صلاح أبوسيف …صعود الي الواقعية

القاهرة عاصمة السينما في الوطن العربي ما في ذلك شك.

وهي ما كان يمكن أن تصبح تلك العاصمة التي تتطلع إلى أفلامها الأبصار من المحيط إلى الخليج، لولا كوكبة من رواد أوائل لمع من بينها اسم “صلاح أبو سيف” الفائز بجائزة الدولة التقديرية.
ولا غرابة في هذا الانفراد بالتألق والتميز.

فحياته منذ البداية تدور حول السينما وجوداً وعدماً.

فهو ما أن اكتشف دنيا الأطياف حتى فُتن بها فإذا به يشاهد الأفلام بانتظام منذ أن كان صبياً.

يؤلّفها منذ أن كان شاباً فتياً.

يخرجها منذ خمسة وأربعين عاماً ويواصل إبداعها، رغم أنه بلغ من الكبر عتياً.

ولقد استطاع الفنان صلاح أبو سيف، بفضل كل هذا الحب والمثابرة، علاوة على موهبة الإبداع السينمائي، أن يرسم بالكاميرا قطاعات حية آخاذة من المجتمع المصري إبان النصف الأول من القرن العشرين، مجتمع الوحش وريا وسكينة والفتوة وغير ذلك من أفلام أمتعت الجماهير ولا تزال.

وأن يترجم قاهرة نجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي إلى لغة السينما في بداية ونهاية وفضيحة في القاهرة 30 وشباب امراة والسقا مات.

وهو بهذا المحصول السينمائي الوفير يكون قد لعب دوراً كبيراً حاسماً في ولادة السينما المصرية من جديد.

في الانتقال بها من مرحلة الطفولة حيث كانت بدائية تحبو إلى مرحلة أكثر نضجاً واكتمالاً، ترنو فيها إلى واقعية بلا شطآن.

ولد قبل خمسة وسبعين عاماً إلا قليلاً. وبالتحديد في العاشر من مارس لعام 1915.

والعجيب أن مولده لم يكن في بيت أبيه عمدة قرية “الحومة” من أعمال مركز الواسطي، ذلك العمدة الثري المتعدد الزوجات.

وإنما في بيت أمه “البندرية” التي كانت قد غادرت ريف الصعيد ثائرة على حياة حريم قوامها الاستسلام للذل والهوان، مؤثرة العودة إلى حارة “قساوات” ببولاق، ذلك الحي الشعبي الذي لا يفصله عن الزمالك حي أبناء الذوات سوى شريط ضيق من ماء.

وأعجب العجب أن أمه هي التي أسمته “صلاح الدين” وبهذه البشرى أرسلت برقية إلى زوجها العمدة الذي لم يبادر بشدّ الرحال إلى القاهرة مفضلاً ألا يرى كتلة اللحم والدم التي تدعى ابنه حتى اليوم السابع.

مؤجلاً الاستمتاع بسماع وعوعة ابن البندرية وصياحه، تلقفه بين ذراعيه وتقبيل وجنتيه إلى ذلك اليوم، يوم “سبوع ” الصغير.

وليس من شك أنه ما كان له أن يبصر يومئذ الصلة التي بين هذا المولود الجديد، الذي لا يعرف من أسراره سوى أنه صبي، وبين عالم الأطياف.

ففي ذلك الزمن الموغل في القدم لم يكن للسينما من العمر سوى عشرين عاماً.

ولم يكن في مصر صناعة تنتج أفلاماً.

وعلى كُلٍ فلو كان لعمدة “الحومة” أن يرى تلك الكتلة الصغيرة التي تقطر حياة بعد خمسة وسبعين عاماً تفوز بجائزة الدولة التقديرية للدور الذي لعبته في النهوض بالسينما المصرية، لظن أن ما يمر أمام عينيه إن هو إلا أضغاث أحلام.

ولو كان له– وهو في غمرة السعادة بذلك التكريم أن يشاهد أحد الأفلام التي من أجلها منح وليده تلك الجائزة المشتهاة، وليكن “الزوجة الثانية” لهاله سخرية الفيلم اللاذعة بالعمدة ونظام تعدد الزوجات ولأنقلب فرحه إلى غم وتحولت بهجته إلى رعشة وآلام.

وبعد ذلك بعشرة أعوام، أثناء تسكع الصبي “صلاح” في شوارع القاهرة القريبة من حيه بولاق هرباً من دراسة إضافية أجبر عليها في المساء استرعت انتباهه صور معلقة على واجهة مبنى بشارع إبراهيم باشا (الجمهورية الآن) وكان أن سمع صوتاً يغريه بالدخول في تجربة تدفع به إلى المجهول.

وها هو ذا يشتري تذكرة بقرش صاغ من حر مصروف يده الذي لم يكن يتجاوز خمسة مليمات في اليوم الواحد.

وها هو ذا جالس في الصف الأول من قاعة سينما ايديال، وعلى شاشة بيضاء أمامه يتحرك رجل صغير مرتدياً قبعة طاسة وحذاءً كبيراً مرتخياً وسروالاً منفوخاً بالياً محاكياً في سيره مشية البطة.

وهكذا التقى “صلاح” لأول مرة بالسينما في شخص “شارلي شابلن” المتشرد الخالد.
وبفضل هذا اللقاء السعيد بدأ مشوار “صلاح أبو سيف” مع الفن السابع، ذلك المشوار الذي كُتب له أن يستمر قرابة أربعة وستين عاماً من عمر الزمان.

واقعية متميزة

وفي الحق فإن طريقه إلى الاحتراف السينمائي صعوداً إلى الإخراج والتميّز فيه بالواقعية لم يكن من تلك الطرق الملكية المفروشة بالزهور والرياحين.

كان على “صلاح” أن يخوض معارك كثيرة قبل أن ينجح في الإنفراد بإخراج أول فيلم روائي طويل “دائماً في قلبي” (1946).

وكان عليه أن يصبر ويثابر قرابة خمسة أعوام بعد التاريخ الأخير حتى يستطيع أن ينطلق بإبداعه من كهوف السينما التقليدية المظلمة إلى رحاب الواقعية بفيلم لك يوم ياظالم (1951).

مرة أخرى لن تكون المرة الأخيرة يذهب به قدره إلى لقاء آخر سعيد… وأين؟

في المحلة الكبرى بعيداً عن القاهرة التي كانت تتخلق عاصمة للسينما العربية وذلك بدءاً من منتصف العشرينات.

وهو في هذه المرة لا يلتقي بطيف من نور داخل قاعة مغلقة بالظلام وإنما يلتقي بشخص المخرج “نيازي مصطفى” الذي كان قد جاء إلى قلعة الصناعة المصرية في المحلة ابتغاء تصوير فيلم يسجل أمجاد شركات بنك مصر.

ومهما يكن من أمر، فما أن التقيا هو و”نيازي” وتبادلا أطراف الحديث، حتى اكتشف الأخير أنه إنما يواجه شاباً مولعاً بالسينما وقارئاً ممتازاً لكل ما كتب عنها في لغة الضاد.

نهاية مرحلة الهواية

وما أن عاد نيازي– ذلك المخرج الذي رحل عن دنيانا مقتولاً قبل ثلاثة أعوام– إلى القاهرة حتى أطلق في ردهات شركة مصر للتمثيل والسينما نبأ وجود شاب يعمل في شركة الغزل بالمحلة وله بالسينما شغف شديد ورغبة في أن يبدأ حياته من جديد صانعاً للأفلام وكما في الأساطير والأحلام نجح “نيازي” في اقناع المسئولين بتلك الشركة بنقل الشاب المحلاوي المولع بالسينما إلى الاستوديو بالقاهرة حيث استهل حياته السينمائية بالعمل مساعداً بقسم التوليف “المونتاج” (1936).

وتعتبر هذه البداية نهاية مرحلة الهواية في حياة “صلاح”.

فبدءًا من ذلك التاريخ، أي منذ خمسين عاماً أو يزيد و”صلاح” يحترف السينما لا يعيش إلا بها ولها حتى يومنا هذا .

والآن إلى لقائه السعيد الثالث على عكس لقاءيه مع “شابلن” و”نيازي” كان لقاؤه مع “كمال سليم” وليد تفكير وتدبير… كيف؟

لأمر في نفس الأقدار سمع “صلاح” اسم “كمال” يتردد كثيراً في أروقة استديو مصر بوصفه شخصاً عنيداً ينشد الكمال في كل شيء، لا يرتضي به بديلاً.

واذا به يجد نفسه مشوقاً أشد الشوق إلى الالتقاء به ولا يستطيع على ذلك صبراً.

ولما كان “كمال” قد ترك الأستديو في لحظة غضب مستقيلاً، وكان معروفاً عنه أنه يسهر في مقهى رجينا بشارع عماد الدين “محمد فريد الآن” ملتقى الفنانين الشبان فقد توجه صلاح إلى ذلك المقهى في إحدى الأمسيات مبيتاً النية على التعرف بكمال وما أن التقى الإثنان حتى نشأت بينهما صداقة زادت قوة وتوثقاً على مر الأيام.

وكان من بين ثمارها أن اتصلت الأسباب الوثيقة بين “صلاح” وبين جماعة من المثقفين شغفت بالأدب والفن وأتخذت من الماركسية هادياً ومرشداً.

كان من بين نجوم تلك الجماعة الفريدة الرسام “رمسيس يونان” والأديب “ألبير قوصيري” والسينمائي “كمال سليم” بطبيعة الحال.

ولم يقف الأمر بين الرجلين كمال وصلاح عند هذه الصداقة وهذا الانتماء وإنما نشأت بينهما صلات عمل في مجال السينما ذلك المجال المحبب لقلب صلاح والذي هو عنده غاية الغايات.

وغني عن البيان أن خير ما أثمرته هذه الصلات هو فيلم العزيمة الذي أخرجه كمال وشارك صلاح فيه بالتوليف.

وأخص ما يمتاز به العزيمة هو جنوحه إلى الواقعية.

خطوة في طريق الواقعية

فلأول مرة تذهب الكاميرا إلى حارة ولأول مرة تلعب الحارة دوراً هاماً ذا دلالة في رسم شخصيات الفيلم وفهمها.

وهذا الانتقال من جانب صانعي العزيمة إلى الحارة على وجه يخدم المعالجة السينمائية لم يكن بالأمر السهل اليسير.

فالرقابة بشقيها الرسمي وغير الرسمي كانت تحمل العداء الشديد لأية انطلاقة من الصالونات والبارات والكاباريهات وما إلى ذلك من أماكن الحياة اللذيذة إلى أزقة وحواري الأحياء الشعبية حيث تقيم الغالبية الغالبة المعذبة بالفقر والشقاء.

ومع ذلك فالعزيمة لا يعدو أن يكون خطوة متواضعة إلى أمام في طريق الواقعية.. لماذا؟

لأن مبدعيه لم يذهبوا إلى الحياة المصرية ليعرضوها كما هي دون تزويق وتجميل.

وإنما اكتفوا بحارة مشيدة داخل استديو حسب تصور كمال سليم لها وهو تصور منبت الصلة بالواقع وآية ذلك أنه لم يجد حلاً لمشكلة البطل المتبطل في الفيلم حسين صدقي إلا في تبني أحد الباشاوات أولاد الأكابر لقضيته، وانتهاء ذلك التبني الزائف إلى تسكين البطل في وظيفة محترمة أعادت إليه الثقة والاعتبار.

ومهما يكن من شيء فلقد استفاد صلاح من تلك الخطوة التي بفضلها انكشف له من أسرار الفن السابع الكثير.

غير أنه كان لابد له من نوافذ أخرى يطل منها على هذا الفن الوليد الشديد التعقيد.

وها هو ذا في مدينة النور لأول مرة قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بقليل.

إنه بين مصدق ومكذب، هل هو في حلم أم هو في علم؟

وما أن يفيق من هول الصدمة الثقافية حتى يقبل بقلب مفتوح على الدراسة وعلى مشاهدة الأفلام.

ويتأثر كثيراً بتيار الواقعية الناقدة الذي كان متسيداً السينما الفرنسية في تلك الأيام الكئيبة العصيبة وهو تيار يغلب عليه اليأس اليائس.

وبالنظر إلى اندلاع نيران الحرب فقد أسرع “صلاح” بمغادرة باريس عائداً إلى استديو مصر حيث لم تتح له فرصة العمل كمخرج إلا بعد ستة أعوام.

ومن عبث الأقدار أن يكون أول فيلم يخرجه صلاح وهو “دايماً في قلبي” مقتبساً من قصة فيلم هوليوودي “جسر ووترلو” بطولة ففيان لي نجمة “ذهب مع الريح”.

ولو استمر صلاح في طريق صنع أفلام مقتبسة على هذا الوجه القبيح لما بقى في ذاكرتنا حياً ولكان الآن نسياً منسياً وهنا ولأمر ما في علم الغيب التقى صلاح بنجيب محفوظ في منتصف الأربعينات وإذا به يشجع أديبنا على العمل معه في السينما يوهمه بأن كتابة السيناريو لا تختلف عن كتابة القصة في كثير أو قليل.
وتبدأ بينهما علاقة عمل سينمائية تستمر خمسة عشر عاماً تثمر أفلاماً متصلة بعصرها مثل “ريا وسكينة” “الوحش” و”الفتوة” أفلاماً أكثر وعياً ونضجاً من العزيمة، وما أنتج بعده من أعمال سينمائية معظمها خليق ألا يحفل به ولا يلتفت إليه وهكذا، وبفضل لقاء آخر سعيد ربح الفن السابع موهبتين.

نجيب محفوظ كاتباً للسيناريو وللقصة السينمائية وصلاح أبو سيف مخرجاً رائداً ثابت الأقدام.

أوسكار التحريف للتاريخ والتعصب المقيت

أوسكار.. تمثال برونزي صغير، يقرأ اسمه علي صفحات مئات الجرائد والمجلات، تشاهد صورته علي مئات الملاين من الشاشات، وهو يسلم إلى كل من كان من نصيبه الفوز به من مبدعي الأفلام علي مدار العام السابق، وذلك في حفل أو استعراض كبير يقام في عاصمة السينما “هوليوود” قريباً من نهاية شهر مارس من كل عام.

ومن هنا جاءت شهرته التي تجاوزت وطنه الولايات المتحدة إلى جميع ارجاء المعمورة بلا استثناء.

ولعله الآن أشهر تمثال في العالم.

ولعل جائزته تفوق في الأهمية والمكاسب المادية جائزة نوبل في أكثر الأحيان.

وغني عن البيان أن “أوسكار” خير داعية لما ينتجه مصنع الأحلام في هوليوود من أفلام.

وعادة يجري التمهيد لأوسكار بجوائز أخرى توزع في احتفالات ومهرجانات سينمائية عديدة تقام في أمهات المدن الأمريكية مع بداية العام، وتعلن نتائجها قبل الترشيح للأوسكار بأيام.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما خلصت إلى القول بأن جوائز الكرة الذهبية، هي أهم هذه الجوائز جميعاً.

عادات وتقاليد

فعندما يفوز فيلم بعدة كرات ذهبية، يكون ذلك إيذاناً بترشيحه للأوسكار، وبفوزه بها، هو وبعض مبدعيه في أغلب الأحوال.

هذه الظاهرة التي كادت تصبح تقليداً أراها تتكرر على مر الأعوام.

“فغاندي” ما أن خرج من حلبة الصراع على تلك الكرة فائزاً بجوائز أفضل فيلم أجنبي ومخرج وممثل وسيناريو، حتى رأيناه بعد ذلك بأيام مرشحاً لعدد كبير من جوائز أوسكار، ثم فائزاً منها بنصيب الأسد.

نفس الشيء تكرر بعد أربعة أعوام مع “الإمبراطور الأخير” (1988) عندما كتب له أن يفوز بأربع كرات ذهبية من بينها الكرات المخصصة لأفضل فيلم ومخرج وسيناريو درامي.

فإذا ما جاءت الليلة الكبيرة.. ليلة أوسكار رأيناه منتصراً على جميع الأفلام الأخرى بالضربة القاضية، متوجاً– رغم أنه فيلم أجنبي– بتسع جوائز أوسكار.

وهو عدد لم يفز به أو بأكثر منه في تاريخ الأوسكار الطويل سوى ثلاثة أفلام.

لذلك عندما فاز “رجل المطر” بالكرة الذهبية باعتباره أفضل فيلم درامي منذ ثلاثة أشهر أو يزيد، كما فاز بها “داستن هوفمان” عن أدائه في الفيلم المذكور لدور “رايموند بابيت”، اعتبر هذا الفوز دليلاً لا يتسرب إليه الشك على أن “رجل المطر” فيلم مبشر بأوسكار، وأن فوزه بها، هو ونفر من مبدعيه أمر شبه أكيد.
وكما كان متوقعاً، فقد جرى ترشيحه لثماني جوائز أوسكار.

وقبل ليلة توزيع الجوائز بقليل تحمست جريدة “الجيروساليم بوست” الإسرائيلية لكل من الفيلم وصاحبه المخرج “باري ليفنسون” وبطله “داستين هوفمان” حماساً شديداً.

وما أن ذاع خبر فوز الفيلم وصاحبه وبطله بالأوسكار الموعود حتى نشرته تلك الجريدة في مكان بارز من عددها الصادر في 31 من مارس 1989 مباهية الأمم بانتساب الفائزين “ليفنسون وهوفمان” إلى يهود هوليوود.

والآن إلى ما يحكيه “رجل المطر” الذي خرج من مضمار أوسكار متوجاً بأربع جوائز بينها أوسكار أحسن سيناريو مبتكر “رولند باس” و”باري مورو”.

يحكي هذا الفيلم قصة شاب وسيم فهلوي “شارلي بابيت” (توم كروز) يعمل بلوس أنجلوس في تجارة السيارات.

الحرمان والعصيان

والحكاية تبدأ به، وقد تلقى ذات صباح مكالمة هاتفية تخبره بوفاة والده الذي لم يلتق به منذ أن كان شاباً يافعاً ليس له من العمر سوى ستة عشر عاماً.

وسرعان ما يكتشف أن والده قد أوصى بكل ثروته التي تقدر بثلاثة ملايين دولار إلى شخص مجهول لا يعرف من أمره شيئاً.

وبعد قليل، يعرف، وهذا هو الأغرب– أن ذلك الشخص المجهول أقرب إليه مما كان يتصور، إنه شقيقه الأكبر.

والسبب في إخفاء أمره عنه أنه متخلف عقلياً، يعيش في مصحة للمعوقين على الساحل الشرقي، بعيداً عن الناس، وما يحمله القرب منهم لمن كان في مثل حالته من أخطار جسام.

وعلى كُلٍ، فما أن التقى بشقيقه في تلك المصحة، حتى تبين له مقدار تخلفه.

فكان أن فكر في خطفه ابتغاء الاستيلاء علي ما أوصي له من ملايين.

ولم يمض وقت طويل، إلا وكان قد اختطفه فعلاً.

وها هو ذا في طريقه إلى الساحل الغربي، ومعه في السيارة شقيقه المعوق الذي رفض السفر بالطائرة لأنه يهاب الانتقال بين الأماكن معلقاً في الفضاء.

عبقرية الأقلية

وأثناء السفر يكتشف “شارلي” أن شقيقه عبقري في لغة الأرقام.

ومن هنا توقفه في “لاس فيجاس”، مدينة القمار، حيث استغل عبقرية شقيقه تلك في الفوز من خلال المقامرة بثروة طائلة فاقت الملايين الموصى بها.

ولقد كان في إمكانه، لو شاء، أن يكسب المزيد، لولا أن أصحاب نوادي القمار في مدينة الشيطان الأصفر قد تنبهوا لخطورة عبقرية شقيقه المعوق، فحالوا بينه وبين الاستمرار في المقامرة.

الأهم من هذا كله، والذي يريد الفيلم أن يركزعليه– هو ذلك التغيّر الذي طرأ علي شخصية “شارلي” بفضل تعايشه مع شقيقه الأكبر خلال الرحلة، واستحالة علاقته به إلى حب أكيد.

ففي البدء حين لقيناه في لقطات الفيلم الأولى، كان أنيقاً في ملبسه، حاد التقاطيع، جشعاً، طامعاً في ملايين شقيقه المحروم منها.

غير أنه عند اقتراب الفيلم من النهاية، نراه وقد استحال شخصاً أكثر إنسانية في التعامل مع شقيقه ومع الآخرين.

وفي الحق، فرجل المطر يسلّط الأضواء لا على “رايمون” المعوق، وإنما على “شارلي” الفتى الطموح المستلب بعبادة المال.

وهو، من خلال الأحداث، يخطو به نحو الحب شيئاً فشيئاً، حتى ولو لم يكن ثمة أمل في أن يبادله الشقيق المعوق حباً بحب.

بعد نظر

وهنا، قد يكون من المفيد أن أذكر ما تصوره أصحاب الفيلم عندما اتصلوا “بهوفمان” لاقناعه بالتمثيل في “رجل المطر”.

لقد تصوروا من منطلق خاطئ في تقدير الأمور أن الدور المناسب له هو دور “شارلي” الشقيق الأصغر. ولكن “هوفمان” بفضل حاسته الفنية التي لا تخيب إلا لماماً، وبفضل حاسته التجارية التي لا تخيب أبداً، وقع اختياره علي دور “رايمون” الشقيق المعوق، وذلك رغم أنه أصغر من الدور الآخر المعروض عليه ابتداء.

وأغلب الظن أنه لو كان لم يسمع سوى صوت الطمع فاندفع إلى الوقوع في فخ إيثار الدور الأكبر علي الدور الأصغر، لما فاز بجائزتي الكرة الذهبية وأوسكار.

يبقي أن أقول أن “رجل المطر” لا يستحق كل الضجة الكبرى التي أثيرت حوله باعتباره فتحاً فنياً مبيناً، ولا كل الجوائز التي أمطروه بها.

فهو فيلم قائم على سيناريو مفتعل أشد افتعال، أحداثه وشخصياته مرسومة حول معان غامضة لم يستطع المخرج أن يقدمها لنا بجلاء.

ومع ذلك، فمما يحسب “لرجل المطر” أن التوقعات القائمة على الاعتقاد الشعبي بأن المرض العقلي لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال القداسة في بعض الأحيان، ومن ثم فقد يكتب “لريمون” المعوق الولي الشفاء، هذه التوقعات لم يتحقق منها شيء بفضل امتناع أصحاب الفيلم عن أن ينتهوا به تلك النهاية السعيدة البلهاء.

شيخوخة مبكرة 

ولو انتقلنا بعد ذلك إلى الأفلام الأخرى التي دخلت بشكل أو بآخر في عداد الأفلام الفائزة بالجائزة المشتهاة مثل “الأرنب روجر” الذي افتتح به مهرجان القاهرة السينمائي الأخير أو “الفتاة العاملة” لصاحبه “مايك نيوكلس” أو “السائح بالصدفة” لصاحبه “لورانس كازدان” أو “حرب الفاصوليا” لصاحبه الممثل المخرج والمنتج “روبرث ردفورد” أو “فندق نرمينوس حياة وأزمنة” كلاوز باربي، لصاحبه “مارسيل أوفلس” أو “المتهمون” لصاحبه “جوناثان كابلان” أو “المسيسيبي يحترق” لصاحبه “آلان باركر”.

وألقينا عليها نظرة طائرة لوجدنا أنفسنا أمام ظاهرة غابت عن انتباهنا طويلاً، هي أن هوليوود قد شاخت، وليس في استطاعتها أن تقدم جديداً نافعاً.

ومهما يكن من أمر هذه الظاهرة فقد يكون من المفيد الوقوف عند الأفلام الثلاثة الأخيرة ولو قليلاً. “فندق ترمينوس” فيلم وثائقي طويل يدور حول جرائم “كلاوز باربي” ذلك الألماني النازي الملقب “بسفاح ليون”. والفيلم عماده لقاءات أجرى فيها المخرج حوارات مع ضحايا هذا السفاح سواء أكانوا من رجال المقاومة الفرنسية أو ممن جرى شحنهم إلى معسكرات الموت ومعظمهم من اليهود!!

جرائم وقحة

أما “المتهمون” فيبدأ ببطلته “سارة توبياس” (جودي فوستر) مندفعة من باب بار إلى الشارع وهي ممزقة الثياب، صارخة فزعاً، ملتمسة النجاة.
وفي الظلام شاب على الرصيف يرتعد خوفاً، وهو يصرخ في سماعة التليفون ملتمساً من الشرطة انقاذ هذه المرأة المبتلاة.

وسرعان ما نعرف سبب صراخها على هذا الوجه الذي يثير الرعب في القلوب.

لقد اغتصبها شبان ثلاثة أمام أعين رواد البار والعجيب أن أحداً من هؤلاء الرواد لم يحرك ساكناً لحمايتها من الاغتصاب.

وأغرب العجب أنهم– فيما عدا قلة صامتة– كانوا بمشهد الاغتصاب البشع الذي أمام أعينهم فرحين، مصفقين بل قل مشجعين.

ولكن ما الذي حدا بالشبان الثلاثة إلى اغتصاب “سارة” هكذا علناً في محل عام، وبهذا الشكل المشين؟

في تلك الليلة– وقبل ذهابها إلى البار- تشاجرت “سارة” مع صديقها الموسيقار الذي يشاركها العيش في منزل متحرك.

وكعادتها ذهبت إلى بار قريب كي تحتسي بضع كئوس. لعلها بها تنسى المشاكل، وتتخفف من الهموم.

وفي هذه المرة، وقبل توجهها إلى البار بصحبة صديقة تعمل معها على خدمة الزبائن في أحد المطاعم، تعاطت أنفاساً من الحشيش.

وها هي ذي داخل البار مرتدية ملابس فاضحة، غير مكتفية بعربدة السكر علناً، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتبادل النظرات مع شاب جذاب، ما أن دعاها إلى مشاركته الشراب حتى قبلت بلا تردد، وأخذت تتجاذب معه أطراف حديث ملؤه الغزل والإيحاءات.
وبينما هو محتضنها في حلبة الرقص يمطرها القبلات، إذا به يطلب منها أمراً لم يكن في الحسبان.

وكلما رفضت أصر لأنه من ذلك الصنف من الشبان الذي لا يقبل من فتاة أن تمتنع وتقول لا. وبمساعدة اثنين من رفاقه دفعها إلى جهاز لعبة الكرة والدبابيس حيث اقترفت جريمة الاغتصاب.

من الجاني؟!

وهذا السلوك المبتذل من قبل “سارة” في مكان لهو ولعب في تلك الليلة الليلاء، كان لابد أن يقف عقبة كئود أمام محققة الإدعاء “كاترين ميرفي” (كيللي ماكجيلليس).. فادعاء فتاة عاملة من الطبقات الدنيا، تسكر وتعربد وتحشش بأنها قد أغتصبت، هذا الادعاء لا يؤخذ مأخذ الجد أمام القضاء.

كل ذلك اضطر المحققة إلى اسقاط تهمة الاغتصاب وبدلاً منها توجيه تهمة تهديد الأرواح والأموال إلى الشبان المعتدين.

وهذا ما أغضب “سارة” التي كانت تتوقع أن تحكي مأساتها أمام المحكمة حتى تنتصف لها العدالة مما وقع على جسدها من اعتداء آثم مهين.

ولم يكن أمام المحققة حتى تعيد المحاكمة، استجابة لرغبة سارة، بعد أن بدأت تتعاطف معها، إلا حلاً وحيداً هو توجيه الاتهام إلى الذين شاهدوا الاغتصاب، ولم يحركوا ساكناً.

ولن أحكي التفاصيل التي بها استطاعت المحققة أن تضيق الخناق على شهود الجريمة التي ما كانت لترتكب فيما لو اتسم سلوكهم بالمبالاة والإقدام. فذلك شيء يطول.

وإنما اكتفي بأن أقول بأن “جودي فوستر” برزت في دور “سارة” المغتصبة ممثلة عظيمة، ومن هنا فوزها بجدارة عن أدائها لهذا الدور بالأوسكار.

وبأن منتجة الفيلم “شيري لانسينج” لم يفتها في حديث لها مع جريدة “دالاس أوبزرفر”، (20 أكتوبر 1988) أن تجري مقارنة بين موقف الجمهور اللامبالي في فيلم “المتهمون” وبين موقف الشعب الألماني غير المكترث بما حدث في ألمانيا الهتلرية لشعب الله المختار!!

والآن إلى الفيلم الثالث والأخير “المسيسبي يحترق”.
سود وعبيد

هذا فيلم يعرض لنضال السود من أجل المساواة مع البيض في الولايات المتحدة خلال العام الذي حصل فيه “مارتن لوثر كنج الصغير” على جائزة نوبل للسلام (1964) ولكنه يعرض لهذا النضال لا من منطلق أن السود هم الذين كافحوا وضحوا حتى اضطروا الكونجرس الأمريكي إلى إعادة حقوقهم السليبة في الحرية والمساواة إليهم وذلك بعد رحلة طويلة من المعاناة والعذاب.

ولكن من منطلق آخر يقلل من دورهم في هذا النضال الباسل، يقول أنهم كانوا متفرجين سلبيين ينتظرون الخلاص علي أيدي رجال “روبرت كندي” النائب العام أو بمعنى أصح على أيدي بطلي الفيلم “جين هاكمان” و”ويلم دافو”، وكلاهما محقق من رجال “هربرت هوفر” رئيس المكتب الاتحادي للمباحث، والذي كان معروفاً عنه أنه يمقت “مارتن لوثر كنج” مقتاً شديداً.

فبفضل هذين المحققين- وكلاهما من البيض– عثر على جثتي “مايكيل شفرنر” و”اندرو جومان” والاثنان من بيض الشمال. كما عثر على جثة “جيمس شابي” وهو من سود الجنوب.

والثلاثة– وهم مناضلون من أجل الحقوق المدنية، كانوا قد اختفوا قريباً من فيلادلفيا- ميسوري قبل أسابيع، وبعد العثور على جثثهم بأربعة شهور ألقي القبض على تسعة عشر رجلاً بتهمة الاشتراك في قتلهم.

وخلال عام 1967 صدر الحكم على سبعة منهم كان من بينهم نائب الشريف لما ثبت في حقهم من تآمر على المناضلين الثلاثة ابتغاء تصفيتهم بالاغتيال.

الخطايا

وأحد عيوب الفيلم الجوهرية امتناعه حتى عن التلميح إلى عداء رئيس المباحث “هوفر” المتأصل للسود ولزعيمهم “كنج”، ذلك العداء الذي وصل إلى حد التصنت على “كنج” بموافقة “روبرت كيندي” سعياً إلى دليل يثبت أنه واقع تحت نفوذ الشيوعيين، فضلاً عن قيام عملاء المباحث بارسال خطاب وشريط تسجيل لعلاقاته الغرامية إلى زوجته بأمل دفعه إلى الانتحار.

والأخطر من كل ذلك امتناع مباحث “هوفر” عن تنبيهه إلى ما كان قد وصل إلى علمها من تهديدات له بالموت، وذلك إلى أن لقي مصرعه برصاصات انطلقت من غدارة أحد غلاة المتعصبين (1968).

وإن شئت أن تعلم شيئاً يفيد في فهم “المسيسيبي يحترق” الحاصل على أوسكار التصوير، فاعلم أن صاحبه “باركر” قد سبق له أن أخرج “قطار منتصف الليل السريع” (1978)، ذلك الفيلم الذي ينفث عداوة متوارثة للأتراك، وبغضاء طائفية متأججة للإسلام.

المتشرد الخالد.. مائة عام

لو لم يجئه الموت ليلة عيد الميلاد المجيد قبل اثنتين وعشرين عاماً أو يزيد، لكان له في منتصف الشهر من العمر مائة عام.

والغريب أن ثمة اختلافاً حول يوم ميلاد هذا المتشرد الصغير الذي يسير في الأفق وحيداً، مرتدياً قبعته الطاسة، وحذاءه المرتخي الكبير، محاكياً مشية البطة أو طيراً من هذا القبيل.

فهذا اليوم حسب الإعلان عن مولده ببيان إلى الناس نشر في مجلة “الماجنت” اللندرية بعددها الصادر في الحادي عشر من مايو لعام 1889 هو الخامس عشر من شهر أبريل.

أما إذا رجعنا إلى مؤلفه الضخم الذي ضمنه سيرته تحت عنوان “قصة حياتي” فسنجده مستهلاً لها على الوجه الآتي.
الأقدار الساخرة

“ولدت في 16 أبريل 1889، الساعة الثامنة مساء”.

والأغرب أن يجئ مولده في نفس السنة، بل وفي نفس الشهر الذي ولد فيه “أدولف هتلر”..،.. وألا يكون ثمة فرق بينهما في السن سوى بضعة أيام، فالأخير”هتلر” يصغر “شارلز سبنسر شابلن” بخمسة أيام فقط لا غير.

والأكثر غرابة، أن تلتقي حياتهما، وهما في سن الخمسين، لا في الواقع، وإنما في الخيال عندما تقمص “شابلن” شخصية “هتلر” في واحد من أكثر أفلامه جرأة “الدكتاتور العظيم”.

وفي وقت كان كلاهما في أوج المجد، الأول أشهر فنان في العالم يأسر بمتشرده الخالد قلوب الملايين والثاني أشهر طاغية يتوعد الإنسانية بحكم استبدادي لو كتب لجيوشه أن تنتصر لدام ألف عام.

وشهرة شابلن العالمية قد اكتسبها– والحق يقال- في تاريخ سابق على اكتساب هتلر لها بأكثر من خمسة عشر عاماً، لا بفضل دسائس ومؤامرات دموية، وإنما بفضل لقاء نادر.. لقاء الحظ بالعبقرية.. كيف؟

اللقاء السعيد

في الثامن والعشرين من فبراير لعام 1914- أي ولشابلن من العمر خمسة وعشرون عاماً- جاء استديو “كيستون” بهوليوود نبأ من “فينيس” في ضواحي “لوس انجلوس” مفاده أن ثمة سباقاً لسيارات الأطفال.

وطبعاً سارع “ماك سينيت” ساحر السينما الضاحكة الصاخبة وصاحب الاستديو إلى استدعاء “شابلن” الممثل الناشئ، طالباً إليه أن يبحث عن ملابس هزلية يتسكع بها- وهو مرتديها– أمام الكاميرا، وهي تصور ذلك السباق.

وهمست الأقدار في أذن “شابلن” أن يتوجه إلى ثلاثة من زملائه في الاستوديو وهم “ارباكيل” المشهور بالسمين و”مارك سوين” و”فورد سترلنج” فيستعير من الأول سرواله الواسع الفضفاض، ومن الثاني شاربه القصير الصغير، ومن الأخير حذاءه المرتخي الكبير.

وما لبثت الاقدار أن أخذت بيده ظهر نفس اليوم إلى مخزن للملابس بالاستوديو حيث اختار قبعة طاسة ومعطفاً ضيقاً وعصا.

وهكذا، وبفضل هذه الملابس، وبفضل هذا الشارب والعصا خرج إلى النور متشرد شابلن الذي سيكتب له الخلود في عالم الاطياف.

مولد متشرد

ونحن لو رأينا “سباق الأطفال في فينيس”– وهو ثاني أفلامه– ولم نكن على علم بأنه لشابلن لتعرفنا عليه فور ظهوره على الشاشة البيضاء ولأحسسنا أن أمامنا بعضاً منه، هذا البعض الفوضوى الذي لا هم له إلا المشاغبة والمداعبة والسخرية من رجال الشرطة والمصورين والأطفال المتسابقين.

ولو أتيحت لنا فرصة مشاهدة فيلمه الرابع “بين الأمطار” لظهر أمامنا المتشرد شابلن بملابسه الرثة الممزقة، وهو يتعارك مع رجل متواجه متأنق من أجل شمسية وقلب حسناء.

فإذا ما فاز بالإثنين معاً، رأيناه يستدير فجأة، يمشي مشية البطة مبتعداً والشمسية بيمينه وظهره إلينا نحن المتفرجين.

ولاستطعنا– بعد هذا المشهد– أن نقول وكلنا ثقة..،.. لقد رأينا مولد شابلن بتكوينه الخارجي، بظاهره الأسطوري الذي يظل متواصلاً دون انقطاع إلى أن تمر الإنسانية بمحنة حربين عالميتين.
صوت الماضي

والحق، أنه ما كان في إمكان “شابلن” أن يكتمل مظهراً وروحاً خلال السنة الأولى من عمره السينمائي.

فهو كان يعمل عند مكتشفه “سينيت”.

وهو كان مطالباً بأن يمثل ويخرج فيلمين من ذلك النوع المضحك الذي عرف تحت اسم “كوميديات كيستون” وفي مدة لا تزيد على سبعة أيام.

وهو كان ملزماً باتباع أسلوب في الإضحاك لا يختلف في كثير أو قليل عن أسلوب الشخصيات الأخرى التي تمثل في أفلام “كيستون”.. وهي أفلام قوامها المطاردات وتبادل الضرب بالعصى وبفطائر الكريم.

أفلام تسخر من كل شيء، تحطم، تدمر، تعربد في إيقاع سريع صاخب، إلى الجنون أقرب.

وعن طيب خاطر قبل “شابلن” المشاركة في لعبة التحطيم والتدمير والعربدة هذه.

ولعله بهذه المشاركة كان مستجيباً لصوت من الماضي يريد أن ينتقم، بطريقة فوضوية، لشقائه في لندن وقت أن كان طفلاً يتيماً، معذباً بالفقر.

أفلام شيطانية

“فشارلز شابلن”- وهو الاسم الدعائي الذي أختير له بداءة- في أفلام سنة أولى سينما– على النقيض تماماً من شابلن الرقيق، الضعيف. إنه ممسوس بالشر والغضب، يضرب بعنف الأزواج ورجال الشرطة والأقوياء.. ولا يهزم أبدا.

وهو كسول، محب للترف، بخيل، سريع الغضب وفوق كل هذا جبان.

ولو جمعنا الأفلام التي مثلها “شابلن” الشاب خلال سنة أولى سينما لكونت كلاً واحداً متجانساً، سواء أكان هو الذي أخرجها أم “سينيت” أم واحد من أعوان الأخير.

بل أنها لو ضمت لبعضها البعض لخرج منها فيلم يدوم عرضه بضع ساعات .

ولأمكن أن يطلق عليه “مغامرات شارلز شابلن البهلوانية” ذلك الاسم الذي اختاره الناقد “جورج سادول” عنواناً لجميع أفلام شابلن في سنته الأولى مع السينما، وهو اسم يعبر بحق عن جوهرها، فهي لا تنهض إلا بفضل حضوره السينمائي ومطارداته وبهلوانياته وحركاته التقليدية الصامتة.

التحرر كيف 

أما الواقع الاجتماعي ونقده فليس فيها منه إلا نزر يسير نراه أكثر ما نراه في “حياته الموسيقية” حيث يجر شابلن وهو على منحدر تل، عربة تحمل بيانو وكأنه حمار فقير معبراً بهذا المشهد الأليم عن معاناة الرجل الصغير. غير أن هذا النغم الإنساني خافت يكاد لا يسمع وكان لابد لسماعه سائداً من أن يتحرر شابلن من عالم الإضحاك غير الإنساني، كما تتحرر الفراشة من الشرنقة.

أن يتحرر شابلن من المهرج الساخر من كل شيء المحطم المدمر لكل شيء حتى يولد شابلن الذي نعرفه شابلن الإنسان.

وعلى كُلٍ، فمع فيلم “شارع الهوى” (1916) نستطيع أن نقول أن شابلن قد ولد من جديد.

ولو تتبعنا أفلام “شابلن” اللاحقة لهذا التاريخ لوجدناها تزداد عمقاً وإنسانية على مر الايام.

الحرب والسلام

وفي الحق، فكل واحد منها يستحق منا وقفة طويلة غير أنني سأكتفي- لضيق المجال- بالوقوف وقفة قصيرة عند فيلمين من مجموع إبداعه فيما بين “شارع الهوى” و”الكونتيسة من هونج كونج” (1967).

والفيلمان هما “الدكتاتور العظيم” (1940) و”مسيو فيردو” (1947).

من المعروف أن “شابلن” قد تقمص في الفيلم الأول شخصيتين أحدهما شخصية دكتاتور أسماه “هينكل” قاصداً به “هتلر”.
والأخرى شخصية حلاق من المستضعفين في الأرض ينتهي الفيلم به حالاً محل الدكتاتور، مرتدياً ملابسه العسكرية موجهاً الخطاب من المنصة بوصفه الزعيم إلى شعب “تومانيا” (ألمانيا).

وهو في خطابه هذا لا يعلن الحرب كما كان الزعيم مخططاً وإنما يعلن السلام.

والعجيب أنه وكما اختفى الطاغية فجأة من فيلم “الدكتاتور العظيم”، اختفى المتشرد هو الآخر من جميع ما أخرج شابلن بعد ذلك من أفلام.

القاتل الفاضل

وظهر بدلاً منه بادئ ذي بدء “مسيو فيردو” ذلك الرجل المزدوج الشخصية الذي عبّر به شابلن مجازاً عن محنة الإنسان المعاصر.

فهو رب أسرة فاضل يعول زوجة مشلولة وطفلاً جميلاً. وهو في نفس الوقت زير نساء يتزوج في الخفاء أرامل مسنات واسعات الثراء بغرض الحصول على ثرواتهن بعد التخلص منهن بالقتل حتى يتمكن من توفير وسائل الراحة لأسرته، ويجعلها بمنجاة من الشقاء.
فإذا ما حكم عليه قريباً من نهاية الفيلم بالإعدام رأيناه، وقبل أن يذهبوا به إلى المقصلة، يتوجه إلينا بالخطاب ساخراً.

“جريمة قتل واحدة تصنع شريراً، وملايين الجرائم تصنع بطلاً”.

وقد يبدو أنه ليس ثمة علاقة بين شابلن المتشرد وبين “فيردو” القاتل المحترف.

وفي الحقيقة فالأخير لا يعدو أن يكون استمراراً للأول، ولكن في أزمنة أكثر إجراماً، أزمنة ما بعد كارثة هيروشيما.

بل أنهما وجهان لشخصية واحدة، شخصية مبدعهما الذي أطل على العالم منذ مائة عام.

ولم يتركه إلا وكان قد ترك في الفن السابع أثاراً بعيدة عميقة ليس إلى محوها سبيل.