذا الشاعر الكبير تعيش مع طفليها في بلاد الغربة “كورينث” مهجورة من زوجها “جاسون”، هذا الزوج الذي ما أن رأته في وطنها الموحش البعيد “كلوخيس”، حتى غمرها إحساس ثائر، استولت عليها عاطفة جارفة، لم تستطع معها إلا أن تخون أباها ملك “كلوخيس”، وذلك بأن هيأت لمن تسلل حبه إلى أعمق أغوار قلبها سبل الاستيلاء على الفروة الذهبية التي ترجح ألف كنز، ثم الفرار بها مستصحباً إياها إلى أرض اليونان في “كوريث” حيث تجري أحداث المسرحية التي تبدأ بخبر أن “جاسون” قد خان العهد، مقرراً الزواج من ابنة ملك “كورينث”.
غرام وانتقام

وما يكاد يعلن عن خطبته، حتى يجن جنون “ميديا” التي أسودت الدنيا في عينيها، هالها نكرانه لجميلها.

وبعد طول معاناة وتفكير استقر قرارها على القتل، في البداية فكرت في التخلص من أعدائها الثلاثة المتسببين في محنتها، “ثلاثة جثث في يوم واحد.. الأب، الخطيبة، وزوجي”.

واشتعل الخيال، رأت نفسها تحرق أو تتسلل إلى غرفة الزوجين رافعة الحسام.

ومع هذه الخيالات صاحت الجوقة “دقت ساعة انتصارالنساء”!!

ولكنها بعد الالتقاء “بجاسون” تكشف لها أنه لا يؤمن بشيء، يتكلم لغة السفسطائيين، ينطق بأكثر الكلمات قدسية الحب، الوفاء، العدالة بغير اكتراث، وبوقاحة منقطعة النظير.

فهو يُبرر زواجه الثاني بالحب الذي يكنّه لطفليه منها بما سيجنيان من ثمار المصاهرة الملكية، المال والتعليم الرفيع.
عرقوب أخيل

والأهم تكشّف لها موطن الضعف فيه، فهذا الرجل الأناني الذي لا يحب إلا نفسه، قد زلّ لسانه بكلمة افصحت عن تعلقه بحب طفليه منها.

وفي هذا الافصاح غير المقصود كان هلاكه، كان عرقوب أخيله الذي أتاح لميديا أن تطعنه في مقتل، أن تتحول بنصره عليها مؤقتاً إلى هزيمة نكراء.

فقد عزمت على توجيه ضربة وحيدة فيها القضاء على “جاسون” كل القضاء فكان أن دست إلى أميرة “كورنيث” السم الزعاف في هدايا حمّلتها طفليها إليها، وعقب ذلك شحذت سكينها ثم أجهزت بها على ولديها منه، وهي تتوجع وتئن.

صرخات وهمسات

وعلى كُلٍ فللخروج في الفيلم من مأزق العجز عن تقمص شخصية هذه المرأة التي تغّلب فيها شيطان الانتقام على الإرادة… على قلب الأم، ارتأت “مايا” أن من الواجب عليها، أن تذهب إلى السجن حيث توجد امرأة انجليزية “برندا” (ايلين بيرستين الحاصلة على أوسكار أحسن ممثلة 1974) وراء القضبان متهمة بقتل دفع صحف اليونان إلى إطلاق لقب “ميديا جلانيادا” (مكان وقوع الجريمة) عليها ، في محاولة منها للالتقاء بها كي تعرف منها لماذا- بعد أن غدر بها زوجها- قتلت أطفالها منه، ثم حاولت الخلاص من هذا العار بالانتحار.

ولم ترفض “برندا القاتلة” الالتقاء بها لأنها كانت- في غربتها- وحيدة، في أشد الاحتياج للتعبير عمّا يجيش في صدرها، وبخاصة أنها لا تجيد الحديث إلا بالانجليزية في بلد لا يتكلم أهله سوى اليونانية.

وسرعان ما تولد بين المرأتين شيء أشبه بالصداقة “فمايا” قد انجذبت إلى براءة هذه المرأة المتهمة، والتي كان هدوءها الظاهر يخفي ناراً حارقة، تأتي عليها.

وطبعاً، كان لابد من كل فن “بيرستن” وما تتمتع به من قدرة مذهلة على اتقان الأداء، كيما يستطيع المتلقي أن يتبين أن تلك الانجليزية المنتمية إلى الطبقة الوسطى ليست- ورغم ملامحها العصرية المألوفة- إلا “ميديا” بطلة المأساة اليونانية المعروفة.

وطبعاً كان هذا الاكتشاف بالنسبة “لمايا” إلهاماً ساعدها على تقمص شخصية “ميديا” على خشبة المسرح بنجاح فاق كل التوقعات.

فالتجربة الحية التي مرت بها- من خلال لقاءاتها المتكررة مع “برندا” أدت إلى تفجير طاقات التعبير الكامنة فيها، إلى انماء ما تحمله بين جوانحها من رومانسية وذكاء ورقة شعور، على وجه ارتفع بأدائها إلى مستوى رفيع فيه كثير من الفهم لمأساة “ميديا”.

ومهما يكن من أمر هذا البناء الدرامي المعقد بعض الشئ، فقد أتاح لمخرج الفيلم- الذي هو في نفس الوقت كاتب السيناريو والحوار- فرصة العرض لبعض ما يواجه المرأة المعاصرة من مشاكل، من بينها حسب قول صاحب الفيلم “المخاطرالتي تركبها المرأة عندما تبني حياتها في كل صغيرة وكبيرة حول الرجل، والعنف الذي يمكن أن يتولد عندما تقع خيانة لتلك الثقة العمياء”.
إغراء العنف

وفي الحق فهذا العنف العنيف الذي أحسسنا به صارخا في “صرخة النساء” تراه متكرراً فيما تلاه من عروض لأهم أفلام المهرجان، وبالذات ما كان منها متعلقاً بالمرأة ومشاكلها، وما أكثرها “فحدث في أمريكا” لصاحبه المخرج الإيطالي “سيرجي ليوني” يبدأ بمشهد لامرأة تعود إلى شقتها حيث تواجه ميتة رهيبة تنحبس لها الأنفاس برصاصات غدارات ثلاثة من عتاة الإجرام.

و”موناليزا” للمخرج والأديب الإنجليزي “نيل جوردان” ينتهي بمشهد “سيمون” (كاتي تيسون) الغانية السمراء، وهي تطلق الرصاص على نفر من تجار المسحوق والرقيق الأبيض، فإذا بالدماء وأجزاء من أجسامهم متناثرة، ملتصقة بالأرض والجدران.

و”بتي بلو” ثالث أفلام المخرج الفرنسي غير الواعد “جان جاك بينكس” تتناثر فيه مشاهد العنف بالجنس، حتى إذا ما اقترب من النهاية آثرت بطلته “بتي” (بياتريس دال) أن تقتلع بيدها إحدى عينيها، وآثر بطله “ذورج” (جان هوج انجلاد) أن يخلصها من حياة كلها همّ وغمّ، بقتلها في المستشفى خنقاً بكتم أنفاسها تحت الملاءة على طريقة فيلم “طار فوق عش المجانين”.

“والحياة والموت في مدينة الملائكة” آخر أفلام المخرج الأمريكي “ويليم فريد كين” يستهل بمشهد لإرهابي ملغم الجسم، معلق بحبل خارج الفندق الكبير حيث يقيم رئيس جمهورية الولايات المتحدة.

وفي لحظات تنطلق رصاصات من غدارة أحد حراس الرئيس، فإذا بالإرهابي المعلق منفجراً في الهواء، لم يبق منه شيء.

وبعد هذه اللقطات السريعة، تظهر عناوين الفيلم ثم تعقبها أحداث عنف لاهث، قاطع للأنفاس، يذهب ضحيته الرجال والنساء على حدٍ سواء.

و”جوانزا حامل الرمح” فيلم المخرج الياباني “ماساهيرو شينودا” المستوحى من إحدى مسرحيات “مونزايمون شيكاماتزو” شكسبير بلاد الشمس المشرقة- وهو واحد من أجمل أفلام المهرجان، بل لعله أجملها ينتهي بمشهد على جسر حيث نرى بطلي الفاجعة الساموراي “جونزا ساسانو” والسيدة المتزوجة “اوزاء” المتهمين زوراً وبهتاناً بالزنا، وهما يذبحان ذبح الشاه عقاباً وثأراً للشرف المهان.

و”أجسام غريبة” للمخرج الأمريكي “جيمس كاميرون” بطلته رائدة الفضاء الحسناء “سيجورني ويفر” تقود الرجال والنساء إلى كوكب مسكون بحثاً عن كائنات مفترسة كانت سبباً في هلاك كل من كان معها من الزملاء أثناء رحلة سابقة في الفضاء.

وهي في رحلتها الثانية أميرة انتقام “رامبوليتا” تنتصر وحدها على الأعداء. وبعد أهوال قضت على كل رفاقها، تعود إلى الأرض مصطحبة طفلة عثرت عليها تائهة بين أطلال الفضاء.

وطبعاً كل هذا مرصع بمشاهد عنف يخلع القلوب، من بينها ذلك المشهد الغريب القريب من نهاية الفيلم حيث ينقسم جسم آخر الرجال الأحياء من طاقم سفينة الفضاء بفعل إحدى الكائنات الغريبة التي لا نعرف من أين تأتي، وإلى أين تذهب، فإذا به شطران أحدهما الحامل للرأس والصدر والأمعاء يسعى في أرض السفينة وكأن صاحبه من الأحياء.

و”نسور القانون” لصاحبه “ايفان ريتمان” المخرج المنحدر من أصل تشيكوسلوفاكي، يبدأ الفيلم كوميدياً اجتماعياً شبيهاً “بضلع أدم” ذلك الفيلم الراقي الذي مثلته “كاترين هيبورن” مع النجم الراحل “سبنسر تراسي” قريباً من نهاية العقد الرابع من القرن العشرين.

وفجاة يتحول فيصبح فيلماً زاخراً بمطاردات وانفجارات وحرائق تلتهم الأخضر واليابس، تهدد تارة حياة بطليه “روبرت ردفورد” و”دبراونجر” وتارة حياة المتهمة الحسناء “داريل حنا” وتارة ثالثة لوحات زيتية تقدر قيمتها بالملايين.

صقور الصحافة

وحتى فيلم جاد “كقلب يحترق” لمخرج المسرح والسينما “مايك نيكولس” صاحب “الخريج” و”من يخاف فيرجينيا وولف” و”سيلكوود”- حتى هذا الفيلم وموضوعه منقطع الصلة بالعنف قد جاء متضمناً مشهداً فيه شيء من العنف.. كيف؟

من المعروف أن “قلب يحترق” مأخوذ عن قصة حكت فيها “نورا افرون” الصحفية وكاتبة سيناريو الفيلم ملابسات فشل حياتها الزوجية مع “كارل برنشتين”، ذلك الصحفي الذي كانت تحقيقاته مع زميله “وود ورد” في “الواشنطن بوست” حول جريمة التنصت على المعارضة بفندق “ووترجيت” سبباً في طرد نيكسون من البيت الأبيض بمصير أسود.

وهي في القصة، ومن بعدها الفيلم الذي تغير اسمها فيه من “نورا” إلى “راشيل” (ميريل ستريب)، تحكي كيف وقعت في حب “كارل” الذي تغير اسمه إلى “مارك” (جاك نيكلسن)، كيف تزوجت، حملت ثم أنجبت منه طفلة.

وأخيراً عند اكتشاف خيانته لها، كيف غضبت عادت ثم اختارت في النهاية طريق القطيعة والانفصال، فكان أن تركته مع طفليها منه غير آسفة على شيء.

واضح إذاً أن “قلب يحترق” فيلم ناعم، يتناول بأسلوب رومانسي قصة حب بين رجل وامرأة من صقور الصحافة، انتهت بعد معاناة مرارة الغيرة والاصطلاء بنارها المحرقة، في هدوء وسلام ومن هنا استبعاد وجود عنف في فيلم اجتماعي رقيق كهذا يعرض لعلاقات بين زوجين انتهت كما بدأت دون أيّة مفاجآت مثيرة تستوجب اللجوء إلى الغدارات وما شابهها من أدوات الهلاك ومع ذلك لم يستطع صاحب “قلب يحترق” مقاومة إغراء العنف، حشره حشراً في مشهد للبطلة أثناء وجودها غاضبة في نيويورك بعيداً عن عش الزوجية في واشنطن.

فدون مقدمات يقتحم عليها الشقة وهي في رفقة بعض الأقارب والأصدقاء، لص شاهراً غدارته، طالباً من الحاضرين ما قد يكون معهم من أشياء غلى ثمنها وخفّ حملها.

وعلى كُلٍ، ورغم هذا المشهد الدخيل، فإنه مما يُحسب “لينوكلس” أن فيلمه- وعلى عكس “بعد ساعات العمل” رائعة “مارتين سكورسيزي”التي عرضت في المهرجان- قد جاء خالياً تماماً من دماء حمراء تراق وجثث مبعثرة هنا وهناك- وهذا ولا شك أمر محمود في السينما المعاصرة التي ليس لها من غذاء سوى العنف المتصاعد.

والحديث عن نورا أو سارة بطلة “قلب يحترق” وزواجها الذي انتهى نهاية غير سعيدة يسحبنا إلى الوقوف قليلاً عند فيلمين من أفلام المهرجان يعرضان لشقاء المرأة، ولكن من منطلقين مختلفين.

غادة الكاميليا

أولهما “الترافيانا” أو “المرأة الضالة” لمبدعهما الموسيقار الإيطالي الشهير “جيسيي فيردي”.

والفيلم المستوحى من هذه الأوبرا أخرجه “فرانكو زيفريللي” الذي استطاع أن ينجو به من عبودية المسرح، فلم يجعله مجرد أوبرا مصورة، وإنما جعله فيلماً أوبرالياً متحرراً من الجمود، محلقاً دون قيود.
فمنذ اللقطات الأولى المصاحبة للعناوين، وهي لقطات صامتة صمت القبور، ونحن مع كاميرا حزينة في سماء رمادية كابية تطل على باريس عابسة غضوب، تنساب بنا فوق كنيسة نوتردام ونهر السين، تمر بشوارع وبيوت شبه مهجورة حتى تتوقف عند بيت كبير ندخله معها، وفي رفقة نفر من عمال وأشباح كالغربان.

رياش وتحف مبعثرة هنا وهناك في الممرات والقاعات، لوحات وأشياء أخرى ثمينة يحملها عمال تراقبهم عيون محضرين لا تنام.

ومثلما دخلنا البيت تدخل مقدمة فيردي الموسيقية رقيقة متهادية كالحلم حتى تصل بنا إلى غرفة حيث نرى “فيوليتا” مريضة مستلقية على أريكة تحارب وحدها الوجع، تسمع الأصوات، فتنتفض كمن أفاق من كابوس، تتدثر بثوب وتخرج إلى الممر حيث العمال والغربان.

كل ما حولها أشياء جامدة، بليدة، مغلفة بظلال زرقة مجهدة تعكس نهاية رحلة عمر.

وما هي إلا لحظات حتى تلتقي عيناها بعيني فتى جميل مفتون بها، يقف أمامها مبهورا.

ويبدأ شريط الذكريات

الآن، والآن فقط تختفي من أمامنا الزرقة الكئيبة، لنبصر بدلاً منها الألوان التي نشتهي. ألوان الأحمر والأصفر والبني تتزاحم من مزيجها خيالات جو أعياد وأعراس ومهرجانات.

ثمة حفلة زمنها القرن الماضي في عهد الإمبراطورية الفرنسية أيام العز.

ومع ذلك فثمة لمسة حزن سرعان ما تتحول مع الأحداث إلى غمامة تمطر همّاً.

وهكذا وبفضل لقطة سينمائية من أجمل لقطات استرجاع الماضي “فلاش باك” نرى “فيوليتا” (تيري سراتس) متوردة الوجنات، في حالة استنفار وتوقع.
نهاية

إنها تحس داخها باحساس غريب يهز كيانها، يحدث خلخلة في الأشياء من حولها، هل هي حمى الحب؟

إنها في حيرة من أمرها، هل تعيش امرأة وحيدة ضائعة في تلك الصحراء المزدحمة المعروفة عند الرجال بمدينة النور؟ أم تودع حياة اللهو واللعب من أجل الحب من أجل “الفريدو” (بلاسيدو دومنجو)؟ إنها متوجسة خيفة، وكيف لا والحب عند مثيلاتها انكسار وسقوط في هاوية المجهول.

وطبعاً، وكما هو معروف، تسمع نداء الحب، تستسلم له وتضحي من أجل “الفريدو” بكل شيء، حتى بحبها له إنقاذاً منها لاسم أسرته وسمعته.

وغني عن البيان أن تضحيتها هذه لا يكتشفها الحبيب إلا بعد فوات الأوان وها هي الزرقة الكئيبة تعود فتغطي المكان و”فيوليتا” كما في البدء نسمع أصداء الموت في صوتها ونراه على وجهها.

فإذا ما دخل عليها الحبيب، نهضت ، حاولت ألا تظهر له شيئاً مما تعاني، مرددة معه لحناً من نشيد السكينة الأبدية، حتى إذا ما اقترب الموت صحت مع صحوته، كأنها الحياة تعود.

ومن بعد أن تنطق بالكلمات الأخيرة تتهاوى، وقد انعتقت روحها من الأرض ومتاعبها.

نكبة الفراق

أما الفيلم الثاني فهو “اللون أرجواني” للمخرج المعجزة “سيتفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” و”أي تي” و”انديانا جونز” وقد استوحاه من قصة المؤلفة السوداء “اليس ووكر” تلك القصة المتوجة بأهم جائزتين للأدب في الولايات المتحدة “بوليتزر”و”الكتاب الأمريكي” (1983).
والفيلم الذي نحن بإزائه يعتمد كما القصة على شخصيتي الشقيقتين”سيلي” (ووبي جولد برج) و”نيتي” (اكوساوا بوزيا).

وهو يبدأ بهما في الشتاء(1905) بين مروج بهية تغطيها زهور أرجوانية في الجنوب الأمريكي حيث يستعلي البيض على السود.

إنهما تلهيان، تلعبان بين الزهور، تضحكان، تنشدان الحب الفريد الذي في القلوب منذ الطفولة “انا انت. لن نفترق أبداً” ولكن سرعان ما يفرق الزمان بينهما.. ولو إلى حين “فسيلي” يبيعها زوج أمها التي ماتت مجنونة إلى أرمل غليظ القلب “السيد ألبرت” (داني جلوفر) لتكون شريكة حياته بالإكراه بدلاً من زوجته التي ماتت مقتولة، تاركة وراءها أطفالاً مشاغبين.

أما “نيتي” الأخت الصغرى فهي الأخرى لم تتح لها فرصة الاستقرار طويلاً مع زوج أمها، فالقلق والاضطراب ومخافة العار كل ذلك اضطرها في ربيع (1909) إلى الفرار حيث تعيش أختها “سيلي” أسيرة حياة زوجية ما أكثر التعرض فيها للذلة والهوان، وبحكم أن حظها من العلم والحكمة كان أكثر بكثير من حظ أختها الكبرى، فقد عملت على تعليمها القراءة، وتحريضها على الثبات لزوجها الفظ ومقاومة الاستبداد.

ورغم أن “سيلي” كانت مبغضة أشد البغض لهذا الزوج فإنها كانت مقصوصة الجناحين، ضعيفة مذعنة لعبث أقدار لا مردّ لها، ولا مصرف عنها..
وطبعاً ما كان لنيتي أن تطيق هذه الحياة الممتلئة بالخطوب والاستسلام.

لقد صدت “السيد زوج أختها” صانت كرامتها واستمسكت بالإباء، فكان أن طردها شرّ طردة، محدثاً بذلك فراقاً بين الأختين دامت لوعته نحو عشرين عاماً.

وفي صيف 1916، ومن كينيا بأفريقيا حيث سافرت “نيتي” بعثت برسائل إلى أختها التي لم تعرف عنها شيئا لأن “السيد” لجأ إلى وسيلة لا تخطر على بال ، احتجز الرسائل، أخفى أمرها عن زوجته.

وهكذا أصبحت “سيلي”- وقد انقطعت أخبار أختها تماماً- مغتربة، مثقلة القلب بالهموم، تساورها خيالات موت الأخت، تكابد الحياة والناس وحيدة، تشكو ما كان من أمرها في هذه الدنيا إلى السماء.

وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة (ولاية كارولينا الشمالية)، ومظاهر مؤسية من فساد الأزمنة والعلاقات، انطوت تسعة أعوام من عمر “سيلي” تمثلها خلالها كل من حولها نقية شفافة شفيقة، صبورة على الآلآم.

ومرت خلالها أحداث لكل منها تـأثيره على نمو وعيها فيما هو آت من أيام، كان من بينها الإلتقاء “بشوج” (مارجريت اتيري) تلك المغنية الشهيرة التي لم يكن يشغلها من شئون الحياة غير إرضاء نزعاتها الفنية.

ورغم أن الاختلاف بين هاتين المرأتين كان بعيداً إلى أقصى غايات البعد، فإنهما التقيتا في شيء واحد.
فقد بات صوت شوج أعزب الأصوات عند “سيلي” وبات لها في عيني “شوج” الواسعتين أمر بغير قرار من المحبة.

الكيد العظيم

وفي ربيع 1936، تشاء الصدف أن تعثر “شوج” على رسالة موجهة من “نيتي” المقيمة في أفريقيا إلى “سيلي” فات على السيد زوجها إخفاؤها وهنا تشترك المرأتان في تفتيش غرفة “السيد” أثناء غيابه بحثاً عن رسائل أخرى.

وينتهي بهما البحث إلى العثور على عشرات من الرسائل تحكي فيها “نيتي” اكتشاف القارة السوداء، وحياتها مع آل “شاموئيل” وطفليهما بالتبني.

وبعد هذا كله، فما أريد أن اكشف موقف “سيلي” من زوجها “السيد” إثر اكتشافها واقعة إخفائه رسائل شقيقتها زهاء عشرين عاماً من عمر الزمن.

وما أريد أن ألخص النهايات والمفاجآت السعيدة التي يزدحم بها الفيلم وهو يقترب من الختام.

كل ما أريد أن أقوله أنه ما أسرع الانغماس مع “اللون أرجواني” في الحياة الأمريكية كما تعيشها الطبقة المتوسطة السوداء، حتى كأن المتفرج يحياها مع أصحابها، لا إنه يشاهد أحداثها، وصورها أطيافاً على شاشة فضية.

وهذا وحده كاف للثناء على أول فيلم جماهيري جاد “لسبيلبرج” وذلك رغم هفوات النهايات السعيدة.
المهرجان الوليمة

وبعد فالأكيد أن المهرجان قد ساهم بما عرض من أفلام جاءت القاهرة من القارات الستة.. من الوطن العربي، من السويد شمالاً إلى استراليا جنوباً، من الأرجنتين وكندا غرباً إلى الهند واليابان شرقاً، ساهم في النهوض بوعينا السينمائي والأكيد.. الأكيد أنه دلنا إلى أهمية الكلمة البلسم.. الكلمة الوحي والواحة في الفن.. الحرية.

السينما في مفترق الطرق

قبل أن يلملم  عام  1986 أطرافه ويختفي في العدم جاء “شادي عبد السلام” الموت في الثامن من أكتوبر، وهو في الستة والخمسين من سنيه، ليغادر الأرض مخلفاً فيلماً روائياً طويلاً واحداً من إخراجه على امتداد عشرين عاماً إلا قليلا، ومشروعاً لفيلم ثان يحكي مأساة عمرها ثلاثة آلاف عام أو يزيد.. حياة اخناتون الفرعون الكافر.
هذا المشروع الذي استهلك خمسة عشر عاماً قضاها صاحب “ليلة حساب السنين” في صنع المجوهرات، الصولاجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية، في إعادة البناء والرسم للمعابد التي لم يعد لها وجود، وللمقابر التي اغتصبت، جردت من محتوياتها الشيقة النفيسة منذ أمد بعيد.

كل ذلك جرى من أجل أن يبعث اخناتون الفرعون الذي خرج على دين الآباء والأجداد، كي يقيم عبادة جديدة عمادها تقديس قرص الشمس، وتكريسه إلهاً واحداً لا شريك له.

كل ذلك بُذل من عرق ودم وهمّ ليرتطم بجدار الأفق المسدود.

الجريمة لا تفيد

وما كادت تنقضي عشرة أيام على رحيل حكيم السينما عنا في هدوء كما عاش في وادينا هادئاً رقيقاً كالنسيم، حتى روع الوسط الفني بخبر مقتل نيازي مصطفى رائد السينما في مصر وشيخ مخرجيها، وهو في الخامسة والسبعين من العمر، ليترك المعترك مخلفاً مائة واثنين وخمسين فيلماً آخرها “التوت والنبوت” المأخوذ عن الحكاية التي تنتهي بها حرافيش “نجيب محفوظ” والتي نراها في الفيلم، وقد تحولت إلى زعيق وخناقات وضرب بالنبابيت، وامرأة يلهث وراءها رجالات الحارة وفتواتها، وغانية وخواجة يلهثان صباح مساء وراء زين الفتوات “سمير صبري” !!، وكذلك مشروعاً لفيلم اسمه “القرداتي” (فاروق الفيشاوي) شاءت الأقدار للمخرج القتيل ألا يرحل دون أن يكمله بتصوير آخر لقطاته، تاركاً أمر التوليف للخلف المستفيد من كل الضجيج والعجيج والأضواء الذي لابد أن يصاحب حادث قتل وتمثيل بجسم نجم له في سماء سينما الشباك شأن كبير.
حيرة وضياع  

ولو حاولنا أن نسترجع ما جرى للفن السابع في ديار مصر قبل الثامن من أكتوبر وبعده، لوجدناه في حالة جزر يثير القلق.

فأي متأمل لحصاد 1986من الأفلام المتسمة بالجدية أو المصطنعة لها يلاحظ عليها:

أولاً: أنها بالنسبة لرقم الأفلام التي عرضت خلال العام- وهو قياسي- قليلة جداً، فهي لا تزيد على عشرة أفلام بدأت بفيلم “للحب قصة أخيرة” لرأفت الميهي ثم “سعد اليتم” لأشرف فهمي “فقفص الحريم” لحسين كمال و”الطوق والأسورة” لخيري بشارة ” و”مشوار عمر” لمحمد خان و”البداية” لصلاح أبو سيف و”الجوع” لعلي بدرخان و”اليوم السادس” ليوسف شاهين” و”عودة مواطن” لمحمد خان وأنتهت “بآه يا بلد آه” لحسين كمال.

ثانياً: إنها في معظمها تتعامل بأسلوب بال عفا عليه الزمن، ومع موضوعات قديمة طرقت من قبل كالضياع والفساد والاستبداد وشقاء المرأة والفقراء إلى غير حد، وانتشار التنافس والتباغض والاحتيال إلى آخر هذه الرذائل التي تتكشف عنها الطبيعة الإنسانية حين تلم بها الخطوب، وتلح عليها الكوارث باختصار لم تسع بحثاً عن آفاق جديدة عن أحلام ترفض الاستسلام، تصعد بنا قليلاً لنبصر.

ثالثاً: أنها، فيما كان منها مأخوذاً عن أعمال أدبية كـ”قفص الحريم” والطوق والأسورة” و”الجوع” و”اليوم السادس”، إما قد خانت أمانة الرؤية الصادقة لهذه الأعمال، أو أسرفت في الاصطناع والتعقيد لتفاصيلها، أو تحولت بها من مرآة للحياة إلى كاريكاتور زائف لها.

رابعاً: إنها في غالبيتها لم تشف غليلاً، لم تطفئ ناراً ملتهبة في القلوب لم تثر اهتماماً ولو كان قليلاً، لم تظفر بنجاح جماهيري ولو كان ضئيلاً، وكما جاءت ذهبت دون أن تترك أثراً له وزن على مسار السينما في الوطن العربي.

الطوفان.. لماذا؟

ولعل الفشل المذهل الذي كان من نصيب الجوع يستلزم وقفة قصيرة عنده بالذات، في محاولة منا لإلقاء بعض الضوء على أسباب الفشل المزلزل الذي واجه أفلام العام بوجه عام.

في اعتقادي أن “الجوع” فيلم أتيح له من فرص النجاح ما لم يتح لفيلم آخر جاد منذ أعوام.
فمخرجه “علي بدرخان” صاحب “الحب الذي كان” وأفلام أخرى ظفر بعضها بإعجاب الكثير. ونجمته “سعاد حسني” مشهود لها بحضور على الشاشة آسر ساحر للقلوب. ونجمه “محمود عبد العزيز” له في التمثيل منزلة رفيعة لا يرقى إليها إلا القليل الموعود. ومصمم ديكوراته وأزيائه “صلاح مرعي” ذلك الفنان المرموق الذي لعب دوراً كبيراً في النهوض بالمومياء.

وفوق هذا فهو مستوحى من إحدى حكايات “الحرافيش” للأديب “نجيب محفوظ” وبالتحديد الحكاية التاسعة.

ومع ذلك، فما نكاد نمضي في مشاهدته، حتي يدركنا شيء من خيبة الأمل.. لماذا؟

الأصل والصورة

من المعروف عن حرافيش الأديب الكبير أنها ميلودراما صارخة من عشر حكايات، أولاها “عاشور الناجي” تنتهي به فتوة للحارة دون منازع، مقيماً فتوته على الأصول، ناشراً العدل والكرامة والطمأنينة.

فإذا ما اختفى ولم يعثر له على أثر في بداية الحكاية الثانية “شمس الدين” لم يتوقف الزمن.

فها هي عائلته في الحكايات التالية تمر بحياة محصورة في الحارة، كثرت فيها الفتن والمحن والكوارث، وصرخت فيها النفوس عن مكنونها، فظهر الضعف والقوة، والإخلاص والجبن.

ظهر كل ذلك وأكثر، وإذا الأيام تكشف عن أنيابها الحادة القاسية، ففيضان النيل شحيح، وشبح الجوع يتضخم، ويشيع أن الناس يأكلون الخيل والحمير والكلاب والقطط، وأنهم عما قريب سيأكل بعضهم بعضا.

في هذا الظلام الذي يسود الحكاية التاسعة “سارق النعمة” تخلقت معجزة، فثمة صرة حاوية لطعام تُدَس في أيدي المعذبين بالجوع ، تعقبها همسة تقول من “عاشور الناجي”، وفي الحق كان صاحب صرة الرحمة والهمسة هو “فتح الباب” حفيد الجد المختفي.

لقد كان فتى يرى جده “عاشور” في كل مكان، ينبض في قلبه وخياله، يشتعل في أشواقه وآماله.

ويرى في أجولة الغلال المكتنزة في مخزن أخيه “سماحة” ذي الوجه القبيح حقاً للسائل والمحروم.

وإذن فالصراع الدرامي في “سارق النعمة” إنما يدور بين الأخوين “فتح الباب” و”سماحة”.

وهو في الحكاية ينتهي بانتصار الأول على الأخير عندما سيطر الحرافيش على الحارة تحت قيادة الأخ الأصغر، اقتحموا مخزن “سماحة” الفتوة، نهبوا ما فيه من غلال حتى آخر حبة.

ولم يكتفوا بذلك، بل انهالوا بالطوب على الأخ الأكبر”سماحة” حتى انهار فوق عتبة الدار مسلماً الروح.

وسرعان ما عرف دور “فتح الباب” في المعركة، فتجسد أسطورة ونودي به فتوة للحارة.

ولكنه لسوء الحظ لم يكن يملك قوة جده “عاشور”، فلم يكد يتولى أمور أهل الحارة بالعدل، حتى حدد الأشرار إقامته في مسكنه حيث امتد به الزمن بلا حياة تنصف، ولا موت يسعف.

وذات صباح عُثر على جثته مهشمة في أسفل المئذنة، وقيل أنه آثر التخلص من الحياة بالانتحار وهكذا أنتهت سيرته وجهاده.

التحوير والتدوير

وهنا قد يكون من المناسب بيان كيف تناولت المعالجة السينمائية تلك الحكاية.

بادئ ذي بدء، يُلاحظ أن عنوانها “سارق النعمة” قد تغيّر في الفليم إلى عنوان أبشع هو “الجوع”.

والأغرب أن المؤلف قد أُغفل ذكر اسمه تماماً في عناوين الفيلم وملصقاته، وكأن الحرافيش لقيط بلا مبدع اسمه “نجيب محفوظ”.

والأكثر غرابة أن أسماء أبطال الحكاية قد أدخل عليها هي الأخرى التغيير والتبديل.

فكان أن تحول “عاشورالناجي” إلى “فضل الجبالي” و”سماحة” إلى “فرج” (محمود عبد العزيز) و”فتح الباب” إلى “جابر” (عبد العزيز مخيون) و”فردوس” إلى “ملك” (يسرا).

ومهما يكن من أمر كل هذا التحوير والتدوير في الأسماء الذي يصل إلى حد تعمد الإخفاء، فالأدهى والأمر هو تكليف الحكاية ما لا تطيق بإقحام شخصيات وبافتعال مواقف ونهايات.

عدوى الشباك

ولعل شخصيتي الزوجة الأولى الدميمة (سناء يونس) و”زبيدة” بائعة البطاطا (سعاد حسني) هما أهم شخصيتين جرى إقحامهما على سياق الحكاية بشكل مخل زاد الفيلم تعقيداً وترهلاً.. كيف؟
“ففرج” ذو الوجه القبيح في حكاية “نجيب محفوظ” لم يتزوج سوى مرة واحدة من الجميلة الصغيرة الغنية “ملك” بنت الحسب والنسب، مالكة محل الغلال التي وهبته “عطايا من العذوبة والنضارة، ورغداً من حياة القصور وأساليب المعيشة الرفيعة” أنساه ماضي الفقر والقهر الذي كان يحيط بالحرافيش في الحارة، ولايزال.

أما زوجة أيام الذل والهوان الأولى فهي شخصية مختلفة أتاح لها صاحب الفيلم وجوداً لم يكن لها في الحكاية.

ويبدو أنه أريد بها استغلال الإمكانيات الكوميدية عند الممثلة التي أدت دورها (سناء يونس) لانتزاع الضحكات.

إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن تمثيلها كان قوامه المبالغة، والافتعال على وجه انحدر بالمشاهد التي ظهرت فيها إلى مستوى مشوب بالابتذال.

ومن المعلوم أن أبغض الضحك ما يقوم على الحط من شأن المرأة بالسخرية السوقية منها.

وجابر”سارق النعمة” لم يٌكتب له في الحكاية أن يتزوج إلى يوم العثور عليه منتحراً.

بطاطا وثورة

إلا أنه في الفيلم وقع منذ البداية في حب بائعة البطاطا “زبيدة” التي تعترف له بأن أحد الفتوات قد اعتدى عليها، فيذهب إلى المعتدي الآثم: مطالباً إياه بإصلاح غلطته في حقها بالزواج منها دون جدوى.

ويمضي الفيلم فإذا بهذا المعتدي يُقتل في معركة بين الفتوات تصادمت فيها النبابيت وسالت الدماء، حتى انتهت “بفرج” منتصباً بين الحرافيش زعيماً بلا منافس.

وإذا بسارق النعمة يصلح غلطة الفتوة المقتول، فيتزوج من حبيبة العمر بائعة البطاطا الحامل سفاحاً غير حافل ولا مكترث.

ويمضي الفيلم هكذا على شر حال حتى يضبط متلبسا بانتحال شخصية جده “الجبالي” وبسرقة النعمة، فيأمر أخوه “فرج” بتعليقه من قدميه في السقف حتى تُصفى روحه نقطة بعد نقطة.

وهنا تتحول “زبيدة” بائعة البطاطا إلى امرأة ثورية، تحرض الحرافيش على العصف بقصر الذي طغى حيث تعثر على زوجها معلقاً، مدلي الذراعين، مغمى عليه بين الحياة والموت.
الطريق إلى جهنم

وطبعاً لا ينتهي الفيلم بسارق النعمة ميتاً كما في الحكاية، وإنما حيٌّ يُرزق في أحضان بائعة البطاطا التي استحالت داعية لإعداد النبابيت والاستعداد لمواجهة قوى الاستغلال الباغية.

وقد يكون من الخير هنا أن نلاحظ أخيراً أن الفيلم لا هو بالواقعي ولا هو بالمتجاوز لها، تحليقاً في آفاق الخيال وإنما هو شيء بين الإثنين يملأ النفس حيرةً وسأماً.

وأن شخصياته كثيراً ما ابتذلت من قبل في أفلام مدارها عالم الفتوات، آخرها حرافيش حسام الدين مصطفى والتوت والنبوت.

ولربما هذا- مع أزمة السينما- هو الذي أوقع “الجوع” في هاوية إعراض الناس عنه.

ورغم ذلك فالفيلم يستحق المشاهدة لأمرين، أولهما ديكورات الحارة والملابس التي أبدعها خيال صلاح مرعي.

والثاني.. ولعله الأمر الأهم- هو تأمل كيف ترتطم النوايا الحسنة في السينما بجدار الأفق المسدود.