العنصرية ضد السود في هوليوود

أشياء تبقى بالذاكرة، لا تنمحي منها أبداً، من بينها أنني في سني الصبا والشباب، ما رأيت فيلماً أمريكياً، وكان من بين ممثليه واحد من السود، إلا وكان الدور المسند إليه إما خاصاً بعبد يشترى ويباع في الأسواق، بحر المال أو خادم ذليل مهان، أو مغن بملهى في أحسن الأحوال.

ولعل خير مثل على تلك الظاهرة الغريبة العجيبة حكاية “هاتي ماكدنيال”..  فما هي؟

من المعروف عن هذه الممثلة السوداء البدينة أن اسمها لم يدخل في عداد عظماء النجوم المبشرين بالخلود في سجلات هوليوود، إلا لسبب واحد، هو خروجه من مضمار الصراع من أجل أوسكار فائزة بها مقابل أدائها لدور صغير في الفيلم الشهير “ذهب مع الريح” (1940).. فما هو؟

كان دور خادمة، أو بمعنى أصح، جارية مطيعة شديدة الوفاء لأسيادها البيض أصحاب الضياع والعبيد في الجنوب القديم أيام الحرب الأهلية الأمريكية التي قادها “ابراهام لينكولن” منتصرا فيها إلى العبيد.

وعلى كل فما كادت تنتهي الاحتفالات بالفيلم المستوحى من قصة الأديبة الأمريكية “مرجريت ميتشيل” وأول نجمة سوداء تفوز بالاوسكار، حتى جاءت سنوات الأربعينات مثقلات بما حملت من أحداث وتحولات، لعل أهمها الحرب العالمية الثانية بأهوالها الجسام.

فجر جديد

وكان من نتيجة ذلك أن حدث في مسار هوليوود تغيّر بدا كما لو كان تغيراً مفاجئاً، لكنه في حقيقة الأمر كان متوقع الحدوث، وإن يكن قد تأخر وقوعه عما كان منتظرا.

حدث أن عاد مصنع الأحلام في عاصمة السينما بعد امتناع دام سبعة أعوام، إلى انتاج أفلام موسيقية مثل “جو عاصف” و”كابينة في السماء” (1943)، كل ممثليها وممثلاتها سود البشرة، وكل الأدوار المسندة إليهم عادية من ذلك النوع الذي يمارسه الناس في حياتهم اليومية، متى كانوا أحرار.

وحدث أن بدأ الرجال السود في الظهور على الشاشات في أدوار محاربين بواسل، لا يبالون بشيء في سبيل بلادهم، وفي سبيل تحقيق النصر على طاعون النازية، أكثر أنواع العنصرية خطورة، وأشدها فتكاً.

وبعد أن ألقت تلك الحرب سلاحها بقليل، وبالتحديد عام 1949 جرى عرض ثلاثة أفلام في أوقات متقاربة هي “موطن الشجعان” و”وبينكي” و”الحدود المفقودة” وكان من بين ما يميزها أنها تناولت بصراحة غير معهودة مأساة الاضطهاد العنصري الذي مبعثه التفرقة بين الناس على أساس الألوان.

ومما يلاحظ على الفيلمين الأخرين أنهما عرضا للتمييز العنصري ضد السود من خلال معذبين، مضطهدين لأنهم بيض ناصعو البياض، ولكنهم منحدرون من أصول سوداء، شأنهم في ذلك شأن كنجزبلد بطل قصة “كنجزبلد رويال” لصاحبها الأديب الأمريكي المتوّج بجائزة نوبل “سنكلير لويس” ذلك البطل الأشقر، الأزرق العينين الذي ما أن يكتشف، وياليته ما اكتشف، أن أحد أجداده القدامى من السود، حتى يصبح منبوذاً، مشرداً، فاقداً للاحترام.

الحب المستحيل

ورغم الحرب، ورغم انتهائها باندحار النازية، رغم كل ذلك ظل أمراً ممتنعاً على أفلام هوليوود أن تظهر رجلا أسود يطارح امرأة بيضاء الغرام، أو أن تلمح إلى ذلك، ولو من بعيد.

وبقي الحال هكذا إلى أن حدث أمر لم يكن في الحسبان عندما طارح “هاري بلافونت” وهو أسود- جوان فونتين- وهي بيضاء، طارحها الغرام في فيلم “جزيرة في الشمس” (1959)، ومع ذلك كان لابد لهذا الغرام أن ينتهي بالفراق لا لسبب سوى أنه ليس من طبائع الأمور أن يكون للحب بين أسود وبيضاء ختام سعيد.

ولم تكد تمر أربعة أعوام على الغرام في جزيرة الشمس، حتى فاز “سيدني بواتيه” باوسكار أفضل ممثل رئيسي عن تقمصه في فيلم “زنابق المروج” لدور عامل جائل، يلتقي براهبات ألمانيات متفانيات في حب المسيح، يقمن ببناء مكان للعبادة والصلاة، فيساعدهن حتى يستكملن التشييد.

السينما لغة العصر

وكان بذلك أول ممثل أسود يفوز بتلك الجائزة على امتداد ستة وثلاثين عاماً من عمر اوسكار المديد!

ومع تصاعد حركة العصيان المدني ضد التفرقة العنصرية قام “ستانلي كرامر” باخراج فيلمه “خمّن من القادم إلى العشاء” (1967).

وفيه تفاجيء الابنة “كاترين هوتون” والديها سبنسر تراسي” و”كاترين هيبرن”، وهما من علية الطبقة المتوسطة البيضاء، تفاجئهما بأنها قد دعت إلى العشاء شاباً ملوناً “سيدني بواتييه” عقدت العزم على الزواج منه، حتى ولو كره الآباء.

وينتهي الفيلم بفوزها برضاء الوالدين، بعد أن تبين لهما أن الحبيب الملون عالم يشغل مركزاً مرموقاً في الأمم المتحدة وعلى خلق عظيم !!

وطبعاً، هذه الصورة الوردية للسود لم يكتب لها أن تدوم طويلاً.

فسرعان ما عملت استديوهات هوليوود على اظهارهم في أفلام لا يلعبون في معظمها إلا أدوار أشرار يعيثون في الأرض فسادا.

الموجة السابعة

ولم يكن لهذا الوضع الشاذ أن يستمر بأي حال من الأحوال، لاسيما بعد الانتصارات التي تحققت للسود في مجال الحقوق المدنية بفضل الزعيم “مارتن لوثر كنج” الذي مات مغتالاً.

وكيفما كان الأمر، فمع زحف الثمانينات بدأت كوكبة من الممثلين والمخرجين السود في الظهور، تألق من بينها “ايدي ميرفي” الذي أصبح نجماً يشار إليه بالبنان، مما اضطر شركة بارامونت ذات الجلال، إلى أن تحتكر موهبته في ستة أفلام مقابل أربعة وعشرين مليون دولار.

و”سبايك لي” المخرج الذي أدهش مهرجان كان قبل عامين بفيلمه “اعمل الصح” الذي عرض فيه بأسلوب سينمائي آخاذ فكرته القائمة على عدم امكان التعايش بين البيض والسود في أحد الأحياء الشعبية بنيويورك، تلك المدينة، أو بمعنى أصح، الغابة التي ناطحت السحاب بمخلوقاتها العجيبة المتصارعة التي تنهش بعضها، ولكن بغير أنياب وإلى تلك الفكرة الأثيرة عاد “لي” في آخر أفلامه “حمى الأدغال” (1991) الذي جرى عرضه في مهرجان كان الأخير، حيث كان قاب قوسين أو أدنى من السعفة الذهبية، الجائزة الكبرى لذلك المهرجان.

وما أن تمر أيام معدودة، إلا ويعود إلى فكرته تلك مرة أخرى، عندما يبدأ تصوير فيلمه المنتظر “مالكولم أكس” الذي يقال أنه قد اعتمد لانتاجه خمسة وثلاثين مليون دولار وأيضاً يقال أن بعض مشاهده سيجري تصويرها في القاهرة، إلا إذا حال دون ذلك تزمت الرقابة المقيت، وهو تزمت لابد وأن يضعه أي مبدع في الحسبان.

شعاع الابداع

المهم أن “لي” قد راح بأفلامه يفعل فعل السحر في قلوب حفنة من المخرجين الشبان السود، فإذا بهم يبدعون تسعة عشر فيلماً خلال الأشهر القليلة الماضية، وهو عدد يعادل، إن لم يكن يزيد عمّا انتج من أفلام لجميع المخرجين السود في غضون عقد الثمانينات.

ولعل المخرجين “جون سنجلتون” و”ماتي رش” و”جوفاسكويز” و”ماريون فان بيبلز” الذي حقق فيلمه “مدينة نيوجاك” خلال أسابيع ايرادات بلغت أربعة وأربعين مليون دولار، و”جون سايلز” بفيلمه “مدينة الأمل” الذي أجمع النقاد على الاشادة به، مما قد ينهض سبباً لترشيحه لجائزة اوسكار، لعلهم أهم مخرجي تلك الموجة الجديدة.

ويعتبر”رش” و”سنجلتون” أصغر المخرجين الخمسة سناً. فالأول ليس له من العمر سوى تسعة عشر ربيعا. أما الثاني فلا يزال في الثالثة والعشرين.

فكر الفقر

وعند فيلم “طريق بروكلين” لصاحبه “رش” أقف قليلاً، لأن له قصة تخلص في أنه لم يكلف المخرج الشاب سوى سبعين ألف دولار.

ولضيق ذات اليد، لم يستطع أن يستكمل توليفه إلا بفضل “جونثان ديم” وهو مخرج أبيض مضطهد، وصاحب فيلم “جودي فوستر” الأخير “صمت الحملان” الذي يعتبر واحداً من أنجح أفلام الموسم فنياً وتجارياً.

ذلك أنه ما أن رأى فيلم “رش”- وهو في مرحلته الأخيرة السابقة مباشرة على التوليف- حتى تحمس له تحمساً شديداً.

وكان أن هيأ له منتجاً ساعد مخرجه الشاب على وضع اللمسات الأخيرة التي جعلت منه فيلماً رائعاً.

التزويق والتشويه

واضح إذن أن هوليوود، وصناعة الأفلام فيها تعاني الآن من فقر في الفكر، قد تنبهت إلى مواهب هؤلاء المخرجين، وحكاياتهم الغريبة التي ليس لها مثيل، تلك الحكايات التي لو تحولت إلى أفلام قليلة التكاليف، لعوضت أرباحها الخسائر الناجمة عن الأفلام الضخمة التي ينفق على انتاجها عشرات الملايين من عزيز الدولارات.

ولا غرابة في هذا الحماس، فالجمهور الامريكي المنحدر من أصول أفريقية، يشكل ثلاثة وعشرين في المائة من رواد السينما، وهي نسبة أعلى بكثير من نسبة عدد السود إلى العدد الاجمالي لسكان بلاد العم سام.

والأكيد.. الأكيد أن هذا الجمهور العريض يريد أن يرى العالم الذي يعيشه كما هو في الواقع بكل أفراحه وأتراحه، وليس كما هو في تصور البيض، عالماً إما مزوقاً كما هو الحال في “اللون الارجواني”، ذلك الفيلم الذي أخرجه “ستيفن سبيلبرج” صاحب الفك المفترس، وإما مشوهاً كما هو الحال في فيلم “الاشباح” الذي أدت فيه النجمة “ووبي جولدبرج” دور نصابة محضرة أرواح، وبفضله فازت باوسكار أفضل ممثلة مساعدة، بعد خمسين عاماً من فوز “ماكدونال” بها عن دور خادمة في “ذهب مع الريح”.

مدرسة المشاغبين

والغريب في الأمر أن نفراً من الشباب الأسود عندما رأى صورته على الشاشة كما تخيلها مخرجو تلك الموجة، وبخاصة فيلم “سنجلتون” المسمى “أولاد الغابة” لم يرقه ما رأى، فكان أن هاج غاضباً، مثيراً أنواعاً من الشغب، أدت إلى اصابة مئات المتفرجين، بل وإلى مقتل البعض.

مما كان سبباً في جنوح عدد من أصحاب دور السينما، إما إلى وقف عرض أفلام المخرجين السود، وإما إلى الامتناع عن عرضها أصلاً.

وفي رأي”سنجلتون” أن الشغب لم يحدث بسبب فيلمه، وإنما بسبب جيل كامل من فتية سود فقدوا احترام الذات، الأمر الذي سهل تبادل الطلقات حتى اسالة الدماء.

إنه جيل بلا أب يتخذه مثلاً يحتذى، جيل باحث عن الرجولة فلا يجدها إلا في السلاح، وتوهم أنه قد دخل بفضله في زمرة الأسياد الأحرار.

وغني عن البيان أنه ليس ثمة علاقة بين كل هذا وبين فيلمه، ومن ثم ما كان يجوز وقف عرضه لمجرد تبادل اللكمات والطلقات.

فمثل هذا التقاتل معتاد الحدوث في شوارع “لوس انجلوس” ويواصل دفاعه قائلاً: فيلمي لم يوقف عرضة إلا لسبب واحد، هو أن جميع ممثليه ومبدعيه من السود.

والوقف لمثل هذا السبب لا يعدوا أن يكون نوعاً من التفرقة العنصرية في ساحة الفن.

واذا كان الأمر كما يتهم صاحب “أولاد الغابة”، فهذا يعني أن شيئاً ما يُدَبّر في الخفاء ضد موجة المخرجين السود وأفلامهم الأكثر صدقاً في التعبير عن مشاكل الأقلية السوداء.

مع مالك الحزين في الكيت كات

القصص الذي أظهر بعض ما في عقلنا وقلبنا من حكمة مخزونة، ونطق ببعض ما في كياننا من قوة روحية كامنة، ذلك القصص أقل القليل.

وأغلب الظن أن “مالك الحزين” للأديب “إبراهيم أصلان” المستوحى منها فيلم “الكيت كات” لصاحبه المخرج الواعد “داود عبد السيد”، تلك القصة التي تعرض في شيء غير قليل من الروعة واقع الحياة المنتهكة، المنهوبة، المهددة بالجفاف والضياع في امبابة، وبالذات الكيت كات حيث اختفى مالك الحزين الذي كانت أسرابه تعشش بالمئات على أعلى اشجار الكافور، أمام زحف السماسرة والمقاولين وتجار المخدرات، تسانده وتدعمه البنادق والدروع والخوذات.

أغلب الظن أنها من ذلك القصص القليل النادر الذي أظهر بعضاً من حكمتنا المخزونة، وبعضاً آخر من قوتنا الروحية الكامنة بلا متنفس إلا لماما.

ولعل هذا هو السبب الذي حدا بالدكتور “علي الراعي” في مقال قيّم بمجلة المصور كتبه قبل سبعة أعوام أو أكثر من ذلك قليلاً، إلى التحمس لها حماساً شديداً، حتى أنه اعتبرها بكل المقايس رواية مهمة تدفع بالواقعية الجديدة خطوات إلى الأمام.

الصبر والصمت

والحق، أن مبدع “مالك الحزين” من فئة كتاب الحساسية الجديدة التي تؤمن بكرامة إلانسان، وتقف إلى جانب المقهورين – وهي منهم – ضد القهر، ومع المستلبين ضد إلاستلاب.

وقد يكون من اللازم هنا أن ألفت النظر إلى طول المدة التي أنفقها “اصلان” في إبداع “مالكه الحزين”، فارهاصاتها بدأت قريباً من نهاية عام “الكعكة الحجرية” بتظاهراته التي خلدها “أمل دنقل” شعراً، ثم ظلت تتخلق حتى نهاية الربع الأول من عام 1981، أي إلى ما قبل حادث المنصة الشهير بخمسة شهور.

هذا إلى أنها لم تُنْشَر زارداً للناس إلا بعد الخلاص من إبداعها بعامين، وفي يونيه لعام 1983 على وجه التحديد.

ولا غرابة في هذا المخاض الطويل العمر، فقد أثارت الحياة في “الكيت كات” من حول أصلان ويالها من حياة على امتداد عشرين عاماً، أثارت في نفسه خواطر لم يجد بداً من تسجيلها، خواطر ألحت عليه، وظلت تلح حتى اضطرته إلى أن يقف عندها، ويطيل الوقوف، ثم إلى أن يسجلها فيحسن التسجيل، وهو يكتب روايته الرائعة في صبر وأناة، ويختار لها “يوسف النجار” بطلاً شاهداً على ما يجري في بر امبابة، بل قل بر مصر، و”يوسف النجار” هذا ليس إلا ابراهيم اصلان.

محراب الفن

في هذا الطور من حياته حين شغف بالموناليزا وابتسامتها المشعة غموضاً وسحراً، وبـ”دون كيخوتة” الفارس الحزين وتابعه سانكو بانزا كما رسمهما بيكاسو، وهما ممتطيان الأول حصاناً والآخر حماراً، وشغف كذلك ببول ڨاليري الشاعر الفرنسي ذي القلب الذكي والحس الدقيق المرهف والشعور الرقيق، والذي ظل مزدرياً للشهرة، معرضاً عن المجد، يشتهر عن رغمه، ويرقى على كره منه، ولا يبلغ من ذلك ثراء ولا رخاء.

ولعل شغفه هذا بشاعر كبير على هذا القدر من الخلق العظيم، وولعه بقصيدته الشهيرة “المقبرة البحرية” التي رأها صبياً، وغناها رجلاً، واطمأن فيها إلى آخر الدهر، لعله هو الذي جنح به إلى أن يجعل من عبارة “ڨاليري” “ياناثانيل لأوصيك بالدقة، لا بالوضوح” مقدمة لمالكه الحزين.

الغصة في تأليف القصة

هذا الشاهد الحزين لا لأنه يقعد بالقرب من مياه الجداول والغدران، فإذا جفت أو غاضت استولى عليه الأسى وأطبق عليه الصمت.

وإنما لأن حزنه الدفين راجع إلى أنه يقعد يتفرج على الماء وهو يغيض ولا يفعل شيئا.

وكم مرة واتته الفرصة كي يمنع الماء أن يغيض كي يزيد منه ويجعله يغيض ويكتسح فاعرض عنها، وأكتفى بالخمر يعبه إلى جوار النهر أو في حان.

وقصة “مالك الحزين” من ذلك النوع من الأدب الذي لا تأتي لذة قراءته من فهمه واستيعابه، وإنما تاتي من محاولة الفهم سواء توّجت المحاولة بالنجاح أم لا.

وهي، حسب ما ذهب اليه الدكتور علي الراعي في مقاله القيّم عنها، رواية متعددة الطبقات تبدأ من الواقع الأرضي المقذع في أرضيته حتى تنتهي إلى أخلية تعبيرية محلقة يمتزج فيها الحاضر بالماضي، حتى يبدو وكأن الأرض تميد، ولا شيء أكيد، فضلاً عن تأثرها بحكايات ألف ليلة وليلة موضوعاً وصياغة.

ليلة حمراء

وأفضل مثل على هذا التأثر بتلك الحكايات ما حدث بين تاجر الحشيش المسمى “الهرم الكبير” وصديقه الأسطى “عبده” السائق بإحدى السفارات و”فتحية” زوجة الأخير فالثلاثة يشتركون في القعدات الطرية ببيت الأسطى تحت رعاية الزوجة اللعوب التي تشارك الرجلين في احتساء “البيرة” وأنفاس “الحشيش” وتكيد مع الضيف “الهرم الكبير” لزوجها الذي يفاجئ الأخير مختبئاً في المرحاض منتظراً غيابه عن الوعي للاختلاء بها في الحرام.

وما يجري بين الثلاثة إثر تلك المفاجأة، هكذا يرويه “مالك الحزين” في قالب حكايات ألف ليلة أيام زمان.

ومد يده وأمسك برقبته جيداً وسأله أليس من الواجب أن يكون رجلاً ويكّف عن هذه الحركات المكشوفة وصاح أنه يعرف كل شيء.

و”الهرم الكبير” خنقه هو الآخر وقال له وهما يتمايلان داخل المرحاض “إحنا بنحب بعض على سنة الله ورسوله” وخرج الإثنان ونزلا السلم وكل منهما يمسك بخناق زميله وخرجا إلى “حارة توكل” ورقدا على بعضهما، وكل واحد حاول يخرم عين الثاني!

وفي اليوم التالي فتحية أفاقت وهاجت وضربت الأسطى بخشبة الغلية حتى جرى منها إلى الحارة وألقت وراءه بثيابه وهي “تصوت” يا”دهوتي” وتقول أنه يأتي بالناس لكي “يحششوا” في البيت!

والأسطى لم هدومه على صدره ورفع رأسه ونظر إليها وهي تتدلى من النافذة ورمى عليها يمين الطلاق.

و”الهرم الكبير” تفاوض معها من بعيد وأصبح يذهب إليها في السر بعد أن تنام الحارة كلها ويترك عندها الكيس والميزان ويدفع نظير ذلك ثلاثة جنيهات كل يوم”.

الدهشة وإلالهام

والغريب من أمر “الكيت كات” الفيلم المستوحى من كل هذا، أن صاحبه لم يكن غافلاً عن قيمة “مالك الحزين” منذ أول قراءة لها واستمتاعه بها أيما استمتاع، ولا عن امكانية ترجمتها إلى لغة السينما رغم صعوبة، بل قل استحالة ذلك في مناخ ثقافي الغلبة فيه للدمامة تسود على أيدي عديمي إلاحساس.

فعلى امتداد خمسة أعوام أو أكثر قليلاً، وصاحب الفيلم يعيش مستغرقاً في شخصياتها الرئيسية، وهي كثيرة مثيرة، كل واحدة منها تصلح بمفردها أن تكون عماداً لفيلم شيق فيه متعة للنفوس.

وأخيراً هداه شيء من إلالهام إلى التركيز على الشيخ حسني الضرير، فإذا به يجعل منه شخصية محورية يدور من حولها فيلمه وجوداً وعدماً.

وإذا به يختار لأداء دور هذا الشيخ “محمود عبد العزيز” ذلك النجم الذي أسرف في ابتذال نفسه في أفلام من نوع “أبو كرتونة” فكان اختياره موفقاً إلى أقصى الحدود.

رأس العجل

ومضى في مثل هذا، فكان أن استبعد شخصيات وحكايات لها شأن كبير في القصة مثل “الأسطى قدري إلانجليزي” الذي يعيش بذكريات أمجاده وهو يعمل خادماً للانجليز في شركة ماركوني أيام الاحتلال، حافظاً لمسرحيات شكسبير، متمرساً في تمثيل دور عطيل.

ومثل حكايته مع المقطف الذي وضع فيه رأس عجل كبير اشتراها من المذبح.

وكيف سرقها منه نشال بينما هو في الترام، عائداً بها إلى زوجته “أم عبده” التي اشتاقت إلى أكلة لحم رأس من عند زغلول بتاع السمين.

وكيف أصبح بعد ذلك أسير غيرة قاتلة من هذا البائع، وفي همّ مُقيم..

ولم يكتف بذلك، بل أدخل تعديلات وتبديلات على بعض الشخصيات، كادت تجعل منها شخصيات مختلفة تماماً عن تلك المرسومة في “مالك الحزين”.

لغة ولغة

فمثلاً “يوسف” في القصة مثقف جاوز الشباب قليلاً، كل أمانيه تنحصر في أن يكون أديباً شاهداً في يوم من إلايام، ولا تربطه بالشيخ الكفيف علاقة نسب، أو حتى صداقة لا من قريب أو بعيد.

أما في الفيلم فيوسف “شريف منير” ابن لذلك الشيخ، وليس له من أمان سوى الخروج من مصر لا إلى آبار البترول في بلد عربي شرقاً أو غرباً، وأنما إلى أوروبا أرض الأحلام.

وعن هذا التعديل والتبديل قال صاحب “مالك الحزين” في حديث له “تغيير علاقة يوسف بالشيخ حسني ازعجني جداً في البداية حين قرأت السيناريو”.

لكني بعد ذلك لم أشعر أن الفيلم غريب عن عالمي فرغم تغيير العلاقات وتسلل الأحداث فإن المكان موجود والحوار هو نفسه حوار الرواية.

فلم أشعر بأي غربة لما تميزت به المعالجة من ذكاء ويجب أن ندرك أن الحفاظ على العمل الأدبي بالكامل عند تقديمه على الشاشة أمر مستحيل.

وعلى كُلٍ، فإنني لا أتذكر إلا أفلاماً مصرية تعد على أصابع اليد الواحدة ظلت أمينة للقصة المأخوذة عنها، حافظة لروحها مثلما ظل فيلم “الكيت كات”.

النيل الوليمة

فالنيل الذي يلعب دوراً مهماً في “مالك الحزين”، ومن مياهه التي تجف وتغيض جاء اسم القصة، هذا النيل نراه في الفيلم يلعب نفس الدور بفضل مشاهد آخّاذة أجادت تصويرها عين كاميرا “محسن أحمد”، ولعل أهمها مشهد الشيخ حسني وهو يحاول إيهام ضرير آخر “الشيخ جنيد” (علي حسنين) أنه ليس مثله فاقد البصر، فيجدف ويؤرجح القارب الذي لا يتحرك لأنه مقيد إلى الشاطئ.

ويوسف، وهو مستلق على سطح قارب يتهادى به على صفحة النهر، منتعش بذكريات الغرام الذي سعد به مفترشاً أرض حجرة مغلقة مع جارة “عايدة رياض” جارة مفتونه به، أرادت الحياة أن تجعل كل شيء من أمرها غريباً حقاً.

صائد العميان

لو انتقلنا إلى مشاهد أخرى غير النيل، لوجدنا أن الحكايات التي أثارت فينا الضحك، ونحن نقرأ وقائعها الغريبة العجيبة في مالك الحزين، قد نجح صاحب الفيلم في اخراجها إلى الناس صوراً زاخرة بالحياة، طابعها رشاقة وخفه دم، قلّ أن تجود بهما معاً الأفلام عندنا.

وهنا أذكر على سبيل المثال تلك المشاهد التي نرى فيها الشيخ حسني وهو يقود ضريراً آخر في أزقة الكيت كات زاعماً له أنه بصير.

أو معه داخل دار سينما حيث يحكي له أحداثاً ليس لها علاقة بما يعرض هناك على الشاشة البيضاء، أو ممتطياً دراجة بخارية وسط ميدان مزدحم بالمارة والباعة الجائلين، أو داخل دكان مهجور “العين” يتعاطى “الحشيش” مع”شلة الأنس” حتى مطلع الفجر.

فإذا ما ألقي القبض عليه مع الشلة متلبساً، وبدأ الضابط العد للمقبوض عليهم، لم يجد للشيخ أثرا، وكأنه فص ملح وذاب.

أو في مأتم عم مجاهد بائع الفول العتيد، يفشي أسرار بيوت الحي من خلال مكبر صوت مفتوح يذيع على الملأ، فاضحاً كل مستور.

حقاً أنها مشاهد لا تنسى، لأنها تملأ النفس بهجة بإثارتها الضحك من صعلكة شيخ مكفوف بغير ابتذال.

اللقاء السعيد

ومصدر ذلك، في أكبر الظن، التقاء موهبتين في “الكيت كات”، وهو أمر لا يحدث إلا نادراً.

موهبة “أصلان” صاحب “مالك الحزين” وموهبة “داود” المخرج الذي بذل من حياته أعواماً طويلة من أجل ترجمة تلك القصة إلى فيلم يرقى إلى مستواها الرفيع.

ولقد وضع صاحب “مالك الحزين” أصبعه على سر نجاح الفيلم عندما قال في نفس الحديث: “الأهمية الحقيقية للفليم تكمن في أنه يقدم الصيغة التي يبحث عنها جيل كامل من المبدعين في السينما. فهو لا يقدم أي تنازل فني، إلا أنه يستطيع الوصول إلى الناس ببساطة واقتدار. وبالنسبة لي شخصيا فإنه أقنعني تماماً أن العلاقة الصحيحة بين العمل الأدبي والعمل السينمائي لا تقاس بمدى التماثل بينهما، وأنما بمدى عمق التعبير السينمائي عن مضمون وأجواء العمل الأدبي.”

ترى كم مبدع يمكن أن يخرج من يده كتابة مثل هذا عن فيلم مأخوذ عن قصة له جرى معالجتها سينمائياً بمثل الحرية التي أجازها لنفسه صاحب الكيت كات؟!

أفلام في المنفي

من الخير للمرء أن يتلفت من حين إلى حين إلى الوراء، إذ هو يتطلع أبداً إلى الأمام.

وهكذا، وجدتني قبل أيام، أعود القهقري إلى الماضي القريب، في محاولة مني لتصحيح حساباتي مع نفسي، ومع الناس، ومع الكائنات التي كان لها في حياتي نصيب.

وإذا بي مع “شادي عبد السلام” قبل خمسة أعوام، وهو على وشك الرحيل (8/10/1986)، وليس له من العمر سوى ستة وخمسين عاماً، وليس له من الأفلام الروائية الطويلة سوى “ليلة حساب السنين” ذلك العمل السينمائي الذي اشتهر تحت اسم “المومياء”.

وإذا بصور هذا الفيلم أمامي تتتابع بتكويناتها، وألوانها وحركة الأشخاص في عملها، وتلاحم كل ذلك بالأصوات في إيقاع جعل منها صوراً لا تصف الواقع، بقدر ما تعيد خلقه وإبداعه، وبقدر ما تدعونا إلى المشار كة في إعادة الخلق والإبداع.

الصمت المهيب

وبينما أنا في أحلامي العذاب، منتش بسحر هذه الصور التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى أي فن آخر، إذا بكلمات تظهر على شاشة الذاكرة، كلمات “محمد شفيق”، ذلك الناقد الجاد الموهوب الذي اختطفته يد المنون، وهو في مقتبل العمر لايزال، دون ضجة وضوضاء، ودون أن تقال في حقه كلمة رثاء.

وبها أراد عندما كتبها في ختام مقال نُشِر في مجلة السينما قبل عشرين عاماً أو يزيد، أن يعلن بها عن حماسه للمومياء، وكيف سوف تؤرخ السينما المصرية به باعتباره فيلماً حدثاً يسدل الستار عن مرحلة كاملة، كيما يفتح الطريق بجرأة شديدة أمام مرحلة جديدة.

طريق العذاب

غير أنه توقع له باعتباره كذلك ألا يكون طريقه مفروشاً بالورود والرياحين، وفعلاً تحقق ما توقعه له الناقد الراحل فلم يلق فيلم وصاحبه في تاريخ السينما المصرية ألواناً من الاضطهاد، مثل تلك التي عانى منها المومياء وشادي عبد السلام.

فعرضه في القاهرة ظل معطلاً بعد الانتهاء من ابداعه، زمناً طال إلى عام وبعض عام.

كما أنه لم يُعرض إلا مرة واحدة وفي دار سينما واحدة لا غير.

أما صاحبه شادي عبد السلام، فلم تتح له فرصة إخراج فيلمه الثاني الذي يحكي مأساة عمرها ثلاثة آلاف عام أو أكثر قليلاً، حياة اخناتون الفرعون الكافر الذي أقام في تل العمارنة عبادة جديدة عمادها تقديس قرص الشمس، وتكريسه إلهاً واحداً لا شريك له.

فقد ارتطم الإخراج بجدار الأفق المسدود، وظل الفيلم كذلك لا تكتب له الحياة، حتى جاء صاحبه الموت.

الخميرة الجديدة

ومع ذلك فالمومياء كان الخميرة التي راحت تفعل السحر في قلوب فئة قليلة من السينمائيين العرب، اشتاقت إلى إبداع أفلام تدرك لا عن طريق حبكة السينما التقليدية، وإنما عن طريق الصور بما تتضمنه من تفاصيل الديكور وملامح الوجوه، ووضع الكاميرا أو زاويتها وحركتها، وترتيب اللقطات عند التوليف النهائي، بحيث يجد المتفرج نفسه منقاداً إلى الصور غير العادية، التي تمر أمامه، وإلي صوت الممثلين والمؤثرات الصوتيه والموسيقى وإيقاع التوليف وانفعالات الشخصيات.

أي باختصار إبداع أفلام تخاطب الشعور بلا وسيط، تخاطب قدرته على الرؤية والسمع والاحساس.

وعلى كُلٍ، فها نحن، وبعد عشرين عاماً من خروج المومياء إلى الناس، نرى التباشير في فيلمين : “شحاتين ونبلاء” لصاحبته “أسماء البكري”، و”البحث عن سيد مرزوق” لصاحبه “داود عبد السيد”، وأول ما يلاحظ عليهما هو أنهما من ذلك النوع من الأفلام الذي لا كرامة له في وطنه، ولا حياة له إلا في المنفى تائهاً بين المهرجانات.

فهما يذكرانني، والحق يُقال، بأفلام مثل “الجياد النارية” للمخرج الأرمني “بارادجانوف” و”الطريق” للمخرج التركي المنحدر من أصل كردي “يلمز جوناي” و”القربان” للمخرج الروسي”اندرييه تاركوفسكي”.

وهي جميعاً روائع جرى اضطهادها في بلادها إما من الحكام، أو من الرأي العام.

وما كنا لنستطيع أن نراها أو حتى لنسمع بها لولا تبني المهرجانات الكبرى، لاسيما مهرجان كان.

هذا أولاً.. أما الملاحظة الثانية فتنحصر في أن الفيلمين، من ذلك النوع السينمائي الذي لا يمكن روايته، مثلهما في ذلك مثل “المومياء” و”الجياد النارية” ورائعة تاركوفسكي الأخيرة “القربان” التي أهداها إلى العالم من منفاه في السويد، قبيل وفاته بداء السرطان.

بصيص نور

والآن، إلى فيلمي “أسماء” و”داود” وبـ”شحاتين ونبلاء” أبدأ.

استوحت أسماء فيلمها من قصة “شحاتين ومعتزين” لصاحبها” البير قصيري”، ذلك الأديب الذي اختار أن يعيش بعيداً عن مصر في المهجر الفرنسي، حيث أخذ في كتابة قصصه بلغة الفرنسيس منذ أكثر من خمسة وأربعين عاماً.

والحق، أنها استطاعت أن تجعل منه مرآة سينمائية صافية صقيلة نرى فيها شخصيات القصة كما رسمها مؤلفها، أي شخصيات ساخطة على ما ترى، منكرة لما تشهد، عاكفة على نفسها، تتسلى بلا مبالاتها وراحة بالها، عما يجري حولها من خطوب وصلت إلى الذروة بقنبلتين ذريتين تلقيان غدراً على هيروشيما ونجازاكي في اليابان.

وأحداث الفيلم تجري في زمن غير زماننا، إبان الحرب العالمية الثانية، والقاهرة تعج بجنود الاحتلال، وفاروق ملك مصر والسودان.

سحر البعث

ولا أستطيع إلا أن أقول إنني في كل مرة أتيحت لي فيها مشاهدته، كان لي شيء من السحر في منظر القاهرة القديمة بأزقتها وحواريها، ومقاهيها ومآذنها فقد رأيتها كما كان عهدي بها وأنا في ريعان الشباب، تبعث أمام نظري، وقد كادت اليوم أن تختفي لتصبح في خبر كان.

ومن الأكيد أن كل هذا البعث والسحر ما كان ليحدث، لولا أن ثمة شاعراً ممسكاً بآلة التصوير “رمسيس مرزوق” وثمة ديكوراً من إبداع فنان صاحب عين بريئة لم يبتذلها سوء الأفلام “أنسي أبو سيف”.

وبداهة لولا أن ثمة مخرجة تحسن الاختيار وهنا أقف قليلاً عند اختيارها الرائع لواضع الموسيقى التصويرية “مصطفى ناجي” لأقول أنه استطاع أن يضع موسيقى مقتصرة بلا ضجيج، لعلها من الأمثلة النادرة عندنا التي تلعب فيها الموسيقى التصويرية دوراً باعتبارها عنصراً أساسياً في البناء الدرامي.

الكمال في التفاصيل

ومن الأكيد كذلك أنها كانت موفقة كل التوفيق في اختيار جميع الممثلين الكبير منهم والصغير على حدٍ سواء فـ”صلاح السعدني” في دور “جوهر” الأستاذ العبثي المتشرد، القاطع بالقتل لكل الأواصر التي تربطه بماضيه الزائف.

و”محمود الجندي” في دور “الكردي” الموظف الصغير الهارب من كآبة الأيام، المحتج بالكلام ولا شيء إلا الكلام و”أحمد آدم” في دور “يكن” الصعلوك الدميم المدمن الشاعر الساخر بكل شيء.

و”عبدالعزيز مخيون” في دور “نور” ضابط الشركة الشاذ المكلف بتحقيق جريمة قتل “أرنبة” بائعة الهوى في ماخور الست أمينة.

هؤلاء الأربعة الكبار، وبخاصة “السعدني” و”آدم” قد برزوا في تلك الأدوار ممثلين عظاماً أما أصحاب الأدوار الصغيرة، فلا أحد منهم بداءًا من ذلك المجهول “أرمة” الشحاذ المقطوع الرجلين واليدين، ومروراً ببائعات الهوى والمترددين عليهن زبائن الماخور، ثم انتهاء بالمخبرين الساهرين على حماية النظام، إلا واتقن الدور المسند إليه، بأن لم تصدر عنه حركة أو نبرة فيها غلط أو نشاز.

يبقى أن أقول أن “أسماء” صاحبة “شحاتين ونبلاء” قد عنيت بالتفاصيل أشدّ عناية، وهو أمر نادر فيما يصنع عندنا من أفلام.

التأثير الحميد

فإذا ما انتقلنا إلى الفيلم الثاني “البحث عن سيد مرزوق” فسنجد أنفسنا أمام عمل سينمائي غير مأخوذ عن أي عمل أدبي، وذلك على عكس الحال بالنسبة لفيلم “أسماء”.

ومخرجه “داود” هو صاحب “السيناريو” الذي أراه متأثراً إلى حد كبير بشخصية كل من “ك” في “المحاكمة” قصة الأديب التشيكي الشهير “فرانز كافكا” و”بول هاكيت” البطل الضائع في فيلم “بعد ساعات العمل” لصاحبه المخرج الأمريكي “مارتين سكورسيزي” وهو واحد من أهم مبدعي الأفلام في مصنع الأحلام.

وبداهة أن التأثر الذي من هذا القبيل لا يعيب فيلم “داود” بل يزيده قدراً.

العزلة الجميلة

وبطل “البحث” ليس “سيد مرزوق” الذي قام بتقمص شخصيته بتفوق منقطع النظير “على حسنين” وإنما “يوسف – كمال” (نور الشريف).

إنه رجل لم تتقدم به السن، ولكنه قد جاوز الشباب شيئاً.

وقد اعتزل الناس إثر الاشتراك في إحدى المظاهرات، التزاماً بنصيحة أحد المخبرين له بالعودة إلى بيته حيث الأمن والأمان.

وذات صباح، أفاق من نومه مذعوراً، فجرس المنبه لم يرن كالمعتاد، وموعد الذهاب إلى العمل قد حان.

وها هو ذا على سلم البيت يهرول هابطا.

وبينما هو في الطريق، يكتشف أن اليوم إجازة رسمية، فيثوب إلى نفسه حائراً أول الأمر، ثم مقرراً مواصلة الرحلة، متحرراً من سجن العزلة حيث يعيش أو بمعنى أصح لا يعيش.

عودة الماضي

وما لبث أن التقى في كازينو مطل على النيل “بسيد مرزوق” وهو رجل بدين واسع الثراء، جاءه المال والجاه عن أب كان واسع الحيلة والدهاء عندما نجح في إخفاء خمسين مليون جنيه من الذهب الخالص أيام التأميمات الكبرى.

ومعاً ذهبا إلى مقابر العائلة المالكة حيث نصبت خيمة من الملاءات استنشق “سيد مرزوق” داخلها الدخان المتصاعد من الحشيش.

ثم إلى حمام سباحة بقصر “سيد مرزوق” المنيف ومنه إلى عربة مرسيدس فارهة في صحبة جوقة من العازفين ومطربة “لوسي” عليها ألا تنقطع عن الغناء.

نهاية كلب

وسرعان ما يجد “يوسف” نفسه متهماً بالقتل بموجب شهادة زور من “سيد مرزوق”، وبالتالي مطارداً من شرطة لا ترحم.

ولا يزال كذلك مطارداً، منهكاً جريحاً، حتى نراه يقفز من نافذة ليسقط في صندوق قمامة، يحمل منه إلى عربة قمامة، إلى أن تنتهي به رحلة العذاب مرة أخرى إلى قصر “سيد مرزوق” حيث تجري أحداث تملأ النفس حيرة وشوقاً وإلحاحاً.

ولم أعرض شيئاً من تفصيلات الفيلم الذي أبدع تصويرة الفنان “طارق التلمساني”، وأحكمت توليفه “رحمة منتصر”.

وإنما عرضت خلاصتها في كثير من الايجاز، ولو  قد عرضت تفصيلها، لتنقلت من لغز غامض إلى لغز أكثر منه غموضاً، ومن رمز خفي إلى رمز أشد منه خفاء.

وإذا سألنا عما أراد إليه المخرج بفيلمه هذا الرائع، فأكبر الظن، أنه إنما أراد إلى أن يصور مصير الإنسان السلبي الضائع داخل مجتمع تزداد فيه العلاقات تعقيداً واضطراباً على مرّ الأيام.