درب الهوي بين الصحافة والثقافة

ثلاثة أحداث سينمائية، أرى من المفيد أن أقف عند كل واحد منها، ولو قليلاً.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما جنحت إلى القول بأن الحدث الذي يحتل مكان الصدارة بينها هو عودة “درب الهوى” إلى الشاشات الكبيرة بعد غياب اجباري عنها دام زهاء ثمانية أعوام.

وتلك المنزلة لا ترجع إلى أنه عمل سينمائي هام جدير بالحماس، فهو: والحق يقال، ليس كذلك بأي حال من الأحوال ولا إلى أن موضوعه من تلك الموضوعات الخادشة للحياء، بحكم أن وقائعه تجري من أولى اللقطات وحتى مشهد الختام في ماخور تباع فيه وتشترى الأجساد.

ولا إلى وجود حشد هائل من نجوم السينما المصرية، أذكر منه على سبيل المثال لا الحصر “مديحة كامل”، “يسرا”،”شويكار”، “أحمد زكي”، “محمود عبد العزيز”، “فاروق الفيشاوي”، والمرحوم “حسن عابدين”. الذي قام بأداء دور الباشا المولع بأن يهان، فأهين على صفحات الجرائد حتى مات.

توقيع “مصري” جوهره الاعتراض على الفيلم بمقولة أنه يسئ إلى سمعة البلاد، ودعوة الوزير إلى التدخل بمنع عرضه فوراً حماية لتلك السمعة من الضياع.

وبدلاً من الامتناع عن الاستجابة لما يدعو اليه ذلك المقال، حماية لفيلم سبق لإدارة الرقابة التابعة لوزارة الثقافة أن رخصت بعرضه عرضاً عاماً، إذا بالوزير يسرع بالاستجابة، ويأمر بمنع الفيلم، ولما تمض على المقال المجهول الصاحب إلا ساعات معدودات. وإذا بالرقابة مذعنة، مستسلمة، لا تدافع عن قرارها المتهم بعرض فيلم مسئ إلى سمعة البلاد، مفسد للعباد، وإذا بها تهرول مسرعة، وبعد ثلاثة أيام لا تزيد من نشر المقال الحامل للاتهام، فتصدر قراراً ساحباً لترخيص الفيلم والمقدمات الخاصة به، وكذلك التراخيص المكملة “سيناريو أو فيديو”.

الكذبة الكبرى

ومن عجب تذرعها، تبريراً لقيامها بإصدار القرار الأخير، بما جاء في ذلك المقال من أن الفيلم قد أحدث انطباعاً سيئاً لدى الجماهير.

ناسية أو متناسية أنه ليس ثمة أي دليل على وجود هذا الانطباع السيئ المزعوم، اللهم إلا إذا استثنينا ذلك المقال اليتيم الذي فجّر الموقف، وهو بمفرده لا يصلح بطبيعة الحال دليلاً أو مقياساً للرأي يبرر ذبح الأفلام.

وما أريد أن أذكر تفصيلاً قصة الفيلم بعد ذلك مع الصحافة، ومع لجنة التظلمات، وأخيراً مع القضاء.

وإنما يكفي أن أقول أن الصحافة باستثناء نفر قليل من نقاد السينما يعد على أصابع اليد الواحدة، هللت وكبرت فيما يشبه الاجماع لمنع “درب الهوى”.

وفاتها أنه ليس مما يدخل ضمن مهام الصحافة التهليل والتكبير لمنع الأفلام، وإنما التحذير من خطر ذلك على حرية التعبير.

القانون في أجازة

أما لجنة التظلمات التي ذهب إليها أصحاب “درب الهوى” ملتمسين إلغاء قرار الرقابة الساحب لترخيص فيلمهم (29/8/1983). فقد قررت بجلستها المنعقدة في نفس عام المنع، وبالتحديد في الثاني من أكتوبر 1983، إلغاء قرار الرقابة المتظلم منه، وجواز عرض الفيلم بعد حذف المشاهد.

ولقد كان المتوقع بعد القرار الأخير، وهو قرار إداري نهائي صادر من لجنة إدارية ذات اختصاص قضائي، وبهذه المثابة يدخل في عداد القرارات واجبة النفاذ مثله في ذلك مثل الأحكام، أن تعود الرقابة إلى الحق، فتعيد إلى “درب الهوى” حقه في العرض العام.

ولكن شيئاً من هذا لم يحدث واستمرت الرقابة في غيّها مؤثرة ألدّ الخصام.

وإزاء ذلك لم يكن أمام أصحاب الفيلم سوى طريق اللجوء إلى مجلس الدولة حيث تعثرت دعواهم المرفوعة ضد المنع داخل متاهات ودرجات سفلى وعليا حتى وصلت بعد عناء شديد إلى المحكمة الإدارية العليا التي حكمت بجلستها المنعقدة في 26من يناير 1991 بإلغاء قرار الرقابة السلبي بالامتناع عن تنفيذ قرار لجنة التظلمات الصادر في الثاني من أكتوبر1983، أي بحق “درب الهوى” في أن يعرض على الشاشات عرضاً عاماً.

وهكذا ظل الفيلم ممنوعاً زهاء ثمانية أعوام لا لسبب سوى صحافة نسيت أن رسالتها الأولى تنحصر في الدفاع عن حرية التعبير، ووزارة ثقافة غاب عن موظفيها أنها ما انشأت إلا لحماية الفنون، ورقابة آثرت راحة البال على الدفاع عن قراراتها الصادرة في حدود ما رسمه القانون. تلك هي الصورة باختصار، وهي تروع لأنها تكشف عما آل إليه حال السينما عندنا، بل قل حال كل الفنون.

عسكر وحرامية

وهنا، أرى من المناسب أن انتقل بالحديث إلى الحدثين الآخرين، وهما “اللعب مع الكبار” ،”ورغبة متوحشة”، وكلاهما يقوم على سيناريو من إبداع “وحيد حامد”.

ويلاحظ على الفيلم الأول “اللعب مع الكبار” أن الروح التي تسري فيه وتسوده، هي روح تمجيد الشرطة في خدمة الشعب.

فهو يرفع من شأن المرشدين والمتصنتين حتى يتحول بهم في النهاية إلى أبطال وشهداء.

ولا يكتفي بذلك، بل يشكك في جدوى المؤسسات الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، وبالتحديد مجلس الشعب، وذلك بتسليط الأضواء على الحصانة الممنوحة لاعضائه بحكم الدستور، وكيف أنه يساء استعمالها حماية لمهربي الهيروين.

والغريب أن يكون كل هذا التمجيد والتشكيك بقلم وحيد حامد كاتب سيناريو “البرئ” ذلك الفيلم الذي أحدث بجرأته دوياً، لا تزال أصداؤه تتردد حتى يومنا هذا.

ولا تفسير عندي لهذا التحول الفريد إلا في غلبة فلسفة الكم على ابداعه، فضلاً عن جنوحه إلى النقل والتقليد، آية ذلك العلاقة بين المتشرد المرشد “عادل إمام” وضابط المباحث “حسين فهمي” تلك العلاقة التي تزداد توثقاً مع تصاعد الأحداث، وأراها قريبة الشبه بعلاقات من هذا النوع كثيراً ما نشاهدها في العديد من الأفلام الأمريكية التي تقوم على تمجيد المباحث الاتحادية ورجالها المضحين براحتهم وأحياناً بحياتهم من أجل أمن وأمان المواطنين.

ولعل أشهر تلك الأفلام “48ساعة” الذي أدى فيه “نك نولتون” و”إيدي ميرفي” دوري الشرطي والمتشرد الأسود، وكان سبباً في شهرة الأخير وصعوده إلى مرتبة النجوم.

وعلى كُلٍ، فلولا “شريف عرفة” صاحب “اللعب مع الكبار”، وأسلوبه في الإخراج المتميز بخفة الروح، لولاه ما نجح الفيلم، ولكان سقوطه مدوياً.

وإذا كان هذا هو حال “اللعب مع الكبار” فإن حال فيلمه الثاني “رغبة متوحشة” أكثر سوءًا وأضل سبيلاً.. لماذا؟

لعب عيال

لأنه يقوم على سيناريو أقرب إلى الهراء منه إلى أي شيء آخر، اختلط فيه الحابل بالنابل، واتسع فيه الخرق حتى أصبح لا يصلح فيه أي ترقيع سواء بإخراج سينمائي له وزن “خيري بشارة” صاحب “الطوق والأسورة”، و”كابوريا”، أو بتصوير جميل بفضل كاميرا تقف وراءها عينا الفنان القدير “سمير فرج”، أو تمثيل نجمة جماهير تنتهي بها الخطوب ذبّاحة للرجال، أو هز وسط إثارة للغزائز واستجابة لتوقعات المتفرجين، أو قفزات باليه على نغمات “كارمينا بورانا” للموسيقار كارل اورف، وذلك استرضاء لصفوة المثقفين.

باختصار “رغبة متوحشة” يعد واحداً من تلك الأفلام التي لا تصدر عن سلامة التقدير من البدء وحتي المنتهى.

فليس من سلامة التقدير في شيء أن يدور الفيلم حول ثلاث نساء. أم ناهد “نادية الجندي”، وابنة “حنان ترك”، وعمة عانس “سميحة” “سهير المرشدي” اخترن أن يقمن في مكان ناء، وسط الصحراء، حيث لا عاصم لهن سوى رحمة السماء، وحيث يتعيشن من رعي الماعز ولا شيء إلا الماعز.

أما لماذا الماعز دون سائر الأغنام فهذا مالم استطع أن أجد له، حتى كتابة هذه السطور، سبباً.

المنطق الغائب

وهل من سلامة التقدير والذوق أن يترك لنجمة الجماهير حق اختيار ما ترتدي من ثياب بلا رقيب أو حسيب فإذا بها وهي راعية ماعز أو صاحبة قطيع على أكثر تقدير، سيدة صالون عايقة، صُفّ شعرها وكأنها خارجة في التو واللحظة من أحد محلات التزين الكبري، واكتسى جسدها بما غلا ثمنه من آخر صيحات بيوت الأزياء.

وكيف يكون من سلامة التقدير بأي معيار يقع عليه الاختيار، أن نجمة الجماهير ترتدي في إحدى اللقطات ملابس الفرسان، مما يوحي بأنها ستمتطي فرساً.

فإذا بنا نراها، وهي بتلك الملابس ممتطية حماراً، وكذلك الحال بالنسبة لابنتها راقصة البالية ـ أين تعلمته وقد رحلت بها الأم، وهي لا تزال طفلة، إلى الصحراء بعيداً عن العمران، قبل خمسة عشر عاماً.

ومهما يكن من الأمر، فتلك الابنة لا تكاد تقول “لسيد غزال” “محمود حميدة” وهي معه على شاطئ بحر ظهر أمامنا فجأة دون مقدمات، أنها وأمها وعمتها أشبه بأهل كهف في انفصالهن عن العالم، حتى تخلع فساتينها، لتكشف عن لباس بحر لا تقع عليه العين إلا في أرقى البلاچات.

يبقى أن أقول أن فيلماً هذا هو حال السيناريو القائم عليه، سيناريو غير متقن، عير محكم البناء، بينه وبين المنطق واستقامة التفكير بون شاسع وأمد بعيد.

وهذا هو حال شخصياته، فلا هي رسمت بتأن وامعان، ولا هي تتحاور مثل الناس العاديين، وإنما يغلب على حواراتها الافراط في الادعاء.

فيلم بمثل هذا الحال، لا يتوقع لممثليه أن يحسنوا الأداء.

ومن هنا التقهقر في التمثيل حتى غلب عليه الالحاح والمبالغة المسرحية في بعض الأحيان، والتهريج الكاريكاتوري في أكثر الأحيان.

رحلة مع الأطياف في مدينة النور

كانت لقاءاتي بباريس على امتداد أربعة وعشرين عاماً، لقاءات غريب بغريبة. ولكني وجدتني في لقائي الأخير بها، وكأني ألتقي بأصدقاء قدامى.

وهذا الاحساس قد يكون منشؤه اكتشاف أنها ودون مدن العالم جميعاً العاصم الوحيد لفن السينما.

فأينما كنت أولي وجهي قبل المشرق المغرب، كنت أجد داراً أو أكثر تعرض الأطياف.

أجدها في كل حي من أحيائها القديم منها والحديث.

وأجدها متناثرة كالنجوم ترصع جبين الشانزليزية وهو يشق طريقه في جمال وجلال من هرم متحف اللوڨر، وحتى قوس نصر الدفاع.

حارس الذاكرة

وأجدها في معهد العالم العربي المطل على نهر السين حيث جرى تكريم “كمال الشيخ” بعرض عدد من أفلامه بدءًا من “حياة أو موت” وانتهاء بـ”قاهر الزمان”.

وفي قصر شايو حيث مكتبة هنري لانجلو حارس ذاكرتنا السينمائية، بجوار نافورات برج ايڨل.

وفي متحف بومبيدو للفن الحديث حيث تجري الآن وحتى منتصف أكتوبر القادم عروض السينما الاسترالية بدءًا من عام 1918 وحتي يومنا هذا.

وتحت الأرض في مركز الهال حيث جرت للمرة الأولى عروض لجميع أفلام تظاهرات مهرجان كان الاخير فيما عدا

القاهرة المنورة

وبطبيعة الحال، كان من بين هذه الأفلام “القاهرة منورة بأهلها” لصاحبه الروائي “يوسف شاهين” ذلك الفيلم الروائي القصير الذي أثار افتتاح “أسبوعي المخرجين” به ضجة كبرى مفتعلة لاتزال أصدائها ترن في الآذان.

بل أستطيع أن أقول أني وجدتها في ميدان ايطاليا حيث رأيت المستقبل، رأيته في أكبر سينما في العالم تشيد حالياً احتفالاً بمرور مائة عام على أول عرض سينمائي (28/12/1895) جرى بفضل الأخوين لوميير في الصالون الهندي بالمقهى الكبير المطل على شارع كابوسين الواقع في قلب مدينة النور وحتي في مدينة ــــــــ الصناعية على مشارف ضواحي باريس وجدتها لا في شكلها القديم المعتاد، وأنما في أشكال جديدة مبتكرة، لعل أهمها دار”جيود” بقبتها الفضية تعكس ما حولها من مبان وأشجار وأضواء، وبشاشتها نصف الكروية تشغل مساحة ألف متر مربع، مما يتيح للعين أن تستبعد كل ما ليس له علاقة بمشاهد الفيلم المعروضة حولها بطريقة “أومني ماكس” على شاشة هائلة تصل في الارتفاع إلى حوالي ستة أدوار.

الوليمة الكبرى

وعلى كُلٍ، فمن المؤكد.. الآن أن ما يعرض أسبوعيا على الشاشات الكبيرة إنما يصل إلى ثلاثمائة فيلم أو يزيد، منها القديم مثل الرائعة الصامتة “متروبوليس” (1926) لصاحبها المخرج الألماني “فريتز لانج” و”امرأة بلا شرف” (1931) ثان فيلم تمثله النجمة الأسطورة “مارلين ديترش” في هوليوود.

ومنها الجديد المبتكر مثل ذلك الفيلم القصير الذي لا تزيد مدته على بضع دقائق، ويجري عرضه في صالة صغيرة متحركة “سينمكس” من ستين مقعداً، أقرب في معمارها إلى سفينة فضاء منها إلى أي شيء آخر.

أما السينما الايطالية التي كانت أفلامها حديث العالم أيام “دي سيكا” و”روسيلليني” و”فيسكونتي” و”بازوليني” هذه السينما يكاد ألا يكون لها ذكر الآن.

وكذلك الحال بالنسبة لما كان يوصف بالسينما الوطنية في شرقي أوروبا. لقد أصبحت هي الأخرى في خبر كان.

ولو سار الحال على هذا المنوال، لانتهى الأمر إلى هيمنة هوليوود على السينما العالمية في كل صغيرة أو كبيرة.

ولست أدري لماذا وجف قلبي لهذا الخاطر، هل لمجرد الاحساس بأن السينما الوطنية على وشك الانقراض، ستبتلعها لُجّة السينما الأمريكية الغنية القوية بفضل آخر مبتكرات العلم الحديث في دنيا صناعة الأطياف، وهو علم ما أوتينا منه إلا أقل القليل، ومع ذلك تعمل قوى الظلام والتخلف على حجب نوره عنا، لا لشيء سوى أنها لا ترى في الفن السابع إلا ضلالاً.

ويخيل إليّ في ضوء ما هو معروض من أفلام أن السينما الامريكية متفوقة حتى على السينما الفرنسية في عقر دارها.

وهنا قد يكون من المفيد أن أشير إلى “الرقص مع الذئاب” ذلك الفيلم المتوج بسبع جوائز أوسكار، لأقول أنه أنجح الأفلام المعروضة وآية ذلك مجاوزة ما بيع من تذاكره رقم المليون بكثير.

ومن الحق لهذا الفيلم أن يوصف بالبساطة التي تثير البهجة والإعجاب.

ومن ظواهر إعجازه الفني أن مدة عرضه وهي ثلاث ساعات تمر وكأنها دقائق معدودات.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أنه أول فيلم في تاريخ السينما تدمع فيه العيون لمصرع ذئب برصاصات تنطلق من بنادق جنود بيض في لهو وعبث ومجون.

والحديث عن الرقص مع الذئاب يسحبنا إلى الكلام عن الأفلام الأخرى التي كانت مرشحة لأوسكار سواء فازت بها أم لا.

والشيء المحقق بالنسبة لها أنها جميعاً وبلا استثناء لم يكن لها حظ من النجاح مثل حظ “الرقص مع الذئاب” بل أن أحدها، وهو “الأب الروحي” جزء ثالث قد باء بفشل ذريع.

الشذوذ والانحراف

وباستثناء “قمر بارد” للمخرج والممثل “باتريك بوشيتي” و”شرائح لذيذة” للمخرجين “دي جينبه” و”كارو” وهما فيلمان فرنسيان قوامهما الغلو في عرض كل ما هو شاذ، مفسد للصلات، باستثنائهما فمن العسير العثور على فيلم فرنسي جديد متميز بشيء فني يسترعي الانتباه بحيث يستدعي وقفة ولو قصيرة.

والامر بالنسبة للسينما الأمريكية على العكس من ذلك تماماً.

فما أكثر افلامها التي تتصف بالبراعة الفنية، وما أكثر أفلامها التي تحفل بالحياة الواقعية.

وكم كنت أود لو استطعت أن أقف، ولو قليلاً، عند بعض ما هو متفوق منها تفوقاً ظاهراً، كأن أعرض لقصة الأم “انجليكا هوستون” التي انتهى بها الأمر إلى قتل ابنتها طلباً للنجاة في المنحرفين، ذلك الفيلم الذي أبدعه المخرج الانجليزي ستيفن فرير صاحب “العلاقات الخطرة” رائعته التي أخرجها قبل ثلاثة أعوام.

أو لقصة عاملة بمطعم أكل سريع في سن اليأس “سوزان ساراندون” في فيلم “القصر الأبيض” لصاحبه المخرج “لويس ماندوكي” وكيف نجحت بحرارة جسدها وروحها، أن توقع في شباكها فتى يهودياً “جيمس سبيدر” من أبناء الأكابر.

شاي في الصحراء

او لقصة الأديب الأميريكي “بول باولز” “السماء الواقية” كما أخرجها في لغة السينما “برناردو برتولوتشي” صاحب الامبراطور الأخير.

وكما صورت أحداثها كاميرا “فيتوريو شتورارو” في المغرب وصحرائه الكبرى، حيث نسمع بين الحين والحين آي الذكر الحكيم، والمؤذنين، وكوكب الشرق تغني دليلي احتار، ومطرب الملوك والأمراء يخاطب الراقدين تحت التراب، ومواويل في مدح الرسول يتردد صداها عبر أصوات صمت الصحراء.

كم كنت أود أن أحكي تفصيلاً كل هذه القصص وغيرها كثير مثل مأساة مغني الروك “جيم موريسون” كما يمثلها “قال كيلمر” في فيلم “اوليفر ستون” الأخير المسمى باسم فرقة المغني المذكور”دورز” (أبواب).

أو مغامرة ضابطة المباحث “كلاريس” مع هواة القتل الملتاثين كما تمثلها “جودي فوستر” في “صمت الخراف” رائعة المخرج الصاعد “جوناثان ديم”.

أو تحولات “اليس” (ميا فارو) المتمردة على نفاق مؤسسة الزواج في فيلم “وودي آلن” الأخير.

ولكن ما باليد حيلة لضيق المكان والزمان والآن إلى فيلمين أرى التريث عندهما ولو لثوان والفيلمان هما “حمى الأدغال” و”تيلما ولويز” وكلاهما من أفلام مهرجان كان.

البيض والسود

والأول صاحبه المخرج الأسود “سبايك لي” وهو من بين الأفلام التي كانت قاب قوسين أو أدنى من النخلة الذهبية الجائزة الكبرى للمهرجان.

غير أن لجنة التحكيم، ومن بين أعضائها المخرج التونسي “فريد بوغدير” صاحب “الحلفاويين” اكتفت بمنح الفيلم جائزة أحسن ممثل مساعد “سامويل جاكسون”.

وهي جائزة استحدثت تعويضاً له عن حرمانه من الجائزة الكبرى أو أية جائزة أخرى ذات قيمة تذكر.

يعنفون بالحيوان الأعجمي لا لشيء إلا لأنهم بيض، ولأن خصومهم سود.

كما يقول أن النظام القائم على هذا الاستعلاء إذا شذ عنه شاذ، فالبيض والسود ينكرونه ويقاومونه بوحشية منقطعة النظير.

النساء

اما”تيلما ولويز” لصاحبه المخرج الانجليزي “ريدلي سكوت” فقصته غريبة كل الغرابة.

إنها تدور تحول امرأتين إحداهما متزوجة “جينا ديفيز” والأخرى عانس تعمل في مطعم “سوزان ساراندون” نجمة “القصر الابيض”. وفجأة تدفعهما ظروف خارجة عن إرادتيهما إلى التمرد على عالم الرجال.

وتتتابع الأحداث متصاعدة إلى أن تنتهي بهما إلى ما يشبه الانتحار.

والفيلم مأخوذ عن سيناريو بقلم واحدة من بنات حواء “كولي خوري”. وهي تريد أن تقول بواسطته أن المرأة تعيش حياة كلها ذل واضطهاد مثلها في ذلك مثل السود وأقليات أخرى.

وأنها إنما تكذب وتسرق وتقارف أثاماً لا تحصى، لأنها تخاف خوفاً منكراً متصلاً، يدفعها إلى ضروب من التمرد لا تكاد تخطر لأحد منا على بال.

يبقى أن أقول أن الفيلمين قد أحدثا ضجة كبيرة حيثما جرى عرضهما، لعلها تفوق الضجة التي أحدثها فيلم “شاهين” الأخير، تفوقها بكثير.

!! مواطن مصري.. واقعية عفا عليها الزمان

ترددت كثيراً.. هل أكتب عن أفلام الأعياد، وكيف أن سيناريوهات أربعة منها قد انفرد بإبداعها كاتب واحد، وكيف أن هذا ولا شك مما يدخل في باب الخوارق والمعجزات.

أم عن مهرجان الفيلم الأفريقي الذي جرت عروضه في قاعة ايوارت التذكارية بالجامعة الأمريكية. وكان من بينها “الكاميرا الأفريقية” (1983)، ذلك الفيلم الوثائقي الهام الذي أرّخ فيه المخرج التونسي “فريد بوغدير” لسينما الأفارقة السود على امتداد عشرين عاماً بدءًا من ميلادها عام 1963 بفضل المخرج السنغالي الرائد “عثمان سيمبين”.

أم عن المهرجان الأول للفيلم الأوروبي لعام 1991 الذي اشتركت فيه كل دولة من دول المجموعات الأوروبية بفيلم أو أكثر: ذلك المهرجان الذي أريد له أن يفتح آفاقاً واسعة لتعزيز العلاقات بين الجماعة الأوروبية ومصر بكل ما تملكه من تراث حضاري، وباعتبارها الشريك الثقافي المتميز لتلك الجماعة وفوق أرضها بدا الحوار العربي الأوروبي المثمر البنّاء.

أم اكتفي بمواطن مصري، اكتب عنه بوصفه آخر أفلام عميد السينما العربية، وأول عمل سينمائي مستوحى من إحدى روايات الأديب “محمد يوسف القعيد”.

وظللت هكذا متردداً حائراً، إلى أن أُتِيح لي أن أشاهد أحد أفلام مهرجان الفيلم الأوروبي”كاووس” ويعني “فوضى” في لغة أهل اليونان.

وفي الحق، فما أن انتهى استمتاعي بقصص “كاووس” الخمس وهي تحكي بأسلوب سينمائي فريد، حتى جنح بي الخيال إلى المقارنة بينه وبين “مواطن مصري”.

فكلا الفيلمين مأخوذ عن عمل أدبي، الأول عن مجموعة “قصص قصيرة لمدة سنة” للأديب الايطالي الشهير “لويجي بيرانديللو” والثاني عن “الحرب في بر مصر” للقعيد.

وكلاهما أبطاله من الفلاحين المعذبين إما في ريف جزيرة صقلية، أكثر أجزاء ايطاليا تخلفاً وفقراً أو في ريف مصر حيث السيادة على مر العصور للفقر والجهل والمرض.

وكلاهما من إبداع مخرجين كبار، فالأول صاحباه الشقيقان “باولو” و”فيتوريو تافياني” اللذان يخرجان الأفلام معاً منذ ثلاثين عاماً أو يزيد.

وقد فاز فيلمهما “أب وسيد” بالنخلة الذهبية، جائزة كان الكبرى ( 1977).

كما فاز فيلم آخر لهما “ليلة القديس لورنزو” بجائزة التحكيم في نفس المهرجان، فضلاً عن الترشيح للأوسكار( 1982).

أما الفيلم الثاني “مواطن مصري” فصاحبه “صلاح أبو سيف” وكفى.

بغير حياء

وفي البدء تشككت في عدالة المقارنة بين الفيلمين، فالامكانات التي في تناول السينما الايطالية أكبر بكثير مما هو متاح منها للسينما عندنا.

هذا إلى أن”بيرانديللو” المأخوذ عن قصصه الفيلم الايطالي، مع بعض التحريف من أدباء قمة الأوليمب المبشرين بجائزة نوبل.

في حين أن”القعيد” من الأدباء المنتمين إلى بلد من العالم الثالث، كان فن الرواية فيه إلى عهد قريب لا يزال في مرحلة التكوين.

وكان من الطبيعي أن أفكر في هذا كله.

غير أني سرعان ما قهرت الشك حين تذكرت أن “كاووس” لم يكلف صاحبيه من المال إلا القليل، فهو فيلم بلا نجوم، وأغلب مشاهده جرى تصويرها خارج الاستديوهات.

وعلى العكس من ذلك تماماً “مواطن مصري”، فهو فيلم قائم على نظام النجوم، ويعتبر من أفلام الانتاج الكبير التي ينفق عليها الكثير من عزيز الدولارات.

وحين تذكرت أيضاً أن “بيرانديللو”، ولئن جرى تتويجه بنوبل (1934)، وله في تجديد الأدب العالمي دور عظيم، فالقعيد هو الآخر واحد من الأدباء الذين تغلب على أعمالهم الروائية صيغة التجديد والكسر للجمود، انطلاقا نحو آفاق ليس من المعتاد الارتياد لها فيما تخطه عندنا الأقلام من روايات.

هذا إلى أن شهرته تفوق شهرة “بيرانديللو” وقت قيام الأخير بنشر مجموعة قصصه المأخوذ عنها “كاووس” قريباً من نهاية القرن الماضي، آية ذلك ترجمة الكثير من أعمال “القعيد”، وبالتحديد “يحدث في مصر الآن” إلى العديد من لغات العالم شرقاً وغرباً.

رقة وغلظة

وعلى كُلٍ، فأول ما يسترعي الانتباه في قصص “بيرانديللو” الخمس المستوحى منها “كاووس”، وهي “الابن الآخر”، “مرض القمر” “الجرّة”، “الراحة” و “حديث مع الأم”، أن مؤلفها يقترب من شخصياتها، وهو على استحياء شديد، فضلاً عن أنه يكن لها الاحترام ويشفق عليها بسبب معاناتها من جراء مشاق وآلام العمل في الأرض وما ينجم عن ذلك من احباطات وعذابات.

وما يسترعي الانتباه علاوة على ما تقدم، ذلك الدور الكبير الذي تلعبه المرأة في تلك القصص.

فهي في أولاها أم مجنونة تكره ابنها المتعلق بها لأنه جاءها اغتصابا وفي انتظار رسائل من ولديها الشرعيين اللذين هاجرا إلى أمريكا قبل أربعة عشر عاماً، رسائل لا تصل أبدا.

وهي في آخر القصص أم حنونة يسترجع المؤلف “بيرانديللو” مع طلفيها حكاية هروبها مع أسرتها من الجزيرة طلباً للنجاة من الثوار في فلك بشراع أحمر أقرب إلى أساطير الأولين.

وهي في القصص الأخرى تارة زوجة ترغب في خيانة زوجها الفلاح المصاب بجنون القمر، ولو مرة واحدة، فلا تشاء لها الاقدار.

وتارة ابنة تحاول دون جدوى اقناع أبيها الدوق صاحب الضياع منح الرعاة المتمردين قطعة أرض لإقامة مقابر عليها تكون مثوى لهم أخيراً.

وتارة نساء عاملات يشاركن أزواجهن النضال ضد جشع مالك مزرعة زيتون، وصل جبروته إلى حد العمل على ابقاء حرفي ماهر داخل جرّة كبيرة محبوساً.

غياب الحب

أما رواية “القعيد”، فهي تدور حول مأساة شاب فلاح أجبره الفقر على تقمص شخصية ابن عمدة القرية للذهاب بدلاً منه إلى الجيش حيث أرسل إلى جبهة القتال، وإذا به يستشهد، ولا يعود إلى القرية إلا جثة.

وأول ما يلفت النظر بعد الانتهاء من قراءتها، هو غياب عاطفة الحب التي تجمع بين رجل وامرأة، كأنما أصبح هذا الحب شيئاً ثانوياً يجب أن يتراجع إلى الوراء، حتى لا يشغل به بال من وهب نفسه لدراسة مشكلات الوطن ومحاربة الظلم والاستعمار.

ويبدو أن هذا الغياب قد لفت نظر “محسن زايد” صاحب سيناريو “مواطن مصري” فأراد أن يتفاداه بإضافة صبية حسناء إلى شخصيات الفيلم الأخرى، تذهب من حين لآخر إلى “مصري” (محمود عبد الله) قبل تجنيده كي يساعدها في الاستذكار.

والكاتب يحاول بذلك الايحاء إلينا بأن ثمة قصة حب، أو بمعنى أصح تباشير حب بين “مصري” والصبية الحسناء.

والآن إلى الفيلمين بعد هذا الاستطراد الطويل.

سر النجاح

غني عن البيان أن أولهما “كاووس” ليس بيت القصيد، ومن ثم لن أقف عنده إلا قليلاً، لأقول أن صاحبيه “تافياني” لم يلتزما بحرفية نص قصص “بيرانديللو” بل اختارا منها الذي يروقهما وذهبا إلى أبعد من ذلك بأن اعتمدا على حكايات مرضعته “ماريستيللا” له وهو صغير وهي حكايات عجيبة كانت تسليه وتفزعه في آن واحد.

ولقد جاء فيلمهما زاخراً بابتكارات فنية عديدة لا تنسى، ولا يتسع المجال لشرحها تفصيلاً.

ولكني أشهد أنني طول العرض كنت أتتبع باعجاب البراعة الفائقة سواء في وصل القصص الخمس بواسطة غراب معلق في رقبته جرس، ومحلق في السماء أو في اختيار أماكن التصوير في الحضر والريف أو في زوايا اللقطات والتكوينات أو في أداء جميع الممثلين، فلم تصدر عن أحد منهم كبيراً أم صغيراً حركة أو نبرة فيها غلط او نشاز.

ونظراً إلى أن اختيارهم قد روعي فيه ألا يكون أي منهم على اتصال بعالم النجوم من قريب أو بعيد، لذلك جاء أداؤهم لأدوار الفقراء العاملين في الأرض مقنعاً إلى حد كبير.

التقهقر.. لماذا؟!

فاذا ما انتقلنا إلى “مواطن مصري” فسنجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة كل الغرابة.

فمن المعروف أن آخر ابدعات “أبو سيف” فيلم “البداية” الذي أخرجه قبل ستة أعوام. وبه تجاوز المخرج الكبير الواقعية بمفهومها القديم، إلى واقعية جديدة متحررة من الجمود.

ومن هنا توقع الجميع منه مواصلة السير على نهج “البداية” في فيلمه الجديد “مواطن مصري”، لاسيما أنه مأخوذ عن رواية للقعيد أراها، ورغم إسهابها في الوصف وإسرافها في التكرار واللهجة الخطابية، قد ارتفعت إلى مستويات أعلى وأفسح أفقاً من كثير مما نقرؤه لأدباء آخرين تأثروا بهوجة الواقعية الاشتراكية التي ازدهرت في زمن مضى.

غير أنه ما أن بدأت مشاهد الفيلم ففي التتابع حتى خاب كل ما توقعته وعلقته على آخر أعمال “أبو سيف” من آمال، وإذا بي أرى فيلماً لمخرج يكرر نفسه مرتداً إلى واقعية أصبحت في خبر كان.

وفي اعتقادي أن ما شاب “مواطن مصري” من عيوب أنما يرجع إلى عدة أسباب لعل أهمها السيناريو.

فقد غاب عن بال “محسن زايد” وهو واحد من فئة قليلة تجيد كتابة السيناريو، أن رواية “القعيد” أقرب في الروح والشكل إلى”كانديد” “فولتير” “وصرصور” “كافكا” و”خرتيت” يونيسكو منها إلى “أم” “جوركي” وما شابهها من قصص واقعي اشتراكي عتيق.

ومن هنا مجئ معالجته السينمائية لها ملتزمة بقواعد سرد تقليدية عفا عليها الزمان.

وها هو ذا الفيلم نتيجة لذلك بارد يدور حول معانٍ مجردة دون أن يقدمها لنا نابضة بالحياة، عاجز عن أن يبعث فينا الاحساس بمأساة الفلاح “مصري” “ابن الخفير” عزت العلايلي الذي ذهب إلى حتفه في جبهة القتال بدلاً من ابن العمدة “عمر الشريف”.

سوء الاختيار

وإذا بنا في الختام أمام مجرد بيان سياسي مفرط في الفجاجة والسذاجة، يرد أن يقول بوضوح وجلاء أن أبناء مصر من الفلاحين الذين بذلوا الدماء الطاهرة في معركة الشرف والفداء، هولاء الأبناء لم يجنوا ثمار النصر، وإنما جناها بدلاً منهم الاقطاعيون الذين عادوا إلى السلطة فور استشهاد “جمال” متسيدين أقوياء.

ومن عيوب “مواطن مصري” الأخرى اسناد دوري العمدة وزوجته الأخيرة لكل من “عمر الشريف” و”صفيه العمري”.

فأي متقمص لشخصية العمدة في مسلسلات التليفزيون الريفية عندنا، وما أكثرها أصلح لهذا الدور من نجمنا العالمي.

فشفتاه من طول الإقامة في الخارج لا تنطقان العربية إلا بلكنة أجنبية وعيناه لا تشعان بريق الفهم لدور عمدة مزواج منحصر تفكيره في الوسية والطين.

أما “صفية العمري” فلولا أن الفيلم قال لنا صراحة ومنذ البداية أنها إنما تؤدي دور إحدى زوجات العمدة المفضلات، لولا ذلك لحسبت أنها بملابسها الضيقة وتشويحها وتقصيعها إنما تؤدي دور إحدى الغانيات!!