سينما المستقبل بين الواقع والخيال

يوم صدور الهلال كانت الصورة على وشك أن تتحرك، وكانت لغةً جديدة وفناً سابعاً قاب قوسين أو أدنى من الميلاد.

فلم يمض على أول ظهور للهلال سوى سنتين وسبعة شهور، إلا ويسجل الأخوان لويس وأوجست لوميير براءة اختراعهما لما أسمياه “السينماتوجراف”، وهو عبارة عن جهاز يتيح عرض الصور المتحركة على شاشة بيضاء أمام حشد من الناس.

بعد ذلك التسجيل بحوالي ثمانية شهور، وبالتحديد يوم السبت الموافق الثامن والعشرين من ديسمبر لسنة 1895، دعا الأخوان لوميير نفراً من علية القوم والعلماء الأجلاء إلى المقهى الكبير المطل على شارع كابوسين، وسط باريس، حيث جرى أول عرض سينمائي على ملاءة بيضاء.

الدهشة الأولى

وكان من بين الأفلام المعروضة، وكلها تسجيلية قصيرة لا تزيد مدة الواحد منها عن دقائق معدودات، فيلم لقطار يدخل إحدى محطات السكك الحديدية “لاسييوتا”، فإذا بأحد من المدعوين يتوهم أن القطار إنما يتحرك متجهاً نحوه، وطلباً للنجاة يهم بالفرار.

وهنا في القاهرة، بعد أقل من سنة من عرض المقهى الكبير بمدينة النور، وبالتحديد في الثامن والعشرين من نوفمبر لسنة 1896، جرى عرض السينماتوجراف لأول مرة أمام صفوة المجتمع القاهري داخل صالة حمام شنيدر.

وعن هذا الحدث التاريخي، كتبت جريدة المقطم، بعد العرض بثلاثة أيام، تقول وهي في حالة انبهار شديد:

“من أبدع ما تتمتع به الأنظار في هذا الشتاء من المخترعات والألعاب التي يأتينا بها الأوربيون كل عام الصور المتحركة، فقراء المقتطف يعلمون أن المصورين بالشمس تواصلوا إلى تصوير الصور وضم بعضها إلى بعض بحيث إذا مرت أمام عيني الناظر رأها تتحرك كأنها الأجسام الحية تماماً.

وقد ظفر حضرة المسيو “دلسترولولجو” بامتياز عرض هذه الصور في القطر المصري .. وعرضها مساء السبت الماضي في حمام شنيدر بجانب دائرة البرنس حليم باشا على جماعة من أهل الذوق ورجال الأدب، يتقدمهم سعادة محافظ العاصمة، فراقهم ما رأوه من الصور المتحركة، حتى خُيِل لهم أنهم يرون أمامهم أشباحاً متحركة وأجساماً حية لا ينقصها إلا الصوت.

فيرى الانسان في صورة القطار قادماً من بعيد، ثم يكبر كلما دنا منه حتى يقف في المحطة، وتنفتح أبوابه ويخرج الركاب منه ويدخل الناس إليه، وكلهم مهتم بأمره كما يشاهد في كل محطة.

ويرى في أخرى البحر هائجا وأمواجه تعلو كالجبال ثم تتنفس على الصخور فيتطاير زبدها في الهواء، ويسقط على اثنين يركضان ويستغيثان، وفي أخرى كوكبة من الفرسان تعدو في الميدان من بعيد ثم تدنو”.

النبوءة

وتمر الأيام بعد هذا العرض الأول أعواماً بعد أعوام، وتنشر الهلال في عددها الصادر في الأول من يونيه لسنة 1905 ما معناه أن بعض العلماء يشتغلون في اصطناع صور تتحرك وتتكلم في وقت واحد باستخدام السينماتوغراف والفونوغراف معاً.

وتستطرد قائلة، وكأنها تقرأ الغيب: “فستأتي أيام نرى فيها العالم وحوادثه رأي العين، ونحن جلوس في غرفنا، وذلك كله من معجزات هذا التمدن”.

وفي السادس من أكتوبر لسنة 1927 تحقق جزء من تلك النبوءة عندما تكلمت السينما لأول مرة في الفيلم الأمريكي “مغني الجاز”.

ولم يكن قد مضى على عرض هذا الفيلم في نيويورك إلا ستة شهور، حتى أعلن عن عرض فيلم أمريكي آخر ناطق على شاشة سينما الهمبرا بالاسكندرية (14/3/1928).

بعد ذلك بتسعة شهور (20/12) جرى عرض فيلم “مغني الجاز” في سينما أمريكان كوزموجراف بالاسكندرية، ومن مفاجآته غناء ممثله الأول “آل جولسون” في معبد يهودي بأحد أحياء مدينة الشيطان الأصفر “نيويورك”، وما هي إلا خمس سنوات على تعلم السينما الكلام، حتى كان يوسف وهبي يتكلم هو الآخر في النصف الأول من فيلم “أولاد الذوات”، ومطرب الملوك والأمراء يغني لوردة الحب الصافي في “الوردة البيضاء”.

اختراعات بالجملة

وقبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بقليل، أخذت نبوءة الهلال في التحقق باختراع التليفزيون.

وفي أثناء السنوات التالية لالقاء تلك الحرب سلاحها (1945)، وهي السنوات التي شهدت تحولات عميقة في حياة الشعوب، تحققت اختراعات أخرى، أذكر من بينها، الفيديو واستعمال الأقمار الصناعية في نقل المعلومات، ونحن على مشارف الربع الأخير من القرن العشرين.

وفي ظن المخرج “جان لوك جودار” رائد الموجة الجديدة الفرنسية، أن هذه الاختراعات تؤذن بتغيرات عميقة في حياة الناس، وهي تغييرات من شأنها حتماً محتوماً أن تنتهي إلى صورة حضارية جديدة نراها الآن في طريق التكوين.

العبور العظيم

فمعرفتنا بالعالم الذي داخلنا، وذلك الذي من حولنا، تزداد على مر الأيام عمقاً واتساعاً.

وثوره الفيديو أنما تؤيد ذلك وتؤكدة.

فبفضلها، وبفضل ثورات أخرى تؤدي إلى مزيد من الاختراعات المثيرة، لن نودع القرن العشرين، إلا وقد تحول كل بيت في الغرب وأنحاء من الشرق إلى مركز اليكتروني كامل شامل للترفيه والتعليم.

وطبعاً لا يستطيع شخص عاقل، في مواجهة هذا الحدث الكبير التأثير على مصير الانسان، أن يتظاهر، وقد تحصن وراء نظارة سوداء، أنه لا يرى حقائق الحياة (بالمناسبة “فيديو” تعني لغويا “أرى”).

فالعلم قد نجح في العبور بنا نحو آفاق جديدة وعلينا أن نعبر معه ونستفيد.

ولقد ظن البعض أن هذه الاختراعات بدءًا بالتليفزيون، ومرورًا بالفيديو، وانتهاءً بالارسال عن طريق الأقمار الصناعية، لابد وأن تؤدي إلى اختفاء دور السينما.

اليائسون

ومما ساعد على انتشار هذا الظن، انخفاض عدد دور العرض السينمائي فعلاً أمام زحف التليفزيون الذي أصبح مع اقتراب عقد الخمسينات من نهايته جزءًا لا يتجزأ من أسلوب حياة الأسرة الأمريكية على جميع المستويات.

فمثلاً عدد تلك الدور على امتداد الولايات المتحدة سنة 1946 كان قد ارتفع إلى عشرين ألف دار.

وعدد المتفرجين فيها كان قد وصل إلى تسعة وسبعين مليوناً، وازدادوا أربعمائة ألف متفرج.

غير أنه بعد سبع عشرة سنة من التاريخ الأخير، إذا بعدد المتفرجين ينحدر إلى النصف، ويتكرر الانحدار بنفس النسبة بعد مدة مماثلة، وذلك رغم أن السكان كانوا طوال تلك الحقبة من عمر الزمان، في ازدياد مستمر وعلى وجه لا مثيل له في تاريخ الولايات.

وما حدث في أمريكا، حيث يوجد أكبر وأغنى سوق ترفيه في العالم، حدث وبشكل أسوأ بكثير في جميع البلاد، لاسيما ما كان منها فقيراً، متخلفاً، تعربد فيه الرقابة وتعيث فساداً.

ولعل انخفاض عدد دور العرض وتدهور مستواها في مصر، وهي من مراكز الاشعاع القليلة في دنيا الأطياف، باغلاق بعضها، وبتحويل بعضها الآخر إلى مسارح، وأحيانا إلى خرابات، لعله يؤكد وجهة النظر الجانحة إلى القول بأن دور السينما إلى زوال.

واذا كان هذا هكذا، فلن تبدأ سنوات القرن الحادي والعشرين، إلا وتكون دور السنما قد اختفت من كوكب الأرض نهائيا، وأصبحت خبراً قديماً يدرس في كتب التاريخ.

ولكن هذا الاستخلاص أراه استخلاصاً غير سائغ، يكذبه واقع الحال.

التجديد والتجلي

فثمة عود على الأقل في الغرب إلى بناء دور عرض كبيرة مجهزة بشاشات عريضة شبيهة بتلك التي انتشرت ابان عقد الخمسينيات.

فمعروف أنه ما أن ظهر التليفزيون واشتد الاقبال عليه قبل أربعين سنة أو يزيد، حتى أصيب مصنع الأحلام في هوليوود بذعر شديد.

وفي مواجهة هذا الخطر المميت، لجأ المصنع إلى انتاج أفلام ضخمة، مع عرضها على شاشات كبيرة، عريضة، كانت على مر السنين تزداد ضخامة وابهارا.

ومن هنا التوسع في تجهيز دور العرض بشاشات السينما سكوب والسينيراما، وما إلى ذلك من ابتكارات ذلك الزمان.

والآن، ها هو ذا مصنع الأحلام يجد نفسه، ازاء انتشار سوق الفيديو، مضطراً إلى اللجوء مرة أخرى إلى الشاشة العريضة، وذلك بتصوير الأعمال السينمائية الضخمة على فيلم خمسة وستين مللي، وعرضها بعد ذلك في دور مجهزة بمعدات عرض سبعين ميللي، ونظم صوت متعددة القنوات أذكر من بينها نظام “تي ايتش اكس” الذي ابتكره جورج لوكاس مخرج فيلم “حرب النجوم”، والاسم مستوحى من أول فيلم لهذا المخرج، وكان بنفس العنوان.

ولعل خير مثل على هذا النوع من الأفلام المعد خصيصا للعرض في مثل هذه الدور “الآفاق البعيدة” لصاحبه المخرج “رون هوارد”، وهو فيلم أسندت بطولته إلى “توم كروز” أمام زوجته الجميلة “نيكول كيدمان”.

وبعرضه خارج المسابقة على شاشة سبعين ميللي، انتهى مهرجان “كان” الأخير.

بل ربما يلجأ مصنع الأحلام إلى الانتقال بأفلامه إلى دور مجهزة بشاشات عريضة تعرض عليها الأفلام تليفزيونياً، بواسطة الارسال عن طريق الأقمار.

وشيء كهذا يعني توفير المبالغ الطائلة التي تنفق على عمال العرض، وعلي طبع نسخ الأفلام، وعددها بالمئات، ولا أقول بالآلاف في بعض الأحيان.

إذ يكفي أن تعرض نسخة واحدة في هوليوود، ثم يجري ارسال معلومات تلك النسخة إلى قمر صناعي يكون همزة الوصل بين الفيلم وبين شاشات العرض في وقت واحد، وبوضوح رؤية غير مشوبة بأي عيب.

سينما المستقبل

والأهم من ذلك كله دور عرض أخرى يجري تشييدها منذ خمس عشرة سنة أو يزيد، بمواصفات تقنية، منقطعة الصلة بالمواصفات التي كانت تبنى دور السينما بموجبها في سالف الزمان.

وهذه الدور الجديدة مهيأة لعرض الأفلام المصورة بطريقتي ايماكس (الصورة الأقصى) وأومنيماكس، بل هي لا تستطيع أن تعرض إلا مثل هذا النوع من الأفلام.

ولقد سبقتها، قبل أن تصل إلى صورتها الحالية المتكاملة، ارهاصات، بداياتها كانت في معرض مونتريال الدولي بكندا (1967).

وفي السنوات الثلاث اللاحقة لهذا المعرض، كان مشروع انتاج أفلام تصور وتعرض بتلك الطريقة يتخلق ويتشكل، وكأنه جنين في مراحله الأولى.

ومما ساعد على سرعة تكونه نهايئاً، تحديد موعد لابداع فيلم مصور بطريقة ايماكس، غايته معرض أوزاكا الدولي باليابان (1970).

فضلاً عن اكتشاف رجل في أستراليا اسمه “رون جونز” نجح في اختراع آلة تعرض الفيلم أفقياً بسرعة أربع وعشرين صورة في الدقيقة ومائة ومترين في الدقيقة.

وعلى كُلٍ، فبدءًا من سنة 1971، ومن مدينة تورونتو بكندا، أتيح لسينما جديدة أن تولد، سينما تعرض أفلامها، كما هو الحال في سينما جييود بمدينة العلوم والصناعة بإحدى ضواحي باريس، على شاشة تبلغ مساحتها ألف متر مربع، مع اثنى عشر مكبر صوت بقوة اثنى عشر ألف كيلووات.

وحتي الآن، جميع الأفلام التي أنتجت بتلك الطريقة من ذلك النوع المسمى بالأفلام التسجيلية، وذلك فيما عدا اسثناءً وحيداً، ألا وهو فيلم “أكتب في الفضاء” للمخرج الفرنسي”بيير ايتي”.

فهو عمل روائي عرض في العاشر من يوليه لسنه 1989 في صالة جييود، وذلك بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي سنة على العصف بالباستيل.

وحضر حفل الافتتاح الرئيس فرانسوا ميتران.

وأغرب ما يعجب له كل من شاهد هذا الفيلم أو غيره من أفلام تلك السينما الجديدة، هو الشعور بنفس الدهشة التي شعر بها المشاهدون الأوائل، وقطار الأخوين لوميير يدخل محطة “لاسييوتا” قبل مائة سنة إلا قليلا.

وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن الانسان لا يكف عن الاندهاش.

هال.. يولد هذه الأيام

يحتفل المخرج الأمريكي ستانلي كيوبريك هذه الأيام بمناسبتين في منتهى الغرابة. الأولى هي الاحتفال بميلاد العقل الاليكتروني “هال” الذي ولد هذه الأيام، أو المفروض أن يولد. والمناسبة الثانية هي مرور عشرين عاماً على إخراج فيلمه الشهير “البرتقالة الآلية”.

تبدو غرابة المناسبة الأولى، في أن العقل الاليكتروني “هال” قد ظهر في فيلم “2001 أوديسا الفضاء” الذي تم إخراجه عام 1967، وحسب أحداث الرواية فإن هذا العقل الاليكتروني سوف تتم صناعته في عام 1992 ويتم تركيبه في سفينة الفضاء نوسترومو التي ستدور حول الأرض في عام 2001، وفوق هذه السفينة سيدور أول صراع من نوعه بين قائد سفينة الفضاء والبشري وبين “هال”.. الذي سيصبح بالفعل أول عقل اليكتروني يصارع الإنسان ويتفوق عليه فكرياً ويتحكم في مصيره ثم يقوده..

المفروض حسب خيال الكاتب آرثر كلارك الذي كتب الرواية – أن هال سيولد هذه الأيام ولعل إحدى الشركات تقوم بتصنيعه فعلاً وتتمكن من بعثه إلى الوجود، ليتحول خيال الفنان إلى حقيقة مع العام الأول من القرن الواحد والعشرين.

أما الحدث الثاني فهو فيلم “البرتقالة الآلية” المأخوذ عن رواية للكاتب المعروف انتوني بيرجيس. والتي تدور حول الشاب ماكس الذي ارتكب مجموعة من جرائم الاغتصاب العنيفة في شوارع لندن في زمن قادم، وقامت السلطات بالقبض عليه، وبدلاً من عقابه قامت باجراء عملية “مسح مخ” له تحول على أثرها إلى مخ بشري، يقبل أحذية أسياده ولأتفه الأسباب، ويتصرف بخنوع وذله باديين.. لكن الناس آثرت أن يعود ماكس إلى حالته الأولى أفضل من أن يكون بشراً صناعياً.

لاشك أن لكيوبريك الحق في أن يحتفل بهاتين المناسبتين، فهذان الفيلمان قد شاركا في صنع عقلية العالم في العشرين عاماً الماضية، وخرجت من جعبة الفيلمين ظواهر عديدة حول علاقة البرتقالة الآلية الانسان بانجازات العلم ومنظوره إلى المستقبل الذي سوف يتسم يعنف ظاهر على كل المستويات.

الجدير بالذكر أن روايات الهلال قد قدمت للقارئ العربي ترجمة كاملة لرواية “البرتقالة الآلية” قبل عدة أعوام.

سيرة نجمة كبيرة

أمر صاحبة هذه السيرة التي أحدثك عنها أعجب من العجب. فقد ولدت في بداية القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1907. وكان مولدها في عائلة من عائلات نيو انجلاند العريقة، التي جاء أجدادها الأوائل إلى العالم الجديد، مستقلين “الماي فلاور” تمخر بهم بحر الظلمات.

نشأت في بيت كبير، يقوم على رعاية شئونه خدم وحشم، وبين أحضان والدين عرف عنهما النشاط القوي وحدة الذهن، وحب التقدم.

فأبوها كان جراحاً ناجحاً، داعياً إلى تحرير العقل، وتعليم الناس أسرار الجسم.

وأمها كانت امرأة اجتماعية، داعية إلى حصول النساء على حق الانتخاب، والي تحديد النسل، رغم أو ربما لأنها أنجبت ستة أطفال، نصفهم من الذكور والنصف الآخر من الإناث.

ولكني نسيت  أن اسميها، وقد كان يجب  أن أبدا هذا الحديث بتسميتها، فهي كاترين هوتون هيبورن، وشهرتها كاتي هيبورن النجمة الذائعة الصيت.

النجوم.. أسرار

وكاتي بين النجوم وحيدة نوعها. فما أظن  أن أحداً – رجلاً كان أم أمراة – ظل مثلها يعمل في دنيا التمثيل بلا انقطاع، على امتداد نصف قرن من عمر الزمان أو يزيد.

وما أظن  أن نجماً في سماء هوليود أو غيرها من السماوات، استمر نجماً ساطعاً مدة طالت أكثر من ستين عاماً.

وما أظن  أن انسانا في مصنع الأحلام يستطيع  أن يفاخر مثلها بالانتصار في مضمار أوسكار، وذلك بالخروج منه متوجاً بجائزة أحسن مثلة رئيسية، لا مرة ولا مرتين، وإنما أربع مرات، آخرها عن أدائها لدور الأم أمام هنري فوندا في فيلم البحيرة الذهبية (1982)، وكانت قد بلغت من الكبر عتياً.

والسؤال.. كيف استطاعت “كاتي”  أن تحقق كل هذا الانجاز؟

كيف نجحت في الصمود لعاديات الزمن وأين ؟

في مدينة يسودها شيطان الربح، وتموت فيها النجوم، وهي في ريعان الشباب.. لاتزال!!

هذا ما أجابت عنه “كاترين هيبورن” قبل أشهر بصراحة ترجع بعض الشيء إلى اختيارها لنفسها قبل ستين عاماً، أي منذ أصبحت نجمة، أن تعيش امرأة حرة متحررة من قيود الزواج، وما ينتج عنه من أعباء، لعل أهمها الأولاد.

وكان ذلك في كتاب تحت عنوان “أنا.. أقاصيص من حياتي” بثته حصاد سنين طوال، في أسلوب سهل ممتنع، ممتع، خالٍ من أي تعقيد، فيه من روحها وطريقتها في الكلام، تلك الطريقة التي أصبحت من العلامات المميزة لشخصيتها في الأفلام، فيه من كل ذلك الشيء الكثير.

الأيام الجميلة

كانت الحياة سخية مع صاحبة ذلك الكتاب، فقد حباها الحب والعذاب، وهما المتاع الأمثل لأية ممثلة عظيمة، وبدونهما لا يتحقق لها طول البقاء.

فحياتها، وهي طفلة، كانت رائعة بل أكثر من رائعة. ولم لا، وقد توافرت لها أسباب الأمان.

فهناك الشعور بالاطمئنان عند العودة إلى البيت وجود والدين يغدقان عليها الحب بلا حساب. والاحساس بالرضا والهدوء والثقة الباسمة التي تنشأ عن هذا الاطمئنان.

ومن هنا نجد كثرة استعمال صاحبة الكتاب، وهي تعرض لما مر بها في أثناء مرحلتي الطفولة والصبا، لعبارات من قبيل “كنت سعيدة الحظ” و”كانت الحياة ممتعة”.

طريق الآلام

أما العذاب، فقد جاءها هو الآخر مبكراً، وليس لها من العمر سوى أربعة عشر ربيعاً، باختفاء “توم” أكبر اشقائها، وأقربهم إلى قلبها، بواحدة من أغرب حوادث الموت.. كيف؟

صباح يوم الفصح، ذهبت إلى المائدة لتناول الأفطار. أدهشها أن “توم” غير موجود في مكانه المعتاد، جرت في أنحاء بيت العمة “ماري تاول” بنيويورك حيث كانت تقيم هي وشقيقها، بمناسبة عطلة الأعياد. وأخيراً عثرت عليه متدلياً من حبل مربوط إلى خشبة سقف غرفة علوية تلامس قدماه الأرضية، أو تكادان.

وكان  أن فزعت إلى الشارع تستغيث ولكن بعد فوات الأوان. فشقيقها العزيز كانت عيناه بلا رعشة، ولا ومضة وجسمه بلون الرماد.

فإذا ما صارت شابة في عمر الزهور، تزوجت ممن مالت إليه “لدلو اوجدن سميث”، ذلك الزوج العاشق الولهان الذي اضطرته إلى تعديل اسمه بحث أصبح “سميث اوجدن” لا لسبب سوى أنها لم تكن ترغب في  أن تحمل اسماً دارجاً مثل اسم السيدة سميث.

ومع ذلك فقد راعها بعد أشهر قليلة، أنها لا تصلح للزواج ومسئولياته من أمومة، وما إلى ذلك من آثار الرباط المقدس التي ليس لزوجة منها فكاك، فكان  أن حصلت على الطلاق.

اللعنة والنجاة  

وتستمر رحلة العذاب.

فبعد نجاحها في هوليوود بالفوز بأوسكار أفضل ممثلة عن دورها في ثالث أفلامها “مجد الصباح” (1932). وبعد تعلق الجماهير بها بفضل دورها الرائع في فيلم “نساء صغيرات” (1933).

LITTLE WOMEN, Joan Bennett, Jean Parker, Katharine Hepburn, Frances Dee, 1933

أخذ شبح الفشل يطاردها فيما تمثل من أفلام.

فباستثناء “أليس آدمز” (1935) كان الفشل من حظ الأفلام الثمانية التي مثلتها على امتداد خمسة أعوام.

وفي مدينة لا حديث فيها إلا عن البيع والشراء وعن الربح والخسارة، عن أسهم تصعد وأخرى تهبط، اطلقوا عليها “سم الشباك” هذه القسوة المسلطة فوق رأسها ألهبتها سوطها الحامي، فكان  أن غادرت هوليوود بحثاً عن خلاص.

حديث المدينة

في هذه الأثناء، كانت الحرب الثانية بأهوالها تدق على الأبواب، سحب عاصفتها المميتة تتجمع منذرة بالاقتراب، ولا حديث في طول أمريكا وعرضها إلا عن “ذهب مع الريح”.

ومن بين ما قالته “كاتي” في كتابها عن هذه القصة أن مؤلفتها “مارجريت ميتشل” ارسلت لها نسخة منها، ما أن قرأتها حتي وجدتها عملاً يصلح للسينما.

تصادف، بعد ذلك، أن توجهت بعربتها إلى منزل “دافيد سلزنيك” لاستصحاب شقيقه “مايرون” في نزهة نهاية الأسبوع.

وعندما دقت الجرس، وفتح الباب أطلّ منه “دافيد” وكان ممسكاً في يده دور”سكارليت” وهو لإخراج “ذهب مع الريح”.

ولكن سرعان ما غيرت الأقدار الأدوار، فإذا “سكارليت” من نصيب ممثلة انجليزية غير معروفة اسمها “ڨيڨيان لي”، يكتب لها فيما هو قادم من أيام أن تتوج بأوسكار مرتين، وأن تعيش بعد هذه الأمجاد حياة قصيرة ممتلئة بالخطوب والعذاب.

وإذا بـ”چورچ” مخرج أجمل أفلامها، يرفت هو الآخر من “ذهب مع الريح”.

وعن واقعة الرفت الأخيرة، قالت في كتابها “لم يفصح لي “چورچ” أبداً عن السبب، وأنا لم أسأله أبداً” وعلى كل فبعد هذا الاحباط شدت “كاتي” الرحال إلى نيويورك، حيث لعبت دور “تراسي لورد” في “قصة فيلادلفيا” على خشبة المسرح في برودواي.

اللقاء السعيد

أحبها النقاد والناس في الدور، فاشترت حق عمل سينمائي من تلك المسرحية، ثم قفلت راجعة إلى عاصمة السينما في الغرب، حيث باعت ذلك الحق إلى شركة “مترو جولدين ماير” بربع مليون دولار، وهو مبلغ مذهل في تلك الأيام، وحيث قامت بأداء الدور في فيلم أمام كل من “چيمس ستيورات” “وكاري جرانت” (1940).

وعن “لويس ماير” قيصر تلك الشركة التي جعلت من الأسد شعاراً لها، انتزعت “كاتي” من  حافظة السنين صورة مختلفة له عن صور الآخرين، حين وصفته في كتابها بأنه أشرف شخص تعاملت معه على مر الزمان!!

ومنذ بداية الأربعينيات، وهي متربعة على عرش السينما، تظهر النجوم، وتختفي، ونجمها باق يلمع في السماء.

الصعود والتجلي

وها هي ذي تختار “سبنسر تراسي” الحاصل على أوسكار مرتين، كي يتقاسم معها بطولة فيلم “امرأة السنة” (1941) فتحسن الاختيار.

ويتكرر ظهورهما معاً في تسعة أفلام آخرها “خمن من هو زائر العشاء” ذلك الفيلم المعادي للعنصرية ضد السود (1967) عقب حصولها على أوسكار للمرة الثانية عن أدائها لدور الأم أمام “سبنسر” في الفيلم الأخير، وبالتحيد في تمام الساعة الثالثة من صباح يوم العاشر من يوينة لسنة 1967، سمعت “كاتي”، وهي في حجرة نومها، صوت خطوات “سبنسر” متجهة نحو المطبخ، فقفزت مهرولة اليه، ولكنها سرعان ما سمعت صوت تحطم كوب وارتطام.

وما  أن فتحت باب المطبخ حتي وجدته جثة لا حراك بها.

اشاعة حب

ولست أريد  أن الخص هنا خير ما في فصل “ترك بيت كاليفورنيا” من الكتاب ذلك الفصل الذي خصصته “كاتي” لموت”سبنسر” ووصف بيته الذي قضيا فيه معا أجمل سنوات العمر.

وهو تصوير لقائهما الأول، وكيف رأى “سبنسر” أظافرها متسخة، وكيف تصور أنها امرأة منحرفة لا تميل إلى جنس الرجال.

ولا  أن الخص موقف زوجته “لويز” وابنته “سوزي” وابنه الاطرش “جون” عندما أبلغتهم “كاتي” خبر الوفاة والتقوا الثلاثة بها حيث كانت تقيم مع الفقيد.

وانما اكتفي بنقل الحديث الذي جرى تليفونياً بين “كاتي” وبين الزوجة بعد موت “سبنسر” بأيام” انت عارفة يا لويز، أنه ممكن أنك وأنا نصبح أصدقاء أنت عرفتيه في البداية، وأنا في النهاية، وفي امكاني مساعدتك في رعاية الأولاد”.

وجاء رد أرملة “سبنسر” مفاجئاً “حسناً، نعم ولكني كنت أظن  أن ما بينكما إشاعة..” !!

وتعلق كاتي قائلة: “بعد ما يقرب من ثلاثين سنة؟ اشاعة؟ ما الرد على هذا ؟ الجرح كان غائراً لا يندمل حوالي ثلاثين سنة وأنا مع “سبنسر” في الحلو والمر ويقال اشاعة.

وهكذا، وبفضل عدم اعترافها أبداً بأني موجودة، ظلت الزوجة، وظلت ترسل بطاقات التهنئة بعيد الميلاد وبقي “سبنسر” المذنب، وهي الضحية المعذبة، أما انا فقد نشأت في بيئة متحررة، ولم أحطم زواجهما، فقد كان حطاماً قبل ظهوري على مسرح الأحداث بزمن طويل”.
(يلاحظ أن “كاتي” بروتستنتية، في حين أن”سبنسر” و”لويز” كاثوليكيان، أي من طائفة تعتبر الطلاق وتحديد النسل من الذنوب التي يتعين معاقبة مرتكبيها عقابا شديداً).

وهنا، تجدر الإشارة، والحديث عن حب دام حوالي ثلاثين سنة، إلى واحد من أهم فصول الكتاب، ذلك الفصل الذي أفردته صاحبة السيرة “لسبنسر” تحت عنوان قصير من كلمة واحدة لا غير “حب”.

التعريف السليم

فيه تقول  أن حبها له كان من ذلك النوع الذي يملك على المحب كل شيء، فيصرفه عن كل شيء حتي ينتهي به الأمر إلى  أن يفنى فيه.

عرفته، ولها من العمر ثلاث وثلاثون سنة. وهذا يعني أنها انتظرت طويلاً، حتي التقت بالشخص الذي ترك فيه قلبها جذوة لا سبيل إلى اطفائها.

ولعل ما كتبته في تعريف هذا الحب الجامح الذي لا يترك لصاحبه حظاً من اناة أو روية أو تفكير، لعله خير ختام للحديث.

“أحبك.. ماذا تعني ؟ فكر

نحن نستعمل هذا التعبير باستهتار.

الحب ليس له أي ارتباط بما تتوقع  أن تجنيه، وإنما يرتبط بما تتوقع أن تعطيه.. وهو كل شيء.

ما تحصل عليه مقابل الحب، يختلف باختلاف الأحوال.

ولكنه في حقيقة الأمر لا علاقة له بما تعطيه، أنت تعطي لأنك تحب، ولا تستطيع الامتناع عن العطاء”.

This undated handout photo provided by the U.S. Postal Service shows a first-class postage stamp showing Katharine Hepburn, that will go on sale nationwide Wednesday. Katharine Hepburn is 16th movie star in Legends of Hollywood stamp series. (AP Photo/USPS)


katharine-hepburn-quoteslos-4-oscar-de-katharine-hepburn-original