أكذوبة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا

ما أن انتهت أيام العيد السعيد، حتى هبطت علينا هدية من السماء.

وأعني بالهدية أفلاماً ثلاثة من أجود ما أنتجه مصنع الأحلام في هوليوود، خلال العام الأخير من القرن العشرين.

وتلك الأفلام هي “آنا والملك” ،”أسطورة الفارس الغامض” أو”سليبي هولو” لصاحبه “تيم بيرتون” و”رجل فوق القمر” لصاحبه “ميلوش فورمان”، ذلك المخرج الذي سبق له هو وفيلماه “طار فوق عش المجانين” (1975) و”أمادييوس” (1984)، الفوز بأكثر من أوسكار.

ولحسن الحظ، أتيحت لي فرصة مشاهدة الأفلام الثلاثة، وإن كان ذلك قد تم على حساب أفلامنا المصرية التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر.

فنظراً إلى ضيق الوقت فاتني مشاهدة بعضها. وما أن هيأت نفسى لتعويض ما فاتني، حتى كان أكثرها قد اختفى من دور العرض، بعد رحيل العيد، ببضعة أيام.

الاستثناء الوحيد

وأعود إلى الأفلام الأمريكية الثلاثة لأقول، أن الوحيد من بينها الذي لم يجر ترشيحه لأية جائزة من جوائز أوسكار هو “رجل على القمر”، رغم سابقة فوز نجمه “جيم كاري” بجائزة الكرة الذهبية، عن تقمصه لشخصية “اندي كاوفمان” النجم الاستعراضى والتليفزيوني الغريب الأطوار، حتى في نظر الجمهور الأمريكي المتسامح إلى حد ما، مع كل ما هو خارج عن المألوف، في عالم اللهو والترفيه.

أما “آنا والملك” و”أسطورة الفارس الغامض”، فكلاهما قد جرى ترشيحه لجائزتي أوسكار أفضل تصميم مشاهد وتصميم ملابس.

كما أن الفيلم الثاني، والذي يعد بحق رائعة سينمائية، فقد جرى ترشيحه، علاوة على ذلك، لجائزة أوسكار أفضل تصوير.

وعلى كُلٍ، فلا هو، ولا “آنا والملك” قد خرج من حفل توزيع الجوائز “26 مارس” متوجاً بأي أوسكار.

ولضيق المجال، سأكتفي بالحديث عن “آنا والملك” مؤجلاً الحديث عن رائعة “تيم بيرتون” إلى مقال آخر، في وقت آمل إلا يكون بعيداً.

والآن إلى “آنا والملك”.

سر الولع

موضوع هذا الفيلم ليس جديداً، فهو مأخوذ عن مذكرات بقلم “آنا ليونونيس”، وهي أرملة شابة بريطانية الجنسية، حكت فيها قصة سفرها، ومعها صغيرها الوحيد، إلى مملكة سيام، عام1862، حيث تولت أمر تعليم أولاد الملك “مونجكوت” وكان عددهم ثمانية وخمسين بالتمام.

ولقد سبق ترجمة ذكرياتها إلى لغة السينما مرتين الأولى: قبل أربعة وأربعين عاماً في فيلم “آنا وملك سيام”، بطولة “أيرين دن” و”ركس هاريسون” والثانية، بعد ذلك بعشرة أعوام، تحت عنوان “الملك وآنا” بطولة “ديبورا كير” و”يول برونر”. والأكيد أن ولع هوليوود بقصة أو بمعنى أصح مغامرة “آنا” في بلاط ملك سيام، له ما يبرره، فالقصة، والحق يقال، ممتعة، فيها من الطرائف والمشوقات الشيء الكثير.

اختيار موفق

وفي الترجمة السينمائية الجديدة لذكرياتها تلعب دورها “جودي فوستر” تلك النجمة التي سبق لها الفوز مرتين بجائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية. وكانت المرة الثانية عن أدائها أمام النجم “انطوني هوبكنز” في فيلم “صمت الحملان” (1991).

أما ملك سيام فلم يلعب دوره نجم أنجليزي “هاريسون” أو أمريكي”برونر” كما كان الحال في الفيلمين القديمين، وإنما الذي لعبه نجم آسيوي من هونج كونج، اسمه “شويون فات”.

وكم كان “أندي تينانت”، ذلك المخرج الذي سبق لنا وأن شاهدنا له، قبل بضعة شهور “سندريلا حبيبتي”، كم كان موفقاً في اختياره لنجمي فيلمه “فوستر” في دور المدرسة،” وفات” في دور ملك سيام. وكذلك في اختياره لممثلي الأدوارالثانوية، لاسيما “باي لنج” التي برعت في أداء دور “تبتم” المحظية التي ماتت حباً من أجل الرجل الذي تعلق به قلبها.

ولعل مشهد إعدامها من أجمل مشاهد الفيلم، وأكثرها إيلاماً. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى حسن اختياره للصغار، وما أكثرهم في مدرسة “آنا”!!

صدام الحضارات

واقف قليلاً عند سيناريو الفيلم، لأقول أنه شارك في تأليفه “ستيف ميرسون” مع “بيتر كرايكس”.

وهما لم يعرضا فيه للاختلاف بين المجتمعين البريطاني والسيامي من منطلق تصادم الحضارات، بمعنى أن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا، كما جاء على لسان الشاعر “روديارد كيبلنج”، أيام الامبراطورية البريطانية، التي كان يقال، في تمجيدها، أن الشمس لاتغرب عنها أبداً.

وإنما تعرضا لذلك الاختلاف من منطلق أكثر إنسانية وتفاؤلاً، قوامه أنه في وسع الحضارات أن تتعايش، وأن تتفاعل فيما بينها، على نحو مؤداه إذابة الفروق المترسبة على مر العصور “فآنا” عندما غادرت مملكة سيام، كانت امرأة غير تلك التي رأيناها في بداية الفيلم.

فكما أثرت في “مونجكوت” وأولاده وحريمه، تأثرت هي الأخرى بهم، وخاصة بإنسانيتهم التي لم تلوثها بعد سلوكيات مجتمعها البريطاني حيث تقاس قيمة الشخص بمقدار نفعه لنفسه لا نفعه للناس.

فلم تعد تلك المرأة الأجنبية، المتعالية، لا لسبب سوى أنها من بلد متقدم، وصاحبة رسالة، هي الأخذ بيد همج هامج، متخلف، استبدت به الخرافات والخزعبلات.

ختاماً يظل لي أن أقول أن بعض أحداث الفيلم إنما تذكرني ببعض أحداث “الامبراطور الأخير” رائعة “برناردو برتولوتشي” صاحب التانجو الأخير في باريس.

مع فارق هو أن مدرس الأمبراطور الأخير كان رجلاً انجليزيا “بيتر أوتول”. وفارق آخر هو استبدال الأفيال بالجمال.

فما أكثر الأفيال في فيلم “تينانت” الذي جرى تصويره، لأسباب رقابية، في ماليزيا، بدلاً من مملكة سيام!!

فيلم فريد لمخرج جديد

أفلام العيد السعيد، وأقصد بها أفلامنا المصرية، ستة لا تزيد، بينها فيلمان لمخرجين لم يسبق لهما إخراج فيلم روائي طويل.
والفيلمان توابع –”كرسي في الكلوب” لصاحبه سامح الباجوري، و”الشرف” لصاحبه محمد شعبان.
وحتى كتابة هذه السطور لم أشاهد من أفلام العيد سوى، توابع، الباجوري، ذلك الفيلم الذي أتيحت لي فرصة الاستمتاع به في أول عرض عام له، صباح أول أيام عيد الأضحي.

أما لماذا وقع الاختيار عليه دون غيره من أفلامنا، رغم أنه من إبداع مخرج جديد، فذلك لأن هاني فوزي هو كاتب سيناريو الفيلم.
ومما يعرف عنه، أنه مقل، لا يعرض فيما يكتب من سيناريوهات إلا لما هو جاد، وبطرق تتناول الموضوعات المطروحة، بقدر كبير من الابتكار.
وليس أدل على ذلك من سيناريو “أرض الأحلام”، آخر فيلم اشتركت فيه بالتمثيل النجمة “فاتن حمامة” “فهاني” هو صاحب ذلك السيناريو الذي يعتبر، بحق واحد من أفضل ما أبدعته السينما المصرية من سيناريوهات، إبان السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين.
ولأن الفيلم، وصاحبه داود عبد السيد مخرج “أرض الخوف”، أحد أفلام العيد، لم يحقق، لسوء الحظ، نجاحا تجارياً يذكر، فالسيناريوهات التي عانى “هاني” في تأليفها بعد فشل “أرض الأحلام”، لم يكتب لأي منها أن يترجم إلى لغة السينما، زمناً طويلاً، قارب الخمس سنوات.
معنى الكلام
ولكن ها هو ذا، بعد تلك السنوات العجاف، يفك الحصار، عائداً بسيناريو “توابع – كرسي في الكلوب”.
وبداية ماذا تعني كلمة “توابع”؟
هذه الكلمة ظل استعمالها غير شائع، وذلك إلى عهد قريب.
فقبل ثماني سنوات، وبالتحديد في شهر أكتوبر ضرب أرض مصر زلزال عنيف.
ومع الذعر الذي أصابنا، إذا بنا نعرف معلومة تقول من بين ما تقول أن أي زلزال في قوة الزلزال الذي ضرب بر مصر، لابد أن تتبعه هزات أضعف شأناً. وبطبيعة الحال أقل تدميراً، وهذه الهزات جرى التعارف على تسميتها بالتوابع.
ولقد اختار”هاني” كلمة توابع عنواناً للسيناريو وهي لا تزال عنواناً للفيلم، وإن كان على استحياء!!
فالعنوان الطاغي هو “كرسي في الكلوب”.
والأكيد أنه لم تجر إضافته إلا لأسباب تجارية. والأكيد.. الأكيد أن العنوان مع الإضافة، قد أضعف من دلالة الاكتفاء بكلمة “توابع” عنواناً وحيداً.
فإضافة “كرسي في الكلوب” أسهمت، ولا شك، في الايهام بأن “توابع” من نوع أفلام الحركة التي لعب بعض نجومنا، مثل الراحل “فريد شوقي”، وبعض مخرجينا، مثل الراحل “حسام الدين مصطفى”، دوراً كبيراً في شعبيتها.
في حين أن “توابع” على النقيض من ذلك تماماً، فيلم، بجدية موضوعه، بعيد عن هذا النوع من الأفلام.
الآثار والانهيار
فهو يدور وجوداً وعدماً حول ما ترتب على الزلزال من آثار.
وليس المقصود بالتوابع الهزات الأرضية وإنما تلك الآثار، التي هي في حقيقة الأمر أشدّ هولاً.
فأحداث الفيلم تنحصر زمنياً في بعض من نهار اليوم الذي ضرب فيه الزلزال القاهرة، وفي ليلته الليلاء، حتى صياح الديكة في الصباح.
وهي تبدأ بلقطة مكبرة لوجه شادية أو شوشو “لوسي” في الحمام، حيث نراها تمسح البخار عن المرآة، فينكشف لنا شيئاً فشيئاً وجهها الوضّاء، وحيث نسمعها تغني طرباً.
أما لماذا هي في الحمام تتزين وتغني، فذلك لن تمضي سوى ساعات معدودات، فتزف إلى عريس الهنا- يؤدي دوره صلاح عبد الله- العائد من السعودية لبضعة أيام يدخل فيها على شوشو، في أحضان شقة فاخرة، اشتراها بتحويشة العمر، لتكون خير ملاذ له، ينتشله من بئر الحرمان.

ما قلّ ودلّ
وما هي إلا بضع لقطات تالية تمر سريعة، حتى قد جرى تعريفنا، نحن المتفرجين، بكل من أسرة العريس المكونة من أم نكدية– تؤدي دورها علية الجباس- وأشقاء سمان، كلهم من فصيل الأفيال، وصديق العريس مدحت صالح.
وأسرة العروس المكونة من أب أرمل وحبيبها السابق “محمد شرف” فضلاً عن صديقة عمرها “انتصار”.
وبينما الكل، فيما عدا أم العريس وحبيب العروس، في هناء وسرور، إذا بالزلزال يضرب ضربته، واذا بالبيت القديم ينهار.
ومع انهياره تزلزلت النفوس وتعرت، على نحو أدى إلى تمزق العلاقات، فإذا بكل واحد في غير المكان الذي هيأه لنفسه، وأنما في مكان آخر دبرته له الأقدار.
مشهد ومعجزة
ونظراً إلى أن الزلزال هو الحدث الذي تمحورت حوله جميع وقائع الفيلم، فقد اهتم “الباجوري” بتنفيذ مشهد وقوعه، وكيف ضرب البيت القديم، اهتم به أشدّ اهتمام.
ولو قسنا تنفيذه، بكيفية تنفيذ مشهد نفس الزلزال في فيلم “الضائعة” لاستبان البون شاسعاً، ولصالح فيلم “الباجوري” بطبيعة الحال.
فكم كان “الباجوري” موفقاً في إخراج مشهد انهيار البيت في أثناء الزلزال، مراعياً في ذلك أدق التفاصيل، بحيث بدا لنا، وكأننا أمام معجزة لم تكن في الحسبان، إلا وهي تجاوز السينما المصرية أزمة، أو بمعنى أصح، مقولة ضعف الامكانيات وليس من شك أن بعض الفضل في ذلك إنما يرجع إلى مصمم المناظر مختار عبد الجواد.
وختاماً، أرى من الحق عليّ ألا يفوتني أن أقول أن الفيلم أتخذ طابعاً غنائياً.
وبحكم ذلك يدخل في عداد أفلام الملهاة الموسيقية ولأنه لا يعرض إلا لتوابع الزلزال، أعني آثاره، فملهاته، بالضرورة، ملهاة سوداء.
ولا تفوتني كذلك الإشادة بأداء “علية الجباس” لدور الأم النكدية.
حقاً كان أداءً رائعاً، بل أكثر من رائع لأنه من القلب، وهو أمر نادر في هذه الأيام!!