! سوبرماركت والسقوط في بحر من الأفلام الهابطة

لو ألقينا نظرة طائرة على الأفلام المصرية الجديدة المعروضة حاليا بدور السينما، لاستبان لنا أنها جميعاً، فيما عدا “الحكم لله” لصاحبه “حسام الدين مصطفى”، من ابداع صانعي أطياف متخرجين في معهد السينما بالقاهرة، أو في غيره من معاهدها على امتداد العالم الفسيح.

إنها في مجموعها مخيبة لما علق على هؤلاء المخرجين من آمال كبار، لا استثني من ذلك حتى “سوبر ماركت” للمخرج “محمد خان”.

فمن المعروف عن صاحب الفيلم الأخير أنه من المخرجين القلائل عندنا الذين لهم رؤية. ومن ثم يعتبر أي فيلم له حدثاً فنياً مثيراً للجدل، مستوجباً للاهتمام.

وهو في “سوبر ماركت” كما في “عودة مواطن” من قبل، وكلاهما لكاتب سيناريو واحد “عاصم توفيق”، إنما يعرض للمشكلة التي تؤرق باله وبال كل من يهمه أمر مصر، ألا وهي فساد الأوضاع في مجتمع تحرر من كثير جداً من قوانين الخلق والعرف تحت تأثير الإذعان لقيم الانفتاح، وما نشأ عنه من تعقيد بغيض في العلاقات داخل الأسرة الواحدة.

فإذا بها تتمزق، وإذا بالأزواج والأباء والأبناء والأشقاء بعضهم لبعض عدو.

لعنة الأشياء

وإذا بالمجتمع عاجز عن أن يقول في هذا كله شيئاً، أو أن يقاوم هذا كله بشيء..

وما تمزق في “سوبر ماركت” خان، هو ما كان بين الأم “أميرة” (نجلاء فتحي) التي تعمل بائعة في أحد محلات السوبر ماركت وبين ابنتها الوحيدة “ناهد” (مريم مخيون) من علاقات قوامها الحب والعطف والحنان، وذلك عندما عاد الأب مطلق الأم (نبيل الحلفاوي) إلى مصر بعد غياب في الكويت طال عشرة أعوام، مستصحباً زوجة عاقراً، واسعة الثراء، وأموالا تعد بالملايين.

فها هو ذا، يلوح للابنة الصغيرة بأشياء الحياة اللذيذة.. العربة المرسيدس الفارهة، فنادق النجوم الخمسة، السكن الأبهة، السهر في المراقص والملابس الغالية الغريبة..

مستهدفاً من وراء كل هذا الأغراء جذبها من فلك أمها إلى عالمه حيث لا وزن ولا قيمة إلا للأشياء.

وطبعاً لا تصمد الصغيرة طويلاً ومع الفقدان لها نهائياً بسبب تشيئها تسقط الأم هي الأخرى في مستنقع الأغراء.

وهاهي ذي، قريباً من نهاية الفيلم غانية في صحبة طبيب مليونير زير نساء “الدكتور عزمي” (عادل أدهم) اتخذ من مقولته المفضلة “الفلوس إما تسرقها أو تورثها أو تتجوزها” شعاراً له في ممارسة الحياة وفقاً لما يهوى ويشاء.

وأغلب الظن أن فكرة فساد العلاقات بين الأم والأبنة لأسباب تتصل بالثروة والجاه – وهي فكرة الفيلم الرئيسية – مأخوذة عن “ميلدريد بيرس”، ذلك الفيلم الأمريكي الذي أدت فيه النجمة الأسطورة “جوان كروفورد” دور أم مطلقة وهو دور أهّلها للفوز لأول وآخر مرة بأوسكار أفضل ممثلة (1946).

وكما أميرة في “سوبر ماركت” فقد كلفت “ميلدريد بيرس” بابنتها كلفاً شديداً، وعنيت بتربيتها عناية متصلة. غير أنه في آخر الأمر، وحين تتقدم السن بالابنة، تفسد العلاقة بينها وبين الأم شيئاً فشيئاً، لأسباب لعل أهمها أن الأم كانت قبل أن تشق طريقها إلى الثراء امرأة عاملة من عامة الشعب.

البرود.. لماذا ؟

ومهما يكن من الأمر، فعادة يتوقع لفيلم مداره فكرة تدهور العلاقة بين الأم والابنة لما سلف ذكره من أسباب، أن نشاهده بشيء من الحرارة.

ولكن ما حدث بالنسبة لسوبر ماركت خان كان على العكس من ذلك تماماً.

فلقد شاهدناه، والحق يقال، بكثير من البرود.. لماذا ؟

لأن صاحبه آثر تغليب العقل على القلب، والرأي على العاطفة. وعلاوة على هذا، ارتكب خطأين ليس لأحد أن يغتفرهما في أي عمل جاد.

أولهما:  الاسراف في الجنوح إلى التعبير المباشر في عمل يعتمد بحكم بنائه الدرامي لا على الكلام، بل على التفاصيل كملامح الوجه والضوء والظلال.

ولعل خير مثل على هذا الجنوح، ذلك المشهد الذي نفاجأ فيه “برمزي” (ممدوح عبد العليم) الموسيقار المولع بالموسيقى الكلاسيكية، وهو يواجه الطبيب المليونير متمرداً، متحدياً صيانة لكرامته، قائلاً أنه ليس على استعداد أن يعمل لحسابة قواداً.

أما الخطأ الثاني: غير المغتفر فهو اختيار الوجه الجديد “مريم مخيون” لأداء دور الصغيرة.

فالأكيد حسب مسار الفيلم وتداعي أحداثه أن دورها فيه من ذلك النوع المحوري.

والأكيد الأكيد أن وجهها لا تنبعث منه الشرارة المتقدة التي تستولي على المشاعر، وتهز القلب والوجدان.

أخطاء بالجملة

فإذا ما انتقلنا إلى “السقوط” للمخرج “عادل الأعسر” لوجدنا أنفسنا أمام فيلم لا يتصور أن يكون صاحبه قد تعلم ألف باء السينما.

فالأخطاء فيه من ذلك النوع الذي يدخل في باب الإهمال الجسيم.

وأحد الأمثلة على ذلك، وما أكثرها، عدم محاولة مخرجه مع مصوره الحاج “محمد طاهر” التخلص من انعكاسات الضوء على الصورة في مشهد النيل حيث يستقل “حسن” (فاروق الفيشاوي) برفقة “توحيدة” (مديحة كامل) قارباً شراعياً لزوم الغرام.

فقد أخفت تلك الانعكاسات وجهي الحبيبين، حتى أننا طيلة المشهد ، لم نستطع أن نرى من ملامحهما شيئاً..

وثمة مثل ثان على هذا الإهمال في مشهد آخر تجري وقائعه داخل سنترال التيلفون حيث نرى “حسن” يشق بطن بطيخه، فإذا بها حمراء تسر الناظرين. وهو في المشهد لا يكتفي بذلك، بل يتذوقها سعيداً بحلاوتها وطعمها اللذيذ.

وهنا يشاء المخرج “لحسن” أن ينتقل إلى مكان آخر غير بعيد عن البطيخة التي استطعمها، ليعود به في اللقطة التالية إلى حيث توجد، فإذا بها بطيخة سليمة لم تمسسها سكين.

وذلك الغياب للوحدة في تتابع اللقطات، إنما يرجع إلى اهمال تسجيل كل الملاحظات بمحتويات المنظر وتكوين الصورة في كل لقطة، وفي كل موقف، حتى يبدو كل شيء في نهاية الأمر طبيعياً ومنساباً.

أما إذا انتقلنا – بعد هذه المهازل – إلى الموضوع فسنجده، حسب الظاهر،، يدور حول التصنت.

بعد السقوط

فبطلاه “حسن” و”توحيدة” يعملان في أحد السنترالات. وهما بحكم عملهما، يستطيعان التصنت على المكالمات ووفقاً لسيناريو الفيلم الذي كتبه “محمد الباسوس” وهو بدوره متخرج في معهد السينما، نراهما وهما ينحدران رويداً رويداً من اللهو باستعمال امكانيات التصنت المتاحة لهما إلى استغلالها، بفضل ما حصلا عليه من معلومات في الابتزاز.

إذن فنحن أمام موضوع جديد على السينما عندنا أراه متأثراً بفيلم “فرانسيس فورد كوبولا” المعروف تحت اسم “المحادثة”، والذي جرى تتويجه بجائزة مهرجان كان الكبرى لعام 1974.

ولكن سرعان ما يضيع هذا الموضوع الجديد في متاهات حكايات فرعية كأزمة المساكن والسوق السوداء والخيانة الزوجية وفساد القطاع العام، بحيث أصبح “السقوط” في نهاية الأمر فيلما يدور حول معان قديمة، منبتة الصلة بالتصنت بما يحمله في طياته من اعتداء أثيم على الحرمات.

أفلام الكيف

والآن إلى “الأمبراطور” و”شبكة الموت” وكلاهما من تلك الأفلام التي تدور وجوداً وعدماً حول تهريب المخدرات، وبالذات الهيروين.

وكلاهما يطرح الفكرة المستهلكة القائلة بأن السموم البيضاء إنما تتسرب إلى أرض الوطن العزيز لشيء سوى أن ثمة نفراً في قمة السلطة قد تورطوا مع عصابات تهريب دولية لليهود فيها نفوذ كبير.

وما أحب أن أتوقف كثيراً عند “الأمبراطور” أول فيلم “لطارق العريان” المتخرج في أحد معاهد السينما بالولايات المتحدة، لسببين.

أولهما لأنه لم يعرض بعد عرضاً عاماً في دور السينما.

وثانيهما لأنه يشبه الفيلم الأمريكي “الوجه ذو الندبة” لصاحبه المخرج “بريان دي بالما” في كثير من الوجوه.

وقد يكون من اللازم مشاهدة الفيلم الأخير مرة أخرى قبل القفز إلى اتهام “الأمبراطور” بأنه لا يعدو أن يكون صورة مشوهة من فيلم “دي بالما”.

يبقى “شبكة الموت” لصاحبه المخرج “نادر جلال” وفيه تلعب “نادية الجندي” او نجمة الجماهير كما يحلو لها أن تسمي نفسها في ملصقات أفلامها، دور امرأة دبّاحة للرجال، مستعينة في أدائها بكل أسلحتها القديمة، بما في ذلك تعرية كل ما سمحت الرقابة بتعريته في حدود حسن الآداب والنظام العام فضلاً عن هز البطن بكفاءة واقتدار معلمات الرقص الكبار أمام حشد رهيب من أخطر مهربي الهيروين، يلهو ويلعب في إحدى علب الليل بمدينة اثينا.

أقول اثينا لأن أهم أحداث الفيلم إنما تدور في عاصمة الأغريق حيث يقيم مهرب المخدرات “بسيوني” الشهير “بيلي” (فاروق الفيشاوي مرة أخرى).

وحين تذهب إليه “نور” (نادية الجندي) بتكليف من أجهزة الأمن المصرية على أعلى مستوى، التي رأت غرسها وسط عصابة المهرب المذكور كما “رأفت الهجان” وذلك بعد إذ تبين لتلك الأجهزة أنها كانت، وهي فتاة على علاقة حب به، لم تدم طويلاً.

أما لماذا وافقت “نور” على ركوب المخاطر في سبيل مصر، فسيناريو الفيلم – وهو من تأليف بشير الديك – يرجع ذلك إلى سببين متضاربين.

التخليط

الأول: التهديد والوعيد، فهي حين ترفض الإذعان إلى طلب الأجهزة التعاون معها، تُلفق لها تهم من بينها الاتجار في العملات المهربة، ومن ثم، يزجّ بها في السجن مع نساء احترفن كل ألوان الشذوذ والأجرام.

الثاني: الاقناع والترغيب، فهي حيث تعرف أن حبيبها القديم مهرب للسموم البيضاء، تلك السموم التي راحت ضحيتها ابنتها الوحيدة التي في عمر الزهور، تسرع بالموافقة على الانخراط في سلك المجاهدين والمجاهدات في سبيل تخليص الانسانية جمعاء من الأشرار تجار السموم البيضاء.

غير أن السيناريو لم يقل – وما أكثر اللغو الذي قاله- لماذا لم تلجأ تلك الأجهزة بداءة إلى أسلوب الإقناع المتحضر بعرض المهمة القومية الانسانية على نجمة الجماهير طالما أنه كان لديها الاستعداد نفسياً– بسبب ابنتها – للقبول، بدلاً من الابتداء معها بوسائل قهر غير مشروعة، وصلت في القسوة إلى حد الالقاء بها في غيابات السجون مع خساس النساء !!

قصة المدينتين

ومن عجب أن يجئ رسم شخصية المجرم “بيلي” مهلهلاً، مخلخلاً، وذلك رغم أن “بشير الديك” من أبرع كاتبي السيناريو في مصر، وعلى كُلٍ، فذلك التهلهل والتخلخل أمر متوقع بالنسبة لأية شخصية في أي من أفلام  نجمة الجماهير.

ومن هنا عدم الدهشة من أن نرى مجرماً من طراز “بيلي” لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم وأضلها سبيلاً، نراه وقد انهار في ثوان أمام جسد نجمة الجماهير، وهو يتثنى ويتلوى أمامه في أحد ملاهي اثينا بعد انقطاع في الحب الذي كان بينهما دام خمسة عشر عاماً أو يزيد.

ثم نراه مرة أخرى، وهو الذي سبق وأن قال أنه لابد أن يظل أسداً في عالم أشبه بالغابة وإلا افترسته الذئاب، نراه وقد تحول إلى حمل وديع يقطر رقة لمجرد سماعه أن الصبية المدمنة المنحرفة التي جرى اجهاضها بدل المرة ثلاث مرات، من لحمة ودمه أنجبتها له نجمة الجماهير..

وإذا به ما أن يصله، إثر علمه بأن له صبية، خبر إصابتها في حادث إصابة جسيمة، وهو خبر كاذب سلل إليه بقصد استدراجه من اثينا إلى كمين منصوب له في القاهرة، حتى يسرع بالسفر إلى مصر كي يكون بجوار فلذة كبده، وهو الذي لم يكن يعلم بوجودها قبل أيام !!

وفي الختام، فلن أعرض لتفاصيل أخرى ساذجة يطفحها “شبكة الموت” ذلك الفيلم الذي أراه عملاً سينمائياً غير مستحب، كل ما فيه لغو وثرثرة، وكل ما فيه أمره غريب على “بشير الديك” صاحب”سواق الأوتوبيس” و”الطوفان”..

الملهاة الموسيقية من البداية حتي كابوريا

من بين الأوهام في دنيا الأفلام، الظن بأنه يكفي أن يحشد المخرج عدداً لا بأس به من الأغاني في فيلمه حتى يتحول به إلى ملهاة موسيقية.

الأمر ليس بهذه البساطة فعندما نستعرض تاريخ الفيلم الموسيقي من خلال سينما هوليوود باعتبارها أول سينما تكلمت وغنت ورقصت، نستطيع أن نفرق في سهولة ويسر بين ما هو حقيقي وما هو زائف في ذلك العالم الوردي الجذّاب، عالم الملهاة الموسيقية.

ولد الفيلم الموسيقي قريباً من نهاية عقد العشرينات وبالتحديد في السادس من أكتوبر عام 1927، يوم أن نطقت السينما بعد صمت طويل، في فيلم مغني الجاز، الذي أنتجته شركة اخوان وارنر آملة بفضله التحرر من آثار الضائقة المالية الآخذة بخناقها.

في ذلك الفيلم تكلم قليلاً المغني الأمريكي ال جولسون بادئاً بهذه العبارة النبوءة “هو أنتم لسه سمعتم حاجة”، وغنى كثيراً مستهلاً بأغنية تناسب ميلاد السينما الناطقة تماما.

وبكل المعايير كان الفيلم بشعاً، ومع ذلك فبفضله ولد عهد جديد.

ومنذ هذا الميلاد والموسيقى تلعب دوراً هاماً في أفلام مصانع الأحلام، حتى وصل الأمر في البداية بجميع نجوم هوليوود فيما عدا جريتا جاربو والكلب رن تن تن، والاثنان كان لهما شأن كبير في ذلك الزمان، إلى الاندفاع نحو تلقي دروس في الرقص والغناء ابتغاء اغتنام دور ولو صغير فيما هو آت من أفلام قوامها في كل لقطة من اللقطات الرقص والغناء فضلاً عن ضوضاء الكلام.

السحر الخفي

ومهما يكن من الأمر، فسحر الصور تنطق أصواتاً تغني، وتشع أطيافاً ترقص، كان ولايزال سحراً لا يقاوم.

فالذين شاهدوا الأفلام الرائدة التي تكلمت وغنت ورقصت لا يستطيعون أن ينسوا “فريد استير” يخاصر “جنجر روجرز” يرقص معها في “الطيران إلى ريو” رقصة الكاريوكا.

بل أن تأثير هذا الثنائي الشهير برقصته تلك كان داهماً إلى حد أن راقصة شابة تألقت فيما بعد بحيث أصبحت راقصة مصر الأولى، قد اتخذت من تلك الرقصة اسماً لها.

كما أن أحداً من الذين شاهدوا أول فيلم لمحمد عبد الوهاب، ثم أول فيلم لأم كلثوم في النصف الأول من عقد الثلاثينات لا يمكن أن تنمحي من شاشة ذاكرته لحظة الدهشة والانبهار بسماع صوت مطرب الملوك والأمراء منطلقاً من الشاشة البيضاء متغزلاً في وردة الحب الصافي، أو صوت كوكب الشرق وداد يشارك الطير الأسير مرارة الفراق والحرمان.

الكمّ والكيف

ومع ذلك فمن المعروف أن الفيلم لا يدخل في عداد ما اصطلح علي تسميته بالملهاة الموسيقية مثل الأرملة المرحة (1934) الغناء تحت المطر (1952) وصوت الموسيقى (1965) إذا ما زاد عدد الرقصات والأغاني ويخرج منها إذا ما نقص العدد إلى حد الانعدام.

فهناك من الأفلام بدءًا بـ”استعراض الحب” (1929) وانتهاء بـ”أنت ولد كبير الآن” (1967) للمخرج كوبولا صاحب الأب الروحي. ما لا يثور خلاف بين اثنين حول أنها من نوع الملهاة الموسيقية وذلك رغم أن أحداً في البعض منها لم يخط خطوة واحدة مصممة وفق أصول فن الرقص وفي البعض الآخر لم يفتح فمه بكلمة واحدة منغومة.

وبالعكس فتاريخ السينما حافل بأفلام من نوع آخر متخم بالرقص والغناء كأغلب الأفلام الهندية وكبعض الأفلام التي تطوع لخدمة صوت واحد أو واحدة من أهل الطرب عندنا كفريد الاطرش ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وصباح.

فضلاً عن أن ثمة أفلاماً “كمظلات شربورج” للمخرج الفرنسي جاك ديمي الحوار فيها يدور كله بالغناء لا بالتموج بين الطبقات العليا والدنيا كما في الأوبرا. ولا بالتحول من وإلى الغناء ذهاباً واياباً كما في الأوبريت ورغم ذلك فأي من تلك الأفلام لا يحسب ضمن الملهاة الموسيقية والسبب أنها لم تتشبع بعنصر الموسيقى بحيث تكون معه مزيجاً جديداً من الابداع.

ولا حيلة لنا – فيما أظن- عندما نتعرض لهذه الأفلام إلا أن نعتبرها من قبيل الدراما العادية، وأن ما حدث في شأنها هو في حقيقة الأمر انتقال بها إلى وضع مفتعل يعبر فيه بالغناء أو بالرقص او بالاثنين معاً، عما جرت العادة أن يكون التعبير عنه بالكلام.

والواقع أن الأفلام التي لها بعض نصيب من الأغاني والرقصات لأن حانة من حانات الليل أو مسرحاً من مسارح المتنوعات يشكل جزءًا من خلفيتها، هذه الأفلام في أغلبها ليس لها حق الانتساب إلى عالم الملهاة الموسيقية.

الشيوع والبساطة

فالفيلم حتى يمكن اعتباره كذلك، لابد أولاً أن يكون بناؤه العام قائماً علي الموسيقى بحيث تشع في كل ركن من أركانه شيوع الماء في العود الرطب.

وثانياً أن يكون ذلك البناء قائماً على خطة بسيطة لا تزدحم بالأشخاص والحوادث. لا تتغلغل إلى المعاني والطبائع.

وقد لا اكون مغالباً إذا ما جنحت إلى القول بأنه في حالة توافر هذين الشرطين فإن الفيلم لابد أن يستغرق كل ذهن المشاهد من أول لقطة فيه إلى آخر لقطة.

ومن عجب توافرهما أخيراً في ثلاثة أفلام مصرية جرى ابداعها في أزمنة متقاربة هي الأراجوز، سمع هس وكابوريا.

ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى أن الأفلام الثلاثة قد جرى التقاطها بواسطة كاميرا مدير تصوير واحد، الشاب الصاعد محسن أحمد.

فإذا أضيف إلى ذلك أن سيناريو وحوار كل من الأراجوز وكابوريا من إعداد شاب موهوب آخر “عصام الشمّاع” وأن أغاني سمع هس وكابوريا من تلحين الشقيقين مودي وحسين الامام، وكلاهما من الشباب الذي تعلق عليه في دنيا الموسيقى آمال كبار.

فضلاً عن أن الذي أدى دور رئيس المحكمة الخرب الذمة في سمع هس هو المخرج خيري بشارة، صاحب كابوريا.

انتصار الشباب

فإننا في ضوء ذلك كله، نستطيع أن نقول في ثقة أن الأفلام الثلاثة قد سرت فيها روح واحدة تسودها خصائص، لو أننا أمعنا النظر فيها لألفيناها هي بعينها خصائص الشباب التي أهمها تحطيم القيود وجموح الخيال.

ولن أقف عند الأراجوز لصاحبه المخرج هاني لاشين ولا عند سمع هس لصاحبه المخرج شريف عرفة، لن أقف إلا قليلاً لا لشيء سوى أن الفيلم الأول قد سبق وأن تصديت له بالكتابة في الهلال قبل عام، وأن الفيلم الثاني ستجئ فرصة الكتابة عنه بما يستحق من استفاضة لدى عرضه عرضاً عاماً في مستقبل قريب.

وعلى كُلٍ، فالفيلمان يمتازان ببساطة الفكرة التي نراها في فيلم لاشين تقدم لنا من خلال محرك الأراجوز عمر الشريف المعبر عن الغلابة الذين حاربوا وضحوا من أجل الوطن المثخن بالجراح حتى نجحوا في انتشاله من هاوية الهزيمة والعار.

في مواجهة خساس الناس الذين لم يحاربوا ويضحوا ومع ذلك انفردوا بجني ثمار الانتصار.

الوهم والحقيقة

أما الفكرة في فيلم عرفة لصاحبها كاتب السسيناريو الشاب ماهر عواد، فقد جرى تقديمها لنا من خلال فنانين مشاغبين صعلوكين فقيرين حمص وحلاوة، (ممدوح عبد العليم) و(ليلى علوي) اللذين يستهل بهما الفيلم وهما في سرادق يغنيان ويرقصان علي لحن وكلمات أغنيتهما اليتيمة أنا حمص.. حمص وحلاوة..

وسرعان ما يختلس المطرب الرسمي غندور (حسن كامي) أغنيتهما مستبدلاً بكلماتها كلمات شنانة رنانة لا تقول شيئاً أو بمعنى أصح تقول عبثاً.

أنا وطني بانشد واطنطن.. واتباهى بمجدك ياوطن.. على كل الأوطان متسلطن.

وما أن تصل إلى سمع حمص وحلاوة كلمات أغنيتهما منطلقة من شاشة التليفزيون بعد أن جرى تشويهها علي الوجه سالف البيان، حتى يبدأ بينهما وبين المطرب الرسمي المحتال صراع مرير من أجل استرداد حقهما السليب، تتخلله من حين إلى حين استعرضات شيقة غير مقحمة صمم رقاصاتها الشاب عاطف عوض، لعل أهمها استعراض “الفلوس كل شيء” و”فوق.. فوق”.

القاع والقمة

فإذا ما انتقلنا إلى كابوريا لوجدنا أنفسنا امام ملهاة موسيقية قوامها فكرة بسيطة أخرى لعصام الشماع جرى تقديمها لنا من خلال صعاليك أربعة من قاع المدينة يتزعمهم ملاكم هاو “هدهد” (أحمد زكي) في مواجهة امرأة فاتنة لعوب حورية (رغدة) وزوجها المليونير سليمان (حسين الإمام).

أما كيف التقى أهل القاع بأهل القمة، فهذا ما يحكيه خيري بشارة، في فيلمه الروائي الخامس بأسلوب ساخر، زاخر بالدعابة يمتزج فيه الواقع بالخيال المنطلق من القيود الضارب في آفاق لا تعرف الحدود.

وأول الدعابات في مسلسل المفاجآت الملئ بها كابوريا لقطة البداية التالية مباشرة لانتهاء العناوين ويالها من بداية.

انها تصور وجهي سيدتين في خريف العمر، تتبادلان أطراف حديث لا نفهم منه شيئاً لا لسبب سوى أن كلمات الحديث ليست بلغة الاباء، إنما بلغة الفرنسيس.

صراع الديكة

فاذا ما تحركت الكاميرا بعد ثوان إلى وراء اكتشفنا أن الحديث داخل فندق عائم، وأن ثمة خشبة مسرح يتوسطها المطرب الشعبي شفيق جلال مرتدياً بدلة سهرة بيضاء مشنفاً الآذان، بأغنية فرانكو آراب ما أن تنتهي حتى يزف إلى الحضور بشرى بدء مباراة يتقاتل فيها ديكان يتحلق حولهما الجمع المنقسم إلى فئتين مبعث تخاصمهما مراهنة إحداهما علي ديك، والثانية علي الديك الآخر.

وقد يبدو هذا النوع من اللهو غريباً على مجتمعنا.

ولكن لم استبعاده وسط الشرائح الواسعة الثراء وليدة الانفتاح، تلك الشرائح المعروف عنها ولعها الشديد بكل ما هو أجنبي، والتي هي بحكم مصالحها لا تستثمر أموالها إلا في الخارج حيث الأمن والأمان، وبحكم ميولها الاستهلاكية لا ترنو إلا إلى كل ما هو مستورد، حتى ولو كان لهواً ولعباً.

وقريباً من الفجر، وبعد التعرف علي حورية وزوجها المليونير أثناء الرهان على الديكة، تتجه الكاميرا من العوامة (يلاحظ أن أول فيلم روائي مهم  لبشارة اسمه العوامة 70) إلى سطح النيل حيث نرى قارباً يتهادى بشبان ثلاثة بينهم هدهد الذي كان يردد مع صاحبيه كلمات أغنية “قزقز كابوريا.. أكل الكابوريا لا يعلى عليه”.

النداء

وهي كلمات استرعت انتباه حورية السيدة الجميلة الغنية فحفزتها إلى مناداة الشبان الثلاثة، طالبة إليهم الصعود وذلك للاستماع إلى أغنيتهم والاستمتاع بما تنطوي عليه من غريب الكلمات.

وطبعاً لبوا النداء، غير أنهم ما كادوا يدخلون العوامة حتى لمحهم زوج حورية المليونير واستفزه سوء هيئتهم الذي اعتبره نشازاً خليقاً بالطرد والإبعاد.

فإذا ما قاوموا ذلك، نشبت بينهم وبين حراس فتوات معركة جرى فيها تبادل اللكمات حتى انتهت بهم إلى تخشيبة قريبة سجناء.

وفي فجر اليوم التالي تم الافراج عنهم جميعا بكفالة دفعتها السكرتيرة أو بمعنى أصح الوصيفة سحر رامي، بأمر من سيدتها حورية لغرض في نفسها سرعان ما يستبين لنا فيما هو قادم من مفاجآت.

هكذا بدأ الفيلم بداية بليغة حددت في لقطات قليلة مختصرة الاطار الذي ستجري داخله الأحداث .. إطار الملهاة الموسيقية.

على باب الله

بعد هذه المقدمة التي حددت للفيلم اطاره، ينتقل بنا صاحبه إلى حي شعبي حيث نرى هدهد يتلاكم في مبارة فوق حلبة مقامة بواسطة الأهالي في إحدى الساحات.

وها هو ذا يختلس بين الحين والحين النظر إلى فتاة قمر تتابع المباراة من إحدى النوافذ المطلة على الساحة.

ومن خلال عدد جد محدود من المشاهد التالية لتلك المباراة تتضح لنا ملامح شخصيته.

إنه شاب منصرف عن العمل في ورشة أبيه صانع القوارير الزجاجية مختلفة الألواح، طموحه هو صاحباه إلى الصعود بفضل الملاكمة إلى الأوليمبية (يقصد الأوليمبياد). متعلق بحب جارته قمر التي يرفض أبوها خطبته لها لأنه صعلوك لا مهنه له، ملتقط رزقه بوسائل غير مألوفة تلعب فيها العضلات دوراً حاسماً.

وما أن تنتهي تلك المشاهد، التي من بينها مشهد رائع في مولد حيث ينضم إلى الشلة شاب رابع ضخم مفتول العضلات، كان هدهد قد كشف احتياله أمام المتفرجين مضيعاً عليه بذلك عرق جبين ليلة بكاملها حتى ترسل السيدة الجميلة وصيفتها إلى هدهد وشلته عارضة عليهم القيام بمباريات ملاكمة علي حلبة مقامة في حديقة قصرها المنيف.

المصارعون الجدد

وبدءًا من لحظة قبولهم لذلك العرض المغري ينعطف الفيلم انعطافاً شديداً، فإذا بنا أمام مشاهد داخل ذلك القصر يقامر فيها أصحابه علي الآدميين بدلاً من الديكة، مشاهد تهزنا إلى الضحك بما تعرض أمام أعيننا من مناظر سمعنا عن متشابهات معها علي مدار التاريخ، فنضحك من سخفها أو نتفكه بمفارقاتها.

مناظر تذكرنا بعهود طغيان الأباطرة الرومان حينما كانوا يدفعون بالعبيد إلى ملاعب للاقتتال كالوحوش الكاسرة، وسط صيحات غضب او استحسان مندفعة من حناجر متفرجين متعطشين للدماء.

وكأن صاحب الفيلم يريد بذلك أن يقول أن شيئا لم يتغير فالصعاليك الذين يتم اصطيادهم فجراً كي يتسلى بهم علية القوم ليلاً، شأنهم في ذلك شأن الكابوريا التي يجري اصطيادها مع مطلع الفجر كي يتسلى بأكلها من معه ثمنها، ليلاً، هؤلاء الصعاليك لا يختلف أمرهم كثيراً عن أمر العبيد الذين كان الأسياد يلهون بهم في سالف الزمان.

الذوق السليم

وأخيراً فكم كنت أحب أن أعرض شيئاً من خصائص الفيلم الفنية التي تتصل أولاً بأغانيه التي أراها رغم كل غرابة كلماتها خالية من أي ابتذال يقف حائلاً رقابياً دون سماعها على أشرطة تسجيل.

وثانياً بملابس كل من رغدة وسحر رامي التي أراها قد جنحت إلى ابهار لا يتحلى بأي ذوق سليم.

وكم كنت أحب كذلك أن أتحدث تفصيلاً عن حياة الصعاليك الأربعة في تيه القصر المنيف، وكيف راودت حورية هدهد عن نفسه، وكيف كتب له هو وصحبه التحرر من سحر القصر الخفي، والنجاة بأنفسهم كما يوليس في أساطير الأولين.

ولكن شيئاً من هذا لا أستطيعه لضيق المكان كل ما استطيعه في هذا الخصوص هو أن أقول أن الفيلم قد خلص بصعاليكه إلى النهاية الحتمية في أي عمل سينمائي له طابع الملهاة الموسيقية، النهاية التي تقول بأن الكل سعيد بل قل في منتهى السعادة !!

اسكندريه كمان وكمان في الميزان

السينما صناعة  وهي إذا كانت تختلف عن صناعة الأدب من بعض الوجوه فانها تشبهها في بعض الوجوه الأخرى، وأية ذلك قيام مخرجي السينما بإبداع أفلام عن الأفلام.

فثمة وجه شبه بين ذلك النوع من أنواع الابداع وبين قيام الروائيين من حين لآخر بكتابة روايات مدارها أمثالهم من الروائيين أو جنوح المسرحيين من حين إلى حين إلى كتابة مسرحيات ليس لها من موضوع سوى ما يدور في كواليس المسرح من وقائع وأحداث.

وهناك مبررات للأفلام التي من ذلك النوع – من بينها رغبات مبدعيها في تعرية أنفسهم من جميع الأسرار والأوزار واستعادة ذكريات ما كان من أمرهم مع المنتجين والاستديوهات، والتعبير عن غضبهم على نظام يستغلهم بلا حسيب أو رقيب.

يبقى مبرر آخر – ولعله الأهم، وهو وصف العالم الذي كل ما فيه مكشوف لهم، في تناول أبصارهم وأفكارهم على وجه ليس في مقدور الغير سواء كان هذا الغير من خاصة أو عامة الناس، آملين بفضل ذلك الالتفات إلى الوراء الإدلاء ببيان على الشاشة قد يكون مسوغاً لتبادل النظرات والاختبارات والآراء.

وعلى كل حال، فقد اشتهر عن دنيا الأعمال في مجال السينما القسوة البالغة في المعاملات.

ولا غرابة إذن إذا ما عكست أغلب الأفلام التي محورها الأفلام تلك القسوة، فضلاً عن التعبير بدرجات متفاوتة من التكثيف عن المأزق الذي يعيشه مبدعو الأطياف.

والسؤال ما هو هذا المأزق وما أسبابه ؟

والجواب على هذا السؤال ليس عسيراً.

فأولاً ثمة ذلك الصراع الدائم من أجل التمويل والجهد المجدب الذي يثقل كاهل المبدعين، وغالباً لا طائل فيه ولا غناء.

هذا – أول

ثم تلك المعارك التي تستنزف الطاقات مع رؤساء استديوهات حظهم من الثقافة أقل القليل، ومنتجين مستبدين يقاسون من غباء شديد ونجوم كل شيء من أمر نزواتهم وأهوائهم غريب عجيب !

وفوق كل هذا ممارسات فاسدة وشريرة في صناعة ما استطاعت آية صناعة أخرى أن تبلغ شأنها في الفساد ولا تساويها ولا تضاهيها في النكر والشر.

فعلى امتداد تاريخ السينما – وهو تاريخ قصير- كثيراً ما كان يجد صاحب الفيلم نفسه مواجهاً بالتعدي المذل على ابداعه بالتعديل والتبديل، تارة بإعادة التصوير، وتارة بإعادة التوليف.

فإذا ما كتب لفيلمه أن يتوج في الشباك بالنجاح، ضيعوا عليه بالغش والخداع نصيبه العادل من الأرباح.

أما فيما لو لم يقبل الجمهور على مشاهدة فيلمه، فهذه النقمة لابد وأن تنتهي به موصوماً محروماً من مواصلة الابداع، والحواديت المرعبة التي تُروى في هذا الخصوص لا عدّ لها ولا حصر.

أسئلة وأجوبة

وفي الحق، فما أن يلتقي صانعوا الأفلام، حتى يبدأ الحديث، وتتتابع الأسئلة لاهثة حول الخيانات والاساءات وصنوف التشويهات التي لا تعرف قصداً ولا اعتدالاً.

لماذا عاد “اليا كازان” إلى كتابة الروايات تائباً عن إخراج الأفلام ؟

ولماذا كلما جاء ذكر لحياة “اورسون ويلز” الفنية اعتبرها الكثير حياة أقرب إلى المأساة.

ولماذا وجد “فرانسيس فورد كوبولا” نفسه، وهو يصور “الأب الروحي” مرفوتاً بدل المرة خمس مرات؟

ولماذا لم تتح لشادي عبد السلام فرصة إخراج “اخناتون” بعد رائعته “المومياء”؟

ولماذا تراجعت “مترو جولدين ماير” عن اتفاقها مع “فريد زيغمان” الذي كان على وشك الشروع بموجبه في إخراج قصة “اندريه مالرو” الشهيرة “مصير انسان”؟

ولماذا امتنع على “جورج كوكور” مواصلة إخراج “ذهب مع الريح”؟

ولماذا لم يستطع “جون هوستون” الوفاء بالتزامه إخراج “وداعاً للسلاح”؟

ولماذا انتهى الأمر بالمخرجين العبقريين “اريش فون شتروهايم” و”دافيد جريفيت” إلى حياة عامة كلها بؤس ويأس؟ ولماذا مات المخرج “نيازي مصطفى” مقتولاً قبل ثلاثة أعوام، ولم يعثر على الجناة حتى يوما هذا؟

وماذا عن كتاب السيناريو الذين أدرجت أسماؤهم في قوائم سوداء تحول بينهم وبين الاستمرار في الإبداع والممثلين الذين ضيق عليهم الخناق حتى آثروا مفارقة الحياة بالانتحار؟

ولماذا كل هذا الكم الهائل من الفضائح والخلافات والخصومات؟

ولماذا الانحدار بالمواهب الجميلة دون أخذ ندرتها في الاعتبار؟ اسئلة كثيرة لا نهاية لا لها.

وطبعاً، وفي كل حالة ثمة إجابة لكل واحد منها.

قانون الغاب

ولكن الإجابة العامة عليها جميعاً إنما تكمن في خصائص صناعة السينما، تلك الصناعة التي تقوم على انتاج سلع ليس لها قيمة تستطيع بها أن تتجاوز حدود قدرتها على التسلية والامتاع.

وهكذا لا تعتمد، لاستمرار بقائها إلا على قوة الذوق العام، وهي قوة يصعب التنبؤ بها وحسابها حساباً دقيقاً فصناعة السينما، وعلى عكس غيرها من الصناعات كالصلب والفحم والسيارات، تتعرض بحكم طبيعتها إلى ضغوط اقتصادية شديدة الصرامة، وتلك الضغوط يتولد عنها تقلبات عنيفة مؤدّاها تمزق الأفراد، والتحول بهم أحياناً إلى مسوخ شائهة أو إلى حطام.

فدنيا الأعمال في مجال السينما دنيا فاسدة، متقلبة، قاسية لا ترحم.

وكل ذلك يرجع إلى عدة أسباب أهمها تزاوج جميع المشاكل الملازمة لأي نوع من أنواع تجارة الاستعراض (وتجارة الأفلام لا تعدو أن تكون امتداداً لتجارة الكرنفال والسيرك) بالمشاكل الملازمة للمضاربة في رأس المال الكبير.

فمن المعروف أنه ما أن يتعرض رأس المال الكبير للخطر، حتى يعاني الفنان.

فمن الصعوبة بمكان التوفيق بين متطلبات النجاح في الشباك، وبين تحقيق فنان السينما لذاته من خلال التعبير بلا قيود عما يحس ويشعر.

ومن عجب أنه، ورغم كل ما تقدم فعدد الأفلام التي تدور وجوداً وعدماً حول عملية إبداع الأفلام قليل بل قليل جداً، إذا ما قيس بالآلاف المؤلفة من الأفلام التي جرى انتاجها على امتداد قرن من عمر الزمن.

التجديد والتقليد

وأعجب العجب أن أهم تلك الأفلام القليلة – إذا ما استثنينا “الردئ والجميل” (1952) لصاحبه “فنسنت مينيللي” و”السكّين الكبير” (1955) لصاحبه “روبرت الدريش” لمخرجين من غرب أوربا “فثمانية ونصف” (1963) للمخرج الايطالي “فيديريكو فيلليني” و”الاحتقار” (1963) للمخرج السويسري “جان لوك جودار”، و”الليل الأمريكي” (1973) للمخرج الفرنسي الراحل “فرانسوا ترينو” و”حالة الأشياء” (1982) للمخرج الألماني “فيم فندرز”.

وأكثر تلك الروائع الأربعة غموضاً هو”الاحتقار” وليس هذا بالأمر الغريب، لما هو معروف عن صاحبه “جودار” من ميل جامح نحو الابتكار والتجديد.

والآن، يمكننا أن ندخل في عداد تلك الأفلام الجدّ قليلة فيلم يوسف شاهين الأخير “اسكنرية كمان وكمان”.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما جنحت إلى القول بأنه أول فيلم متكلم بلغة الضاد، يعرض لموضوع من هذا القبيل.

وهو بهذه المثابة، يعتبر في نطاق الوطن العربي عملاً سينمائياً رائداً. وأول من تنبه إلى أن “اسكندرية كمان وكمان” هو من ذلك النوع النادر من الأفلام كان مراسل التايم الأمريكية في القاهرة (عدد 3/9/1990) الذي كتب عنه قائلاً “أنه فيلم تتشابك فيه الكوميديا الموسيقية بالتسجيلية الاجتماعية والفانتازيا والهزل والهازل”. كل ذلك والمخرج منهمك بالبحث عن الحقيقة ومعرفة الذات إنه المعادل لفيلم “فيلليني” “ثمانية ونصف”.

ورغم كثرة الكلام عن الفيلم في جميع محلاتنا وصحفنا، وهو كلام في جملته يتسم بالإسراف في الإشادة والإطناب.

وكل ما يمكن أن أقوله في شأن هذا الكلام هو ترديد فاتحة “جان بول سارتر” لدراسته “ما الأدب؟”، “ما أكثر الحماقات وما أسرع ما يقرأ الناس، وما أقل ما يفهمون، وما أكثر ما يحكمون قبل أن يفهموا” رغم ذلك فإن أحداً من أصحاب هذا الكلام الكثير لم يشر إلى “ثمانية ونصف” لا من قريب ولا من بعيد.

وفي اعتقادي أن “شاهين” قد تأثر وهو يُعمل فكره في سيناريو”اسكندرية كمان وكان” لا بفيلم واحد، وأنما بفيلمين أحدهما “ثمانة ونصف” والآخر”الاحتقار”.

ولا عيب في التأثر بهاتين الرائعتين فلا أحد مولع بالسينما إلا ومعجب بهما.

والإعجاب أول التقليد والتقليد أول الابداع. ولعل تأثره بالاحتقار يحمل بعض التفسير لغموض المغزى المقصود من مشاهد “الاسكندر الأكبر” و”كليوباطرة” وغموض صلة تلك المشاهد بالخط الرئيسي للفيلم، وغموض تقاطعها وتعارضها مع ذلك الخط.

وليس من شك أن كل هذا الغموض المشوب به الفيلم قد جعله بمنأى عن الفهم.

ولو استطعنا الفهم، وهو أمر من الصعوبة بمكان في حالة الاكتفاء أولاً بمشاهدة الفيلم مرة واحدة وثانية بسماع الحوار، لا سيما ما جاء منه على لسان “يحيى الاسكندراني” (يوسف شاهين) دون الاستعانة بترجمة له على الشريط بإحدى اللغات الأجنبية.

العلاقات الخطرة

لو استطعناه لاستبان لنا أن الخط الرئيسي في الفيلم محوره علاقة معقدة بين مخرج “يحيى الاسكندراني” وممثل شاب “عمرو عبد الجليل” كان الأول قد اكتشفه واتاح له فرص التألق في أفلام من إخراجه عرض بعضها في مهرجانات أولها “برلين” وآخرها “كان”.

والفيلم يبدأ بالممثل الشاب متمرداً رافضاً أداء دور “هاملت في الاسكندرية” فيلم أستاذه الجديد.

وما هي إلا مدة قصيرة حتى كان الفتى قد تحرر نهائياً من وصاية الأستاذ بالزواج من الفتاة التي أحبها، فضلاً عن إخراج مسلسلات تليفزيونية سوقية يجري تمويلها ببترو دولارات قادمة من الخليج تنشر الفساد.

ويعاني الأستاذ من عذاب فراق الفتى، بل قل التمثال الجميل الذي أحسن تشكيله على صورته بحيث يكون امتداداً لشبابه الذي ولى بلا أمل في أن يعود، فإذا به بفضل الفتى يعود.

ويمتد به العذاب على امتداد عرض الفيلم لأن حبه للفتى لم يكن حباً عابراً ولا سطحياً وإنما كان من هذا الحب الذي لا يكاد يبلغ القلوب حتى يستقر فيها ويستأثر بها.

وهو من فرط حب هذا الذي ملك عليه كل شيء يتصور الفتى في أدوار هاملت والاسكندر الأكبر.

الاعتصام.. لماذا ؟

فاذا ما انقلب الحب بينهما من شراب صفو إلى سم زعاف لاسيما بعد أن أصبح الفتى بفضل ذهب الخليج من تلك الفئة القليلة صاحبة العربات المرسيدس الفارهة وبعد أن امتنع عن الذهاب إلى دار نقابة السينمائيين للتعبير عن تضامنه مع المعتصمين والمضربين عن الطعام احتجاجاً على القانون رقم 103 لسنة 1987.

رأينا الأستاذ قريباً من نهاية الفيلم، وقد جنحت به ساديته إلى تصور الفتى في وضع دموي ممعن في القسوة.

فها هو ذا، وفقاً لهذا التصور، راقد داخل تابوت زجاجي في حجرة فرعونية تحت الأرض يخترق سقفها خازوق يصل إلى قلب الفتى مفجراً دماءه التي تسيل حتى تغطي الشاشة تماماً.

وفي أثناء هذا كله، ثمة خط فرعي مقحم على حكاية وقوع الأستاذ في غرام الفتى، مداره اعتصام نفر من الفنانين احتجاجاً على قيام مجلس الشعب باصدار القانون المُشار إليه في الخفاء.

فبفضل هذا الاعتصام الذي صاحبته ضجه كبرى، وانتهى في الواقع كما في الخيال الفيلمي إلى لا شيء، بفضله يلتقي الأستاذ في دار النقابة بفتاة متمردة “نادية” (يسرا) حلوة الحديث، تجمع إلى براعتها في فن التمثيل، ثقافة واسعة وظرفاً فاتناً.

وسرعان ما تترك الفتاة في قلبه جذوة لا سبيل إلى اطفائها، فيتصورها كليوباطرة، ويعلق عليها آمالاً عراضاً تنسيه حبه القديم، وتدفع به إلى مواجهة قضية حياته مع الفن في أفقها الوسيع والعميم.

الغائب والحاضر

يبقى أن أقف قليلاً عند ثلاث ملاحظات لا تزيد. الأولى أن الخط الرئيسي في الفيلم ليس محوره الصراع بين المخرج والمنتج كما هو الحال في روائع مثل “ثمانية ونصف” و”الاحتقار” و”حالة الأشياء”.

وأنما نوع آخر من الصراع غريب بين مخرج هيمان بممثل، ولا يريد له أن يكون حراً مستقلاً يختار الحياة خاصة كانت أم عامة وفقاً لمزاجه ولما يراه محققاً لمصالحه.

وعندي أن ثمة سبباً لمجئ الفيلم خالياً من أي صراع بين المخرج والمنتج حتى ولو كان تلميحاً، وما استتبع ذلك من نتائج ليس أقلها الافتقاد لأي نقد جاد لفساد الأمكنة والعلاقات في دنيا السينما.. فما هو؟

إنه يكمن في أن صاحب الفيلم يجمع بين وظيفتي الانتاج والاخراج وغني عن البيان أنه ما أن تجري المفاضلة بين الاثنتين، إلا وتكون الغلبة للتاجر على حساب الفنان في أغلب الاحيان.

والثانية أن الفيلم دار حول معان كثيرة دون أن يقدمها لنا بجلاء ومنطق واضح يترتب لاحقه على سابقه.

صوت الرجعية

وبالتالي عجز عن أن يبعث فينا الاحساس بمأساة الضياع والفقدان.

ولعل مشهد الفتى، وهو يرقص وحيداً على صوت أم كلثوم وهي تشدو “فات الميعاد” تعبيراً منه عن أوجاعه الناجمة عن عدم فوزه بجائزة التمثيل في مهرجان كان، هذا في نفس الوقت الذي نرى فيه الأستاذ غير مكترث بحال الفتى، محتسياً مع الرفاق الأجانب الشمبانيا، وكأن شيئاً لم يحدث.

لعله أحد المشاهد التي تدل دلالة قاطعة على ذلك العجز عن البيان.

فصاحب الفيلم يريد أن يقول بهذا المشهد أن صوت أم كلثوم رمز للتخلف.. وأن الفتى باستمرار الاستماع اليه والتأثر به مشدود لا محالة إلى الوراء.

وليس من شك أنه وبفرض صحة ذلك القول – وهو في رأيي غير صحيح – فالرمز للتخلف بصوت أم كلثوم أمر غير مفهوم إلا لقة من الناس.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتنحصر في أن مشاهد الاسكندر الأكبر وكليوباطرة إنما تروع بسوقيتها وما أحب أن أدخل في أعماق تلك السوقية وتفاصيل تيهها فذلك شيء لا يتسع له هذا الحديث.

كل ما أستطيع أن أقوله الآن عن تلك المشاهد أنها من نوع فن “الكيتش”، وهي لفظة إلمانية تعني التافه أو الهراء أو النفاية في بعض الأحيان.