رجل مجنون في الشارع

لو كنت في باريس في أثناء هذا الشتاء، ولو تسكعت في شوارعها قليلاً، لاسترعى انتباهك صورة لإنسان لا تعرف عنه شيئا.

ولو كنت من أهل مدينة النور أو كنت من المولعين بسحر الألوان وما توحي به من بيان، لاستبان لك أنها من إبداع ريشة الفنان التشكيلي “تيودور جيريكو” صاحب اللوحة الشهيرة “طوف المادوزا”.

وإنها، أي صورة الإنسان المجهول، ما انتشرت هكذا في كل مكان، إلا لأنهم في فرنسا يحتفلون بمرور مائتي سنة على ميلاد هذا الفنان.

وأغلب الظن أن ريشته قد جرت برسم هذه الصورة قريباً من الربع الأول من عشرينيات القرن التاسع عشر.

والآن ومن دون رسومه جميعاً هي التي وقع عليها الاختيار كي تكون أولاً: صورة الملصق المعلن عن معرض “جيرديكو” في القصر الكبير الواقع بين شارع الشانزليزيه ونهر السين.

وثانياً: صورة غطاء المجلد الضخم “الكتالوج” المطبوع احتفاء بالحدث الكبير.

لوحة نادرة

ولقد تم العثور على لوحة هذا الرجل المجهول، مع أربع لوحات أخرى شبيهة في علية أحد المنازل بالمانيا، وذلك بعد أربعين سنة من موت صاحبها، ذلك الموت الذي جاءه مبكراً.

واثر ذلك العثور، أهديت اللوحة إلى متحف اللوفر الذي رفض الإهداء.

ولا غرابة في هذا، فهي إذا ما قورنت بدراما “طوف المادوزا” والضجة التي أثيرت حولها، لا تعدو أن تكون صورة لرجل ما، لا نعرف عنه إلا أنه كان نزيل سراي المجانين.

والعجيب أن هذه الصورة التي كانت مرفوضة من اللوفر قبل قرن من عمر الزمان، هذه الصورة هي التي تختار كي تمثل جميع أعمال نفس الفنان.

فما الذي استجد حتى يحدث كل هذا؟

لماذا أصبحت هذه الصورة الهزيلة في رأي سدنة متحف المتاحف، محط الأنظار، وذكرها على كل لسان؟! في محاولة من الناقد الانجليزي “جون بيرجر” لتفسير هذا التغيير الذي طرأ على الموقف إزاء صورة هذا الرجل المجهول، المجنون.. قال: أي شخص وجد نفسه إلى جوار صديق على شفا السقوط في هاوية الجنون، أحسبه على دراية بذلك الاحساس الغرب الذي يدفعه حتماً إلى أن يصبح متفرجاً فهذا الإنسان الذي على وشك السقوط نراه على خشبة مسرح الحياة وحيداً، وبجواره كالشبح يقف فشل، ولا أقول عجز كل التفسيرات المطروحة شرحاً للألم اليومي الذي منه يعاني عناًء شديداً وها هو ذا يقترب من ذلك الشبح، ويواجه الفضاء الرهيب بين ما يقال من كلمات وبين ما تعنيه في حقيقة الأمر.

والحق، هذا الفضاء، هذا الفراغ، هو الألم، وفي نهاية الأمر، وبالنظر إلى أن الطبيعة تمقت الفراغ، فها هو ذا الجنون يندفع كي يملأه، وإذا بالفارق بين المسرح والعالم، وبين اللعب والمعاناة، إذا به ليس له أي وجود.

أن المحنة الراهنة إنما تكمن في اتساع ذلك الفراغ، في تلك الفجوة بين ممارسة الحياة بشكلها الطبيعي في هذه اللحظة الحرجة من وجودنا على كوكبنا، وبين الخطاب الإعلامي الموجة للرأي العام ابتغاء إعطاء معنى لتلك الحياة.

وبقدر ما تتسع هذه الهوة، بقدر ما يزيد الأسى والشقاء.

ومن هنا استعداد حوالي ثلث سكان فرنسا للاستماع إلى حوالي ثلث سكان “لوبان” زعيم أقصى اليمين من هراء.

فهذا النوع من الخطاب، وإن كان يعزف على عدة أوتار كل منها أشدّ نشازاً من الآخر، إلا فإنه يبدو أكثر اتصالاً بالأحداث الجارية في الشوارع الآن.

فأي شيء بدءا من التضليل “الديماجوجية” وحتي الاستمناء المصطنع.. أي شيء يهون من أجل سد تلك الفجوة، وغالباً ما يفقد الصواب.

عيون شاخصة للمجهول

ومما يلاحظ على اللوحات الخمس التي رسمها “جيريكو” في لاسالبيتيير”سراي المجانين الواقعة وسط باريس” أن عيون الجالسين شاخصة ببصرها إلى مكان آخر متسائلة.

وهي كذلك لا لأن البصر مصوب إلى شيء بعيد أو متصور، وإنما لأنها اعتادت ألا تسلط النظر على أي شيء، متى كان قريباً.

فكل ما هو قريب يثير الدوار، لا لسبب سوى أن هذا الشيء القريب غير قابل للتفسير حسب الشروح المطروحة، وأغلبها مبني على التمني والتهويم، ولا أقول الخداع فما أكثر ما نلتقي اليوم بنظرات شبيهة ترفض التركيز على الشيء القريب، تلتقي بها في القطارات، أماكن وقوف السيارات، طوابي الحافلات، وساحات التسوق.

ثمة فترات تاريخية يظهر فيها الجنون على حقيقته، بلوى شاذة، نادرة الحدوث.
ولكن ثمة فترات أخرى، مثل الفترة التي نعيشها الآن، فيها يظهر الجنون وكأنه القاعدة، وليس الاستثناء!!

البحث عن طوق الحمامة المفقود وأشياء أخري

هناك أفلام تمر صورها أمام أعيننا مر الكرام ودون أن تترك في حافظة ذاكرتنا أثر، وهناك أفلام ما أن ترأها حتى تبقي صورها في حافظة ذاكرتنا لا تنمحي أبدا، ومعظم الأفلام، لحسن حظنا، من النوع الأول، ما أن ننتهي من مشاهدتها على الشاشة صغيرة كانت أم كبيرة، حتى ننساها، وأبدا لا نستطيع استرجاع صورها على شاشة الذاكرة وقتما نريد.

أما أفلام النوع الثاني، وهي أقل القليل، فترسب في الأعماق، إنها دائماً هناك، ونستطيع استرجاعها بكل تفاصيلها ودقائقها ساعة نشاء.

وفي اعتقادي أن فيلمي “طوق الحمامة المفقود” و”شاشات الرمال” من هذا النوع الأخير النادر، الذي ما أن تلتقط صوره عدسة العين، حتى تتذكرة على الدوام.

ولسوء الحظ، فكلا الفيلمين من الممنوعات، بل أنهما في رأي نفر متعصب، معاد للفن، أكثر خطورة من أشد اصناف المخدرات هولاً.

قصة المدينتين

وأعجب العجب بالنسبة لهما، هو تضامن مهرجاني دمشق والقاهرة في اتخاذ موقف واحد منهما، ألا وهو موقف العداء الذي انحدر إلى حد التجريم فالتحريم.

وحتي الآن لا اعرف لهذا الموقف الغريب سبباً، اللهم إلا إذا سايرنا الشائعات التي عمل على نشرها نفر يتاجر بالقضايا المصيرية، ولا يحمل لحرية التعبير سوى المقت الشديد، وهي شائعات تقول فيما تقول أن الفيلمين قامت بتمويلهما مصارف غربية يتحكم في شئونها اليهود، فضلاً عن أن أحدهما، وهو “شاشات الرمال” يحقر من شأن المرأة العربية على وجه مشين.

ولقد كان لهذه الشائعات تأثيراً كبيراً على مهرجاني العاصمتين فإذا بدمشق تجد نفسها محرومة من مشاهدة “شاشات الرمال” وجميع الأفلام التونسية بما في ذلك رائعة “فريد بوغدير” “عصفور على السطح” أو “الحلفويين” و”شيشخان” بطولة الممثل المصري “جميل راتب” الذي أدى دوره باتزان واتقان غير مألوفين، يعود الفضل فيهما إلى صاحبي الفيلم “محمود بن محمود” و”فاضل جعايبي” وأولهما سبق له وأن امتعنا قبل خمس سنوات بفيلمه الأول “عبور”.

وإذا بالقاهرة بدلاً من افتتاح مهرجانها الكبير برائعة عربية مثل “طوق الحمامة المفقود” لصاحبها “ناصر خمير”، تفتتحه بفيلم رديء فنياً وسياسياً أسموه “ناجي العلي”، ولا تكتفي بهذه الكارثة، بل تعمل جاهدة على أن يكون الختام بفيلم عربي أكثر رداءة اسمه “طبول النار”.

وفي هذه الاثناء، إذا برائعة “ناصر خمير” تختفي من جميع دور العرض بسحر ساحر، نبحث عنها مهتدين بارشادات برنامج المهرجان، فلا نعثر عليها وكأنها فص ملح وذاب.

سور الصين

وبالمصادفة، وبعد انتهاء المهرجان بيومين أو ثلاثة، وجدتني أشاهدها في عرض شبه سري للنقاد، لم يعلن عنه لا لشيء سوى أن “طوق الحمامة المفقود” كما سبق أن قلت، إنما يعتبر في نظر نفر من الناس أكثر خطراً من أكثر أصناف المخدرات نكراً !!

أما “شاشات الرمال” رائعة المخرجة اللبنانية “رنده الشهال”، فحدث ولا حرج عن منعها باعتبارها من المحرمات.

فهي أصلاً لم يسمح لها باجتياز عتبات ديار مصر، وبالتالي ففرصة مشاهدتها والاستمتاع بها لم تتح لي إلا بفضل شريط فيديو، ذلك الاختراع اللعين الذي فتح في الأسوار نوافذ نطل منه على بساتين الفن السابع رغم أنف سيف الرقباء.

المجد التليد

وعلى كل، وأيا كانت الأسباب التي تذرعوا بها لحمايتنا من مشاهدة الرائعتين، باعتبارنا لانزال مراهقين، فالأكيد أن “طوق الحمامة المفقود”، فضلاً عن أنه وحيد نوعه بين الأفلام العربية، فهو عمل سينمائي ساحر، مستوحي من رسالة عن الحب “طوق الحمامة”، كتبها العالم الأندلسي “ابن حزم” الذي فرغ لعلوم اللغة والدين في عصر عصيب شهد انتقال السلطان من بني أمية إلى حُجَّابهم، ثم انهيار الأمر حول هؤلاء الحجاب، وقيام ملوك الطوائف، وتدّخل البربر في شئون العرب الأسبانيين.

والظاهر أن الحب كان يشغل الناس جميعاً في الأندلس لعهد هذا العالم الكبير، ولعله كان يشغل المثقفين والممتازين أكثر مما كان يشغل غيرهم من الناس.

والبادي من سياق الفيلم أنه الشغل الشاغل للخطاط “حسن” بطل “طوق الحمامة المفقود”.

فبدءًا من اللقطات الأولى، وهو أبدا يردد عبارة “ابن حزم” الشهيرة التي تغوص في ماهية الحب، عندما تصفه قائلة في سخرية لاذعة “الحب أعزك الله أوله هزل، وآخره جد”.

وهو أبدا يبحث عن مفردات كلمة حب، وعددها ستون، استطاع أن يجمع منها ثلاثاً وثلاثين.

وفي سعيه هذا، دائماً ما يلتقي “بزين” مرسال الغرام في قرطبة ذات الجلال، والصبي الذي لا يُعْرف له أب، فإذا ما استفسر ملتاعاً عنه من أمه، قالت له ضاحكة، وهي في حمام النساء، إنه جني أصيل.

ألف ليلة وليلة

ومن خلال مغامرات الاثنين “حسن وزين” التي جرى حكيها بأسلوب حكي قصص ألف ليلة وليلة، نجح المخرج في تسليط الأضواء على ابداعات الحضارة الأندلسية.. فن كتابة الخط العربي، المكتبات بمخطوطاتها النادرة، الساحات والباحات ملتقى المثقفين، الجوامع بمآذنها وأعمدتها عنواناً على علو شأن المعمار، ولا أقول الفنون جميعاً.

باختصار شديد “طوق الحمامة المفقود” حدث جليل في تاريخ السينما العربية.

وهو فيلم لا يحكي لا لسبب سوى أنه أقرب إلى موسيقى الشعر منه إلى أي شيء آخر.

وكذلك حال “شاشات الرمال” فهو فيلم تصعب حكاية وقائعه، ولو حكيت فهي لا تحكى إلا في كلمات معدودات.

ولقد جرى عرضه في مهرجان فينيسيا الأخير، ومن بعد في أكثر من مهرجان.

نساء لبنان

هذا، ولم يسبق لصاحبته أن أخرجت أفلاماً روائية، فجميع أعمالها السينمائية قبل “شاشات الرمال” من ذلك النوع المسمى بالتسجيلي في قول، وبالوثائقي في قول آخر، أذكر من بينها “خطوة..خطوة” (1979)، “لبنان أيام زمان” (1980)، “لبنان إرادة الحياة” (1981)، و”الشيخ إمام” (1984).

وبفضل رائعتها الروائية الأولى، استطاعت أن تلحق بزميلتيها المخرجتين اللبنانيتين “هيني سرور” و”جوسلين صعب”. فالمخرجات الثلاث بدأن المشوار معاً إبان عقد السبعينات، بأفلام تسجيلية بعضها طويل، والبعض الآخر قصير.

والآن لكل واحدة منهن فيلم روائي واحد لا يزيد.

ورائعة “شهال” بأسلوبها الذي قد يراه جمهور السينما التقليدية مفرطاً في التجريد، إنما تذكرنا بأسلوب الأديبة الفرنسية “مارجريت دورا” في الكتابة والإخراج.

ولا غرابة في أن تتأثر “شهال” بأسلوب” دورا فهي متخرجة في معهد “لوميير” للسينما (1985).

الاتصال والانفصال

وهي في رائعتها، أنما تعرض لمأساة المرأة العربية على امتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.

تلك المأساة التي تخلص في فرض الانفصال عليها عن المجتمع العامل، وبالذات مجتمع الرجال.

وهو انفصال شامل لجميع أجزاء هذا الوطن دون أي استثناء، موجود في كل مكان سواء أكان متقدما أم متخلفاً.

مفروض على المرأة في أقاصي الصعيد، في متاهات الصحروات، في أعالي لبنان، في وديان المغرب والسودان.

إذا نحن بازاء ظاهرة انفصال بين الجنسين جامعة لكل العرب ولسوء الحظ، تزداد على مر الأيام سوءًا.

ومن هنا ايثار “شهال” لوقائع رائعتها ألا تجري في بلد عربي محدد بالذات.

فكل النساء عندها في الهم عرب، لا فرق في ذلك بين مشرق ومغرب.

وهي تبدأ رائعتها بدءًا قريباً كل القرب، غريباً كل الغرابة، فتفرض علينا أن نصحبها في الطريق التي تريد أن تمضي فيها.

فهذه امرأة جميلة “سارة” (ماريا شنايدر بطلة التانجو الأخير في باريس أمام مارلون براندو) لم تتقدم بها السن، ولكنها قد جاوزت الشباب قليلاً إنها داخل سيارة فارهة “رولز رويس” يقودها سائق يتبين لنا تلميحاً فيما بعد أنه لا يميل إلى جنس النساء ولسبب لا نعرفه تصل بها السيارة إلى المطار، حيث لا يسمح لها بمغادرة البلاد.

فإذا ما عادت إلى حيث تقيم رأيناها في قصر منيف، به حمام سباحة كبير، مغطي بستائر تحجب الرؤية عن أعين المتطفلين، ودوائر تليفزيونية مغلقة، لا تترك شاشاتها صغيرة أو كبيرة، إلا سجلتها حماية لشرف نساء البيت الكبير.

وسارة في وحدتها، ورغم الثراء الفاضح، امرأة تعيش حياة طفيلية ملؤها الملل والضياع.

وليس عندها وسيلة للاتصال بالعالم الخارجي، سوى تليفون مثبت به شاشة تكشف عن شخصية المتلقي للمكالمة، لا تستعمله إلا لقتل الفراغ.

وفي محاولة منها للانعتاق من أسر تلك الوحدة القاتلة، ها هي ذي تلتقي بأمراة أخرى “مريم” أجبرتها ظروف الحرب الأهلية المستعرة الأوار، إلى مغادرة لبنان للعيش في هذا المكان الموحش حيث أسندت اليها مهمة إعداد مكتبة جامعية للنساء.

ولأمر ما، تظل هذه المكتبة خاوية على عروشها، بلا كتب، و”مريم” تلح في الطلب، ولا مستجيب.

وبعد حين تثوب هي إلى نفسها، حائرة أول الأمر، ثم ساخطة، ثم منكرة لهذا التصرف المريب.

ولا تزال تسأل، وتبحث وتستقصي، مستنجدة بأستاذ لبناني في جامعة النساء اسمه “طلال” تهرع إلى الالتقاء به في أحد المصاعد، حيث يمارسان الجنس في لهفة، تحت أعين كاميرات تعرض ما تلتقطه على شاشات يشاهدها رجال ساهرون على حماية حسن الآداب.

وسرعان ما نرى “طلال” وهو يلقى القبض عليه بواسطة جمهور من الناس غريب.

و”مريم” وهي هاربة بعدئذ استقر في نفسها أنها متهمة بدورها، وإن لم تعرف طبيعة التهمة.

وفي الختام نراها واقفة بمفردها في صحراء شاشعة، معلقة بين اليأس والرجاء.

وكأني بصاحبة “شاشات الرمال” تريد أن تقول بهذه النهاية أن المرأة في مجتعاتنا تضيع حياتها في جهود مجدبة لا تغني عنها شيئا.

يبقى أن أقول أن “شاشات الرمال” تحفة سينمائية، لا يعيبها رغم بعض الغموض، إلا أنها متكلمة بالفرنسية، أي بغير لغتنا الجميلة، وهو عيب، لو تعلم “شهال” كبير.

قصة السينما المصرية

هي قصة حب بين المصريين، وبين ما هو في حقيقة الأمر لغة العصر، لغة فيها الشيء الكثير من روح الكتابة على جدران المعابد والتماثيل وأوراق البردي أيام الفراعين، فما أن تحركت الصور قريباً من منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر على جانبي ما كان يُسمى قبل خمسائة عام ببحر الظلمات، وذلك بفضل الأمريكي “توماس الڨا أديسون” (1894)، والأخوين الفرنسيين “أوجوست ولويس لوميير” (1895) وكثرين غيرهم من المخترعين المجهولين، حتى آثار تحركها لدى المصريين الفضول والشوق والحنين.

ولم يكن غريباً – إذن – بعد أول عرض سينمائي على شاشة بيضاء كبيرة أمام جمهور مقابل تذاكر مدفوعة الثمن في باريس (28/12/1895)، أن يتوثب العقل بعزم وتصميم على أن يجري عرض مماثل على أرض مصر في وقت قريب وسرعان ما تحقق ذلك في العام التالي مباشرة لعرض باريس أولاً في الإسكندرية بإحدى قاعات طوسون باشا مقابل أربعة قروش للرجال (5/11/1896).

وفي القاهرة بعد ذلك بأيام (28/11) بقاعة حمام شنيدر حيث توالت خمس عشرة صورة من “موضوعات مسلية وناجحة إلى حد الكمال” كان من بينها “وصول القطار إلى محطة ليون”!!

ورغم هذا الولع الشديد بالفن الجديد الوليد، فإن استيراد المعدات اللازمة لابداع الأفلام، وبناء الاستديوهات، ودور العرض المجهزة بأحدث الآلآت، كل ذلك، وهو لازم لإقامة بنية سينمائية صناعية متكاملة، لم يكن بالأمر اليسير.

وها هنا فلنتمهل ولنتأمل قليلاً ما نستطيع أن نسترجعه على شاشة ذاكرتنا من أحداث وقعت في أثناء الفترة بين تاريخ أول عرض سينمائي في مصر وإعلان الحماية البريطانية إثر نشوب الحرب العالمية الأولى.

أهم حدث، ولاشك، هو استقرار الأمر للاحتلال الانجليزي لأرض مصر والسودان، وبدء حركة المطالبة بالاستقلال.

ومن آثار هذا الاحتلال تأخر إدخال صناعة السينما إلى ما بعد ثورة 1919 التي أرجعت إلى مصر بعضاً من استقلالها السليب.

وعلى كل، فخلال تلك الفترة القاتمة، جرى تصوير بعض الأحداث المصرية مثل جنازة مصطفى كامل (8 أغسطس 1909) وسفر المحمل الشريف (أكتوبر 1912) وتم بناء عدد من دور العرض القابلة لسرعة الاحتراق وأخذ شبح يتهدد الفن الوليد، شبح الرقابة تطل على السينما بوجهها القبيح.

وما أن اقتربت الحرب العالمية من إلقاء سلاحها، حتى كان قد ظهر أول ممثل سينمائي مصري “محمد كريم” في فيلم “شرف البدوي” (1918) حيث أدى دور عسكري، ومن بعده ظهر في فيلم ثان “الأزهار المميتة” الذي منعت الرقابة عرضه لأن سطور آيات القرآن الكريم بدت في بعض لقطاته مقلوبة، وكلا الفيلمين من إنتاج الشركة السينمائية الإيطالية التي توقفت بعد ذلك عن العمل تماماً، وبيعت معداتها ومعاملها إلى المصور الإيطالي “الفيري اورفنيللي”.

وللأخير فضل تصوير “مدام لوريتا” (1919) للمخرج الإيطالي “ليورنار لاريتشي”، وهو أول فيلم تسند بطلولته إلى ممثل مصري “فوزي الجزائرلي” ذلك الكوميدي الذي اشتهر، عندما تكلمت السينما، بأدائه لدور المعلم “بحبح” أمام ابنته “إحسان” وزوجته تحت اسم “أم أحمد” في الأفلام.

ومن الأعمال السينمائية التي جرى إنتاجها في أثناء الفترة التالية لانتهاء الحرب مباشرة، فيلمان أحدهما وثائقي سجّل جنازة الزعيم الوطني “محمد فريد” (يونية 1920) والآخر روائي قصير “الخالة الامريكانية” (1920) مأخوذ عن مسرحية “الخالة تشارلي”، ودور البطولة فيه، وهو دور رجل متخف في ثياب امرأة، أداه نجم المسرح الشهير “علي الكسار” الذي كان يعرف باسم “بربري مصر الوحيد”.

وتظهر تباشير التمصير، بعد أن مر من الأيام ثلاثة أعوام، فها هو ذا “محمد بيومي” بعد أن عاد من المانيا حيث درس فن السينما والتصوير، يقف وراء الكاميرا ليكون بذلك أول مصري ينتج ويصور أول جريدة سينمائية “آمون” تلك الجريدة التي كان لها فضل تسجيل عودة سعد باشا من المنفى (1923) وهو التسجيل الوحيد لذلك الحدث الكبير.

وأول مصري يخرج ويصور فيلماً روائياً قصيراً أسماه “الباشكاتب” (1924) مدته نصف ساعة، وتكّلف حوالي مائه جنيه وقصته تدور حول باشكاتب يقع في غرام راقصة، فيختلس مبلغاً من المال ينفقه عليها، وينتهي به الأمر مسجونا.

ومن هذا الفيلم الروائي القصير خرجت صناعة السينما المصرية، كما خرج المارد من القمقم في حكايات ألف ليلة وليلة.

فلم يمر سوى ثلاثة أعوام على باشكاتب “محمد بيومي” إلا وكان الأخوان “إبراهيم وبدر لاما” في الإسكندرية ينتجان فيما روائياً طويلاً أسمياه “قبلة في الصحراء”.

وكانت “عزيزة أمير” تنتج وتمثل في القاهرة فيلماً روائياً طويلاً اسمته “ليلى”.

 بلغ عدد الأفلام الروائية الطويلة المنتجة خلال نصف قرن من عمر الزمان،حوالي ألف وسبعمائة وخمسين فيلماً، وتحققت للسينما المصرية مكانة لم تتحقق لأية سينما أخرى في أي قطر من أقطار الوطن العربي أو في أي بلد من بلاد قارتنا أفريقيا.

والحق أن مراحل حياة السينما المصرية بدءا من عام 1927 وحتى يومنا هذا، هذه المراحل لم يكن منفصلاً بعضها عن بعض بفواصل حادة، ففي كل مرحلة يحدث أن تزدهر وتظهر عناصر كانت في حقيقة أمرها موجودة كما توجد الأجنة في الأرحام.

فبعد الرواد الأوائل الذين أخرجوا أفلاماً روائية طويلة، وأهمهم بلا جدال “محمد كريم” الذي أخرج أول فيلم مصري مأخوذ عن قصة للأديب المصري محمد حسين هيكل ألا وهي “زينب” (1930) وأول فيلم مصري متكلم “أولاد الذوات” (1932) الذي قام بأداء الدور الرئيسي فيه “يوسف وهبي” أمام “أمينة رزق” وأول فيلم للمطرب والموسيقار “محمد عبد الوهاب” “الوردة البيضاء” (1933).

وكان، علاوة على ما تقدم، أول عميد لمعهد السينما الذي أنشأته وزارة الثقافة في أعوام الستينات، وتخرج فيه معظم مبدعي الأفلام الذين تقوم على أكتافهم صناعة السينما الآن، أذكر من بينهم المخرجين “إيناس الدغيدي”، “إبراهيم الموجي”، “أشرف فهمي”، “بشير الديك”، “خيري بشارة”، “داود عبد السيد”، “رأفت الميهي”، “سمير سيف”، “شريف عرفة”، “عاطف الطيب”، “عطيات الأبنودي”، الأخوين”عمر ومحمد عبد العزيز”، “نادر جلال” و”هاشم النحاس”.

وغير هؤلاء كثيرون من كتاب السيناريو والمؤلفين والمصورين وسائر المتنخصصين في فروع السينما الأخرى.

وأعود إلى الرواد الأوائل لأقول إنه ظهر بعدهم في منتصف أعوام الثلاثينات وليد جديد “استديو مصر” الذي انشأته شركة مصر للتمثيل والسينما التابعة لبنك مصر “طلعت حرب”.

وإنشاء هذا الاستديو يعتبر مرحلة من أهم مراحل تطور صناعة السينما المصرية، فقد كان أول استديو مجهز تجهيزاً كاملاً، وأول استديو يتبع نظام العمل في شركات السينما الكبرى، وبخاصة هوليوود، باختصار كان بمثابة مدرسة جديدة في السينما، قفزت بالفيلم المصري خطوات واسعة إلى الأمام.

وليس محض مصادفة أن يجئ إنشاؤه في سنة 1936 أي سنه إلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت قد أعطت الغرباء حق التسلط على المصريين.

ومن أبرز أفلام استديو مصر “وداد” أول فيلم لكوكب الشرق أم كلثوم  و”لاشين”، الذي أسرعت الرقابة بمنعه و”سلامة في خير ” و”سي عمر” وكلاهما من إخراج نيازي مصطفى وتمثيل نجيب الريحاني و”العزيمة” للمخرج كمال سليم، وهو يعتبر أول فيلم مصري صور الحياة في حي شعبي، وجاء متضمناً نقداً لبعض العيوب التي يعاني منها المجتمع وبخاصة أزمة المتعطلين و”مصنع الزوجات” للمخرج “نيازي مصطفي” و”غرام وانتقام” آخر فيلم للمطربة “اسمهان”.

أما أبرز مخرجيه، فهم ولا شك، “كمال سليم” و”أحمد بدرخان” صاحب فيلمي أم كلثوم “نشيد الأمل” و”دنانير” وفيلم “مصطفى كامل” و”نيازي مصطفى” الذي مات قبل خمسة أعوام مقتولاً بعد أن كان قد أخرج حوالي مائة وخمسين فيلما!!

ومن تلاميذ مدرسة استديو مصر برز اسم مخرج واعد “صلاح أبو سيف” الذي أبدع أول أفلامه “دايماً في قلبي” (1946).

وتواصل السينما المصرية مسيرة التطور والصعود والارتقاء بفضل مخرجين آخرين من خارج الاستديو الكبير، أذكر من بينهم على سبيل المثال “أحمد جلال” و”توجو مزراحي”، “حسين فوزي”، “أنور وجدي” و”حسن الإمام”.

وبفضل ثورة يولية 1952 التي اتاحت الفرصة لكوكبة من المخرجين الجدد المجددين أن تبدع أفلاماً أخذت صوراً مختلفة عند “صلاح أبو سيف”، “توفيق صالح”، “كمال الشيخ”، “يوسف شاهين”، “هنري بركات”، “فطين عبد الوهاب”، “حسين كمال”، “شادي عبد السلام”، “محمد خان” وغيرهم ممن تخلصوا من الرؤية السينمائية القديمة إلى الأفكار والأشياء.

ومما يلفت النظر في أفلام هؤلاء المخرجين أنها في معظمها إما مأخوذة عن قصص لأدباء مصريين مثل شباب امرأة، بداية ونهاية، المتمردون، اللص والكلاب،البوسطجي، الأرض، الحرام يوميات نائب في الأرياف، ثرثرة فوق النيل، والسقا مات، أو قائمة على سيناريوهات مبتكرة لبعض هؤلاء الأدباء مثل درب المهابيل “ريا وسكينة” و”الوحش” وهي جميعاً من إبداع “نجيب محفوظ”.

غير أن ثمة عدداً قليلاً من بين هذه الأفلام يقوم على سيناريو مبتكر من إبداع المخرج دون شريك.

وخير مثل على ذلك ثلاثية يوسف شاهين حول سيرته الذاتية التي بدأت بـ”اسكندرية ليه” وانتهت بـ”اسكندرية كمان وكمان”.

وفيلم شادي “المومياء” أو “ليلة حساب السنين” (1969) الذي استحدث طريقة في السرد، جعلت صوره أقرب إلى رسومات جدران المعابد في عصور الفراعين.