ملهاة أوسكار أو الرقص مع الذئاب

انتهت ملهاة أوسكار السنوية التي يحلو لهوليوود أن تلونها وتضفي عليها ظلالاً من عندها بتسميتها “جوائز الأكاديمية”.

والآن الأسئلة المطروحة كثيرة، ومن بينها على سبيل المثال، لماذا خرج “الأب الروحي”، جزء ثالث، صفر اليدين من أية أوسكار حتى ولو صغيرة، وذلك رغم أنه كان مرشحاً للعديد منها، بما في ذلك أوسكار أفضل فيلم ومخرج “فرانسيس فورد كوبولا”؟

ولماذا لم يكتب لفيلم “الرفاق الطيبون” أن يفوز إلا بجائزة يتيمة، ألا وهي أوسكار أفضل ممثل مساعد “جوبيسكي”، مع أن مخرجه هو “مارتين سكورسيزي” صاحب “سائق التاكسي” و”الإغراء الأخير للمسيح” وروائع أخرى خلاصة مأساة الانسان ازاء الأقدار؟

لماذا أصبحت ليلة ملهاة الأوسكار ليلة “الرقص مع الذئاب” بخروج ذلك الفيلم منها فائزاً بسبع جوائز من بينها أوسكار أفضل فيلم ومخرج مع أنه أول عمل سينمائي يخرجه “كيفين كوستنر”، ذلك الممثل الذي كان حتى عهد قريب إنساناً مغموراً، إلى حد أن المخرج “لورنس كازدان” قام أثناء عملية توليف فيلمه “البرود الكبير” (1983) بحذف جميع اللقطات التي أتيح لكوسنتر أن يظهر فيها، وذلك دون مراعاة منه لشعوره عندما يرى الفيلم، وقد جاء خالياً تماماً من أي ذكر له، ولو اسماً.

تجليات وشائعات

والأدهى والأمر أن المخرج الراحل “جون هستون” وهو من الفئة القليلة المشهود لها بحسن اختيار الممثلين لما هو مناسب لهم من أدوار قد رفض قبل اختفائه من مسرح الحياة بأيام، ترشيحاً لكوستنر من قبل المنتج “راي ستارك” كي يؤدي الدور الرئيسي أمام “أنتوني كوين” في فيلم “الانتقام”..

ولم يكتف بذلك، أنه إثر لقاء قصير فاشل مع الممثل، ذهب في سخريته منه إلى حد الاقتراح على ابنه المخرج “داني هستون” أن يسند إليه أحد الأدوار في فيلمه القادم “الدكتور نورث” وأن يراعي في اختيار الدور أن يكون صاحبه مريضاً بداء الإيدز (ص 24 كتاب “آل هستون” تأليف لورنس جروبل- الطبعة الأمريكية 1989- دار نشر ماكميلان)..

وهذه السمعة السيئة المصاحبة لبدايات “كوستنر” مع السينما، كما لابد وأن يكون لها تأثير كبير على المناخ العام المحيط بالرقص مع الذئاب، ذلك الفيلم الذي شارك في إبداعه لا بالإخراج فحسب وأنما، كذلك بالانتاج وتمثيل الدور الرئيسي على امتداد ثلاث ساعات أو يزيد.

فلقد انطلقت شائعات تتحدث عن عقبات لا سبيل للتغلب عليها، وتوقع الجميع للفيلم فشلاً ذريعاً على مستوى فشل “بوابة النعيم” للمخرج “مايكيل شيمينو” والذي كان سبباً في إعلان الشركة المنتجة له “الفنانين المتحدين إفلاسها”

لعنة المال

وهنا افتح أول قوس فأقول أنه ولئن كان قد جرى ترشيح “الأب الروحي” و”الرفاق الطيبون” إلى ثلاث عشرة أوسكار فيما بينهما، إلا أنهما لم يحصلا منها إلا على أوسكار واحدة كانت من نصيب الفيلم الاخير..

والفيلمان وإن كانا لم يفشلا في الشباك، إلا أن ما حققاه معاً من ايرادات أقل من تلك التي حققها بمفرده “الرقص مع الذئاب”، وهي ايرادات كانت قد وصلت قبل الملهاة الكبيرة وبقليل إلى مائة وتسعة وثلاثين مليون دولار، مع أن تكاليف انتاجه تقل عن عشرين مليون دولار..

ويلاحظ هنا أن تكاليف الانتاج التي تحملتها شركة بارامونت صاحبة “الأب الروحي” قاربت الخمسة والخمسين مليون دولار.

وكان فشله النسبي جماهيرياً، في أعقاب فيلمين مكلفين “ثماني وأربعون ساعة أخرى” و”أيام الرعد” جاءت ايراداتهما مخيبة لما علقته تلك الشركة عليهما من آمال كبار، سبباً في قيامها باصدار قرار برفت “فرانك مانكوزي” رئيسها على امتداد سبعة أعوام، وذلك قبل بث وقائع الملهاة عن طريق الأقمار الصناعية بسبعة أيام.

وفي الحق، “فبارمونت” وهي أكثر شركات هوليوود نجاحاً خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات – ليست أسوأ حالاً من شركات أخرى منافسة تعاني نفس الضائقة.. ارتفاع تكاليف الفيلم وانخفاض الايرادات..

فمثلاً متوسط تكلفة الفيلم الذي تنتجه هوليوود قد ارتفع إلى مبلغ ستة وعشرين مليون وثمانمائة ألف دولار، أي بزيادة أربعة عشر في المائة عن عام 1989، ومائة وخمسة وثمانين في المائة عن عام 1980..

فإذا ما أضيف إلى ما تقدم مبلغ أحد عشر مليوناً وستمائة ألف دولار مقابل نفقات الدعاية وطبع النسخ، فإن متوسط تكلفة صنع الفيلم في هوليوود، بما في ذلك نفقات الإعداد لتوزيعه وعرضه، ترتفع، والحالة هذه، إلى مبلغ ثمانية وثلاثين مليون دولار..

الصعود إلى الهاوية

ومن المناسب هنا، الإشارة إلى مذكرة رئيس استديوهات “والت ديزني” “جيفري كاتزبرج” التي كتبها قبل أربعة شهور، محذراً فيها من مغبة تصاعد موجات ارتفاع التكاليف والمنافسات الحادة الحمقاء..

مطالباً أولي الأمر في هوليوود أخذ تحذيره مأخذ الجد، لا الاستهانة وإلا انتهى الأمر بصناعة السينما إلى الوقوع في هاوية كارثة ليس لها مثيل..

والبادي أن أصحاب الأمر والنهي في شئون أوسكار أخذوا تحذير “كاتزبرج” مأخذ الجد عند توزيع غنائم أوسكار..

ومن هنا استئثار فيلمي “الرقص مع الذئاب” و”شبح”، وهما الأقل تكلفة بين الأفلام الخمسة المرشحه لأوسكار أفضل فيلم، استئثارهما فيما بينهما بتسع جوائز، أغلبها من ذلك النوع الذي ترنو إليه أبصار المتنافسين.

واذا كان هذا شأن “الرقص مع الذئاب” و”شبح”، فإن الأفلام الأخرى التي كانت متنافسة معهما على تلك الأوسكار الهامة، وهي “الأب الروحي” و”الرفاق الطيبون” و”اليقظة” كان لها شأن آخر، فقد اقتصر نصيبها فيما بينها على أوسكار هزيلة ليس لها وزن كبير..

أقوال النجوم..

وهكذا أريد لهذه الأفلام الثلاثة ألا تخرج من ملهاة أوسكار متوجة بأكاليل الغار..

ولا غرابة في هذا، فهي من هذا النوع الضخم من الأفلام الذي لا قيام له إلا بنجم ساطع أو حشد من النجوم.

فمثلاً بطولة “الأب الروحي” يتقاسمها أكثر من نجم “آل باشينو”، “ديان كيتون”، “اندي جارسيا”.

وبطولة الفيلمين الآخرين انفرد بهما النجم “روبرت دي نيرو” الذي كان مرشحاً لأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه لدور معوق في فيلم “اليقظة”…

ومعروف أن آفة صناعة السينما في هوليوود هي النجوم، فارتفاع تكلفة الأفلام ناشئ في المقام الأول من أجورهم الخيالية التي تزداد صعوداً على مر الأيام.

“فارنولد شفارزنجر” و”وجاك نيكلسون” يتقاضى الواحد منهما مقابل التمثيل في أي فيلم مبلغاً فلكياً يصل أحياناً إلى عشرة ملايين دولار، فضلاً عن نسبة مئوية من الأرباح قد تتجاوز الأجر بكثير..

وفي ضوء هذا، فليس محض صدفة أن جوائز أوسكار الأربعة المخصصة للتمثيل لم تكن من حظ أي نجم، وإنما كانت من حظ أربعة ممثلين وممثلات ليس لهم صيت النجوم الكبار، آية ذلك “كاتي بيتس” ممثلة المسرح البدينة التي أريد لها أن تفوز بأوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن أدائها البارع في فيلم “ميزري” لصاحبه “روب راينر”..

الصبر والصمت..

فإذا ما انتقلنا إلى الممثلة الأخرى الفائزة بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن دورها في “شبح” وهي “وبي جولدبرج” لوجدنا أنفسنا أمام فنانة متعددة المواهب، تحسن أداء جميع الأدوار التي تسند إليها، سواء ما كان منها فكاهياً ام مأساوياً..

ولقد سبق وأن رشحت لأوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن أدائها الرائع في فيلم “اللون الأرجواني” لصاحبه المخرج “ستيفن سبيلبرج”..

بيد أنه، كان عليها أن تنتظر أكثر من خمسة أعوام، حتى تفوز بأوسكار أقل قيمة.

وهنا يحسن التنبيه إلى ظاهرة ذات دلالة كبيرة وهي انتظار جميع الممثلات الملونات زهاء خمسين عاماً، حتى يراد لواحدة من بين صفوفهن أن تفوز بأوسكار..

فمنذ فوز”هاتي ماكدونال” بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن أدائها لدور خادمة سوداء وفية لأسيادها البيض ملاك العبيد في فيلم “ذهب مع الريح” (1940)، وأوسكار ممتنعة تماماً عن أية ممثلة سوداء.

وهنا أقفل القوس لأقول أن “الأب الروحي” و”الرفاق الطيبون” لم يهزما أمام “الرقص مع الذئاب” فحسب، وإنما هزما كذلك أمام فيلم آخر مسل خفيف الظل “شبح” قوامه فكرة استهلكتها هوليوود من قبل، هي البقاء وفياً للحبيبة حتى بعد الاختفاء بالموت، وليس له من ميزة أخرى سوى أنه حقق ايرادات مذهلة تجاوزت الأربعمائة مليون دولار..

الحلم الأمريكي..

وتلك الهزيمة المدوية في مضمار الصراع من أجل أوسكار، إنما ترجع إلى اسباب كثيرة أخرى، من بينها أن الفيلمين يدوران حول “المافيا” ذلك الموضوع الأثير لدى هوليوود، لا لشيء سوي أن الجمهور دائم الانجذاب إلى رجال العصابات الاجرامية وما يسيل على أيديهم من دماء تغطي الشاشة البيضاء ولا يستطيع لا المقاومة لكل هذا العنف، ولا الفكاك حقاً، قد يثير العنف الدموي الذي من هذا القبيل الرعب في القلوب مثلما هو الحال في بعض لقطات “الرفاق الطيبون”.

غير أنه رغم ذلك، يطلق الكامن من اشتهائنا البدائي للتسلط الفردي المتحرر من القيود..

وأغلب الظن أن المطروح في الأفلام التي تعرض لعالم هؤلاء الرجال الخارجين عن القانون، ليس ثمة علاقة بينه وبين فكرة الجريمة والعقاب..

المطروح شيء آخر، هو الفرد المنتمي للعصابة أو المافيا باعتباره بطلاً مأساوياً، نرى فيه النقيض لمجتمع متفائل سعيد يسوده وهم العيش في ظل العدل والمساواة والإخاء..

وعلى كُلٍ.. فالبطل الذي من هذا القبيل، يعتبر في نظر أصحاب الفكر الجانب المظلم للحلم الأمريكي..

وقد يكون الأب الروحي بأجزائه الثلاثة أصدق أفلام المافيا تصويراً لذلك الجانب..

ولعلنا نذكر، في هذا الخصوص أن “الأب الروحي” جزء أول (1972) قد فاز بأوسكار أفضل فيلم وسيناريو، فضلاً عن فوز “مارلون براندو” بأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه لدور “دون كرليون” الأب الروحي الذي هرب صبياً من صقلية إلى نيويورك حيث نجح في بناء امبراطورية  تقوم على الإجرام.

بعد ذلك بعامين، كانت المفاجأة الكبرى، عندما خرج “الأب الروحي” جزء ثان من معترك الصراع على أوسكار فائزاً بجوائز أفضل فيلم وإخراج وسيناريو وموسيقى تصويرية وتمثيل لدور مساعد “روبرت دي نيرو”..

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يكتب فيها لعمل سينمائي مجزأ أن يتوّج بأوسكار أفضل فيلم مرتين..

ومهما يكن من أمر فأحداث الجزء الثالث لا تبدأ من حيث انتهت أحداث الجزء الثاني، وإنما بعدها بحوالي عقدين من عمر الزمان..

الماضي المجهول

فها هو ذا “مايكيل كورليوني” (آل باشينو) يخطو نحو الشيخوخة وحيداً، وليس أمامه، بعد أن اختار ابنه “توني” أن يكون مغني أوبرا، مفضلاً تلك المهنة الرقيقة على تهيئة نفسه لوراثة عرش الأسرة الدموي، ليس أمامه إذن سوى أن يعلق كل الآمال على “فنسنت” (اندي جارسيا) ابن شقيقه (سوني) الذي ارتأى فيه صورته أيام الشباب.. الحيوية، والعنف المفاجئ، مع صوت خفيض يخفي شخصية لا تلين أمام المهام الجسام..

والفيلم يبدأ به، وهو يحاول أن يضفي على استثمارات العائلة طابع الشرعية، حتى يقطع كل صلة بينها وبين عالم الإجرام.

ولقد ذهبت به الظنون إلى تصور أن خير وسيلة لاكتساب الشرعية والاحترام، هي استثمار ثروة العائلة الطائلة في الأراضي وشبكات التليفزيون، بدلاً من الكازينوهات وعمليات القمار والرهان.

وكان من بين مشاريعه الطموحة، أن يعقد صفقة عقارات كبرى مع بنك الفاتيكان..

ولكن غاب عنه أن ماضيه الذي لا يستطيع أن يتحكم فيه، يمكن أن يؤدي إلى تحطيم كل ما أحكم تدبيره من تخطيطات..

وفعلاً، سرعان ما يعصف هذا الماضي بسعيه نحو حياة شريفة آمنة تقوم على سيادة القانون فيطوح بكل شيء إلى النقيض، إلى حياة متصلة بالماضي الإجرامي الآثم.. حياة لا تقوم إلا على سفك الدماء.

إرادة التغيير

والظاهر أن الجمهور قد مل هذا النوع من الأفلام الذي يجنح إلى التركيز على عالم الأجرام..

والظاهر كذلك أن الدوائر الحاكمة قد نفضت يديها من الأفلام التي تسلط الأضواء على الجانب المظلم للحلم الأمريكي، مؤثرة عليها ما لا يظهر من سراديب هذا الحلم إلا ما كان مشرقاً.

وفي الحياة الأمريكية أكثر من صورة مضيئة تصلح لمثل هذه السينما البناءة، فثمة مثلاً محاربة الاضطهاد العنصري لا سيما ما كان منه موجهاً ضد السود والهنود، وإثارة التعاطف مع الأقليات، وبخاصة بعد أن أصبح قطاع السكان البيض المكون من طائفة البروتستنت المنحدرة من أصل أنجلوسكسوني، والمسمى “الواسب” اختصاراً، أصبح أقلية في أغلب الولايات والمدن الكبرى، ومن ثم لا يستطيع الاحتفاظ بهيمنته على السلطة إلا من خلال تحالفات مع أقليات أخرى، لعل أهمها الأقلية اليهودية وذلك بحكم ثرائها الواسع، وبحكم سيطرتها على جانب لا يستهان به من أجهزة الثقافة والإعلام..

ومن هنا نجاح “الرقص مع الذئاب” جماهيرياً بالإقبال على مشاهدته إقبالاً منتقطع النظير بالنسبة لفيلم طويل جاد، وأكاديمياً بخروجه من مضمار أوسكار متوجاً بسبع جوائز وتصوير وسيناريو مستوحى من عمل أدبي وموسيقى تصوريرية وصوت وتوليف.

ولن أحكي تفصيلاً أحداث الفيلم وإنما أكتفي بأن أقول أنها تدور وجوداً وعدماً حول ضابط أبيض “دنيار” (كيفين كوستنر) أبلى بلاء حسناً أثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب الأمريكي القديم، فكان أن عرض عليه، مكافأة له، أن يختار من أماكن العمل في الجيش ما يشاء..

وإذا به يختار مكاناً بكراً قصياً، منفصلاً عن الحضارة تماماً “لأنه يريد أن يراه قبل أن يختفي”..

وبداءة صاحب – وهو في وحدته – ذئباً، ثم اتبع ذلك بلقاءات مع أفراد من قبيلة “سيبوكس”، وهي من أشد قبائل الهنود الحمر بأساً..

وفي نهاية المطاف تتبناه القبيلة بحيث أصبح وكأنه واحد من أبنائها، وبحيث اختارت له اسما آخر “الرقص مع الذئاب”..

سر الانتصار..

والفيلم آيه في جمال البساطة، راعى صاحبه إلا يسند أدوار الهنود الحمر إلا لمن كانوا هنوداً لحماً ودماً، وألا تسمعهم يتكلمون طوال الفيلم إلا بلغة قبيلة “السيبوكس”..

ومفاجأة الفيلم هي في قلب الأدوار، بحيث نرى الهنود، وهم الذين اعتدناهم في السينما الأمريكية أشراراً، نراهم وقد أصبحوا في عمومهم أخياراً..

أما البيض، فعلي العكس من ذلك، وباستثناء البطل بطبيعة الحال، فلا نراهم إلا أشراراً..

وعندي أن أهم ما في “الرقص مع الذئاب”، هو ما أراده لنا صاحبه من أن نعمل على اكتشاف الآخر في أنفسنا، ولا نكتفي بذلك، بل نعمل على الاندماج فيه حتى الفناء، وهو أمر أراه أقرب إلى المحال..

نظرة علي العرب في السينما الامريكية

كل سينما في العالم تقوم على بعض مسلمات لا تحيد عنها في أغلب ما تنتج من أفلام، ومن مسلمات السينما الامريكية رسم صورة العربي بشكل قبيح، كريه يثير الاشمئزاز في النفوس، ومصداقاً لذلك الأفلام الامريكية التي أتيحت لنا فرصة مشاهدتها على مر الزمان.

فلو أفلحنا في استرجاع عدد منها على شاشة الذاكرة، لاستبان لنا أن صورة العربي في معظمها قد رسمت على وجه مشوه، بحيث نكاد لا نرى أي عربي فيها  إلا مرتكباً لآثام جسام لابد وان تنتهي به معاقباً عنها أشد عقاب وهنا يحق لنا أن نتساءل لماذا كل هذا الاصرار؟

الماضي المجهول

معروف عن السينما، وبالذات في الولايات المتحدة، أنها أداة ثقافية ذات تأثير كبير، بموجبها يتشكل وعي الشباب الامريكي بالعالم.

ولو تأملنا جمهورها المولع بها، المقبل على مشاهدتها سواء على الشاشات الكبيرة أو الصغيرة، لوجدناه في عمومه من جيل الشباب القابل للتأثر، وذلك بحكم أنه لا يزال غضاً في مقتبل العمر.

وفي الحق، فجيل الشباب هذا لا يلتقي بالعربي إلا من خلال صورته التي يراها فيما يعرض على تلك الشاشات، وليس من شك أن كل هذا لابد وأن يسفر عن بذر بذور الاحتقار الممتزجة بالخوف من كل ما هو عربي في قلوب الشباب.

ومن هنا خطورة ظاهرة تصوير العربي مشوهاً على الوجه سالف البيان، وخطورة عدم الوعي بها، وعدم مواجهتها بما تستاهل من بحث ودراسة وتأصيل.

والغريب أنها ظاهرة قديمة قدم السينما، فعندما أنشأ توماس أديسون أول استديو للفيلم في الولايات المتحدة (1883) كان فيلم”رقصة الأقنعة السبعة” واحداً من أوائل الأفلام التي انتجها ذلك الاستديو.

وخلال عقد العشرينات انتجت السينما الامريكية التي كانت قد احتلت مكان الصدارة عالمياً، ما لا يقل عن سبعة وثمانين فيلماً تدور موضوعاتها بشكل أو بآخر حول العرب.

ولقد كان بعضها من النوع الفكاهي الذي يصورنا نحن العرب مهرجين أخياراً وأشراراً فاسدين تارة أخرى. وكان البعض الآخر- وهو أكثر شعبية – من نوع المغامرات الميلودرامية التي تجري أحداثها في الصحراء.

البحث عن اللذات

ولعل أشهر أفلام النوع الأخير هما “الشيخ” (1921) و”ابن الشيخ” (1926) اللذان قام بأداء دور البطولة فيهما “رودلف فالنتينو”، ذلك الممثل الذي أصبح نجماً معبوداً بفضل هذين الفيلمين، ولا يكتمل أي مجلد دعائي عن السينما الامريكية، إلا بصورة له مرتدياً عباءة عربية، ومختطفاً امرأة أوروبية.
وإجمالاً – فصورة العربي التي تبقى مترسبة في ذهن كل متفرج على تلك الأفلام الأولى، هي صورة كائن همجي يروع بالعنف والشهوات.

والغالب على حبكة تلك الأفلام، لاسيما ما كان منها موضوعه يدور حول الفرقة الأجنبية، هو ثنائية التضاد الذي يجعل من العرب والأوروبيين أعداء على الدوام وربما خير مثل على ذلك فيلم “بوجست” حيث نرى الأوروبيين محاصرين داخل قلعة تائهة وسط الصحراء يتهددهم الموت في صورة موجات متتالية من عرب قتلة مقنعين، ممتطين الجياد، شاهرين السيوف.

وغالباً ما تنحدر تلك الأفلام بأرض العرب إلى مجرد صحراء جرداء، وآية ذلك فيلم “أغنية الصحراء” (1929) حيث تتحول جبال الريف في المغرب العربي بسحر ساحر إلى أرض خراب عارية تماماً إلا من كثبان الرمال.

لص بغداد

ومع ذلك، فعرب تلك الأفلام الموغلة في القدم، ليسوا أشراراً إلى آخر مدى. “فدوجلاس فيربانكس” في لص بغداد، وان كان كسولاً إلا أنه بهلون خفيف الدم.

وفالنتينو، وإن كان شيخاً يفور بالشهوات، إلا أنه شريف يرعى الحرمات.

وهكذا يمكن القول بأن عربي تلك الأفلام  قد اجتمعت فيه خرافة الانسان الطبيعي الذي لم تفسده الحضارة بوجهيها القائل بهما “جان جاك روسو” ونقيضه “جون هوبز” الأول بزعمه أن الانسان في حالته الطبيعية كائن متوحش نبيل، الثاني بذهابه إلى حد اعتبار الانسان في حالته تلك سفاحاً ومتعطشاً للدماء.

القناع

وأغرب ما نعجب له أمر العربي الخيّر في تلك الأفلام أنه لا يستمر عربياً حتى الختام !!

فما أن تقترب الأحداث من النهاية حتى يفصح عن هوية البطل، فإذا بها غير عربية، وأنما أوروبية.

وهكذا تتجنب حبكة تلك الأفلام حرج اختلاط الأجناس الناجم عن وقوع الحسناء الأوروبية البيضاء في حب عربي، ذلك أنه ولئن كان خيّراً فإنه من جنس أكثر انحطاطاً.

فمثل هذا الحرج لابد وأن يزول إذا ما اتضح للمتفرج أن المحبوب الذي كان يظنه عربياً، هو الآخر من نفس جنس المحبوبة الحسناء، أوروبي زكي الدماء.

وعند تلك النهاية السعيدة المفتعلة لفليم “الشيخ” كتب محرر جريدة النيويورك تايمز يطمئن قراءه قائلاً “ولن يتأذى شعورك بزواج فتاة بيضاء من عربي لا لشيء سوى أن “الشيخ في حقيقة الأمر ليس من أبناء الصحراء”.

مومياء هوليوود

وما أن تكلمت السينما الامريكية ثم تلونت، حتى تغيرت على وجه يمكن القول معه أنها قد تحولت من حال إلى حال.

ورغم ذلك، فالموضوعات المتصلة بالعرب ظلت بنفس وصفتها القديمة لا تتغير، حتى أن فيلم “قسمة” (1920) قد أُعيد إنتاجه بعد ذلك ثلاث مرات (1955،1944،1930).

وكذلك الحال بالنسبة لكل من “لص بغداد” ( 1924) الذي أُعيد انتاجه هو الآخر ثلاث مرات (1978،1960،1940)  و”بوجست” (1926) الذي أُعيد انتاجه مرتين ( 1966،1939).

ومن الأفلام العلامة في تشويه صورة العربي إبان عقد الثلاثينات فيلم “المومياء” الذي بفضلة أدخل “بوريس كارلوف” على السينما الامريكية نوعاً جديداً كُتِب له طول البقاء.

فبموجب تنويعات على نفس الاسم “قبر المومياء” ( 1942)، و”شبح المومياء” (1944) و”لعنة المومياء” (1945)، ثم مرة أخرى”المومياء” (1955) تكرر هذا النوع المرعب من الإعلام .

والأحداث فيها جميعاً تدور في شرق عربي متآكل يستبد به الموت والشيخوخة والاضمحلال، يتحكم فيه الظلم والجور والفساد، تسيطر عليه الخرافات والخزعبلات.

وعلي العكس من ذلك تماماً علماء الآثار القادمون إلى هذا الشرق المريض من الغرب.

إنهم يمثلون العلم والديمقراطية، الشاب والحيوية، وهم بوصفهم كذلك ينجحون في اختراق كل شيء، حتى الأماكن المحرمة كبيوت العبادة والحريم والمقابر.

الموجة الجديدة

ولعلي لست مغالياً إذا ما قلت أن فيلم “الخروج” (1960) قد بدأ به نوع سينمائي جديد، موضوعه الصراع العربي – الاسرائيلي من خلال ميلودراما تاريخية يتصارع فيها الأخيار الاسرائليون مع الأشرار العرب.

والأكيد أن أفلام هذا النوع التي جرى توزيعها في الولايات المتحدة خلال عقد الستينات، هذه الأفلام لا يقل عددها عن عشرة أفلام من بينها “جوديث” (1966) و”ألقى بظله الضخم” (1966) و”النجاة” (1968) و”رحلة إلى أورشليم” (1968).

ومما لوحظ على تلك الأفلام أن الاسرائيليين فيها لا يختلفون عن الأوروبيين في شيء.

أما العرب فقتلة ملثمون، لا ينفرد أي منهم بصفة يتميز بها عن القطيع.

وهم جميعا مثل الجنود العرب في “ألقى بظله الضخم” قساة يقهقهون مهللين مكبرين، وهم يطلقون الرصاص على امرأة حبيسة سيارة في أسفل واد لا تستطيع منه نجاة.

وإذا ما اكتفينا بإلقاء نظرة متسرعة على أفلام هذا العقد، فقد تجنح بنا تلك النظرة إلى اعتبار عدد منها منصفاً بعض الشيء للعرب.

الوهم والحقيقة

فمثلاً “لورنس العرب” (1962) لصاحبه “دافيد لين” يظهر الانجليز وقد تراجعوا عن وعدهم منح العرب الاستقلال فضلاً عن أنه يبدو وكأنه فيلم قد حقق لصورة العربي في السينما الامريكية بعض التقدم، فالعرب فيه ليسوا جميعاً من فئة الاشرار.

وهذا ولا شك خطوة إلى أمام إذا ما قورن “لورنس” “بالخروج” حيث العرب جميعاً ليسوا إلا أشرارا.

غير أنه إذا تعمقنا النظر في عرب “لورنس” لوجدناهم جميعا إما أناساً يمارسون عنفاً لا مكسب من ورائه، أو أناساً غير أكفاء لا يحسنون تصريف الأمور، أو أناسا منقسمين على أنفسهم بحكم انتسابهم إلى قبائل متناحرة على الغنائم والأسلاب.

وفضلاً عن ذلك فدمشق عندما سقطت في أيديهم، لم يستطيعوا الاحتفاظ بها لأكثر من يوم أو يومين، وذلك لعجزهم عن إدارة مرفق المياه والمستشفيات ثم إذا بهم ينسحبون منها فجاة، ليتركوها نهباً للانجليز.

وغني عن البيان أن كل ما جاء في “لورنس” عن دخول العرب دمشق ثم خروجهم منها بعد يومين، وذلك لفشلهم في إدارة مرافقها، كل ذلك لا يعدو أن يكون هراء وتحريفاً صارخاً للتاريخ، فالعرب حكموا دمشق مدة عامين إلا يومين، ولم يخرجوا راضين بل مكرهين تحت ضغط الجيش الفرنسي الذي كان يسعى إلى احتلالها استكمالاً لخطة تقسيم المشرق العربي بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.

وهذا الذي قيل عن تحريف التاريخ في “لورنس” يمكن ان يقال كذلك في حق فيلم “الخرطوم” (1966)، ففيه تاريخ الثورة المهدية قد جرى تحريفه تبريراً للغزو الاستعماري للسودان.

وفيه لا يظهر أنصار تلك الثورة إلا بمظهر القتلة المتعصبين ضد رسل التقدم والرخاء.

الاصرار.. لماذا؟

ومما يثير الدهشة أنه كلما مرت الأيام، ازدادت صورة العربي في السينما الأمريكية سوءًا.

فخلال النصف الثاني من عقد السبعينات، والنصف الأول من عقد الثمانينات، بلغ التشوية لصورة العربي في تلك السينما ذروة، ما أظن أن لها مثيلاً في السينما على مر العصور.

فالإرهابي في فيلم “الأحد الأسود” (1977) عربي يتآمر من أجل قتل المتفرجين، بما فيهم رئيس الولايات المتحدة بواسطة تفجير قنبلة شديدة التدمير في مدرج رياضي وتاجر العبيد “بيتر استينوف” في فيلم “اشافتي” (1979) عربي يختطف زوجة “مايكيل كين” الانجليزي من أجل بيعها لزبونه الثري العربي “عمر الشريف”، وتاجر عبيد آخر في فيلم “الجنة” – وهو بدوره عربي – يطارد فتاة انجليزية في الصحراء، ولا ينقذها من بارثنه سوى صبي شجاع – اسمه بالمناسبة “دافيد” – بأن يصوب إليه سهماً، فيرديه قتيلاً، وملك وقائد ثوري، وكلاهما عربي، يسعيان في فيلم “الخطأ الصحيح” (1987) إلى تفجير قنابل ذرية في كل من نيويورك واسرائيل.

وتمضي السينما الامريكية قدماً في طريق تشويه صورة العربي حتى في أفلام موضوعاتها منبتة الصلة بشرقنا العربي، أفلام مثل “شبكة التليفزيون” (1977) و”المهر الأسود” (1979) و”غزاة صندوق العهد المفقود” (1981) و”الحياة والموت في لوس انجليس” (1985) و”شرلوك هولمز الصغير” (1985) و”العودة إلى المستقبل” (1985) نراها وقد حشرت فيها جميعاً شخصيات عربية كريهة لا لشيء سوى تشوية صورة العربي بحيث ينتهي الأمر بالمتفرج إلى الاستسلام إلى الدعاية التي تقول له تلميحاً وتصريحاً أن من الواجب عليه أن يرى الشر كل الشر، والنكر كل النكر في كل ما يصدر عن العرب من أفعال.

لحظة الحقيقة

والآن ماذا بعد مأساة غزو العراق للكويت؟

أغلب الظن أن السينما الامريكية ستعود إلى”قسمة” “لص بغداد” و”بوجست” و”المومياء” بدل المرة مرات.

وأغلب الظن أنها ستستوحي من احتجاز الرعايا الأجانب في الكويت والعراق كرهائن ودروع بشرية ضد الغارات، ومن تعذيب الطيارين أسرى الحرب وإهانتهم أمام أعين الكاميرات، ومن تلويث البيئة بالسرطان الأسود يلقى به في مياه الخليج دون اكتراث، ومن تدمير جميع حقول بترول الكويت تقريباً باشعال الحرائق فيها قبل الهروب الكبير، ومن التهديد باستعمال الغازات السامة وما شابهها من أسلحة الدمار والفناء.

ومن طريق العار تفترشه دبابات وعربات “أم المعارك” المحملة بالمسروقات وقد تحولت إلى حطام، من كل ذلك ستستوحي أفلام لا تعد بالعشرات، وإنما بالمئات.

وأغلب الظن أنها ستجد في وصف نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل لطاغية بغداد بأنه جعجاع، قليل الأدب، سيئ الرأي والسلوك، لص، غادر، ستجد فيها معيناً لا ينضب لمسلسل لا ينتهي من الأفلام ترسم صورة العربي وفق ما تهوى وتشاء.

نظرة علي الحرب في السينما الأمريكية

الحرب ما هي إلا استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى هكذا قال الجنرال والمؤرخ العسكري كارل فون كلاوزڨيتس.

وقد يبدو غريباً أن يكون أصحاب مصنع الأحلام في هوليوود هم أكثر الناس فهما لتلك المقولة الحكيمة التي جاءت على لسان هذا الجنرال الألماني قبل قرن ونصف من عمر الزمان، والتزموا بها فيما ينتجون من أفلام.

إذ لوحظ على امتداد ما يقرب من ثمانين عاماً، أنه ما أن تجنح الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة إلى تبني سياسة مؤداها الانجراف بالبلاد إلى الحرب، حتى تبادر هوليوود إلى دعم تلك السياسة بالدعاية لها عن طريق السينما.

فإذا ما هبت العاصفة المميتة واندلعت نيران الحرب، كانت عاصمة السينما المرصعة سماؤها دائماً وأبداً بأحلى وأشهر النجوم، في مقدمة صفوف الذين يدقون طبولها باعتبارها أعدل وأجمل، وربما آخر الحروب.

وفي الحق، فلا غرابة في كل هذا، فالسينما كما هو معروف للقاصي والداني، لغة العصر، وهي باعتبارها كذلك أداة دعاية لا تعلو عليها أية أداة أخرى، مهما كان علو شأنها في سالف الزمان.

ولعله من المناسب هنا أن أحكي رواية، قد تبدو لأول وهلة، ولمن لا يستطيع صبراً، أنها منبتة الصلة بالحديث عن الحرب وهوليوود.

السحر الخفي

قبل ستين عاماً وبالتحديد يوم التاسع عشر من شهر يناير لعام 1932 سافر الدكتور جوبلز- وهو واحد من أهم أفراد العصابة النازية التي تحكمت في مصير الشعب الألماني بالحديد والنار لفترة سوداء دامت ثلاثة عشر عاماً، وليس ألف عام كما كان مدبراً لها – سافر في رفقة زعيمه “أدولف هتلر” إلى مدينة ميونيخ حيث تدارسا احتمالات قيام الزعيم بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.

ولمدة شهر أو يزيد، ظل الزعيم المهيب متردداً بين الإقدام على الترشيح وبين الإحجام.

وعن ذلك كتب الدكتور في اليوم الأخير من يناير مسجلاً في مذكراته “الزعيم سيتخذ قراره يوم الأربعاء.. وهذا لم يعد محل شك”.

وفي الثاني من شهر فبراير ظن الدكتور أن الزعيم الملهم قد اتخذ القرار المناسب، فكتب متفائلاً:

“لقد قرر أن يرشح نفسه”، غير أنه سرعان ما استدرك قائلاً أن قرار الزعيم لن يعلن على الملأ ترقباً لما سيفعله الاشتراكيون الديمقراطيون.

وفي اليوم التالي اجتمع قادة العصابة في عاصمة بافاريا متوقعين من الزعيم أن يزف إليهم البشرى.. ولكن خاب ما توقعوه.

وعن هذه الواقعة كتب الدكتور غاضباً “لقد انتظروا دون جدوى.. وكانت أعصاب الجميع مشدودة متوترة..”.

وبحثاً عن راحة النفس تسلل الدكتور الصغير إلى حيث شاهد “جريتا جاربو” في واحد من أفلامها.

فكان أن “تأثر واهتز كل ما فيه” لتلك السيدة التي تعتبر “أعظم ممثلة”.

ص 156 من كتاب “صعود وانهيار الرايخ الثالث” لصاحبه “ويليم شيرر” الطبعة الانجليزية الأولى.

ولست أقصد من رواية هذا الجزء من سيرة الديكاتاتورالنازي ورجل دعايته الدكتور الصغير الذي كان له فضل الانتقال بالانسانية إلى زماننا المعاصر، زمن الكذب الكبير – لست اقصد به التذكير بسيرة هتلر وتابعه، فأنا لا أطيق لهما ذكراً.

أن ما أقصده ينحصر في بيان مدى تأثير سينما هوليوود باعتبارها فكراً يخدم سياسة تقف وراءها مصالح أغنى وأقوى دولة في العالم.

فرجل الدعاية الأول في ألمانيا الهتلرية، يهتز كل ما فيه بطيف جاربو، ويسترد راحته النفسية بعد انفراده بنجمة هوليوود الأولى في الظلام، وهي تتحرك على الشاشة البيضاء.

وها هو ذا في تعليقه متأثراً بدعاية شركة “مترو جولدن ماير” (لصاحبها وقتذاك “لويس ماير” وهو يهودي أي من الجنس الملعون عند داعية النازية الأول) يردد أسطورة أنها أعظم ممثلة يرددها كالببغاء.

وإذا كان هذا هو حال “جوبلز” مع السينما الأمريكية ومدى تأثره بها، وهو الوزير المتعصب الكاره لكل فن آت من وراء المحيط باعتباره فناً غير نقي ملوثاً بفكر السود واليهود.. فما بالك بحال المتفرج العادي الذي لا يحمل أي عداء مرضي أو كراهة عنصرية للفن الأمريكي.

هيمنة هوليوود

ويلاحظ هنا أن هذا التأثير الذي حدث للسينما الأمريكية على كل من يقبل على مشاهدتها صديقاً كان أو عدواً، كبيراً كان أو صغيراً، إنما يرتد إلى الحرب العالمية الأولى تلك الحرب التي نقلت السيادة على العالم إلى الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة.

وفي سبيل المحافظة على تلك السيادة العالمية التي تدعمت بالانتصار على دول المحور (المانيا وايطاليا واليابان) في الحرب العالمية الثانية، كان لا مندوحة لتلك الدوائر عن استعمال السينما – وهي أكثر الفنون شعبية – سلاحاً فكرياً للسيطرة على عقول الملايين.

ولا غرابة في هذا الجنوح، ذلك أنه من المسلمات – الآن- الآن أن الفيلم سلعة ذات طابع خاص، يجري انتاجها بغاية أن يتحقق من وراء تسويقها ربح لأصحاب الأموال المستثمرة فيها، فضلاً عن أنها بحكم طبيعتها الخاصة تلك تحمل فكراً، هو في الغالب الأعم، فكر أهل القمة المتحكمين في شئون العباد.

وخلاصة القول إذن هو أن السينما تعود على الدوائر الحاكمة وراء المحيط بفائدتين:

الأولى: الأرباح الناتجة مباشرة عن تسويق الفيلم، وعادة ما تكون أرباحاً ضخمة يسيل لها اللعاب.

والثانية: وهي الفائدة الأهم – ضمان استمرار السيادة للأفكار والقيم التي تدعم بقاء تلك الدوائر مهيمنة.

ولعل في هذا ما يفسر شدة الاهتمام في الولايات المتحدة بالفيلم باعتباره صناعة وتجارة ومخدراً.

فالرئيس الراحل فرانكلين د. روزفلت يفاخر به الأمم قائلاً “حيثما يعرض الفيلم الأمريكي نبيع مزيداً من القبعات والجراموفونات والثلاجات الأمريكية”.

(ص17من كتاب “تقديم لنادي السينما” لصاحبه “فينست بينيل” طبعة فرنسية)

والجنرال ماك ارثر يتوجه بالشكر إلى أفلام هوليوود، ويثني عليها لمساهمتها الرائعة في توجيه الشعب الياباني الوجهة التي تريدها له سلطات الاحتلال.

(ص8 من كتاب “الفيلم في معركة الأفكار لصاحبه جون هوارد لوسون طبعة امريكية)

ووزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس “ترومان” تمارس الضغط على الحكومة الفرنسية، حتى تجبرها على توقيع اتفاقية بلوم – بيرنز التي فتحت بموجبها السوق الفرنسية لغزو الفيلم الأمريكي.

الوهم والحقيقة

وأعود إلى الحرب لأقول أنها بدءًا من صيرورة هوليوود عاصمة للسينما العالمية، وهي تستهوي صانعي الأطياف، إلى حد أن حماسهم لها قد حملهم على انتاج أفلام كثيرة عنها، تزيد في عددها على عدد أي أفلام تدور حول أي موضوع آخر.

(ص104من كتاب “الأفلام العظيمة” لصاحبه “ويليم باير” طبعة أمريكية)

ورغم أن هذه الأفلام، وهي تعرض للحرب، كان لابد أن تصور بعضاً من فظائعها وبشاعتها التي لا تقف عند تشويه الأجساد وازهاق الأرواح وتخريب العامر من الأرض، وما شابه ذلك من عذابات وآلام، إلا أنها في عمومها كانت أفلاماً تبرر الحرب تارة باسم الحرية، وتارة باسم العدالة، وتارة باسم الشجاعة، بل كثيراً ما كانت تجنح صراحة إلى تمجيدها باعتبارها مطهر من الآثام.

وأضرب مثلاً على هذا النوع من الأفلام التي تنطوي على تمجيد للحرب بفيلمين، أحدهما صامت، والآخر متكلم متعدد الألوان.

والفيلم الأول واسمه “أجنحة” (1927) لصاحبه المخرج “ويليم  ويلمان” مداره التمجيد لبطولات سلاح الطيران الأمريكي من خلال مأساة شابين أسقط أحدهما طائرة الآخر خطا أثناء إحدى المعارك الجوية في سماء أوروبا أبان الحرب العالمية الأولى.

ومما له دلالة في هذا الخصوص أن يكون “أجنحة” أول فيلم أمريكي يتوج بجائزة أوسكار (1928).

وأن تعود هوليوود بعد حوالي ستين عاماً من التاريخ الأخير إلى انتاج فيلم شبيه به في الموضوع يعظم من شأن سلاح الطيران، اسمته”النسر الأعلى” (1986) وأسندت بطولته إلى “توم كروز” ذلك النجم الشاب الذي جرى ترشيحه فيما بعد لأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن دوره في “ولد في الرابع من يولية” أحد الأفلام المعادية لحرب فيتنام.

الرسالة بالألوان

أما الفيلم الأخير”دستة أشرار” (1967) لصاحبه المخرج “روبرت الدريش” فقد صور الحرب وكأنها مغامرة مثيرة تتحول بنفر من السجناء الأشرار إلى أبطال خيرين أبرار.

وكأنها لا تطلق أبشع الغرائز البشرية من عقالها، بل على العكس من ذلك تلجمها بإيقاظ الضمائر الأهلة بالفضيلة الكريمة السمحاء!!

ومما دلالة في هذا الشأن أن يكون “دستة أشرار” أكثر أفلام الحرب نجاحاً، وأن يصبح نموذجاً يحتذى في العديد مما انتج بعده من أفلام.

وبطبيعة الحال لن أعرض بالتفصيل هنا لقصة هوليوود مع الحرب من يوم أصبحت كعبة السينما، وحتى يومنا هذا، وأنما اكتفي بأن أقول بأن الحرب العالمية الأولى التي اشتعلت نيرانها لا لسبب ظاهر سوى أنه في الثامن والعشرين من يونيه لعام 1914 اغتال شاب صربي رجلاً نمساوياً في مدينة صغيرة تدعى “سراييفو”، وهي عاصمة مقاطعة تعرف باسم “بوسنيا” إلا أن قتيل “سراييفو” لم يكن من طينة باقي الناس، إنه ولي عهد امبراطورية النمسا، والارشيدوق المنحدر من سلالة عائلة الهبسبورج ذات الجلال، لذلك فدمه لا يفتدى بدم القاتل وحده، بل بدماء الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها، تلك الحرب أو بمعنى أصح المجزرة البشرية، قد مهدت هوليوود لاشتراك الولايات المتحدة فيها إلى جانب الحلفاء قبل نهايتها بقليل بعدد من الأفلام، لعل أهمها “عرائس الحرب” للمخرج “هربرت برنتون” و”االحضارة” للمخرج “توماس انس” و”قلوب العالم” للمخرج الرائد “دافيد جريفيث” (1916).

وفي هذه الأفلام نرى الجنود الألمان أقرب في تصرفاتهم إلى الوحوش الكاسرة، منهم إلى بني الانسان.

وعن “قلوب العالم” قال المخرج الأمريكي المنحدر من أصل الماني “اريك فون شتروهايم” أنه فيلم تسبب في تحويل مئات وألوف الرجال والنساء من التعاطف مع المانيا إلى العداء التام.

الكذبة الكبرى

فإذا ما انتقلنا إلى المجزرة البشرية الثانية لوجدنا الشعب الأمريكي مضللاً، ويحسب نفسه بمنجى عنها، كما سبق له إبان المجزرة الأولى.

وله العذر في ذلك، إذ أن حكومته كانت قد أعلنت حيادها التام بين المعسكرين المتحاربين، معسكر الفاشية، ومعسكر الحلفاء الذي انحسر، بعد سقوط فرنسا، في انجلترا صامدة وحدها لمحور روما – برلين .

ولكن هوليوود لم تقف على الحياد، وإنما انصرفت بكل طاقاتها إلى الدعاية للسياسة غير المعلنة القائمة على معاداة دولتي المحور، تمهيداً للمشاركة في الحرب إلى جانب الحلفاء.

وفي سبيل ذلك انتجت أفلاماً معادية للنازية مثل: “الرفاق الثلاثة” للمخرج “فرانك بورزاخ” (1939) و”هروب” للمخرج “مرفين لوروا” (1940)  و”الديكتاتور العظيم” لصاحبه “شارلي شابلن” ذلك الفيلم الذي تقمص فيه المتشرد الخالد شخصيتين، إحداهما شخصية ديكتاتور رهيب “هينكل” والأخرى شخصية حلاق يهودي مستضعف، يكتب له في نهاية الفيلم التخلص من الديكتاتور انتصاراً للسلام.

النخبة المختارة

ومع ذلك، فهوليوود لم تخل يوماً من نخبة منشقة ولو إلى حين.. نخبة تعي أن الحرب كارثة بأي معيار، وتعمل على كشفها باعتبار أنها عار.

ومن بين أفلام هذه النخبة المختارة “كل شيء هاديء في الميدان الغربي” (1930) للمخرج “لويس مايلستون” و”أجمل أيام حياتنا” (1946) للمخرج “ويليم ويلر” و”المسيو فيردو” (1946) لشارلي شابلن و”نهاية العالم الآن” (1979) للمخرج “فرانسيس فورد كوبولا” و”طريق المجد” (1957) و”الدكتور سترينج لوف أو كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة” (1963) و”رصاصات حية” أو “ولد ليقتل” (1987).

والأفلام الثلاثة الأخيرة أبدعها “ستانلي كوبريك”، ذلك المخرج الأمريكي الذي يعيش في المهجر بانجلترا بعيداً عن هوليوود وجوها المشحون بالمؤامرات والضرب تحت الحزام  و”رصاصات حية” فيلمه الأخير، أول عمل يبدعه بعد انقطاع دام حوالي سبعة أعوام.

ولو اكتفينا بالقاء نظرة طائرة سطحية عليه لذهب بنا الظن إلى أنه فيلم عن فيتنام، ولكنه في حقيقة الأمر عن شيء آخر.

إنه عن الحرب.. أي الحرب.

ونصفه الأول مكرس لعملية القضاء نهائياً، وبلا هوادة، على بقايا الانسانية في المجند ابتغاء الانحدار به إلى مجرد آلة صماء، لا تجيد شيئاً سوى القتل.

ومع انتهاء عملية التدريب التي تجعل من المجندين قتلة محترفين، يبدأ النصف الثاني من الفيلم في ميدان القتال حيث لا نرى إلا خراباً متصلاً.