محرقة اليهود في الأفلام

كلمة “هولوكوست” من الكلمات التي لها تاريخ يرتد إلى أيام الرومان، فهي لاتينية الأصل، تعني الإبادة الكاملة، لاسيما بالاحراق.

ولم يكن للإبادة بذلك المعنى علاقة باليهود لا من قريب ولا من بعيد.

وظل الحال كذلك إلى أن بدأت محاكمات مجرمي الحرب في نورمبرج عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بانحدار المانيا الهتلرية.

فبفضل تلك المحاكمات تكشف للعالم أن من بين جرائم النازية- وهي كثير- تبني سياسة تقوم على أساس تقسيم الشعوب عنصرياً إلى شعوب راقية تتحكم وتسود، وأخرى منحطة لا تستحق البقاء.

العاصفة المميتة

وكان من مقتضى تلك السياسة المسرفة في عنصريتها حشد الأفراد المنتمين إلى تلك الشعوب المقول بانحطاطها، حشدها في معسكرات اعتقال تمهيداً للإلقاء بهم في أفران أعدت خصيصاً لقتلهم جماعياً بغازات سريعة المفعول، حتى إذا ما جاءهم الموت بغته، تم حرقهم بنيران حامية لا تبقى من جثثهم شيئاً.

وما أن ذاع أمر هذه الجريمة البشعة، حتى تطلعت على الانسانية كلمة “هولوكوست” يعبر بها عن أهوال الاصطلاء بنيران تلك الأفران.

فإذا بها تعطي الآثر المراد من استعمالها لا أقل ولا أكثر وإذا بها منصرفة منذ البداية إلى جميع ضحايا المحرقة سواء أكانوا من الروس أو البولنديين أو الغجر أو اليهود أو غير ذلك من الشعوب التي اصطلت بتلك النيران.

وجملة القول أنها كانت كلمة مناسبة تماماً للمقام.

تحريف التاريخ

ثم تتقدم الأعوام، وإذا بأخبار كابوس المحرقة ينتشر رويداً على وجه يوحي باقتصار المحنة الكبرى على اليهود دون غيرهم من الشعوب.

وإذا بالكلمة تتعرض لتشويه أحالها إلى لفظة لا تعني كلما قيلت سوى شيء واحد.. محرقة اليهود.

ونتيجة لذلك كاد جميع ضحايا تلك المحنة، فيما عدا اليهود، أن يختفوا من على شاشة الذاكرة.

وهكذا كتب على ضحايا المحرقة- باستثناء اليهود- الإبادة مرتين الأولى بواسطة هتلر وجلادية والثانية بواسطة محرفي التاريخ.

والآن، وبمناسبة ذكرى مرور نصف قرن من عمر الزمن، على نشوب الحرب العالمية الثانية وخمسة وأربعين عاماً على انتهائها، خرجت علينا مطابع دور النشر في الغرب بكتب عديدة عن المحرقة من بينها “الكل أو لا شيء”: المحور والمحرقة (هولوكوست) لصاحبه “جوناثان شتا ينبرج”، “لماذا تظلم السماوات – الحل النهائي ” لصاحبه “ارنومايير” و”نهاية المحرقة.. تحرير المعسكرات” لصاحبه “يون بريد جمان” و”الشرطي ابتسم” لصاحبه “باري تيرنر” و”ظلال لا تنمحي.. الفيلم والمحرقة” لصاحبته الدكتورة “انيت انسدروف” “الطبعة الثانية”.

وهذه الكتب – جميعها وبلا استثناء – تتناول مأساة المحرقة من منطلق أن اليهود وحدهم هم الضحايا.

وأسجل، منذ الآن، أني لن أعرض من بين الكتب سالفة الذكر، إلا للكتاب الأخير، لا لشيء سوى أنه الكتاب الوحيد الذي تناول محرقة اليهود في السينما، فضلاً عن أن تناوله لها قد اتسم بالإمعان والتعمق.

وما أزعم لهذه المحاولة احاطة وشمولاً فهي لا تعدو أن تكون تمهيداً للكلام عن أهم أفلام أمريكية تناولت محرقة اليهود مما جرى عرضها خلال الأشهر الأخيرة.

وهي أفلام ثلاثة لا تزيد، أحدها “انتصار الروح” سبق وأن عرضت له باستفاضه هنا في مجلة الهلال (مايو 1990).

أما الفيلمان الآخران “أعداء.. قصة حب” و”صندوق الموسيقى”، فقد اتيحت لي فرصة مشاهدتهما أثناء زيارة أخيرة لباريس.

القديسون الجدد

وقبل الكلام عنهما أعود إلى كتاب “ظلال لا تنمحي”، فأقول أن صاحبته تنحدر من أسرة يهودية تعرضت للاضطهاد إبان فترة خضوع أوروبا للنير الهتلري، حتى أن والديها قد زجَّ بهما في غيابات معسكرات الاعتقال حيث أوشكا على الهلاك في محارق الأفران.

وثمة مقدمة لكتابها في طبعته الثانية بقلم “ايلي ڨيسيل” الحاصل على جائزة نوبل للسلام، وهو بدوره من المنتمين لشعب الله المختار، ومن الذين عانوا عذابات معسكرات الاعتقال، إلى أن هيأت له السماء مع فئه قليلة معجزة النجاة من موت أكيد.

وفي وصف من بقى من تلك الفئة على قيد الحياة، قال أحد أبطال فيلم “صندوق الموسيقى” أنهم بمثابة قديسين أبرار!!

وعلى كُلٍ، “فڨيسيل” في مقدمته تلك يقول أن عالم معسكرات الاعتقال “أوشڨتز” و”تربلينكا”، يتحدى  التعبير بالكلمات.

ويتساءل، هل توجد وسيلة أخرى، لغة أخرى يمكن التعبير بها عن ذلك العالم.

وبعد أن يطرح الصورة وسيلة بديلة للتعبير، يعود فيقول أنها بدورها تثير مخاوفه، بل أن تخوفه منها أكثر بكثير.. لماذا ؟

لأن موضوع الإبادة الجماعية لليهود تنفيذاً لمخطط الحل النهائي، هو في حقيقة الأمر موضوع مقدس، وأي تناول له بواسطة وسائل الإعلام الجماهيرية، وبخاصة الأفلام، إنما يحمل في طياته خطر التدنيس لتلك القدسية.

غير أنه سرعان ما يستدرك قائلاً أن ثمه أفلام عن المحرقة تذهل بمصداقيتها، وأخرى تصدم بسوقيتها.

وفي رأيه أن من بين أفلام النوع  الأول “الليل والضباب” للمخرج الفرنسي “آلان رينيه” صاحب “هيروشيما حبي” و”حديقة فينزي كونتيني” للمخرج الايطالي “فيتوريو دي سيكا” و”قيثرات الحفل” للمخرج الفرنسي”ميشيل دراش” و”الحانوت في الشارع الرئيسي” للمخرجين التشيكيين “يان كادار” و”المار كلوس”.

عش الغراب

أما بالنسبة للافلام الموصومة بالسوقية، فلم يتوقف “ڨيسيل” إلا عند المسلسل الأمريكي الشهير “المحرقة” قائلاً أن عرض أهوال المحرقة في صورة مغامرة رومانسية، لأمر مهين للموتى، جارح للاحساس.

وفي مقدمة أخرى، ولكنها لصاحبة الكتاب، جاء على لسانها ما مفاده، انه رغم أن ما شاهدته من أفلام عن المحرقة حتى عام 1980، قد بلغ عدده ستين فيلماً على الأقل، إلا أنها ما كادت تنتهي من وضع اللمسات الأخيرة على الطبعة الأولى لكتابها (1982)، حتى كان قد تم طرح عشرين فيلماً جديداً عن المحرقة ثم تكاثر عدد الأفلام التي من هذا القبيل على وجه يشبه تكاثر عش الغراب، حتى وصل الأمر قريباً من نهاية عام 1988 إلى أن ثمة حوالي مائة فيلم جديد ما بين روائي (40 فيلماً) وتسجيلي (60 فيلماً).

وهي جميعاً ليس بينها فيلم واحد لا يستحق أن يُشار إليه في الكتاب، ولو ببضع كلمات..

هذا ولو كان قد كتب للطبعة الثانية من كتابها أن يتأخر ظهورها وقتاً قصيراً، لوجدت نفسها أمام عدد غير قليل من أفلام جديدة تعرض للمحرقة من بينها “أعداء.. قصة حب” و”صندوق الموسيقى”.

وأغلب الظن أنها، ومهما اصطنعت الحذر والاحتياط، فما كانت لتطمئن لهذين الفيلمين، وما كانت لتتحمس لهما لا لسبب سوى أن الأول مسرف في السوقية، والثاني مفرط في الفاشية.. كيف ؟

تعدد الزوجات

“هرمان برودر” (رون سيلڨر) بطل “أعداء.. قصة حب” الفيلم المأخوذ عن رواية للأديب الأمريكي اليهودي “اسحاق سنجر”؛ ذلك البطل أحد الناجين من النار.. نار الأفران.

والفيلم يبدأ به مختبئاً في جرن، وكلاب النازي من حول المكان تنبح مسعورة.

أنه في كابوس، يشقى به أثناء اليقظة، وأثناء النوم وها هو ذا، يهب مفزوعاً، لنكتشف أنه ليس في أوروبا أيام النازية، وإنما في أمريكا وبالتحديد “كوني ايلاند” بنيويورك.

ولنكتشف، بعد ذلك، أنه يعيش مع “يادويجا” (مارجريت سوفي شتاين)، وهي فلاحة كانت تعمل خادمة في بيت عائلته اليهودية ببولندا، وكان لها فضل انقاذه من المحرقة بتوفير مكان أمين له في الريف حيث ظل مختبئاً زهاء ثلاثة أعوام إلى أن كتب له النجاة.

ورغم زواجه منها عرفاناً منه لجميلها عليه، إلا أن هذا لم يحل بينه وبين اقامة علاقة غرامية عاصفة مع “ماشا” (لينا أولين)، وهي أمراة يهودية ألّمت بها خطوب العذاب الذي لا يشبهه عذاب في معسكرات الاعتقال النازية والسوفييتية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتهى، ازاء الحاح “ماشا”، إلى عقد قران بينهما جرى وفقاً للطقوس اليهودية.

كل ذلك، والزوجة “يادويجا” لا تعلم من أمر تلك الخيانة شيئاً.

وتمضي الأيام، وإذا بهرمان يلتقي فجأة في وسط نيويورك “بتامارا” (انجيليكا هوستون)، وهي أمراة يهودية كان قد تزوجها في بولندا قبل نشوب الحرب.

وكان من المفترض أنها وأولادها منه قد ماتوا جميعاً مقتولين برصاص الألمان.

وهكذا نجد “هرمان” وقد عبثت به الأقدار فإذا به صاحب ثلاث زوجات في آن واحد وهو نتيجة لذلك في حيرة مهلكة، لا يعرف لنفسه غاية يقف عندها، ولا يعرف كيف يصل إلى قرار.

ولعل خير وصف لحيرته تلك أحد مشاهد الفيلم حيث نراه داخل إحدى محطات مترو الأنفاق متردداً بين القطارت أيها يستقل.. قطار”كوني ايلاند” حيث “يادويجا” أم قطار “برونكس” حيث “ماشا” أم قطار وسط نويورك حيث “تامارا”.

الجنس اللذيذ

وفيلم له موضوع كهذا، ومن انتاج هولويوود وإخراج “بول مازورسكي”، لابد وأن يكون زاخراً بمواقف لا تخلو من فكاهة، ومشلهد لا تخلو من جنس فاضح، وآية ذلك المشاهد التي تصور علاقة هرمان  بماشا.

فهي تصور حبهما الجامح المندفع كالسيل من خلال لقطات لهما، وهما عاريان يتصببان عرقاً.

وفي ظني أن تلك المشاهد هي التي حدت “بڨارايتي” أقدم مجلات السينما وأوسعها انتشاراً إلى وصف الفيلم.. وهي في مجال الثناء عليه – بأنه جنسي لذيذ.

وليس من شك أن الفيلم بتلك المشاهد التي آراها تجارية شديدة الابتذال، قد أساء إلى قداسة المحرقة القائل بها “ڨيسيل” في مقدمته سالفة الذكر.

فإذا ما انتقلنا إلى “صندوق الموسيقى”، لوجدنا أنفسنا أمام فيلم قال عنه صاحبه المخرج “كوستا جافراس” في حديث له مع مجلة “سينيياست” الأمريكية (العدد الثالث 1990)، أنه أراد بإخراجه إعادة المحرقة إلى الذاكرة، وبخاصة ذاكرة الشباب.

الماضي المجهول

والمحور الذي يدور حوله الفيلم وجوداً وعدماً هو العلاقة بين “مايك لازلو” الذي قام بأداء دوره الممثل الألماني الكبير “أرمين مويلر شتال” وابنته “أن تالبوت”، وقد قامت بأداء دورها النجمة الذائعة الصيت “جيسيكا لانج” و”لازلو” حسب سيناريو الفيلم الذي أبدعه “جواشترهاس”، مجري ترك وطنه مهاجراً إلى الولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية بثلاثة أعوام. وبعد أن مضت الأيام حتى أصبحت أربعين عاماً، جاءه كتاب من وزارة العدل الأمريكية مفاده أنه متهم بإخفاء حقيقة مهنته في طلبه الذي مُنح بموجبه الجنسية الأمريكية.

وأنه في حالة ثبوت تلك التهمة، فلابد من ترحيله إلى المجر حيث تتجه النية إلى محاكمته عن جرائم بشعة اقترفها في حق اليهود.

وطبعاً ينكر “لازلو” الاتهامات الموجهه إليه، مُصّراً على أنه كان فلاحاً بسيطاً، وليس حارساً في فرق التعذيب والإبادة.

الولاء لمن؟ 

وتنبري ابنته “آن”– وهي محامية ماهرة– إلى الدفاع عنه، وذلك لأنها كانت تؤمن ببرائته مما يصفون.

وما أن تنتهي القضية بصدور حكم ببرائته، حتى يتضح لها، بفضل صور ثابتة لأبيها لا تقبل الشك، أنه من عتاة مجرمي الحرب.

وهنا يتنازعها ولاءان أحدهما الولاء للأسرة، والآخر الولاء للمجتمع.

وبعد تردد لم يدم طويلاً، تغلبت مسئوليتها نحو المجتمع على ولائها نحو أسرتها.

وها هي ذي تتصل بمكتب الإدعاء طالبة إليه إعادة إقامة الدعوى العمومية ضد أبيها على أساس الصور الثابتة التي في حوزتها.

والفيلم بتلك النهاية، إنما يريد أن يقول أن على الأبناء أن يشوا بالآباء إذا كان في ذلك تحقيق للصالح العام.

ومثل هذا القول لا يختلف في جوهره عما كان يدعو إليه أنصار النازية في سالف الزمان.

نظرة طائرة علي مهرجان السينما بالقاهرة

بدأ مهرجان القاهرة السينمائي الثالث عشر بداية متواضعة كل التواضع، غريبة كل الغرابة.

فلقد استهل عروضه ليلة الافتتاح بدار سينما مترو لا بفيلم من أفلام الافتتاح الضخم مثل (الطريق إلى الهند) و( الأرنب روجرز)، وإنما بفيلم قصير أقرب إلى التسجيلي منه إلى الروائي، لم يمكث عرضه سوى دقائق معدودات وفوق هذا له من العمر خمسة وسبعون عاماً أو يزيد.

فما هو هذا الفيلم القصير، القديم الذي أجنح بمهرجان القاهرة إلى الخروج الأكيد عن التقاليد؟

إنه “سباق عربات الصغار في فينيس”، ذلك الفيلم الذي جرى تصويره في إحدى الضواحي “لوس انجلس”. وهو ثاني فيلم يمثله شارلي شابلن ، وأول فيلم يظهر فيه مرتدياً زي المتشرد الخالد.. السروال المنتفخ، السترة الضيقة، الحذاء الضخم المترهل، القبعة الصغيرة المستديرة، العصا الخيزران الملتوية، فضلاً عن الشارب الأسود القصير الوقور.

وسباق السيارت هذا، إنما كان سباقاً حقيقياً توجه اليه شارلي شابلن مع المصور “هنري لهرمان” استجابة منهما لأمر صادر إليهما من “ماك سينيت” صاحب “ستديو كيستون” باستغلال هذا الحدث وعمل فيلم سريع منه. يتيح للاستديو فرصة تنفيذ التزامه بتسليم دور العرض كل أسبوع ثلاثة أفلام من بكرة واحدة لا تزيد.

ومما يميز فيلم الافتتاح الذي صور السباق المشار إليه عن غيره من الأفلام ، هو أن أشهر شخصية سينمائية ابتدعتها خيال الانسان قد بدأت مشوارها به.

وبدأته واقعيا في سياق حقيقي، وليس في عالم مصنوع قوامه الايهام. فالمتشرد الخالد ذلك الكائن الذي من صنع الخيال، إنما يظهر بلحمه ودمه لأول مرة وسط جماهير حقيقية مقتحماً سباقها، مسجلاً ذلك الاقتحام على فيلم ، لينقل فور ذلك، وإلى الأبد، فيما بعده من أفلام إلى عالم الأطياف القائم على محض الخيال.

ولعلها المرة الأولي والوحيدة في تاريخ السينما التي نشاهد فيها كيف أصبح جمهور نظارة أثناء حدث عام شاهداً ومكتشفاً لميلاد أسطورة.

وغني عن البيان أن اختيار ذلك الفيلم الفريد كي يكون فيلم الافتتاح، إنما يرجع إلى جنوح المهرجان إلى تكريم شارلي شابلن بمناسبة احتفال العالم بميلاده قبل مائه عام. وبالتحديد في الخامس عشر ممن شهر ابريل لعام 1889.

ولم يكتف المهرجان بتكريم شابلن المتشرد الخالد، بل كرّم إلى جانبه ممثلنا ومخرجنا “نجيب الريحاني”، وكذلك كلاً من المخرج البولندي “كافالوروفيتش” صاحب فيلم “فرعون” الذي شارك فيه مخرجنا الراحل “شادي عبد السلام” بالديكور، والمخرجة التشيكوسلوفاكية “فيراشتيلوفا” والمخرج الفرنسي “رينيه كليمان” والمخرج الاسباني “جوزيه لويس بوراي” والمخرج الأمريكي “بوب رافلسن” الذي شارك في المهرجان بثلاثة من أفلامه آخرها “ساعي البريد يقرع الجرس دائماً مرتين” (1981) تمثيل “جاك نيكلسون” و “جيسكا لانج” و “انجيليكا هوستون” ابنة المخرج الراحل “جون هوستون”.

ومن ضمن ما ابتدعه المهرجان تكريم النجمتين الايطاليتين الساحرتين “ستيفانيا ساندرلي” و”كلاوديا كاردينالي”.


فضلاً عن إقامة عرض بانورمي للسينما الأفريقية ، وذلك بمناسبة انتخاب حسني مبارك رئيساً لمنظمة الوحدة الافريقية. وعرض للسينما التونسية منذ البداية وإلى هذه الساعة. وفوق كل هذا عرض للأفلام التي من ابداع نساء مخرجات.

وكما هو الحال في العامين السابقين، كان للسينما الأمريكية نصيب الأسد من الحضور والاقبال والاهتمام.

ولو فكرنا تفكيراً هادئاً في أفلام المهرجان ، لانتهى بنا الأمر إلى القول بأن أهمها إنما يعرض لمحنة المرأة من خلال العلاقات المشوهة المفروضة عليها باعتبارها سلعة تباع وتشترى وهنا، وقبل تناول هذه الظاهرة بالكلام، أرى من المناسب أن أذكر أن السينما العربية، إنما تأخذ بخناقها أزمة ابداع حادة، وآية ذلك أنها لم تستطع أن تتقدم لعروض المهرجان الرسمية بفيلم يرقى إلى المستوى اللائق بحضارة لها من العمر آلاف السنين.

واستثني من هذا الغم فيلماً واحداً إلا وهو “سمع.. هس” رائعة المخرج المصري الواعد “شريف عرفة”.

ومن عجب أنه في الوقت الذي لم تتميز فيه السينما العربية خارج مصر بأي فيلم، تميزت السينما الأفريقية الشابة بفيلمين أحدهما “الاختيار” للمخرج “ادريس اودراجو” الذي أثار ضجة كبرى بفيلمه الأخير “بابا” (1989)، وهو من مواطني بوركينا فاسو.

أما الفيلم الثاني “الضوء” فصاحبه المخرج المالي “سليمان سيس”.

ولعله أول فيلم من أفريقيا السوداء يكتب له أن يفوز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان كان (1988). وقصته تدور حول الصراع بين القديم والجديد من خلال عرض يكاد يكون تسجيلياً للطقوس والتقاليد.

سينما الملايين

ومرة أخرى ، وقبل الكلام عن الأفلام التي تعرض لمحنة المرأة على مر العصور، قد يكون من المفيد أن نشير اشارة عابرة إلى خمسة أفلام ضخمة أنفق على انتاجها ملايين الدولارات وهي “فوق السطوح”، و”الأزرق العظيم” و”روزالين والأسود” و”الامريكي العجوز” و”ثورة”.

وأولها “فوق السطوح” للمخرج الامريكي “روبرت وايز” صاحب قصة “الحي الغربي” و”صوت الموسيقى”.

وموضوع الفيلم لا يعدو أن يكون تكراراً لقصة الحي الغربي المستوحاة من مأساة روميو وجولييت مع افتعال نهاية سعيدة.

Original Cinema Quad Poster – Movie Film Posters

ولو رأيت “فوق السطوح” دون أن تكون على علم بأن مبدعه مخرج مخضرم في طريقة إلى الخامسة والسبعين ، لذهب بك الظن إلى أن الفيلم من صنع شاب في مقبل العمر.فهو عمل سينمائي موسيقي صاخب، لاهث الايقاع ، يشع حيوية وانطلاقاً.

أما الفيلم “الأزرق العظيم” فقد تركز عليه كثير من الترقب واللهفة، لكثرة مديح الصحافة الفرنسية له ولافتتاح مهرجان كان (1988) به، وهو من اخراج “لوك بيسون”.

هذا وقد تركز ترقب واهتمام المولعين بالسينما الفرنسية لا على “احذر يمينك” آخر فيلم يبدعه المخرج الرائد المجدد “جا لوك جودار” وإنما على “روزالين والأسود” لصاحبه “جان جاك بينيكس” ذلك المخرج الشاب الذي بهر العالم بجرأة تناولة للموضوعات، وحسه السينمائي العالي المستوى.

ولقد جاء فيلمه الرابع “روزالين” مخيباً لآمال المترقبين المهتمين لخلوه من أية مشاهد جنسية فاتحة للشهية، هذا فضلاً عن أن موضوعه لا يتصف بالجدة والابتكار.

ومع ذلك فهو يعتبر واحداً من أجمل أفلام المهرجان لوصول حرفة السينما فيه إلى ذروة عالية من البراعة وبخاصة في مشاهد “روزالين” (ايزابيل باسكو) وهي داخل القفص تروض الأسود.

رحلة غريبة

فاذا ما انتقلنا إلى “الأمريكي العجوز” فسنجد أنفسنا أمام فيلم طموح مستوحى من قصة الأديب المكسيكي المعاصر “كارلوس فوينتس” التي بنفس الاسم.

والامريكي العجوز هو “افيروز بيرس” الأديب والصحفي المعروف الذي امتطى حصاناً، وسافر به إلى المكسيك أثناء ثورة “بانكوفيلا” (1914) حيث اختفى دون أن يترك أثراً.

و “فوينتس” في روايته لمأساة ذلك الأديب الذي ذهب إلى المكسيك ولم يعد، إنما يعرض لها من خلال تخيل لحالته النفسية، بالقيام برحلة داخل عقله الذي شك في جدوى كل ما كتب وكل ما آمن به، حتى انتهى به الأمر إلى الظن بأنه قد خان رسالته في الحياة.

الأجل المحتوم

 فكان أن سافر وحيداً إلى المكسيك التي كانت وقتذاك تموج بثورة رأى فيها انعكاساً لما كان يعتمل داخله من شد وجذب واضطراب.

وهناك في صحبة عانس امريكية “جين فوندا” وثوري شاب “جيمس سميتس” يسترد الثقة بنفسه، يجد لحياته معنى جديداً، وذلك إلى أن يجيئه الموت برصاصات تنطلق من غدارة هذا الشاب.

ولقد لعب “جريجوري بك” (73سنة) دور هذا الأديب الصفحي المتأزم نفسياً، الباحث عن الذات.

ومن مزايا الفيلم تصويره في أماكن أحداث الثورة، أي على أرض المكسيك، بمجموعات حاشدة، من المكسيكيين المقيمين جنوب نهر الريوجراند، مما أسبغ عليه طابعاً مكسيكياً أصيلاً، نجده مفتقداً في الأفلام الأمريكية الأخرى التي عرضت لثورة المكسيك مثل “يحيا زاباتا”.

يبقي فيلم “ثورة” وهو عن الثورة الامريكية وأحداثها الجسام قبل مائتي عام. ومخرجه هو “هيو هدسون” الذي سبق أن رأينا له “جرى ستوك” أحدث أفلام طرزان و”عربات النار” الفائز بجائزة أوسكار أحسن فيلم (1981).

ولقد اختير لأداء الأدوار الرئيسية فيه نجوم لامعة في مقدمتها “آل باشينو” و”دونالد سوذرلاند” و”ناستسيا كينسكي” و”جوان بلاورايت”، زوجه الفنان الراحل “لورانس أوليفييه”.

كما حشد لمشاهد المظاهرات والمعارك الحربية الزاخر بها مئات الكومبارس، مما أسبغ على تلك المشاهد واقعية ومصداقية آخاذة.

ومع ذلك فهو يعتبر كارثة فنية من البداية وحتى النهاية ولعل ضعف السيناريو هو الذي أدى إلى عدم الارتقاء به إلى المستوى اللائق بمخرجه وممثليه.

والآن إلى أهم الأفلام التي عرضت للعلاقات التي تفسد بين المرأة والمجتمع.. أعود..

هي ثلاثة أفلام “المتهمة” و”العلاقات الخطرة” و”فضيحة”.

امتحان قاس

وأولها يعرض لحادث اغتصاب فتاة عاملة في مكان عام، وعدم أخذ القضاء شهادتها مأخذ الجد.

ومن هنا اضطرار المحققة “كيللي ماكجيليس” إلى اسقاط تهمة الاغتصاب، وبدلاً منها توجيه تهمة تهديد الأرواح والأموال إلى الشبان الثلاثة المغتصبين.

وهذا ما أغضب الفتاة المغتصبة “جودي فوستر”، وذلك لأنها كانت تتوقع أن تنتصف لها العدالة إذا ما حكت مأساتها تفصيلاً أمام المحكمة، وكانت ترى في ذلك خير تعويض لها مما وقع على جسدها من اعتداء آثم مهين.

ولم يكن أمام المحققة، حتى تستطيع اعادة المحاكمة استجابة لرغبة المجني عليها التي بدأت تتعاطف معها، سوى حل وحيد، هو توجيه الاتهام إلى رواد المكان العام (وهو بار) الذين شاهدوا الاغتصاب، وكأنهم متفرجون يستمتعون باستعراض حي مثير.

دغل الجنس 

أما “العلاقات الخطرة” فهو عندي أكثر الأفلام الامريكية جرأة وهو مستوحى من قصة الأديب الفرنسي “كودرلو دي لاكلو” (1782)، تلك القصة التي أحدثت ضجة كبيرة عند نشرها قبل قيام الثورة الفرنسية بقليل.

  ومما يقال في حقها أن الملكة “ماري أنطوانيت” كانت تحتفظ بنسخة منها سراً.

والفيلم الذي أبدعه المخرج الانجليزي “ستيفن فريزر” ليس مأخوذاً مباشرة عن تلك القصة، وإنما من مسرحية مستوحاة منها ألفها الأديب الانجليزي المعاصر “كريستوفر هامبتون”.

وبطولة الفيلم يتقاسمها متآمران “الماركيزة دي ميرتي” (جين كلوز) أما المتآمر الآخر الكونت دي فالمونت (جون مالكوفيتش).

والفيلم يبدأ بهما يتآمران.

فهي تطلب إليه باسم حبهما القديم أن يوقع الصغيرة العذراء (سيسيل دي فولانج) في شباك الحب، لا لسبب سوى أنها في سبيلها إلى الزواج من الشاب الوجيه “المسيو دي باستيد” أحد عشاق الماركيزة المغيظة من أنه على وشك الافلات من قبضتها التي لا تلين. ولكن “فالمون ” أكثر طموحاً.

وسرعان ما يتفق الاثنان – الماركيزة والكونت – على لعبة مزدوجة جوهرها التآمر والخيانة والاغراء.

فضيحة القرن

يبقي فيلم “فضيحة” الذي يعرض لعلاقات الغانية “كريستين كيللر” مع “بروفومو” وزير حربية انجلترا في حكومة المحافظين تحت رئاسة “هارولد ماكميلان” (57/1964) والملحق البحري السوفييتي “ايفانوف” وغيرهما من الرجال.

وكما هو معروف انتهت تلك العلاقات الآثمة باستقالة الوزير، وبسقوط حكومة المحافظين، وبانتحار “ستيفن وارد” (جون هيرت) رسول الغرام بين الغانية والوزير، وبسجن “كيللر” عدة أعوام.

ولو خيرت لاخترت “فضيحة” واحداً من أحسن الأفلام التي تناولت واقعة من واقعات التاريخ المعاصر. فهو آية في الصدق والاتقان، يروع بدقة البحث والاستقصاء.

وعرضه للفضيحة وتصاعد أحداثها، إنما يتصف بالفهم الواعي لمآسي الغانيات، باعتبارهن ضحايا علاقات مشوهة تقوم على استبداد القوي بالضعيف.

«باريس.. عناق بين القديم والجديد»

لباريس “روح” تمتاز بها عن كل مدن العالم، فهي إذا نسبت إلى بعض مدن العالم القديمة مثل القاهرة والقدس ودمشق واسطنبول وروما، كانت طفلة بنت يوم، بل بنت ساعة، غير أنها بين مدن الدول المطلة على المحيط الفاصل بين أوربا والعالم الجديد من أقدمها، وهي تباهي كل المباهاة بقدمها، وبما فيها من آثار تاريخية تعود إلى الثورة الفرنسية وما قبلها وبعدها.

وهي تفاخر بلقبها “مدينة النور”

ففيها من المعاهد العلمية والفنية والمتاحف وبيوت الأزياء ما ليس في سواها.

وقد أنجبت نفراً من خيرة الفلاسفة والعلماء والفنانين التشكيليين والموسيقيين والسينمائيين والأدباء.

وهي صبية بمبانيها، شديدة الحرص على أحجارها القديمة الكريمة حتى أنها تفضل فتح أبوابها للغزاة مستسلمة للعار على أن يصيب حجر من تلك الاحجار أي دمار.

ولكن ثمة مفارقة في هذا الخصوص تلفت الأنظار وتتطلب شيئاً من التأمل والتفكير

فرغم كل هذا الشغف بالأحجار والحرص عليها فإنه لم يبق من مباني باريس ما قبل الثورة إلا أقل القليل.

الفتنة الباقية

فعلى الضفة اليسرى لنهر السين، لم يعصم من الضياع سوى مبنى الانفاليد، حيث مستقر “بونابرت” الأخير، والبانتيون حيث تحفظ رفات العظماء أمثال فولتير وروسو، وقصر اللوكسمبورج الذي شُيّد في عصر لويس الثالث عشر كي تقيم فيه أمه الملكة “ماريا دي ميديش” والحي اللاتيني يحيط بأزقته الضيقة الملتوية أكثر جامعات فرنسا عراقة “السوربون”.

أما “الايل ديلاسيتي” تلك الجزيرة التي انبعثت منها باريس، كما خرجت من أمواج البحر فينوس ربّة الجمال، فليس فيها من مباني العهد القديم سوى كاتدرائية نوتردام التي جرى تشييهدها على امتداد قرنين إلا اثنى عشر عاماً.

وعلى بعد خطوات حيث مبنى وزارة العدل، توجد حبيسة فنائه جوهرة باريس “مصلى السانت شابل” الصغير بنوافذه العالية الثمانية المرصعة بمئات التصاوير المنمنمة المستوحاة من قصص التوراه والأناجيل، والمرسومة بقطع زجاج صغيرة من جميع الألوان تسر الناظرين.

وقلعة “الكونسيير جري” (1298 / 1353) ذلك السجن الرهيب الكئيب الذي كان من بين نزلائه أرملة لويس السادس عشر “ماري انطوانيت” روبسبيير، شارلوت كوردي قاتلة “مارا”، مدام “دي باري” و “دانتون”.

واحد منهم لم يكتب لعنقه نجاة من القطع بالمقصلة التي اشتهرت باسم مخترعها “جيلوتين”.

فاذا ما انتقلنا إلى باريس الضفة اليمنى، لما وجدنا من المباني العتيقة التي يرتد عمرها إلى ما قبل الثورة شيئا، باستثناء ميدان “ڨوج” بمبانيه الأنيقة المشيدة بأمر من هنري الرابع (5/1612)، ومتحف اللوڨر، يقف على بعد خطوات منه تمثال صغير ذهبي اللون لحصان تمتطيه “جان دارك” يزدان به ميدان الأهرمات المجاور لحدائق التويليري بالمواجهة للمتحف الشهير.

الهدم.. لماذا؟

والذي أعمل معول الهدم في مباني تلك الضفة هو “لويس نابليون” الذي انقلب على الجمهورية ونصب نفسه امبراطوراً (1852).

ففي عصره الذي طال إلى ثمانية عشر عاماً، ولم ينته إلا بهزيمة منكرة أدت إلى سقوط باريس في أيدي الغزاة الألمان (1870)، في ذلك العصر الذي غالى الشاعر الفرنسي “ڨيكتور هيجو” في ذمّ امبراطوره المغتصب للسلطة، وهجائه هجاءً لاذعاً لم يسمع له مثيل، تغيرت معالم باريس، اختفى ستون في المائة من مباني ضفتها اليمنى، لتحل محله شوارع فسيحة، ترتفع على جانبيها أشجار باسقات، فروعها تعانق السماء. كل ذلك للحيلولة بين الشعب وبين تقليد ما حدث في أعوام 1789 و1830 و 1848، بالثورة على النظام الحاكم، وحمايتها من قوات الأمن بإقامة المتاريس.

انتصار الجديد

إذن فباريس المعاصرة بأبهة مبانيها ذات الطابع الكلاسيكي (البلدية والأوبرا)، وقصورها الشامخة (شايو) ومتاحفها الغنية بروائع الفن (بومبيدو، اورسي) وشوارعها الخضراء لا يُرى لامتدادها نهاية، وساحاتها المزدانة بالنافورات والأعمدة وأقواس النصر، ورياضها وحدائقها الغناء تنفح بالعطر الهواء، وبرجها الحديدي “ايڨيل” يشق الفضاء، باريس هذه إنما هي بنت الثورة الفرنسية، ليس ليها من القديم السابق على تلك الثورة إلا القليل وفيها من الجديد اللاحق على أحداثها الشيء الكثير.

إنها بحق باريس “هاوسمان” نسبة إلى البارون المهندس “جورج اوجين هاوسمان” الذي عمل على هدمها وإعادة بنائها تنفيذاً منه للأمر الصادر إليه بذلك من الامبراطور المغتصب نابليون الثالث (1853).

ومن المفارقات أن أقدم أثر في باريس ليس فرنسياً، ولا حتى أوربياً، بل مصرياً.

إنه مسلة رمسيس الثاني أحد الفراعين، انتقلت من الأقصر إلى باريس إبان عصر محمد على الكبير، بفضل “شامبليون” ذلك العالم الفرنسي النابغة الذي أعاد الروح إلى لغة قدماء المصريين بفك طلاسم حجر رشيد، حيث انتصبت منذ مائة وخمسين عاماً أو يزيد (1836) في ميدان الكونكورد (الوئام). بديلاً للجيلوتين تنحني له رءوس أعداء وأصدقاء الثورة على حدٍ سواء كي يجري قطعها بالمئات تحت قبة السماء.

Palais du Louvre

هرم الانفاق

والحديث عن مسلة رمسيس التي يتحلى بها الكونكورد، ذلك الميدان الذي يعتبر بحق واحد من أجمل ميادين باريس، بل قل العالم، لابد وأن يسحبنا إلى الوقوف أمام الهرم الزجاجي الذي أقامه المهندس المعماري الأمريكي “بي بي” المنحدر من أصل صيني هو ونفر من المعماريين الأفذاذ، وسط فناء نابليون على بعد عشرات الأمتار من تلك المسلة، وعلي بعد خطوات معدودات من متحف اللوڨر، ذلك أنه لم يجر تشييده أصلاً إلا ليكون مدخلاً لهذا المتحف العتيق الذي وصل عدد مقتنياته إلى أربعمائة ألف من بينها الكاتب المصري ولوحة موناليزا (الجوكندا) التي نهبها بونابرت أثناء حملته الايطالية.

هذا وقد أفتتحه الرئيس فرانسوا ميتران بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ثورة الرابع عشر من يولية.

لو ألقينا نظرة طائرة مهرولة على هذا الهرم الصغير الشفاف الذي يغلب عليه طابع التجريد لاعتبرناه عملاً متطفلاً على الفناء الذي يحيط به مبنى اللوڨر من ثلاث جهات، مقتحماً حرمة مكان له طابع كلاسيكي ذو جلال.

عصر الفضاء

ولكن لوتأنينا في نظرتنا، لبدا لنا وكأنه سفينة فضاء شدت إلى الأرض، ولكنها على وشك الرحيل عائدة من حيث أتت، بعد أن رأى روادها متاع المتحف وقرّوا عينا.

وليس من شك أنه هرم قوامه مزيج من العلم والفن وفقا لأقصى ما بلغاه في الربع الرابع من القرن العشرين.

وهو بوصفه كذلك إنما يتماشى مع ميل الباريسيين إلى التعاصر، وولعهم الشديد بكلمة التعايش، يقصدون بها أن يجاور الجديد القديم في تواصل وانسجام.

سقطة

ولكن كل هذا المديح، لا يعني أنه هرم بلا مشاكل فلقد شاء مبدعوه أن يحيطوه بثلاثة أهرامات زجاجية صغيرة.

وكان هدفهم من ذلك أن يغمر ضوء النهار الطبيعي الممرات التي تحت الأرض، تلك الممرات التي تصل الهرم الرئيسي بأجنحة مباني اللوڨر القديمة حيث يوجد عزيز المقتنيات التي جرى جمعها من جيمع أنحاء العالم على امتداد قرنين من عمر الزمان.

ورغم نبل هذا الهدف، فإنه، والحق يقال، ليس ثمة مبرر لهذه الأهرامات الثلاثة، لا سيما وأن وجودها إنما يضعف ذلك الاحساس الذي أسلفنا ذكره، أثيرية الهرم الرئيسي، وما يتفرع عن ذلك من تخيلنا له أشبه بسفينة فضاء أسطورية حطت على الأرض امام اكثر مااحف فرنسا روعة وجمالا.

فقدان الاتجاه

هذه واحدة، أما الأخرى فهي مشكلة يلزم بموجبها أن نعود إلى الصلة بين طراز هذا الهرم وبين الطراز المعماري الضخم السائد حوله من جميع الجهات.

من المعروف أن اللوڨر يقع عند نهاية طريق النصر من الجهة الشرقية، ذلك الطريق الذي يعتبر في نظر البعض أعظم محور مدائني في العالم، إذ يمتد في خط عمودي من قوس نصر الكاروسيل المشيّد تكريماً لانتصارات بونابرت (6/1808)، مروراً بحدائق التوليري، فميدان الكونكورد حيث مسلة الأقصر ثم شارع الشانزليزيه، فميدان شارل ديجول (اتوال) حيث (قوس النصر)، ومنه إلى وزارة الدفاع.

وكما سبق أن ذكرنا فماني اللوڨر تحيط بفناء نابليون من جهات ثلاث أما جهته الرابعة فمنفتحة على هذا المحور العظيم.

ولكن ذلك الفناء ليس واقعاً على خط عمودي مستقيم مع المحور المذكور، إنه خارجه ببضع درجات.

وهكذا، فعندما يقف المرء في منتصف فناء اللوڨر، فإنه لا يرى المحور العظيم من منتصفه مستقيماً وإنما يراه منكسراً قليلاً.

ومن الغريب أن بناة الهرم قد وضعوه في منتصف فناء نابليون تماماً، بحيث يحيط به جناحا اللوڨر بشكل يتسم بالتناسق الكامل.

وهو ما يعني أن الهرم قائم على محور اللوڨر وليس على محور طريق النصر.

وهنا الخطأ

فلقد كان من الأسلم أن يوضع الهرم على محور ذلك الطريق، بحيث يكون امتداداً مستقيماً لقوس النصر.

طريق الندامة

وهذا مؤداه بحكم اللزوم إلا يكون موضعة في منتصف فناء نابليون على بعد متساو من جناحي اللوڨر.

والمشكلة الآن هي أن الهرم بوضعه الحالي، إنما يرنو بشكل أو بآخر إلى أن يكون انعكاساً مكملًا للنظام الكلاسيكي الذي هو الطابع المميز لمباني اللوڨر الأكثر منه قدماً.

ولكن الهرم لا يشكّل جزءًا من هذا النظام . إنه على العكس يمثل النقيض له، المتمرد عليه.

وهو بوصفه كذلك يعتبر في حقيقة الأمر جزءًا من صرح طريق النصر الأكثر شمولاً وشموخاً، بأقواسه وحدائقه ونافوراته، وتماثيله، ومسلته المصرية تبرز من بين كل هذا الجمال المتداخل المتواصل خطاً واحداً صاعداً دالاً على إرادة الانتصار.

والسؤال المحير بعد ذلك، هو كيف غاب كل هذا عن بال بناة الأهرام أمام المتحف العتيق ؟