مع نجيب محفوظ في رحلتة داخل دنيا الأطياف

“دنيا الله”  هوآخر فليم مأخوذ عن إحدى قصص “نجيب محفوظ”. وقد شاء عبث الأقدار بي أن أذهب إلى سينما ميامي حيث جاء عرضه لأجدني شبه وحيد في دار موحشة.

وبعد صبر جميل علي الفيلم حتي وصل إلي الخاتمة تساءلت، وانا أغادر الدار مهموماً لماذا كل هذا الفشل، لماذا أنفض الجمهور من حول فيلم عن قصة لأديبنا الكبير تحول بها إلي لغة السينما المخرج المؤمن بالشباك المردد لمقولة “الجمهور عاوز كده” حسن الإمام؟

وفى محاولة لفهم هذه الظاهرة لماذا يلفظ هذا النوع من الأفلام أنفاسه الأخيرة قد يكون من المفيد أن نبدأ ببداية نجيب محفوظ مع السينما، أن نعود إلي الماضى مرتحلين مع الزمن أربعين عاما.

غالباً ما يغيب عن البال أن “نجيب محفوظ” هو أول أديب مصرى اتصل بالسينما، غذاها بأعمال فنية قبل أن تجيئه الشهرة عن طريق القصة.
الزيات.. المازني.. العقاد لم يتصل أحد منهم بها أصلاً “طه حسين”جاء اتصاله بها متأخراً، فأول فيلم عن قصة له “ظهور الإسلام” كان وراءه رصيد هائل من الأعمال والمواقف الأدبية توجت باقتران اسمه بلقب عميد الأدب العربى.

“توفيق الحكيم” كان وقت إخراج أول فيلم له عن مسرحية  “رصاصة في القلب” صاحب اسم لامع اشتهر “بعودة الروح” وجعجعه في الصحف والمجلات حول صينية البطاطس، المرأة وعدائه لها، حماره ومشاكل معه لاتنتهي.

“يحيي حقي” ظل نسياً منسيا لا تعرف عنه شيئا، لا تعي أنه صاحب “البوسطجي” لا تسعى إلى ترجمة قلة من أعماله الي الأفلام إلا بعد أن أصبحت حديث المشرق والمغرب.

ويوسف إدريس بقى مُبعداً عن السينما وأضوائها لا تكتشف أدبه عن طريق “الحرام” وغيرها من الروائع إلا بعد أن أصبح علماً من أعلام القصة القصيرة على امتداد أرض العرب.

اللقاء السعيد

أما نجيب محفوظ فكان له شأن آخر شغلت السينما باله مٌبكراً، قبل أن تبدأ المرحلة الواقعية من حياته الأدبية بقصة “القاهرة الجديدة”- تلك المرحلة التى أصبح بفضلها واحد من أشهر روائيي الوطن العربي إن لم يكن أشهرهم جميعا.

وعن علاقته بالوسط السينمائي كيف بدأت يحكي “عرفني صديقي المرحوم الدكتور فؤاد نويرة بصلاح أبو سيف وطلب منى أن أشاركهما في كتابة سيناريو فيلم للسينما اخترنا له فيما بعد اسم مغامرات عنتر وعبلة، وكان صلاح أبو سيف هو صاحب فكرة الفيلم”.

وقد شجعني على العمل معه أنه قرأ لى “عبث الأقدار” وأوهمني بأن كتابة السيناريو لا تختلف عما أكتبه عندما سألته عن ماهيه هذا السيناريو الذى لم أكن أعرفه. والحقيقة أننى تعلمت السيناريو على يد “صلاح أبو سيف” كان يشرح لى فى كل مرحلة من مراحل كتابته ماهو المطلوب منى بالضبط”.

النهاية والبداية

وعلي كُلٍ فالأكيد أن سيناريو “مغامرات عنتر وعبلة” كتبه “نجيب محفوظ” خلال سنه 1945، وهي سنة فاصلة، ففيها الأرض على أهبة الاستعداد لاستقبال السلام بعد انتهاء الحرب باندحار الفاشية.

وكانت السينما العالمية فى حالة ولادة لتيار فني عُرف فيما بعد بتيار الواقعية الجديدة.

وكانت السنما فى مصر تعاني من أزمة فالجمهور كان قد بدأ يتململ، ينقلب على مسلسل أفلام تدور وجوداً وعدماً حول الدموع والممنوع فى الحب، يرغب فى سينما أخرى.

فى هذا المناخ العام، وبفضل هذا السيناريو أصبح “نجيب محفوظ” أول أديب مصرى يكتب للفن السابع .

العلاقات الخطرة 

وبدأت بينه وبين صلاح أبو سيف علاقة عمل سينمائية استمرت خمسة عشر عاما، كان من أهم ثمارها “لك يوم يا ظالم”، “ريا وسكينة”، “الوحش”،
 “الفتوة”، وكلها أفلام عن سيناريو إما كتبه نجيب محفوظ بالكامل أو بالمشاركة مع الغير.

وأول ملاحظة أسجلها على هذة الأفلام الأربع أنها كانت رائدة.

فلك يوم ياظالم كان، والحق يُقال، مقتبساً عن قصة “تيريز راكن” للأديب الفرنسي “اميل زولا”. ومع ذلك نجح السيناريو فى أن يمصر أماكن وشخصيات تلك القصة، وهذا أمر كان جديداً على السينما وأفلامها المقتبس معظمها دون أدنى تصرف.

أما الأفلام الأخرى، فقد استوحى نجيب محفوظ وقائعها الغريبة من أحداث اهتز لها بر مصر.

فريا وسكينة عن سيرة سفاحتين عاشتا فعلا بالإسكندرية، نشرتا الرعب بين سكانها بما كانتا ترتكبان من جرائم قتل بشعة بأساليب مروعة.

والوحش يدورحول مجرم حقيقى “الخط” كيف استبد بالصعيد، دوخ الشرطة قبل أن تحاصرة ولا تتركه إلا جثة.

أما “الفتوة” فهو فى حقيقة الأمر”زيدان” زيدان التاجر صاحب السلطة والسلطان كيف بدأ صغيراً فقيراً وانتهى قيصراً متحكماً فى الرقاب، مستغلاً العباد.

ومرة أخرى كل هذا كان جديداً على السينما المصرية وأفلامها التى لا تعترف بشرعية الواقع، تسقط حقوقه من الحساب.

عطر مصر

والملاحظة الثانية التى أرى تسجيلها، ونحن فى سياق الحديث عن هذه الأفلام أنها بفضل السيناريو والحوار وأسلوب الاخراج، كانت متصلة بعصرها، فيها من عطر مصر الشيء الكثير، كانت باختصار مصنوعة ليتلقاها قلب الشخص الآخر، الذى يسميه تجار السينما “الجمهور”.

وفعلاً تعلق بها الجمهور حباً، وكان أن ربحت السينما موهبتين نجيب محفوظ مؤلفاً لها، وصلاح أبو سيف مخرجاً لأفلامها.

والطريف هنا رواية نجيب محفوظ لموقف المنتجين من بعض هذه الأفلام، وهى لاتزال فى مرحلة السيناريو تحبو، فهو يذكر فى هذا الخصوص أن صلاح ابوسيف قاسى الأمرين من المنتجين، فأحد منهم لم يوافق على تمويل “لك يوم ياظالم ” بحجة أن البطل شرير، والبطلة امرأة مزواجة تستبدل الرجال كما تستبدل لباساً بلباس، والأحداث يحوطها جو من الكآبة منفر للجمهور.

وكانت النتيجة أن اضطر المخرج فى نهاية المطاف إلى تولي القيام بإنتاجه على حسابه الخاص.

وكاد الأمر أن ينتهي إلى نفس النهاية بالنسبة لسيناريو”ريا وسكينة”.

فعند عرضه على واحد من المنتجين سخر من حماس “أبوسيف” له قائلاً “يعنى جايب لي كليوباترة”!!! ودلالة هذه الرواية كبيرة.

ففى حين كان الجمهور فى منتهى اليقظة والحساسية، تعرف على الجديد المفيد فى السينما، أقبل عليه متحمساً دونما تردد، كان المنتجون فى منتهى التخلف والبلادة، اختلطت عليهم الأمور، لم يستطيعوا أن يتبينوا أن الزمن متهيئ لمثل هذه الأفلام، وأن أرض الماء أصبحت أرض سراب.

وإلى هنا كان من الفروض ألا يكون “الفتوة” (1957) آخر أفلام الثنائى “محفوظ ـ أبوسيف” العظيمة، كان من المفروض أن يستمر الخط البيانى للسينما التي تحاول أن تتلاءم مع إيقاع العصر فى الصعود.

ولكن فجأة حدث أمر لم يكن فى الحسبان؛ غيّر صلاح أبوسيف- دون سابق إنذار- الاتجاه، ذهب الى أرض السراب. كيف ؟

بعد نجاح الفتوة، وفى نفس سنة عرضه، أخرج “أبوسيف” لحساب المنتج “رمسيس نجيب” فليمين عن قصتين لاحسان عبد القدوس “الوسادة الخالية” و”لا أنام”.

والغريب أنه ولما تمض سنة على “الفتوة” إلا وكان “نجيب محفوظ” قد سحب بدوره إلى أرض السراب حيث استكتبه المنتج المذكور سيناريو فيلم “الطريق المسدود” (1958) عن قصة ثالثة لاحسان عبد القدوس.

والأكثر غرابة أن يكون الختام للعلاقة الحميمة بين الإثنين “محفوظ” و”أبوسيف” بفيلم لنفس المنتج كتب حواره “سيد بدير” عن قصة رابعة لاحسان عبد القدوس كتبها باسم “أنا حرة” (1959).

حديث الخروب

كل هذا حدث، ونحن على مشارف الستينات، في فترة غنية بالبطولات تقاوم جثث الأفكار، أصبح فيها اسم “نجيب محفوظ” على كل لسان بفضل السينما والأدب معاً.

ففى السينما ارتبط اسمه بأفلام أحبها الجمهور، زادت من الالتفاف حوله مثل “ريا وسكينة”، “الوحش”، “درب المهابيل”، و”إحنا التلامذة”.

وفى الأدب ترسب اسمه فى ذاكرة الناس بمجموعة رواياته الواقعية تبدأ “بالقاهرة الجديدة” (1945) وتنتهي مظفّرة بالثلاثية “بين القصرين” (1956)، “قصر الشوق”، “السكرية” (1957)، فضلاً عن معركة ضد الخوف والعبودية من خلال القضايا التى أثارها “أولاد حارتنا” (1959).
إذن كل الظروف كانت مواتيه “لنجيب محفوظ ” تتيح له أن يستمر فى أداء دوره التاريخي، النهوض بالسينما كما نهض بالقصة بحيث جعل من وصف العقاد لها “بأنها كالخروب الذى قال التركي عنه إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة”، جعل منه وصفا سطحيا متعاليا، كالطحلب لا قيمة له.

أسئلة حائرة

ومع ذلك لم يستطع أن يُكمل مشوار السينما. لماذا؟ ألانه كان قد اقترب من سن الخمسين، وهى سن خطرة بالنسبة للموظفين؟

أم لأنه كان قد مر بالرقابة مديراً لها، وبمؤسسة دعم السينما مديراً ثم رئيساً لمجلس إدارتها؟

أم لأنه كان فى طريقه إلى رئاسة مؤسسة السينما وجميع الشركات التابعة لها ؟

أم لأنه كان قد آثر السلامة بعد زلزال “أولاد حارتنا” الذى كاد أن يعصف بالثقافة، يرتد بها سنوات؟

أم لأنه كان على وشك أن يدخل حقل السينما ببديل للسيناريو أكثر روعة وشموخا بقصته “بداية ونهاية”؟

الأكيد أنه بدأ بالقصة الأخيرة مرحلة جديدة من رحلته مع السينما.

أول الغيث..

والأكيد.. الأكيد أن عقد الستينات لم يكد يقترب من نهايته إلا وكانت جميع المرحلة الواقعية من حياته الأدبية – وعددها ثمانية- وجميع أعمال المرحلة الرمزية- عدا “أولاد حارتنا”- من القصص الطويلة “اللص والكلاب”، “السمان والخريف”، “الطريق”، “الشحاذ”، “ثرثرة فوق النيل”، و”ميرامار”ـ هذه الأعمال جميعها قد تحولت إلى لغة السينما.
وفى الحق، فالبداية كانت طيبة تبعث على الأمل، فقد استهلت “ببداية ونهاية”، وهي من أكثر روايات “نجيب محفوظ” نضجاً، فحوارها متماسك، وشخصياتها حية، مقنعة، فضلاً عن أن ترجمتها إلى لغة السينما قد أسندت إلى “صلاح أبوسيف” أكثر المخرجين فهماً لأدب “نجيب محفوظ”.

ومن هنا، ورغم أن الأفلام التى أعدت عن رواياته قد بدأت بها، إلا أن الفيلم المستوحى منها كان- ولايزال- أرفعها مستوى، وأكثرها تمثلاً للرواية نصاً وروحاً.

ولكنه مع الأسف لم يستطع الوصول إلى مستوى “الفتوة” كان أقل منه بكثير.

صمت القبور

بعد ذلك تتابعت الأفلام المستوحاة من رواياته.

البدايات “درب المهابيل” لتوفيق صالح. ومما لوحظ عليها أنها كلما كثرت وانتشرت، كلما تدهورت وانحدرت فنياً حتى انتهى الأمر إلى الدخول بها فى منطقة السوقية والابتذال بأفلام “حميدة” (زقاق المدق) و”بين  القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”.
فحسن الإمام مخرج الأفلام الأخيرة اكتفى من بين شخصيات “زقاق المدق” العديدة وأحداثه الكثيفة المتشعبة، بقصة الحب فى الرواية مستهدفاً التركيز على “حميدة” كيف تحولت إلى بغى أثناء غياب محبوبها “عباس الحلو” بعيداً عن الزقاق في معسكرات الجيش البريطانى. وكيف عثر عليها، بعد عودته، فى أحد أوكار الليل غانية بين أحضان جنود الاحتلال.

ولم يستأثر باهتمامه من أجزاء الثلاثية سوى دون جوانيات عبد الجواد وابنه ياسين، فكان أن سلَّط الأضواء على الجانب العابث الماجن من حياتهما.. على المغامرات مع أجساد النساء فى سوق البغاء. فما هو موقف نجيب محفوظ من كل هذا التشويه لأدبه على الشاشة البيضاء.. من كل هذا الانحدار بصورته أمام الملايين التي لا تقرأ وترى؟

كان من المفروض أن يهتز للعار الذي لطخ أدبه، ولكنه لم يهتم مؤثراً الصمت بل قل الاستسلام.

رضاء سام

والأغرب أنه، وبعد حين، انقلب مؤيداً هذا التيار الذى أساء إلى أدبه بإفساد الفهم له.

ولعل أخطر شهادة قيلت فى الأفلام التى ابتذلت رواياته هى التالية: “من حسن حظي أن جميع الأفلام التى أُخذت عن كتبي أحرزت نجاحاً ساحقاً، وقد استجبت لها رغم كل ماقيل عنها؛ ليس هناك أفظع مما قيل عن فيلمي “قصرالشوق” و”بين القصرين”. ومع ذلك سعدت بهما جداً، وأنا راضٍ عنهما تماماً”.

وخطورتها تنبع من كون صاحبها هو”نجيب محفوظ” ومن كونه يفكر بمنطق الشباك، منحازاً إلى السينما السائدة وأفلامها الساقطة.

بئر اليأس

ولابد هنا من وقفة قصيرة عند هذا الموقف الغريب، في محاولة للبحث عن مفاتيح لفهمه.

فى ظني أن المفاتيح هي أدب “نجيب مجفوظ” نفسه، فهو فى جوهره يعبر عن مأساة الفئات الدنيا من الطبقات المتوسطة التي فى إطارها يحرك نجيب محفوظ نماذجه البشرية، يحملهم سلوكياتها الفردية وأوهامها، يضع على أكتافهم تناقضاتها وأوزارها.

ومن هذه الزاوية، وبحكم أنه من هذه الفئات فهو حين يُعبر عن مآسيها إنما يُعبر بالدرجة الأولى عن مأساته هو.

فكل من يقرأ لأديبنا الكبير يدرك تمام الإدراك أنه هو الآخر قد عاش حياة هذه الفئات، فهم هذا النوع من الحياة، أدرك فى أعماق أعماقه سخفه ونفاقه والنهاية الفاجعة التى تنتظر البشر رجالاً ونساءً ممن تزدحم بهم صفوف فئات تعيش على حافة هاوية العدم.

ولكن صاحب الثلاثية لا يتقدم خطوة فى الوعي بعد ذلك، إنه يسجل المأساة ولايرى أبعد منها.

ومن هنا يخرج القارئ لرواياته والغم يملأ قلبه، والضيق يسيطر على مشاعره، واليأس (أو ما يشبه اليأس) يجري فى عروقه.
اليأس إذن وغمامته التى تمطر عدم الاكتراث واللامبالاة هو الذي وراء نكسة أديبنا الكبير في السينما، تلك النكسة التي أوقفت ساعة التجديد عند “الفتوة” لا تتأخر عنه ولا تتقدم…

الصهيونية في السينما.. من الوصايا العشر إلي شبكة التليفزيون

لست أدري لماذا كلما جنحت إلى التفكير في الصهيونية وألاعيبها في السينما، رحلت مع الزمن داخل صورة من بين صور كثيرة من ماضي هوليوود البعيد أحتفظ بها عظة وعبرة.. رحلت متذكراً.

فما هي هذه الصورة العبرة، وما صلة السينما والصهيونية بها؟

الصورة لكوكبة من الرواد الأوائل الذين ساهموا في بناء مصنع الأحلام على شاطئ المحيط الهادي منذ سبعين عاماً أو يزيد، العدد لا يزيد عن سبعة رجال وامرأة حسناء “جلوريا سوانسون” نجمة هوليوود الأعظم أيام البطولة تبدع فناً جديداً من العدم أيام السينما الأولى قبل أن تتعلم الكلام.
والحق يقال إنه ليس من بين هؤلاء الرجال من يستحق الاهتمام سوى ثلاثة شاءت الأقدار أن يتراصوا مُحيطين بالنجمة المُتدثرة بمعطف من فرو أسود ثمين يُقدّر الآن بالملايين. فمن هؤلاء الرجال الثلاثة الذين وقفوا إلى جوار بعض متساندين ومن حول النجمة الحسناء صاحبة الفراء ملتفين؟

الثالوث غير المقدس

أولهم إلى يسار الصورة هو “هربرت روتشيلد” يليه “أدولف زوكور” ثم “سيسيل ب دي ميل”، أي الممول فالمنتج فالمخرج.

كل واحد منهم قد لعب دوره الهام وبتنسيق تام في مصنع الأحلام.

ويبدو لمن يحكم بظاهر الأمور أن دور ثانيهم وثالثهم في النهوض بهوليوود هو الدور الحاسم ما في ذلك شك. “أدولف زوكور” باعتباره الرائد عابر المحيط من المجر مع أفواج اليهود الهاربين من الفقر والهوان، فإذا ما استقر به المقام في أرض العم سام اكتشف بقرة السينما الحلوب، أسهم في تأسيس شركة بارامونت- وهي بحق أهم احتكارات هوليوود وأكثرها تأثيراً في مسار السينما العالمية- تحت عبارة “الجمهور لا يُخطئ أبداً” لتتخذ منها عاصمة السينما شعاراً لسلعها التي غزت بها القلوب والجيوب، اكتشف نظام النجوم لا تزال سماء كعبة السينما مرصعة بها.

و”سيسيل دي ميل” باعتباره الرائد الأمريكي الذي شارك بجسارته ومهارته في انتاج وإخراج سبعين فيلماً بدأت صامته بـ”زوجة الهندي” (1913) وانتهت متكلمة بـ “الوصايا العشر” (1956). واستباح الأديان والقصص في الكتاب المقدس فاظهر موسى على الشاشة مرتين صامتاً في الأولى (1923) ومتكلماً في الثانية (1956) والمسيح في “ملك الملوك” (1927) و”شمشون ودليلة” (1949) واستحدث بعض القواعد لتحريف التاريخ وتشويهه لا تزال جمهرة مخرجي هوليوود على هديها تسير، نشر أسطورة معجزة السينما الأمريكية بدوام الزهو والتباهي بالحيل السينمائية التي استعملها مرة أيام السينما الصامتة في “جواد لوب” بكاليفورنيا ومرة أخرى في “أبي رواس” بمصر لتصوير البحر الأحمر وهو ينشق بإرادة الرب ليُفسح طريقاً لقوم “موسى” خروجاً من أرض النيل ثم وهو يغشى فرعون مصر وجنده مع الاصرار على الامتناع عن إفشاء سر هذه الحيل وكأنها سرٌ إلهي لم ولن يوحى به لأحد سواه.

الاحتفال والوعد

قد يكون من المفيد التذكير هنا بأن فيلم “الوصايا العشر” جرى الاحتفال بعرضه في مدينة الشيطان الأصفر “نيويورك” يوم التاسع من نوفمبر سنة 1956 أي فور غزو القوات الإسرائيلية لشبه جزيرة سيناء بأيام بل قل ساعات معدودات.

ولكن الدور الحاسم الرئيسي كان- في حقيقة الأمر- من نصيب أقل الثلاثة اتصالاً بالفن الوليد، وأقلهم إعلاناً عن نفسه، كان من نصيب “هربرت روتشيلد”. ولا عجب ولا غرابة في هذا لأنه من أشهر بيت مال: بيت روتشيلد الذي يعرف متى وأين يستثمر رأس المال، ولأية غاية يكون الاستثمار، والذي منه قدم البارون “دي روتشيلد” الدعم المالي للمستعمرات الصهيونية الأولى على أرض فلسطين.

وليس صدفة أن كتاب وزير خارجية بريطانيا “آرثر جيمس بلفور” المؤرخ 2 من نوفمبر 1917 والذي اصطلح على تسميته بـ”وعد بلفور” قد وُجّه إلى اللورد “والتر روتشيلد” عميد فرع بيت المال العتيق في الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ولم يُوجّه إلى يهودي آخر.

هكذا، ومنذ البداية تحددت معالم الطريق لصناعة فن ناشئ سرعان ما أصبح له شأن كبير وتأثير خطير. الممول والمنتج من شعب الله المختار، والنجم الأعظم سواء أكان ممثلاً أو مخرجاً يسبح في الفلك المرسوم له، عنه لا يحيد.

حدوتة باربارا

ولعل في قصة “باربارا سترايسند” وفيلمها “ينتل” (1983) الذي توزعه “بارامونت” ما يؤكد ما تقدم. فهي نجمة أعظم تعشق أرض الميعاد ومن عليها من بني إسرائيل. يقع اختيارها على قصة “اسحق سنجر”- وهو أديب إسرائيلي مغمور رغم سابقة منحه جائزة نوبل- لتصنع منها فيلماً.
وهي تزعم أنها أخرجت “ينتل”، ويزعم آخرون أن نفراً من عمالقة الفن السابع- من بينهم الشاب اليهودي المعجزة “ستيفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” و”آي تي” و”غزاة صندوق العهد المفقود” الممنوع عرضه في مصر لانطوائه على فكر مشوب بالصهيونية- كانوا وراءها في الظل يساعدون ولحسابها يخرجون.

ومن عجب أنها لم تكتف باختيار القصة وإدعاء الإخراج والمشاركة في كتابة السيناريو، ولا باختيار نفسها- وهي في خريف العمر- لأداء دور صبية مراهقة تنتحل شخصية صبي لكي تلتحق بمعهد ديني حتى تتمكن من دراسة التلمود والإحاطة بما يحتوي من أسرار.

إنها تطلب المزيد، ترى أن من حقها أن يتوّج فيلمها بالأوسكار. فإذا ما خرجت به من مولد الجوائز بلا حمص سارعت- وهي في مكتب رئيس الوزراء السابق “اسحاق شامير” بالقدس حيث حضرت افتتاح الفيلم- إلى الإعلان عن أسفها بل واستنكارها لسلوك المشرفين على الأوسكار القائم على اضطهادها لا لسبب سوى أنها من جنس النساء؛ وطبعاً- وفي مناخ كهذا- يكاد يكون أمراً مستحيلاً أن يفلت من وراء قضبان مصنع الأحلام في هوليوود فيلم يتعاطف مع العرب، يقف لمحاولات التشهير بهم، ولمؤامرات الاعتداء على حقوقهم في فلسطين وخارجها، يقف لها بالمرصاد.

مؤامرة أم ماذا؟

وعلى كُلٍ- وفي ضوء هذه المقدمة الطويلة- أرى من المناسب أن أقف قليلاً عند فيلم واحد من إنتاج هوليوود “الشبكة” أو “شبكة التليفزيون” (1976). لماذا؟
لأنه عرض على شاشة التليفزيون الصغيرة (برنامج أوسكار) ليلة الواحد والعشرين من فبراير سنة 1985 مع إشادة بعرضه صباح يوم الإثنين الموافق الخامس والعشرين من الشهر المذكور في جريدة ذات جلال في كل العهود. وفوق ذلك لأنه من انتاج وتوزيع شركة الفنانين المتحدين- وهي مع شركتي يونيفرسال ومترو جولدين ماير، قد ابتلعها فك “بارامونت” مفترساً.

والنتيجة أن الشركات الأربعة تُشكل حالياً احتكاراً جباراً قطع في السينما العالمية مثل خنجر مسموم.

والآن ماذا عن “الشبكة”.. ما خطبها؟
بادئ ذي بدء يتعين التنبيه إلى أن الفيلم لم يعرض على شاشة التليفزيون المصري كاملاً غير منقوص، بل عُرض ممزقاً شر ممزق، محذوفاً منه كل ما يتصل بالتشهير بالعرب من قريب أو بعيد. فهل لذلك سبب.. وما هو؟

لو استعملت كلمة “شبكة” بمفردها دون أن تُضاف إليها “تليفزيون” لما عرفنا معناها عندهم في الولايات المتحدة وانها إحدى شبكات التليفزيون الكبرى التي تحتكر الارسال.. وعددها ثلاث شبكات عملاقة ليس لها في دنيا الارسال مثيل. ومن هنا اختيار تلك الكلمة بما لها من دلالات عنواناً لفيلم قيل أن صاحبه المخرج “سيدني لوميت” قصد به أن يعّري هذا الاحتكار، أن يكشف ما يحمل للناس من أخطار. ولكن الفيلم انحرف عن هذا القصد، افتعل عدواً وهمياً، وتعامل معه كأنه الخطر الأكبر الذي يهدد الشعب الأمريكي.

كيف حدث كل هذا.. ولماذا؟

الصعود والهاوية

نظرة طائرة على مسار الفيلم قد تكشف السر: من المعروف أن قيمة المذيع في شبكات التليفزيون الأمريكية إنما تتحدد صعوداً وهبوطاً وفق درجات يُقاس بها مقدار شعبيته أي مدى اقبال المتفرجين على مشاهدة برنامجه.

فإذا مازادت هذه الدرجات أصبح المذيع نجماً مرغوباً تتخاطفه الشبكات. أما إذا حدث العكس وانحدرت الدرجات هوى نجمه إلى زاوية الضياع والنسيان.

وبطل الفيلم “هواردبيل” (بيتر فينش) واحد من ضحايا هذا التقدير الغريب للكفاءة. إنه مذيع تليفزيوني نجمه آخذ في الأفول، شعبيته نزلت إلى الحضيض وشبكة “أو. ب. اس” في سبيلها إلى الاستغناء عن خدماته نهائياً.

يبدأ به الفيلم مع “ماكس شوماخر” (ويليم هولدن) رجل الإدارة المُكلّف بإبلاغه قرار الرفت، وهما يحتسيان الخمر، يتبادلان أطراف الحديث في اشمئزاز حول مسلسل “ساعة الموت” المخصص لحوادث الانتحار، الاغتصاب، السرقة بالإكراه للمصارف والخزائن، وما إلى ذلك من ألوان الترفيه التي تستغل الانتهاك اليومي للحرمات.

الوعد والوعيد

في اليوم التالي- وهو على شفا انهيار عصبي مبعثه الاكتئاب- أخطر “بيل” مستمعيه في آخر ظهور له على الشاشة الصغيرة بواقعة الرفت، أعلن على الملأ عزمه على الانتحار بعد أسبوع- داخل الاستوديو- وعلى مشهد من الملايين.

وطبعاً كان لهذا البيان وقع الصاعقة على الشبكة، حاول المسئولون عنها إقناعه بالرجوع عن قرار الانتحار حفاظاً على ما تبقى للشبكة من سمعة.

فلما وافق سُمح له بالظهور أمام العدسات حتى يطمئن الجمهور إلى أنه لن يسفك دماً ويوجه له كلمات الوداع الأخيرة.

وكانت المفاجأة الثانية

فقد انتهز الفرصة لا ليتراجع ويودع وإنما ليُبرئ ذمته ليقول بعض الحقائق الأولية ليفصح عن أنه- وعلى مر السنين- لم يكف عن الكذب والتضليل للناس وليكشف عن مدى كراهيته لأسلوب الحياة في المجتمع الأمريكي وكيف ضرب به سوس الرذيلة والفساد والإنحلال.

النبي المجنون

ولم يكن سهلاً بعد كل هذه الإهانات أن تُبقيه الشبكة. كان من المفروض أن يختفي من الشاشة وإلى الأبد. ومع ذلك حدث أمر لم يك في الحسبان. ارتفعت شعبيته، اكتشفت “ديانا كريستنسن” (فاي داناويي)- وهي قناصة تبحث عن الأخبار المثيرة تتغذى بها برامج الشبكة- في جنونه ما يؤهل لأن يصنع منه نبياً تلفزيونياً ناهياً عما يراه منكراً، داعياً إلى تغيير ملامح العصر.
وبكل بساطة جعلت “ديانا” من “بيل” نجماً مرة ثانية تحولت به- وبفضل الجنون- إلى نبي دجّال. واستمرت اللعبة.. استردت الشبكة جمهورها، كثرت الإعلانات، أصبحت “أو. ب. اس” الأولى بين الشبكات. ولكن النجاح دخل بـ”بيل” منطقة جنون العظمة؛ فقد صدق أنه صاحب رسالة، جلجل صوته بالتحدي والغرور، ومع ذلك احتملته “الشبكة” لأنه خير وبركة إلى أن خرج على قواعد اللعبة بأن كشف مؤامرة العمر، صفقة بيع الشبكة إلى العرب، التفريط في أعزّ ما تملك أمريكا، تسليمه لقمة سائغة للغرباء ملوك النفط الأثرياء.

الصفقة والمنصة

وهنا يتحرك جمهور النبي المجنون- وهو بالملايين، ينهال ببرقياته على البيت الأبيض احتجاجاً، فتتوقف الصفقة المؤامرة.

وهنا كذلك تتدخل الشبكة لتصحيح المسار الذي خرج عن المدار المخطط له، يستدعيه الرئيس الأعلى، الرأس المفكر وراء الصفقة مع العرب، يعلمه الحكمة، يفهمه أن العالم إنما تتحكم فيه الشركات متعددة الجنسيات والفلوس وأن الأخلاق والقيم لا مكان لها. يخرج النبي المتكبر من عنده مكسوراً منطوياً على نفسه لا يقول في البرنامج شيئاً له قيمة أو تأثير.

وبالطبع- ومع هذا التغيير المفاجئ توقف البرنامج عن الصعود، فقد الشعبية. وكان لابد- وبعد هبوط أسهم “بيل”- من التخلص منه. كيف؟ ورفته غير وارد لأنه في حماية الرئيس الأعلى. إذن فليكن بالقتل، فهو يستحقه بامتياز.

وفعلاً نراه على شاشات التليفزيون صريع طلقات سريعة من مدافع رشاشة يحملها أفراد عصابة من الإرهابيين تتعاون مع “ديانا” في واحد من برامجها الجديدة الناجحة “ساعة ماوتزي دنج” وينتهي الفيلم.
العجب العجاب

وختاماً يحق لنا أن نتساءل هل هو فيلم عن التليفزيون ومخاطره أم هو فيلم عن العرب ومخاطرهم؟

الأكيد أن بيت القصيد منه هو التصعيد للحرب النفسية ضد العرب، وتحريض الرأي العام الأمريكي بتخويفه من خطر وهمي، خطر استيلاء العرب بفضل أموال النفط على المؤسسات الاقتصادية الأمريكية وفي مقدمتها أجهزة الإعلام.

أما التليفزيون ومشاكله فمن الواضح أن المخرج “سيدني لوميت” وكاتب السيناريو “فادي تشايفسكي”- وكلاهما من يهود نيويورك- قد استخدماه كخلفية حية مثيرة لقصة متشنجة تستغل ارتفاع أسعار النفط لافقاد الرأي العام القدرة على الرؤية والاختيار، لإقناعه تحت تأثير التخويف بأن العرب خطر ما بعده خطر.

وأخيراً فمن الحق علينا أن نتساءل لماذا حذفت رقابة التليفزيون عندنا المشاهد المعادية للعرب من الفيلم ولمصلحة من أتاحت عرضه على الشاشة الصغيرة بالخداع للمشاهد الذي لم يكن في قدرته- بعد الحذف- أن يعي من أمر الشبكة شيئا.

اعترافات ممثل في مجلس اللوردات

قدّم لسيرته الذاتية “اعترفات ممثل” بتمهيد مشوق كل التشويق. التمس فيه من قارئ الاعترافات المباركة.. لماذا؟ “لأني أخطأت منذ اعترافي الأخير قبل أكثر من خمسين عاماً، قد أرتكبت الخطايا الآتية”.

وبهذا التمهيد أفلح صاحب الاعترافات في أن يتحقق له ما يريد . في أن يثير في مشتري السيرة حب الاستطلاع، أن يسحبه إلى قراءة نهمة لكتاب ضخم (348 صفحة من القطع الكبير) بحثاً عن الخطايا في حياة نجم فنان جمع بين التمثيل والاخراج على مدى خمسين عاماً أو يزيد.

والحق يقال أن الاعترافات فيها من توابل الخطايا الممتعة الشيء الكثير يحكيها صاحبها – وهو واحد من أساطين فن المسرح والسينما – بأسلوب آسر أخّاذ يليق بشيخ مجرب لا يزال يعيش بقلب شاب يفيض حماساً.

ولو راعينا في عرض السيرة ترتيب وقائعها كما جاءت في الاعترافات لوجدنا صاحبها يستهلها بفصل أول تحت عنوان “كيف بدأت”.

علل البخيل

وهو في هذا الفصل لا يكتب عن رحلة المجئ إلى العالم كيف ولد وكيف عاش في المهد صبياً، لا  إنه يكتب عن انسان آخر عن أبيه القسيس كيف كان بخيلاً مقتراً في كل شيء بما في ذلك الماء.. أي ماء ساخناً كان أم بارداً.

“كنت أقسم دائماً أنه يستطيع أن يقسم الدجاجة بحيث تشبع حاجة ستة ثم يبقي منها ما يكفي وجبة الغذاء البارد في الغد، ودبابيس وجبة إفطار صباح اليوم التالي”.

فإذا ما انتهى الفصل – وهو يدور وجوداً وعدماً حول بخل الأب أصنافاً وألواناً – انتقل صاحب السيرة باعترافاته مسافراً داخل نفسه.

وكعادته معنا وقبل أن يبدأ الرحلة نراه يستهل الفصل الثاني “من المهد إلى فتى جوقة غناء” بكلام عن مشهد ليس ثمة صلة في الظاهر بينه وبين المهد.. مشهد من “ذهب مع الريح” ذلك الفيلم الذي لعبت لعنته دوراً في تدمير حبه الذي ذهب فيه مع معشوقته “ڨيڨيان لي” إلى آخر الشوط، تحولت بجمراته إلى رماد تذروه الريح.

الدقات والصرخات

ما هو هذا المشهد؟ وحول أي موضوع يدور؟

أنه لجنود الشمال الامريكي المنتصرين في الحرب الأهلية يقتحمون منزلاً في الجنوب حيث لا يوجد سوى سيدات مرفهات ومربية سوداء اشتعل رأسها شيباً.

يفتشون عن وثائق سرية أو أسلاب يخرجون بها فائزين.

في هذا الجو المرعب تحاول السيدات الصمود للخطر في برود.. الظهور بمظهر وكأن شيئاً أمامهن لا يحدث.

إحداهن وهي أكثرهن شجاعة “ميلاني” (اوليڨيادي هاڨيلند) تتناول أقرب كتاب لها تفتحه تقرأ منه كلمات بصوت جميل عال لا يرتعش. إنها تقرأ فقرة الافتتاح الشهيرة من “داڨيد كوبر فيلد”.

سواء أصبحت بطل حياتي أو سواء احتل هذه المنزلة أي شخص آخر.. هذا ما لابدّ وأن تكشف عنه هذه الصفحات. حتى ابدأ حياتي ببداية حياتي أسجل أني ولدت (كما قيل لي وأصدق) يوم الجمعة الساعة الثانية عشر مساء. وقد لوحظ أن الساعة بدأت تدق وأنا بدأت أصرخ كلانا في وقت واحد.

وهنا يؤكد صاحب الاعترافات أن هذا الوصف لبداية حياة بطل قصة “شارلز ديكنز” إنما ينطبق حرفياً على مولده في الثاني والعشرين من مايو سنة 1907، وذلك فيما عدا تفصيلة واحدة صغيرة هي أن دقات الساعة وصرخات الحياة لم يسمعا معاً في منتصف الليل، وأنما في الخامسة صباحا مع الشروق!

فجر أكبر أهمية

وبكتلة اللحم والدم التي انحدرت من أم صاحب الاعترافات توجه الدكتور رولنجز إلى باب المطبخ حيث كان الأب يقلي بعضاً من السجق له وللدكتور، فترك الكتلة الصغيرة المتمتعة بالصحة والعافية بين ذراعيه، وبدا على وجهة شيء من التقزز.

“هذا التقزز اليسير الذي أحس به عند أول مرة التقت عيناه بي بدا لي ولأمي أمراً قائماً مستمراً طيلة أيام صباي إلى أن حدث لجنّتي، أملي، دنياي المعبودة أمي أن توفيت وأنا في سن الثانية عشر”.

وعن واقعة اختفاء الأم هذه وما دار حولها من أسرار قالت له أخته الوحيدة “سيبيل” أنها كانت بجوار أمه لحظة اقترابها من النهاية وسمعتها توصي زوجها بطفلها خيراً. كما سمعت أباها يعدها أنه سيعمل كل ما في وسعه من أجل إطاعة رغبتها الأخيرة.

وعلي مرّ الأيام أخذ الفتى الصغير يتلقى اشارات تدلّ على ما يبذله الأب من مجهود في سبيل البرّ بوعده إلى الأم وهي على فراش الموت. ولكن هيهات فجميع المحاولات باءت بالفشل، وظل طوفان الكراهية بين الأب وابنه أبداً لا ينحسر.

فيوم أن استسلم الأول لمشيئة الموت قريباً من بداية سنة 1939 كان صاحب الاعترافات يمثل مسرحية “لا وقت للهزل” في انديانا بوليس بالولايات المتحدة حيث تلقى مكالمة تليفونية من وراء المحيط، إنها زوجة أبيه تخطره بأكبر خبر مفجع في حياتها، تطمئنه أنها قد أعدت لكل شيء عُدّته وأنها في غنى عن خدماته.

وبالنظر إلى أنه كان يحمل لها كل الحب والتقدير فقد استطاع أن يصدقها ولم يحاول العودة إلى انجلترا لحضور الجنازة أو لتلقي العزاء.

عتاب النفس

ومع ذلك فخبر الوفاة هزه هزاً أحدث في نفسه فزعاً. فباختفاء الأب سقط جدار الوهم الذي كان يشعر معه بالحماية. فجأة وجد نفسه أمام الموت وجهاً لوجه.

وفي وجود شبح الموت بدأ شريط الذكريات. تساءل صاحب الاعترافات متعجباً لماذا لم يواجه ولو مرة واحدة، الفقيد؟ لماذا ضعف فلم يستطع أن يقول له؟!

“أن تصرفاته كانت غبية، طفلية خاطئة وأحياناً أقرب بتحاملها وجهلها إلى الشر.”

أتذكره ذات مرة وهو يعلن واثقاً من منطلق الإيمان الأعمى أن برنارد شو تقمصه الشيطان (كنت وقت اعلانه هذا قد مثلت مسرحيتين لشو وتظاهرت بأني لم أسمع). “وانصرف فكري باعجاب مشوب بالغيرة إلى شقيقتي كيف تحررت من الخوف، كيف كانت تقف له بالمرصاد معارضة وعيونها الذكية تحملق فيه، تكاد تطّق شرراً وأي من شقيقيها أضعف منها لا يسانداها”.

هكذا كانت ذكريات الابن الأولى حول الأب لحظة سماع خبر انتهاء رحلة عمره.

الدهشة..لماذا؟

وعلي كُلٍ، فلو كان للأخير أن يبصر الصلة التي بين كتلة اللحم والدم التي أثارت تقززه وبين اللورد “أوليڨييه” المعروف في عالم المسرح تحت اسم “لورنس أوليڨييه” الواقف في العشرين من يولية سنة 1971 أمام مجلس اللوردات يلقي خطابه الأول – لتحوّل تقزّزه إلى بهجة. ولو كان له أن يرى ابنه الكذوب الفاشل المتعلق بالمسرح ومسوخه التي هي من صنع الشيطان، يعظ لوردات المملكة مبيناً أهمية المسرح ودوره الحضاري، والحضور يصفقون له استحساناً – لكذّب عينيه وأذنيه ولظل في حيرة لا يعي من أمر نجاح ابنه شيئاً.

ومهما يكن من أمر فما هو سرّ تحول لورنس أوليڨييه إلى نجم مسرح وسينما يدوم ساطعاً أكثر من أربعين عاماً. ما سرّ حصوله على لقب فارس “سير” ثم لورد وهو المطلق مرتين، المتزوج من نجمة أعظم كانت هي الأخرى مطلقة؟

باختصار ما سر نجاحه كل هذا النجاح؟

منطقياً كان يجب أن يسقط.. فأبوه قس قاس متقزز منه ومن أعماله من هوايته ورغبته في أن يكون ممثلاً، وأمه الحبيبة تركت الأقدار تفعل بها ما تشاء، انقطعت انجابها وهو لا يزال صغيراً.

وزوجته الأولى – وقبل عقد القرآن بأسابيع قليلة – تعترف له بأنها كانت تحب آخر ولا تستطيع أن تبادله الحب كما يهوى.

ورحلته إلى هوليوود قريباً من بداية الثلاثينات تخيب، فجريتا جاربو ترفضه، تحرمه شرف الوقوف أمام “الملكة كريستينا” عاشقاً.

ولكنه رغم هذه المحن، ومحن أخرى تكون أشدّ هولاً لم يسقط. لماذا؟

خادم القوم

لأسباب ثلاثة الموهبة.. الحظ.. العمل

وعند السبب الأخير أقف قليلاً لا لسبب سوى أن “لورنس أوليڨييه” هو الآخر وقف عنده طويلاً.

فمن يقرأ الاعترافات بامعان لابد وأن يلاحظ أن “أوليڨييه” ليس هارباً من عصره وأن مكانه الطبيعي خشبة المسرح، وأن الحب بينه وبين الجمهور صار أقوى من أي حب آخر. وأن العمل وحده المخلّص، بدونه تصبح الحياة لا معنى لها.

وفيما قاله “أوليڨييه” في اعترافاته يقول: “كثيراً ما يسألني الناس ما هي هواياتي، ما الذي أفعله من أجل المتعة؟ .. لم أفكر أبداً في شيء من هذا القبيل، أشعر شعوراً قوياً بالذنب عندما أحصل على أجازة، أحس بعدم الراحة فيما لو قمت بأي شيء خلاف العمل.

العمل بالنسبة لي هو الحياة، إنه القصد الوحيد من الحياة، ومصاحباً له ايمان يكاد يكون دينياً بأن الخدمة هي كل شيء.

أحيانا أجدني مع أناس حزانى يسألونني ما هو الشيء الذي من أجله أعيش، ما هو القصد من حياتي؟

والإجابة بأني أعيش من أجل العمل.. ليست دائما بالإجابة المناسبة.

بدلاً منها أجيب على الفور وباختصار مفيد “الخدمة” “فلو كنت تستطيع أن تنشد بها مثلاً أعلى وتدركه ولو استطعت ذلك الجمع، إذن فلا أحد ابتداء من الملكة وحتى أضعف السيدات وأكثرهن تواضعاً، لا أحد يستطيع أن يقطع الطريق وهو يعاني الاحساس بأنه يعيش لا لشيء.. يعيش عبثاً.