نجم يحتضر في الواقع والخيال

عندما طيّرت وكالات الأنباء، قبل أيام خبر وفاة النجم الكوميدي الشهير “والتر متاو” لم أفاجأ به، ولم أندهش إلا قليلاً.

فقد كنت أتوقع أن يذاع خبر موته بين لحظة وأخرى، وذلك منذ أن رأيته، قبل أسابيع، هنا في القاهرة، على شاشة إحدى دور السينما في فيلم متقمصاً شخصية رجل عجوز فان، نزيل أحد المستشفيات، حيث تنتظر بناته الثلاث رحيله عن دنيانا.

وفي نهاية ذلك الفيلم “إنهاء المكالمة” ومخرجته النجمة ديان كيتون، نراه يلفظ أنفاسه الأخيرة، في حضور ابنته الوسطى، المهتمة به، وتلعب دورها النجمة “ميج رايان”.

عشق الفن

وعندي أنه لم يقع عليه الاختيار لأداء دور عجوز مريض مرض الموت إلا لأن مخرجة الفيلم، وهي في نفس الوقت تؤدي دور ابنته الكبرى، كانت على علم بأن أيامه في الحياة معدودة.

ومما يثير الدهشة والإعجاب أنه، أي”متاو” كان في أغلب الظن على علم بذلك المصير.

والأكيد أن ارتضاءه القيام بأداء ذلك الدور إنما يشهد له أولاً بالشجاعة على مواجهة الموت، وثانياً بالعشق لفن التمثيل حتى نهاية العمر.

إنه، والحق يقال، من تلك الفئة القليلة التي يجري عشق التمثيل في دمائها، لا تستطيع منه فكاكاً، وآية ذلك عدم قدرته على مقاومة تقمص شخصية إنسان يحتضر، مثلما يحتضر هو في دنيا الواقع.

نجوم وأساطير

ويحضرني هنا فيلم “حيتان أوغسطس” (1987) الذي لعبت فيه النجمتان “ليليان جيش” و”بت ديڤيز” الدورين الرئيسين.

“فليليان” كانت وقتها في الرابعة والتسعين، لم يبق لها من العمر سوى ستة أعوام حتي تصل الي سن المائة عام!! و”ديڤيز” كان عمرها ثمانية وسبعين عاماً، ومريضة بداء السرطان، ولن يمر سوى عامين إلا وتكون قد أسلمت الروح.

إذن نحن أمام نجمتين معجزتين، واصلتا التمثيل رغم زحف الشيخوخة، والاقتراب من نهاية العمر، لا لأنهما في حاجة إلى المال والشهرة وإنما لأن عشق فن التمثيل يجري في دمائهما، يدفعهما إلى التمثيل، حتى النفس الأخير.

وأعود بعد هذا الاستطراد إلى “متاو” لأقول أنه مات عن عمر يناهز الثمانين، مخلفاً وراءه رصيداً هائلاً من أعمال فنية، يزيد على السبعين، ما بين فيلم ومسلسل ومسرحية.

وقد جرى ترشيحه مرتين لأوسكار أفضل ممثل رئيسي، وست مرات للكرة الذهبية التي فاز بها عن أدائه في فيلم “أولاد الشمس المشرقة”.

هذا، وقد فاز بأوسكار أفضل ممثل مساعد، ولعل أهم أفلامه تلك التي قاسمه بطولتها النجم “جاك ليمون”، وعددها أحد عشر فيلماً.

حظ باسم

والأكيد أنه إنسان محظوظ، فلا أتذكر أن أحداً أنهى مشواره السينمائي وهو على مشارف الثمانين، ليس بينه وبين هاوية الموت سوى خطوات، ببطولة فيلم مع ثلاث حسناوات، في مثل سحر وأنوثة “ديان كيتون” و”ليزا كيدروف” و”ميج رايان”.

وعلاوة على ذلك تكون الأخيرة، أي “رايان” هي الابنة البارة التي تسهر على راحته، وهو على فراش الموت، يتغزل في سحر جمالها ليل نهار.

ففما يعرف عن “رايان” أنها جميلة جميلات هوليوود، وحبوبة السينما الأمريكية، لا تعلو على منزلتها في قلوب الأمريكيين منزلة أية نجمة أخرى.

والآن، بعد انفصالها عن زوجها النجم “دنيس كويد” بعد زواج دام عشرة أعوام، تعيش قصة حب، مع النجم “راسيل كرو” بطل فيلمي “المطلع” و”المصارع”.

حقاً كان “متاو” محظوظاً، فحتى وهو يودع الحياة الدنيا في الواقع والخيال، كانت تجلس إلى جواره في دور الابنة العطوفة تلك الفاتنة “رايان”.

ولم لا يكون محظوظاً، وقد أمتعنا بأفلام لا تنسى، كانت تعيد البسمة إلى وجوهنا بين الحين والحين، على امتداد نصف قرن من عمرنا.

جوائز المهرجان وداء النسيان

لأن داء حارتنا النسيان، كما قال بحق أديبنا “نجيب محفوظ”، فقد نسينا أفعال لجان تحكيم المهرجان القومي للسينما المصرية في الأعوام السابقة. نسينا منح جائزة أحسن فيلم “للجراج” وعلاء كريم ونسينا أخطاء أخرى أخطر وأكثر هولاً.

من هنا دهشتنا حتى يومنا هذا، دهشنتا لانفراد فيلمي “جنة الشياطين” و”الأبواب المغلقة” بجميع جوائز المهرجان القومي السادس، فيما عدا جائزة السيناريو والجائزة الثالثة للإنتاج.

ودهشتنا لخروج فيلم “داود عبد السيد” الأخير “أرض الخوف” من مولد المهرجان، صفراً بلا جوائز.

فوضى ودهشة ونسيان

وكان أولى بنا، والحق يقال، ألا نندهش ولكن ما العمل؟ وداء حارتنا النسيان.

ولأن الفوضى التي سادت جميع عروض المهرجان، قد حالت بيني وبين مشاهدة “الأبواب المغلقة”، لصاحبه المخرج “عاطف حتاتة”، وهو الفيلم الفائز بجائزة مهرجان البحرين السينمائي الأول (2000). كما حالت بيني وبين مشاهدة “أولى ثانوي” الفيلم الفائز بفتات مائدة المهرجان.

فسأكتفي بالحديث عن”جنة الشياطين” المتوج بسبع جوائز، هي ولا شك، أهم جوائز المهرجان، إذ تدخل في عدادها جائزتا أفضل فيلم وإخراج، فضلاً عن جوائز أفضل ممثل رئيسى وتصوير وموسيقى تصويرية وتوليف.

والسؤال: هل “جنة الشياطين” يستأهل كل هذا التقدير؟

مصداقية الجوائز

بداية أرى من اللازم أن أشير إلى سابقة خروجه من أيام مهرجان دمشق السينمائي الأخير (1999) متوجاً بجائزته الكبرى.

ورغم الإشادة به من قبل حشد هائل من النقاد، أحجم الجمهور عن مشاهدته.

ولا أدل على ذلك من انحدار ايراداته في إحدى دور المجمعات السينمائية الجديدة إلى أربعة وعشرين جنيهاً، وهو مبلغ زهيد بكل المعايير، خاصة وأن الفيلم كان يجري عرضه في أيام العيد.

وعلى كُلٍ، فصاحب الفيلم هو المخرج الشاب “أسامة فوزي”، وبطله النجم “محمود حميدة” الذي لا نراه طوال عرض الفيلم، إلا ميتاً.

والفيلم، كما تقول عناوينه، مأخوذ مع بعض التصرف الذي أراه كبيراً من رواية للأديب البرازيلي الشهير “جورج أمادو” واسمها في الأصل “الرجل الذي مات مرتين”.

خيانة مع سبق الاصرار

والحق، أنه فيلم غريب، خارج عن المألوف في كل شيء ومن بين غرائبة الكثيرة، فضلاً عن بطله الميت دوماً، قول كاتب السيناريو “مصطفى ذكري” أنه كان لابد من خيانة رواية “أمادو” واستعماله كلمة تشويهها في عناوين الفيلم، وافتخاره بإدخال تفاصيل بديلة لبعض تفاصيل الرواية، أبرزها “سنتا طبل”.

ويقصد “ذكري” بتلك السنتين الصناعيتين في فم الميت “طبل” اللتين قام أحد شياطين الفيلم الثلاثة بخلعها، أو بمعنى أصح بسرقتهما بوهم أنهما من الذهب الخالص. فتفصيلة السنتين هذه، ليس لها أي وجود في رواية الأديب البرازيلي.

وفيما لو استثنينا “حميدة” لبلبة، والمصور “طارق التلمساني”، فجميع من شاركوا بدور كبير في صنع الفيلم من الشباب.. “فسري النجار” و”عمر واكد” و”صلاح فهمي” و”كارولين خليل”، الفائزة بجائزة أفضل ممثلة مساعدة، هم جميعاً من جيل جديد، ذي طابع خاص في الأداء ومؤلف الفيلم “خالد مرعي” هو الآخر شاب في مقتبل العمر.

وكذلك الأمر بالنسبة لكاتب السيناريو والمخرج، فكلاهما في ريعان الشباب، وكلاهما ليس في رصيده قبل “جنة الشياطين” سوى فيلم واحد “عفاريت الأسفلت” بطولة “محمود حميدة”.

والبادي من ذلك الرصيد المتواضع أن كليهما، أي”ذكري” و”فوزي” مولع برصيد حياة الهامشيين وهذا الولع لا يعيبهما في شيء.

فالهامشيون ناس من الناس، والعرض لحياتهم في لغة السينما من طبائع الأمور، كما هو الحال في لغة الأدب، وذلك بحكم وجودهم في المجتمع، وبحكم ازدياد عددهم ومشاكلهم في ظل رأسمالية منتصرة ومتوحشة معاً.

والسيناريو لم يعرض لحياتهم من هذه الزاوية، وإنما عرض لها من زاوية أخرى، مناقضة لها تماماً.

صورة وردية

فحياة الشياطين الثلاثة، وبائعتي الهوى، وهم جميعاً هامشيون، تمر أمام أعيننا، على نحو تبدو معه وكأنها حياة مثلى، علينا أن نسعى إليها، نعيشها، فيما لو كنا نريد حقاً التحرر من أغلال مجتمع عفن، متزمت، حبيس تقاليد بالية، ورهن عادات عفا عليها الزمان.

وعلاوة على ذلك، فمما يؤخذ على السيناريو أنه دار، مع الأسف، حول معان دون أن يقدمها لنا بجلاء ومنطق واضح، يترتب لاحقه على سابقه.

وأغلب الظن أن ذلك الغموض الذي شاب السيناريو، هو الذي حدا بلجنة التحكيم إلى حرمان “مصطفى ذكري” من جائزة أفضل سيناريو، ومنحها إلى “أشرف محمد” صاحب سيناريو “أولى ثانوي”.

وختاماً، يظل لي أن أتساءل: هل كان “محمود حميدة” أهلاً للفوز بجائزة أفضل ممثل رئيسي عن أداء دور لم يظهر فيه إلا في صورة جثة هامدة، لم تنطق بكلمة واحدة، ولم تحرك ساكناً.

تبرير لا تسبيب

قيل في تبرير منحه تلك الجائزة أن الممثل الأنجليزي “جون هيرت” قد جرى ترشيحه لأوسكار أفضل ممثل رئيسي (1980) عن أدائه لدور لم يكشف فيه عن وجهه أبداً، إلا في اللقطات الأخيرة من فيلم “الرجل الفيل”.

غير أنه غاب عن بال أصحاب ذلك التبرير أن “هيرت” لم يكن جثة، كان حياً يتحرك طوال الفيلم معبراً، من خلال الحركة، عن معاناة رجل بائس يائس برأس فيل لا رأس إنسان.

والأهم، أنه، وخلافاً لمحمود حميدة لم يفز بالأوسكار.