!! هوليوود ضد أمريكا أكذوبة جديدة

الكتاب يقرأ من عنوانه، وإذا كان كتاب “مايكل ميدفيد” الأخير عنوانه “هوليوود ضد أمريكا .. الثقافة الشعبية والحرب على القيم التقليدية”، فذلك يعني أنه كتاب معاد لمصنع الأحلام، وما ينتجه من أفلام، لا يحسن الاطمئنان إليها، والسكوت عليها.

بل قد يكون من الخير إلا يخلي بينها وبين الشباب والحق أنه لكذلك، ويكفي الوقوف عند عناوين أجزائه الأولى المكرسة لوصف وتحليل أفلام مصنع الأحلام وهي “مصنع السموم” ،”الهجوم على الدين” ،”العدوان على العائلة”، و”تمجيد القبح”، يكفي ذلك حتى تتضح لنا الملامح الرئيسية للكتاب، والمقصود من نشره في هذه الأيام.

بيان جديد

والجدير بالذكر هنا أن الكتاب يبدأ هكذا “غرام أمريكا الطويل الأمد بهوليوود انتهى”. وهذه البداية التى لا تتسم بالقصد والاعتدال، إنما تذكرنا ببداية بيان “ماركس” و”إنجلز” فى سالف الزمان شبح يطارد أوروبا، شبح الشيوعية!!

وبداءة صاحب “هوليوود ضد أمريكا” ناقد يهودي أمريكى ورب أسرة سعيدة من زوجة وثلاثة أطفال، يشاركهم أسباب السعادة كلب كبير، وأحد أشقائه يعمل مهندساً للأكترونيات فى إسرائيل.

ومنذ أثنتى عشرة سنة، وهو يعمل ناقداً سينمائياً لحساب شبكات التليفزيون الأمريكى، والآن هو صاحب برنامج تابع للقناة الرابعة في التليفزيون الانجليزى اختار له اسماً غريباً كل الغرابة “أسوأ سيئات هوليوود”.

 وقد أحدث كتابه ضجه كبرى عند نشره في الولايات المتحدة وانجلترا، ولعل خير دليل على ذلك ما فعلته مع الكتاب جريدة “السانداى تايمز” فى عددها الأسبوعي واسع الانتشار، عندما جعلته عنواناً رئيسياً مثيراً على صفحتها الأولى.

وفوق هذا، أفرددت له غلاف ملحقها المخصص للثقافة، مع عديد من الصفحات.

قبل السقوط

وأعجب العجب أن الكتاب لعب دوراً فى سقوط “جورج بوش” إذ اعتمد عليه هو ونائبه “دان كويل” في حملتهما الانتخابية التى أقاماها على أساس الحفاظ على قيم العائلة الأمريكية ومثلها العيا المهددة بما تبثه أجهزة الإعلام.

وكان تركيزهما في الحملة على خطر التليفزيون أولاً، لاسيما برنامج النجمة “كانديس برجن” الذى اشتهر تحت اسم “ميرفي براون”.

وفيه تدعو إلى تحرر المرأة من فكرة الزواج، وما ينجم عنها من قيود وأعباء جسام. وثانياً أفلام هوليوود لما تنطوي عليه من أفكار تفل العزائم وتثبط الهمم، وتصد الشباب عن العمل وترده عن الأمل، وقد تدفعه إلى نشاط عقيم.

واعتمدا في ذلك على كتاب من تأليف ناقد على دراية واسعة بهوليوود وأفلامها يعيش في كاليفورنيا حيث مصنع الأحلام، وحيث يشاهد على مدار كل سنة حوالى ثلاثمائة فيلم، هذا في الوقت الذى لا يرى فيه المواطن الأمريكى العادي فى المتوسط سوى فيلمين وكأن لسان حالهما يريد أن يقول للشعب الأمريكي وشهد شاهد من أهلها على فساد الأفلام.

وبطبيعة الحال، أهاج ذلك الاستغلال للكتاب النذير ملوك السينما.

فكان أن تحركوا، هم ونجومهم الكبار في حلمة دعائية ضارية ضد بوش ونائبه، ولصالح خصميهما “بيل كلينتون” و”آل جور” وبحكم تأثير النجوم الكبار على الرأى العام في أمريكا، كان الفوز من نصيب”كلينتون” ونائبه.

أحلام وسموم

وعلى كُلٍ، يعتبر صاحب الكتاب أكثر رجل مكروه في هوليوود الآن لماذا ؟

لأنه يزعم فى كتابه النذير أن صانعى الأفلام انفصلوا عن الناس العاديين بأفلامهم المليئة بصور الجنس والعنف واليأس. “فالآن الأمريكيون يرون فى صناعة الترفيه عدواً قوياً، رهيباً غريباً يهاجم أعز قيمنا ويفسد أطفالنا، لقد تحول مصنع الأحلام إلى مصنع السموم. ورسالة هوليوود إلى العالم قاتمة أقرب إلى السواد، يستبد بها القبح وغرائب الانحرافات تكاد تعادى معظم آمال وتوقعات الناس، فأفلامها غالباً ما تهاجم مؤسسة الزواج، تسخر من الأديان، تمجد العنف، تحتقر السلطة، وأية عقيدة تدعو إلى حب الوطن والافتخار به”.

وللتدليل على صحة مزاعمه، اختار أفلاماً مثل “النوم مع العدو” و”تلما لويز” فهذان الفيلمان، فى رأيه، إنما يعرضان إلى الحياة الزوجية، على وجه الخوف منها والاشمئزاز، وعنده أن “الغريزة الأساسية” فيلم لا هدف له سوى الهجوم على ما يتعقده الناس من أن الالتزام بالقانون، والاحترام له فيه حماية من عاديات الزمان. فالبطل “مايكل دوجلاس” في الفيلم يحب عدم إطاعة الأوامر، والجنوح إلى التصرف حسبما يهوى ويشاء وحسبما يراه محققاً لهزيمة خصومة المجرمين.

 ميثاق الشرف

ويناقش”ميدفيد” في كتابه دوافع المخرجين والمنتجين إلى عمل أفلام قوامها التفضيل لكل ما هو منحرف، مفسد، مثل “صمت الحملان”، و”رأس الخوف” و”الطباخ اللص وزوجته وعشيقها”.

ولا يتورع عن مهاجمة زملائه النقاد، لأنهم أشادوا بهذه الأفلام، وأمطروها بوابل من جوائز الأوسكار، وغيرها من الجوائز كثير. ومع ذلك فلم ينحدر إلى حضيض المناداة بعودة الرقابة على الأفلام.

كل ما ينادي به من حين لآخر، هو إعادة التوازن إلى صناعة السينما، بحيث يضع مبدعو الأفلام في الاعتبار، وهم في سبيلهم إلى اتخاذ قرار بإنتاج فيلم، ما سيكون له من تأثير على المجتمع سواء بالسلب أو بالإيجاب (إلا يذكرنا هذا النداء بميثاق الشرف الذي يدعو إليه عندنا بين الحين والحين).

عربدة الضوضاء

وطبعاً لم يقف أصحاب الأمر والنهي في عاصمة السينما ولا النقاد مكتوفي الأيدي إزاء ما جاء في الكتاب من اتهام للأفلام.

فمثلاً “فارايتي” أعرق مجلة للفن والترفيه فى العالم، تصدت لكتابه قائلة إنه “يتيح لنا أن نرى بنظرة ملؤها الجزع، ماذا يحدث لعقل مستبد، لا ينعم بروح الدعابة عندما يغرق في ضجيج ثقافة الجماهير”.

وأيدتها فيما ذهبت إليه جريدة “ديترويت نيوز” بقولها إن “الكتاب ليس عن هوليوود” بقدر ما هو عن الضجة والضوضاء التى تعربد فى دماغ “ميدفيد”. وفي تعليق لها عما جاء في الكتاب قالت “لورا زيسكين” منتجة فيلم “امرأة جميلة” “لا أعتقد أن هذا الرجل ــ تقصد “ميدفيد” ــ هو صوت الأخلاق الأمريكية فضلاً عن أنه ليس لديه ما يؤهله لتقديم نفسه بوصفه صاحب ذلك الصوت”. ودفاعاً عن نفسه زعم “ميدفيد” أن رد فعل المبدعين في هوليوود، كان لصالح الكتاب فنصف دستة من الممثلين والمخرجين الفائزين بالأوسكار منحوه تأييدهم دون أن يفصحوا عن ذلك علناً، والوحيد حتى الآن الذي أعلن عن تأييده للكتاب هو “ريتشارد دريفوس” الفائز بأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه فى فيلم “فتاة الوداع” (1977) عندما قال للصحافة إنه متفق مع خمسة وتسعين في المائة ما جاء فى الكتاب.

“ولجواشتراهاس” مؤلف سيناريو “الغريزة الأساسية” وسيلفر” رأى آخر حاصله أن المفتاح لفهم هوليوود، هو الربح فالاستديوهات لن تتورع عن إنتاج أي فيلم يحقق لها ربحا أكيداً.

غير أن”ميدفيد” يرد على ذلك بقوله إن دافع الربح لا يستطيع بمفرده أن يفسر حالة الغرام بين هوليوود والعنف وكل ما هو غريب وعجيب. فالأفلام العائلية لا تزال تحقق حتى يومنا هذا أرباحاً تزيد بكثير عما يحققه غيرها من الأفلام.

صمت الأبرياء

ومما يثير الدهشة أن أكبر قدر من غضب صاحب الكتاب، إنما منصباً على “صمت الحملان” فعنه يقول: “في ليلة الثلاثين من مارس 1992، وأمام عدسات تلفزيون ترسل ما تلتقطه إلى ألف مليون مشاهد، قامت مؤسسة هوليوود بتقديم عرض درامي للقبيح الذى تحتضنه بحماس شديد، عندما منحت أكاديمية السينما للفنون والعلوم أهم جوائزها إلى “صمت الحملان”، وفي عرضه لقصة الفيلم قال إنها تدور حول قاتل عشوائي مولع بارتداء ملابس النساء، يختار ضحاياه من بين نساء أجسادهن تميل إلى البدانة. وبعد اختطافهن، يحتجزهن في بئر حيث يحرمهن من الطعام زمناً يكفي لفقدهن جزءًا من وزنهن، ثم يقوم بذبحهن ذبح الشاة، وغرضه من كل ذلك الجهد الجهيد، أن يترهلن فيسهل سلخ جلودهن بما يتيح له أن يصنع فساتين تشعره حين يرتديها أنه من الجنس اللطيف.

وغني عن البيان أن إدارة المباحث الاتحادية الأمريكية تسعى جاهدة إلى إلقاء القبض عليه، وبخاصة بعد قيامه باختطاف الابنة الوحيدة لعضو بارز في مجلس الشيوخ. وهي في سبيل تحقيق ذلك انحصر أملها في قاتل عشوائي آخر أشدّ هولاً، لأنه أستاذ في علم النفس، وكان قبل إلقاء القبض عليه لا يستطعم في الأكل إلا لحم بني الإنسان ويعرف الكثير عن نفسية القتلة العشوائيين.

مذبحة الحملان

والغريب في أمر صاحب الكتاب، أنه وهو في مجال العرض والنقد لقصة الفيلم وأبطالها، أغفل ذكر البطلة الرئيسية “جودي فوستر” ودورها الإيجابي كضابطة مباحث في القبض على المجرم العشوائي قاتل النساء.

وتبعاً لذلك لم يرد أي ذكر للحوارات التى جرت بينها وبين أستاذ علم النفس “هانيبال” آكل لحوم البشر. ومن بين تلك الحوارات، ما جاء على لسانها عن مذبحة الحملان في البيت الريفي، حيث كانت تقيم، وهي صغيرة مع أمها، وزوج تلك الأم، وهو رجل قاس، قُدّ قلبه من حديد. وفي نهاية الأمر اضطرتها وحشيته إلى الفرار. فبفضل ذلك، وبخاصة إعترافها الحزين الخاص بمذبحة الحملان، اكتسب الفيلم أبعاداً انسانية، لا أعرف كيف غابت عن ذهن ناقد يشاهد سنوياً ثلاثمائة فيلم أو يزيد.

وعند هذا الموضوع من سياق الحديث قد يكون من المفيد أن أشير إشارة سريعة إلى موقف صاحب الكتاب من “الإغراء الآخير للمسيح” للمخرج “ماتين سكور سيزي” فهو يمقت هذا الفيلم مقتاً شديداً ويعيب على شركة يونيفرسال حماسها لإنتاجه، بالتحدي لمشاعر عشرات الملايين من المسيحيين واستنادها تبريراً لذلك إلى التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي يحمي حق المواطن في حرية التعبير.

اتهام عشوائي

والغريب أنه، وهو يعيب عليها ذلك ولا يجد لحماسها هذا تعليلاً إلا في عداء المتحكمين فيها للمسيحية، يأخذ عليها الكيل بمكيالين مختلفين ودليله على ذلك أنها فى الوقت الذى أسرعت بإعطاء الضوء الأخضر لإنتاج الإغراء الأخير أبت أن تنتج فيلماً مستوحى من “آيات شيطانية” قصة “سلمان رشدي” لا لسبب سوى تجنب عواقب إغضاب المسلمين!!

وختاماً، فقد يقول قائل لماذا ظاهرة “ميدفيد” وكتابه هذا.

الحنين لم يعد كما كان

لا تفسير لها فى رأيي، إلا في أن البعض داخل أمريكا وخارجها يعيش بعقلية أهل الكهف، وكأن حرباً عالمية لم تقم، وكأن قنابل ذرية لم تلق على مدينتين في اليابان، وكأن نمطاً من الحياة قديم لم يقتلع من جذوره، ويحل محله نمط آخر لحياة الإنسان.

وأغلب الظن أن صاحب الكتاب قد ضل طريقه في تيه الأفلام وبعقلية جامدة يعيش حائراً بين القديم والجديد، في شوق وحنين إلى هوليوود قبل نصف قرن من عمر الزمان أيام ذهب مع الريح، والأفلام البريئة مثل “ساحر أوز” و”المستر سميث يذهب إلى واشنطن” و”وداعاً يا مستر شيبس” وفاته أن هذا الماضي البعيد، هو الآخر ذهب مع الريح.ِ

خلطبيطة

هذا الفيلم بدأ ظريفاً، وانتهى سخيفاً والحق أنه عمل سينمائي في إجماله خفيف الدم، يحمل من المفاجآت والوان الترفية الشيء الكثير.

بطله “محمود عبد العزيز” واسمه في الفيلم “حسان ضرغام النمر”، تخرج في كلية الزراعة، ومع ذلك يعمل في إحدى مكتبات وزارة الثقافة.

يعيش وحيداً في بيت عتيق وهو رجل قنوع، لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ولا يريد الزواج، حتى ممن تحبه إلى درجة الهيام “منى زكي” ولا يهوى سوى تنسيق الأزهار وصيد الأسماك.

باختصار إنه إنسان مسالم، لا يملك لأحد لا ضراً، ولا نفعاً.

عبث الأقدار

وذات مساء، وبلا مقدمات، انقض عليه في شقته ثلاثة رجال، بغرض القبض عليه. لماذا؟

لأنه متهم بارتكاب جريمة خطيرة، لا يعرف عنها شيئاً.

وعندما يمثل أمام المحقق “أحمد توفيق” لا يواجهه بتهمة محددة علي وجه اليقين، وإنما يستفسر منه عن سهرة حضرها قبل أيام في بيت أحد أصدقائه، احتفالاً بسبوع طفل ذلك الصديق.

التيه الكبير

وما هي إلا لحظات، حتي فاجأه المحقق باستفسار أكثر سخافة “لماذا جمع الصديق المحتفي بطفله بين سبوعه وطهوره في حفل واحد”؟

وبعد ساعات قضاها داخل ما يشبه الزنزانة، افرج عنه، لكن ليس قبل أن قيل له أنه سيجري استدعاؤه للمحاكمة أمام القضاء عما هو منسوب إليه من اتهام.

وبدءًا من ذلك الافراج، يزج بنا المخرج “مدحت السباعي” الذي هو في نفس الوقت مؤلف القصة المبني عليها الفيلم، فضلاً عن السيناريو والحوار، يزج بنا، نحن المتفرجين في متاهات أو خلطبيطة ليس لها أول من آخر.

وبطبيعة الحال لن أقف عند تفاصيل تلك الخلطبيطة، لا لسبب سوى ضيق المجال.

ومن ثم أقصر قولي على أن السباعي، بوصفه المؤلف، قد استوحى قصة فيلمه من “المحاكمة” رائعة “فرانز كافكا” الروائي التشيكي الذائع الصيت.

اختلاف النهايات

وبطل “المحاكمة”، عكس بطل “خلطبيطة”، لا تعرف من اسمه سوى حرفه الأول “كاف”.

وهو الآخر يقبض عليه مثل “حسان ضرغام النمر”.

ويواجه مثله بتهمة لا يعرف ماهيتها، وينفق حياته في محاولة معرفتها، وتبرئة نفسه منها.

ولكن هناك فرق جوهري بين البطلين “كاف” و”حسان”.

فالأول يطرحه المحققان أرضاً في نهاية القصة، ويذبحانه كما تذبح الشاة.

وبينما يجري ذبحه، يقول عن نفسه هذه الجملة “كما يموت الكلب”.

أما الثاني، أي “حسان” فينجو في ختام الفيلم من الإعدام.

وفي لقطات الختام، نراه يخرج من الصحراء، حيث كان معتقلاً، متجهاً إلى العمران، وكلمات أغنية “سيد درويش” “أنا المصري كريم العنصرين” ترن في الآذان.

والأكيد أن هذه النهاية السعيدة مفتعلة كل الافتعال؛ ولولاها، ولولا اختيار”السباعي” “مني السعيد” نجمة لفيلمه، لكان لخلطبيطة شأن كبير.

أكذوبة قائمة شيندلر الكبري

فجأة اكتشف المخرج “ستيفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” و”أي ت” و”انديانا جونز” أنه يهودي، من شعب يجري اضطهاده على مر العصور.
وفجأة استرجع على شاشة ذاكرته مذابح هتلر وجلده لشعبه في المعتقلات والأفران، قبل نصف قرن من عمر الزمان.
وفجأة وعلى رؤوس الأشهاد، أخذ يفاخر دون كلل أو ملل بيهوديته في كل مكان.
ففي حديث مع مجلة لايف الأمريكية “ديسمبر 1993” بمناسبة عرض “قائمة شيندلر” ـ 7 جوائز أوسكار ـ فيلمه الأخير وما أكثر أحاديثه في هذه الأيام قال تفسيراً لتلك التحولات المفاجئة، ولإخراجه ذلك الفيلم “أردت أن أقول للناس الذين حاولوا اشعاري بالدونية ليهوديتي كم أنا فخور بأن أكون يهودياً”.

وأضاف “هناك أكثر من سبب دفعني إلى عمل الفيلم؛ اهتمامي بالمحرقة، وفزعي من تكرار الإبادة كما يحث في البوسة الآن. وكما يحدث على يد النظام العراقي في محاولاته تصفية الاكراد.
نحن نحاول التغاضي عن هذه اللحظات في تاريخ العالم مع أنها تماثل تماماً ما حدث سنة 1943″.

الحل النهائي

وطبعا يقصد”سبيلبرج” بما حدث في تلك السنة؛ بدء النازي في تنفيذ خطة هتلر الرامية إلى تصفية يهود أوروبا بحرقهم في الأفران تلك الخطة المسماة بـ”الحل النهائي” والتي تم اكتشاف أهوالها والحرب العالمية الثانية على وشك الانتهاء.

والغريب أن يهوديته ونضجة لإخراج فيلم جاد عن نكبة يهود أوربا أيام نير النازية لم يتكشفا له إلا في سنه الاحتفال بمرور نصف قرن على معرفة العالم بمحرقة الأفران”!!”

وفي سنة “حديقة الديناصورات” فيلمه الذي حقق لشركة يونيفرسال ايرادات قاربت الألف مليون دولار.

فقصة “سفينة شيندلر” المعروفة في الولايات المتحدة تحت اسم قائمة شيندلر اشترى “سيدني شاينبرج” رئيس تلك الشركة حق عمل فيلم مستوحى منها من أجل “سبيلبرج” المخرج الشاب.

وكان ذلك قبل اثني عشر عاماً أو يزيد وتمر الأيام عاماً بعد عام، والقصة المشتراة ترقد في ظلمات الأدراج بلا حراك، إلى أن أيقظها “سبيلبرج” بكاميراه السحرية في سنة الاحتفال من قصة شبه منسية إلى فيلم يفوز بجائزتي اتحادي نقاد نيويورك وصحفي لوس انجلس الأجانب، ويرشح لاثنتي عشرة جائزة أوسكار من بينها جوائز أفضل فيلم ومخرج وسناريو وتمثيل.

ونادراً ما يرشح فيلم لمثل ذلك العدد من الاوسكار ويفوز بــ 7 جوائز منها وقد يكون من المفيد هنا أن أذكر أن “سبيلبرج” جرى ترشيحه هو وأفلامه للأوسكار أكثر من مرة بدءًا من الفك المفترس “1985” مروراً بكل من “لقاءات قريبة من النوع الثالث” 1977 و”غزاة العهد المفقود” 1981 و”أي تي” 1982 وانتهاء “باللون القرمزي”.

وما أكثر الاحباطات عندما كان يفاجأ في كل مرة بالخروج هو وفيلمه صفر اليدين من مضمار الاوسكار.

غير أن الأمر في سنة “حديقة الديناصورات” وهي نفس سنة الاحتفال بمرور نصف قرن على اكتشاف محرقة اليهود كما سلف البيان، يختلف عنه في السنوات السابقة، وما صاحبها من احباطات فبفضل ايرادات فيلمه في الولايات المتحدة وحدها، ارتفع رقم ايرادات أفلام السنة الماضية داخلها إلى خمسة آلاف مليون وازدادت أربعة وعشرون مليون دولار متجاوزة بذلك رقم ايرادات سنة 1989 القياسي وهو خمسة آلاف مليون وازدادت ثلاثة ملايين دولار.

فيلم للأوسكار

إذن هو الرجل الذي أنعش بديناصوراته اقتصاد هوليوود ولا أقول أنقذه من الكساد. وإذا كان لكل مجتهد نصيب فليكن نصيب “سبيلبرج” الأوسكار فيما لو تقدم بفيلم جاد يجمع على محاسنه النقاد.

ويا حبذا لو كان ذلك الفيلم الموعود عن محنة اليهود في محارق هتلر يذكر بها الانسانية جمعاء.

وبطبيعة الحال كان “سبيلبرج” على أهبة الاستعداد بفيلم مصنوع وفقاً للمواصفات.

فيلم جاد جداً، مداره مأساة اليهود الكبرى في بولندا من خلال سيرة رجل أعمال نمساوي نجح إبان الاحتلال النازي لذلك البلد في انقاذ حوالي ألف ومائة يهودي من موت أكيد.

وصاحب الأعمال هذا اسمه “اوسكار شيندلر” أما كيف أنقذ ذلك العدد من يهود مصنعه في مدينة “كراكاو” ولماذا؟

فهذا ما يحكيه بالتفصيل “قائمة شيندلر” الفيلم المأخوذ عن قصة لــ”توماس كينيللي” يقال أن وقائعها حدثت بالفعل في ذلك المصنع الذي لايزال مبناه موجود في تلك المدينة حتى يومنا هذا.

ثم في معسكر”بلاشاو” للعمل الاجباري حيث كان يفرز المعتقلون فمن كان منهم صالحاً للعمل الشاق استبقي، أما من كان غير صالح فيرحل إلى معسكر اوشفيتز على بعد خمسة وثلاثين كليومتراً، ومنه إلى الأفران وبئس المصير.

و”شيندلر” “ليام بنوسن” صاحب ذلك المصنع يبدأ به الفيلم رجل أعمال مقبل على الحياة بكل متعها ولذاتها، يسعي إلى استغلال الغزو الكاسح لبولندا في خريف سنة 1939 وتهجر اليهود إلى مدينة “كراكاو” بمعدل عشرة آلاف يهودي كل أسبوع.

باستغلال ذلك الاحتلال والتهجير في بناء مصنع لإنتاج أدوات مطبخية لاستعمال القوات المسلحة في الجبهة يجند للعمل فيه اليهود لا كإجراء وإنما كعبيد.

والفيلم يركز عليه وكيف تحول شيئاً فشيئاً من رجل أعمال لا يقيم وزناً إلا لمصالحه المادية الأنانية إلى بطل رغم أنفه أو منقذ لليهود من براثن الطغيان النازي ويرمز له قائد معسكر الاعتقال “أمون جوته” “رالف فينيس”.

أسود وأبيض

ومراعاة منه لجلال ذكرى إبادة ستة ملايين يهودي في محارق هتلر أخرج “سبيلبرج” فيلمه مجللاً بالسواد.

فباستثناء لقطة لصبية ترتدي معطفاً أحمر، يقع نظر “شيندلر” عليها وسط مشهد تهجير اليهود إلى معتقل الموت وهو مشهد يسوده اللونان الأسود والأبيض شأنه في ذلك شأن الفيلم.

وباستنثاء خاتمة قصيرة معاصرة بالألوان يسير فيها الباقون من قائمة شيندلر على قيد الحياة أمام قبر المنقذ “شيندلر” في اسرائيل وفي رفقة بعض الممثلين الذين أدوا أدوارهم في الفيلم، وهم جميعا بطبيعة الحال يصغرون الناجين في السن كثيراً.

فالفيلم بدءًا من فاتحته وحتي نهايته السابقة على تلك الخاتمة الملونة التي يراها نفر من النقاد دخيلة، فيلم قاتم غير ملون شديد السواد على غير المعتاد في أفلام مصنع الاحلام.

والغريب أنه لا يكاد يخرج ناقد عن الاجماع بأن الفيلم جدير هو ومخرجه بالأوسكار الذي حصل عليه بالفعل. فأحدهم هو “أنور بريت” ينهي كلماته في مجلة “فيلم بريفيو” عن”قائمة شيندلر” قائلاً “من الصعوبة بمكان تصور أن يتفوق “سبيلبرج” على إنجازه هذا بفيلم آخر حتى يفوز بأوسكار أفضل مخرج. وإذا ما فشل مرة أخرى فيكفيه فخراً المحافظة على ذكرى أحد أبطال التاريخ المنسيين فضلاً عن صنع فيلم مثير، رفيع شديد التأثير.

وحتى ديريك مالكولم ناقد “الجارديان” فرغم عدم حماسه “لقائمة شيندلر” ها هو ذا يرشحه للأوسكار قائلاً “كل شيء نسبي والأوسكار فازت بها أفلام أكثر منه سوءًا!!

وفي نفس الصفحة حيث كتب “ديريك” نقده كتبت “هيلابيك” من هيئة تحرير الجريدة وقد فاض بها الحماس “بكل المعايير” هذا فيلم عظيم”.

والأغرب ما حدث في عديد من الدول عند عرض الفيلم.

فلقد كان ضربة موجعة “لهنريتا منديز” رئيسة هيئة الرقابة في الفلبين.

فتنفيذاً منها لتعلميات رقابية سائدة منذ زمن بعيد قررت حذف بضع لقطات من قائمة شيندلر.

وإذا لم يرتض صاحب الفيلم “سبيلبرج” قرارها فقد بادر بسحبه محتجاً مشترطاً عرضه كاملاً.

وما هي إلا أيام وبعد حملة صحفية ضارية ضد الرقابة حتى صدر أمر من أعلى سلطة في البلاد بعرض الفيلم دون مساس بأية لقطة منه.

وفي الأرجنتين توجه كبير اليهود في بيونس ايرس بنداء إلى الرئيس “منعم” يطلب إليه فيه تشريف حفل العرض الأول للفيلم بحضوره فاستجاب شاكراً.

وفي ألمانيا كان الرئيس”وايزاكر” في صحبة صاحب الفيلم ليلة عرضه الأول.

وفي البيت الأبيض تناول بيل كلينتون ومعه سيدة أمريكا الأولي طعام العشاء مع “كنيللي” صاحب الكتاب.

هذا بعض من كثير يحكى عن الفيلم الفائز بسبع جوائز أوسكار وعن مخرجه “ستيفن سبيلبرج”.