الشاطئ.. جنة ونار

الدعاية لفيلم الشاطئ سلطت أضواءها على “ليوناردو دي كابريو”، ذلك الممثل الشاب الذي أصبح، دون سابق إنذار نجماً يدفع له مقابل أدائه في الفيلم الواحد عشرون مليون دولار.

وذلك الصعود المفاجئ يرجع، ولا شك، إلى موته متجمداً من برودة ماء المحيط، وهو يعمل جاهداً من أجل إنقاذ حبيبة عمره القصير “روز” في “تيتانيك”، من موت أكيد.

فبفضل تضحيته بالروح الغالية من أجل محبوبته، هامت به الفتيات في مشارق الأرض ومغاربها، فأصبح معبود الجماهير.

و”دي كابريو” شاب من مواليد لوس أنجلوس (1974) بولاية كاليفورنيا،عن أم المانية، وأب إيطالي.

الطفل المعجزة

بدأ مشواره مع الصور المتحركة، بالظهور صغيراً على شاشة التليفزيون، ليس له من العمر سوى خمسة أعوام.

أما مشواره مع مصنع الأحلام في هوليوود، فلم يبدأ إلا مع بداية العام الأول من عقد التسعينات.

ففي أثناء ذلك العقد قام بالتمثيل في حوالي ثلاثة عشر فيلماً، لعل أهمها “ما الذي يأكل جيلبرت جريب” (1993)، و”روميو وجولييت” (1996)، وبطبيعة الحال “تيتانيك” (1997)، ذلك الفيلم الذي جاءه بالشهرة والمال الوفير.

والأكيد أنه ولد موهوباً بالتمثيل، ويكفي، في هذا الخصوص، أن نشاهده وهو يلعب دور الفتى المعوق ذهنياً في “جيليرت جريب” حتى نزداد يقيناً بأن موهبة التمثيل تجري في دمائه، بها يعيش، وربما بدونها ليس في وسعه أن يعيش!!

ولا أدل على ذلك من ترشيحه عن أدائه المتميز لذلك الدور لأوسكار أفضل ممثل مساعد، قبل سبعة أعوام، أي وهو لا يزال في بداية الطريق.

خيبة أمل

وقبل البدء في تصوير “الشاطئ”، كان متوقعاً أن يكون الدور الرئيسي “ريتشارد” من نصيب “أيوان ماكجرجر” نجم المخرج “داني بويل” المفضل في جميع أفلامه الروائية الطويلة السابقة على “الشاطئ” وهي ثلاثة لا تزيد.

فمن المعروف عن ذلك المخرج أنه لم يبدع حتى الآن سوى خمسة أفلام، أولها “قبر ضحل” (1994).

وإن أنجح أفلامه فنياً وتجارياً هو “مراقبو القطارات”، ذلك الفيلم الذي أبدعه، قبل أربعة أعوام، وأحدث عرضه في بريطانيا دوياً هائلاً.

فقد أتيح له خلال عام 1996، من النجاح، ما لم يتم لفيلم بريطاني، طوال تاريخ السينما البريطانية، الذي جاوز قرناً من عمر الزمان. أجمع النقاد البريطانيون، أو كادوا يجمعون على الرضا عنه، والإعجاب به. ولعله ظفر بأعلى إيرادات، عرفتها الأفلام البريطانية، حتى ذلك الحين.

و”الشاطئ” شأنه شأن جميع أفلام “بويل” الأخرى من إنتاج “أندور ماكدونالد” وعن سيناريو من تأليف “جون هودج”.

وكان متوقعاً، أن يؤدي دور “ريتشارد” “أيوان ماكجرجر” نجم تلك الأفلام، وفعلاً رشحته له الشائعات.

غير أنه في آخر لحظة، وتحت تأثير هوليوود المؤمنة دائماً وأبداً بنظام النجوم الكبار، جرى استبدال “دي كابريو” به، وذلك طمعاً في استغلال شهرته الناجمة عن أدائه لدور المنقذ، المضحي بحياته من أجل من أحب في “تيتانيك”.

ولكن كثيراً ما تـأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

فذلك الاستبدال لم يكن في صالح الشاطئ بأية حال من الأحوال.

صوت وصورة

فـ”كابريو” لم يكن مقنعاً في دور “ريتشارد” الشاب الأمريكي الضائع الباحث عن الفردوس المفقود، في جنات جنوب آسيا، وبالتحديد مملكة سيام “تايلاند حالياً”.

وعلى كُلٍ، فأحداث الفيلم المأخوذ عن قصة للأديب “اليكس جارلاند” تبدأ بصوت “دي كابريو” يقول “اسمي ريتشارد هل أنت في حاجة إلى معرفة أي شيء آخر”.

وهي فاتحة تذكر بفاتحة فيلمين أحدهما “موبي ديك” حيث نسمع صوت “جريجوري بك” يقول “نادني إسماعيل”. والآخر “مراقبو القطارات” حيث يجيئنا صوت “أيوان ماكجرجر” قائلاً: “اختر الحياة”.

وما أن ننتهي من سماع صوت “ريتشارد” “دي كابريو” حتى نراه في شوارع “بانجوك” هائماً، حاملاً حقيبة سفره فوق ظهره، مثله في ذلك مثل شباب السياح في هذه الأيام.

ثم تتلاحق الأحداث، فإذا بنا نراه في فندق حقير، حيث يلتقي أولاً “بدافي”– ويؤدي دوره “روبرت كارلاليل” الذي اختار طريق الإدمان، فالانتحار.

وثانياً بفرنسواز- وتؤدي دورها النجمة الفرنسية رائعة الجمال “فيرچيني لودويان” وحبيبها “أتيين” ويؤدي دوره “جويلوم كافيه”.

جزيرة الأحلام

وعلى هدى خريطة أعطاها له “دافي” قبيل انتحاره، يتجه برفقة “فرانسواز”و”أتيين” إلى فردوس مجهول، حيث يقيم نفر من السياح، آثر العيش في أحضان جزيرة،- ولا أقول جنة- تجري من تحتها الأنهار.

غير أنه مع تسلسل الأحداث وتصاعدها سرعان ما يكتشف “ريتشارد” ورفيقاه أنهم لا يعيشون في جنة، بل، في نار.

ومع هذا الاكتشاف ينتهي الفيلم بموعظة تجئ على لسان “ريتشارد”– “الجنة لا نجدها إلا داخل أنفسنا”!!

الأمريكي العليل

وأقصد بالأمريكي العليل “توم ريبلي” ذلك الفتى، أو بمعنى أصح، القاتل الموهوب في آخر عمل سينمائي أبدعه خيال المخرج البريطاني، المنحدر من أصل إيطالي “انطوني منجيللا”، صاحب “الانجيزي العليل” الفيلم الفائز، قبل أربعة أعوام بتسع جوائز أوسكار.

وفيلمه الأخير”السيد ريبلي الموهوب” وهو رابع أفلامه، مأخوذ عن قصة بنفس الاسم للأديبة الراحلة “باتريشيا هايسميث”. ولقد سبق للمخرج الفرنسي الراحل “رينيه كليمون” أن قام قبل واحد وأربعين عامان بترجمتها إلى لغة السينما في فيلم أسماه “شمس الظهيرة”.

ولعله من أنجح الأفلام التي أنتجتها السينما الفرنسية في ذلك الزمان.

ونجاحه يرجع، ولا شك، إلى إتقان المخرج، وروعة أداء النجم “آلان ديلون” لدور “ريبلي” المخادع الوسيم.

والآن، وبعد كل هذه الأعوام، وأيامها التي ذهبت كالأحلام، تعود شخصيات تلك القصة الشيقة إلى الشاشة الفضية، حيث نراها حيّة، مرسومة بكاميرات “جون سيل” مدير تصوير “الإنجليزي العليل”.

و”ريبلي”، ويؤدي دوره النجم “مات دامون”، لا يعاني من علة جسدية، مثل تلك التي كان يعاني منها بطل “الانجليزي العليل”. وإنما يعاني من علة نفسية، أكثر خطورة، وأشدّ تعقيداً واستعصاءً على الشفاء.

فهو يعيش في نيويورك، فقيراً، ضائعاً، محروماً، بينه وبين مجتمع الحياة الراقية، اللذيذة، حواجز من حديد.

ومن فرط ولعه بتلك الحياة وهيامه بها، أخذ يلح على نفسه بضرورة التخلص من شخصيته، سعياً إلى شخصية أخرى، يتحرر بفضلها من أسر مغارة الفقراء.

والفيلم يبدأ به، وهو على هذا الحال من الشقاء. فمع اللقطات الأولى نراه، وقد نمّت حركات مفاصله “الرقبة والساق والذراع” عن خلل في اتزان الأعصاب.

وعبّر وجهه عن أبلغ ذل يعقب الإعياء النفسي، وأبشع غلظة وقسوة، يسفر عنهما الغلّ المكتوم .

إنه عليل، وعلته تثير الاشمئزاز والعطف والرثاء.

اللقاء السعيد

وها هي الفرصة تجيئه سانحة، عندما التقى، مصادفة، برجل من أقطاب صناعة السفن والواسعي الثراء، اختلط عليه الأمر، فظنه زميل ابنه الوحيد “ديك”، أيام الدراسة في الجامعة.

ولأنه ابن ضال، يعيش في ربوع إيطاليا لاهياً لاعباً، فقد عرض الأب على “ريبلي” أن يسافر، على حسابه، إلى حيث يقيم “ديك”، كي يقنعه بالعودة إلى أمريكا، خاصة أن أمه تعاني من مرض عضال، وعلى وشك الرحيل. وبطبيعة الحال، سارع “ريبلي” إلى الترحيب بعرض الأب، الذي لم يكن في الحسبان.

وها هو ذا في إيطاليا، حيث تم اللقاء بينه وبين “ديك” ويؤدي دوره “جود لو” ذلك الممثل الانجليزي الصاعد الواعد، وآية ذلك ترشيحه عن أدائه لهذا الدور لأوسكار أفضل ممثل مساعد.

الانبهار والسقوط

وبحكم تركيبته النفسية المعقدة أشدّ تعقيد انبهر “ريبلي” بحياة “ديك” الماجنة في علب الليل، حيث كان يستبدل الفتيات والفتيان كما يستبدل حذاء بحذاء. وحيث كان يعزف على آلة الساكسفون مع فرق الچاز،ويغني ويسكر حتى صياح الديكة في الصباح.

ولم يقتصر الانبهار على”ديك” بل انصرف كذلك إلى “مارچ” حبيبته الانجليزية الشقراء، وتؤدي دورها النجمة “جونيث بالترو”، الفائزة بأوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن أدائها المتميز في فيلم شكسبير عاشقاً (1999).

ومع هذا الانبهار، بدأ السقوط الكبير، الذي وصل “بريبلي” إلى حد قيامه بقتل “ديك” وتقمص شخصيته، على نحو أتاح له فرصة العيش مستمتعاً بالحياة كما يحياها أصحاب الجاه والمال، متجنباً بذلك طبقته الدنيا تجنبه للجذام.

ولأن دوام الحال، على هذا النحو، من المحال، فقد بدأ الوسواس من لحظة القتل.

فمن أجل إخفاء معالم الجريمة، أخذ في ارتكاب جرائم أخرى، يشيب من هولها الولدان.

وإذا به يتحول إلى ما يشبه القاتل العشوائي، مزدوج الشخصية، حائراً، فهو تارة “ريبلي” وتارة أخرى “ديك”.

الحيرة والحصار

وعلى مر الأيام تزداد الحيرة، ويضيق من حوله الحصار، فلا يذوق طعم الراحة والاستقرار. وينتهي به الفيلم، وقد ارتكب جريمة قتل على ظهر عبّارة، حيث نراه وحيداً حائراً، مستسلماً للمصير.

ولست أدري لم لم يعجب الفيلم أصحاب الأمر والنهي في أمر الترشيح لجوائز أوسكار، فلم يرشحوا سوى الممثل “جود لو” مع أن المعنى الذي أراد إليه الفيلم قيم خطير.

ومع أنه من الناحية الفنية لا يقل من ناحية المستوى عن “الانجليزي العليل”. وأكبر الظن أن الموضوع والجرأة في تناوله هو الذي لم يعجب.

وأكاد أقول أن رقابتنا هي الأخرى ضاقت به أكثر مما ارتاحت إليه. ومن هنا تدخلها بالمقص لحذف اللقطات المتسببة في الضيق!!

نادي المحاربين انطلاقة سينمائية جديدة

نادي المحاربين ونهاية علاقة غرامية، كلاهما من الأفلام القليلة التي تمنح النفوس خصباً وفطنة وذكاء.

ولا غرابة في هذا، فالفيلم الأول من إخراج “داڤيد فنشر” الذي بهرنا بفيلمه “سبعة” قبل ثلاثة أعوام أو يزيد.

أما الفيلم الثاني فصاحبه “نيل چوردان” ذلك المخرج الذي سبق له وأن أدهشنا بفيلمه “اللعبة الباكية”، حيث عرض فيه لإرهاب الجيش الجمهوري الايرلندي، برؤية جديدة، وبأسلوب مبتكر، وبايقاع لاهث فيه من التشويق الشيء الكثير.

THE END OF THE AFFAIR, Julianne Moore, Ralph Fiennes, 1999, ©Columbia Pictures

وفي استطلاع رأي دأبت مجلة استديو الفرنسية على إجرائه بين قرائها، قريباً من نهاية كل عام، وقع الاختيار على نادي المحاربين، باعتباره أحسن فيلم جرى عرضه في فرنسا، خلال العام الأخير من القرن العشرين.

وفضلاً عن ذلك فقد كان مرشحاً لأوسكار أفضل توليف للمؤثرات الصوتية.

و”نهاية علاقة غرامية” كان هو الآخر مرشحاً لأكثر من أوسكار وبالتحديد أوسكار أفضل ممثلة رئيسية “چوليان مور” وأفضل تصوير.

مقص غليظ

وكلا الفيلمين يعرض الآن في دور سينما القاهرة والاسكندرية، ولكن بعد حذف لقطات كثيرة بواسطة مقص الرقيب.

ومن بين ما يقال عن تلك اللقطات المحذوفة، أن مدتها تجاوزت التسع دقائق بالنسبة لفيلم “نيل چوردان” وهي مدة طويلة حتى حسب معايير رقابتنا.

ومع ذلك فمجرد الترخيص بعرضهما، وإن كان في صورة منقوصة، يعد والحق يقال، عملاً ايجابياً من جانب رقابتنا الراسخة رسوخ الجبال.

والجمع بين الفيلمين في مقال واحد، لا يعني أن ثمة أشياء مشتركة بينهما، خلاف التقدير لهما سواء من جانب المتفرجين أو جانب أصحاب الأمر والنهي في شأن جوائز أوسكار، وخلاف تربص رقابتنا بهما، ووقوفها بالمرصاد لبعض اللقطات.

بل وحتى رغم أن سيناريو كلا الفيلمين ليس مبتكراً، وإنما مأخوذ عن عمل أدبي. “نادي المحاربين” عن قصة للكاتب الأمريكي “شك بالانويك”، لعلها قصته الوحيدة، فهو ليس كاتباً محترفاً.

اختلاف العوالم 

و”نهاية علاقة غرامية” عن  قصة للأديب الانجليزي الأشهر “جراهام جرين” لعلها أقرب قصصه إلى سيرته الذاتية رغم ذلك، فالفيلمان مختلفان، وكأنهما من عالمين متنافرين، وكل في سبيل.

فالسرد في “نادي المحاربين” كل ما فيه غريب، خارج عن المألوف. فثمة بطلان في الفيلم، أو هكذا نتصور في البداية.

 أحدهما، وهو الراوي، ويؤدي دوره النجم “ادوارد نورتون”، تستهل به أحداث الفيلم ساخطاً على طريقة حياته، مغالياً في التمرد عليها، رغم الظروف الطيبة التي تحيط به.

فهو يشغل مركزاً مرموقاً في إحدى الشركات الكبرى، ويقيم في شقة فاخرة، توافرت فيها كل أسباب الاستمتاع بحياة لذيذة، خلاية من المنغصات.

وفجأة، وهو على هذا الحال، يلتقي “بتايلر دردن” ويؤدي دوره النجم “براد بت”، فإذا به ينجذب إليه، ويجد نفسه عضواً في نادي المحاربين.

شخص أم شخصان

وشيئاً فشيئاً يتحول الراوي إلى شخص آخر أقرب في تصرفاته إلى الفتوات المشاغبين.

ولن أعرض  شيئاً من تفصيل ذلك التحول العجيب، لأنني لو عرضت تفصيله لتنقلت بالقارئ في تيه من الرموز والألغاز.

فالرواي حتى نهاية الفيلم لا نعرف له اسماً.

والأغرب أننا، والأحداث تقترب من الختام، نأخذ في التساؤل أهو و”تالير” شخص واحد، أم هما شخصان كما أوهمنا سياق الأحداث.

ونظل نتساءل عما أراد إليه المخرج وكاتب السيناريو “جيم أولس”، بفيلمهما هذا الرائع.

وأكبر الظن أنه إنما أرادا أن يصورا حالة الانفصام الحاد التي يعانيها الانسان المعاصر، والأمريكي بالذات.

التقليد والتجديد

فإذا ما انتقلنا إلى “نهاية علاقة غرامية” فسنجد أن السرد لقصة الحب بين “سارة مايلز” الزوجة الخائنة للرباط المقدس، وتؤدي دورها “چوليان مور”، وبين الأديب “موريس بندريكس” الذي يعيش في جو من الشك والغيرة مظلم، ويؤدي دوره “رالف فينيس”، سنجده من نوع السرد الأقرب إلى التقليد منه إلى التجديد.

وهذا لا يقلل من قيمة الفيلم الفنية، وان كان يجعله أقل منزلة، فميا لو جرت المقارنة بينه وبين “نادي المحاربين”.

فالفيلم الأخير حدث يؤرخ به في تاريخ السينما.

وربما، هو و”المتمرد” – “الماتركس” الفيلمان الوحيدان من  حصاد آخر عام في الألفية الثانية، اللذان سيتركان في فن السينما آثاراً بعيدة، ليس إلى محوها من سبيل!!