أوسكار مع الإمبراطور الأخير وضد صرخات الحرية

تساءل الكثير عن الإمبراطور الأخير من هو، ولماذا توّج الفيلم الذي يدور حول مأساته بتسع جوائز أوسكار، وهو رقم لم يفز به أي فيلم منذ قصة الحي الغربي (1961).

والعجيب أن أحداً لم يتساءل لماذا لم يرشح لأية جائزة من هذه الجوائز المشتهاة فيلم تاريخي آخر يدور حول سيرة ويليم ووكر (1824-1860) ذلك المغامر الأمريكي الذي استولى على نيكاراجوا بنفر من الأشرار لا يزيد عددهم على الخمسين إلا قليلاً.

والعجب العجيب أن أحداً لم يتساءل لماذا لم يجر ترشيح “صرخة الحرية”- وهو الآخر فيلم تاريخي يعرض لسيرة المناضل الأفريقي “بيكو”- إلا لثلاث جوائز ثانوية ليست كبيرة الأهمية، ومع ذلك لم يكتب له أن يفوز بأي منها.

ولنترك “الإمبراطور الأخير” الذي ابتذلته حوادث الدهر، فانتهت به جناينياً في المدينة المحرمة بكين حيث بدأ حياته العامة إمبراطوراً، وهو في الثانية والنصف من سنيه، فلنتركه إلى حين.

الأمريكي القبيح

ولنبدأ بالفيلم الذي أخرجه الإنجليزي “أليكس كوكس” عن الأمريكي “ووكر” الذي استولى على نيكاراجوا بفئة قليلة من المحاربين.

من المعروف تاريخياً أن هذا المغامر قد عاش ومات في العصر الذهبي للاستعمار.

والفيلم الذي يعرض لمغامراته وطموحاته قد أنتج بالتعاون مع الساندينستا حكام نيكاراجوا الممتحنين بتدخل إدارة الرئيس الأمريكي “ريجان” في شئونهم امتحاناً أليماً.

ولا غرابة في هذا التعاون “فووكر” قد غزا نيكاراجوا (1855) حتى بلغ منها ما أراد، فأصبح رئيساً لجمهوريتها ولم يكتف بذلك بل فرض عليها نظام العبيد. وظل ينشر الفساد والاستبداد في ربوع أمريكا الوسطى حتى جاءه الموت ساحقاً ماحقاً برصاصات انطلقت إلى صدره من فوهات بنادق ثلة من جنود هندوراس (1860) وله من العمر 36 عاماً.

والشيء المحقق أن صاحب هذه السيرة غير العطرة التي ملأت الشريط الضيق الفاصل بين الأمريكتين هولاً كان في نظر معاصريه في الولايات المتحدة رجلاً من رجال الأقدار على حين أنه كان في أمريكا اللاتينية ولا يزال معتبراً رمزاً للشيطان.

الماضي والحاضر

ومن هنا سعي صاحب الفيلم إلى تصوير الجانب القبيح من حياة هذا المغامر على وجه يتيح للمشاهد، مع شيء من التفكير اليسير، أن يعقد مقارنة بين ما حدث في نيكاراجوا بعد منتصف القرن الماضي بقليل، وبين ما يحدث فيها الآن ونحن على عتبات القرن الواحد والعشرين.

وهو في سعيه هذا، قد لجأ إلى أسلوب أوبرالي فيه من البرختية والملهاة الشيء الكثير. وآية ذلك مزاوجته الطريفة بين أزمنة “ووكر” وأزمنتنا.

فها هي زجاجات الكوكاكولا تملأ الشاشة رغم أن اختراعها وقت أحداث الفيلم كان لا يزال في علم الغيب، وها هي مجلات أمريكا الشمالية الباحثة عن الإثارة تحمل على أغلفتها صورة “ووكر” وفتوحاته مما يذكرنا “بأوليفر نورث” بطل فضيحة “إيران- كونترا”، وطريقة معالجة الصحافة الأمريكية لها.

وها هي طائرة عمودية تهبط فجأة على أرض المعارك ليندفع منها جنود البحرية الأمريكية شاهرين السلاح.

وعلي كل، فليس يعنينا الآن ما أتيح لفيلم ووكر من الفوز جماهيرياً- وهو فوز عظيم- بقدر ما يعنينا أن نلاحظ أن الجهود التي بذلها مخرجه لكشف تدخل كل رجال الرئيس الأمريكي في شئون بلد صغير كنيكارجوا، ورد ذلك إلى أصوله التاريخية، هذه الجهود التي جعلته وحيد نوعه بين ركام الأفلام، قد انتهت بالمتحمسين له إلى الإخفاق حتى في ترشيحه إلى أية جائزة من جوائز أوسكار.

أبيض وأسود

فإذا ما انتقلنا إلى “صرخة الحرية”، فسنجد أنفسنا أمام واحد من أكثر أفلام العام الماضي نبلاً، وذلك لأنه من تلك الأعمال السينمائية النادرة التي تعرضت بجرأة وصدق لأهوال التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
ولا عجب في هذا، فصاحبه ريتشارد اتينبره سبق له أن أخرج “غاندي” وهو فيلم عرض في مشاهده الأولى لهذا التمييز المقيت.

وقصة فيلمه الجديد كما “غاندي” ما هي إلا ترجمة حقيقية عاشها بطلاً “صرخة الحرية” “ستيف بيكو” و”رونالد وودز”.

وأحداث الفيلم تبدأ بـ”بيكو” مناضلاً أسود في ريعان الشباب، استقر في ضميره أن الشر كل الشر، والنكر كل النكر، هو في إذلال البيض للسود.

وأنه لابد من تغيير الأمور في جنوب أفريقيا بحيث تقام الصلات بين الناس، مهما تختلف ألوانهم على نظام من العدل والمساواة.

وتنشأ بينه وبين “وودز” محرر جريدة “ديلي ديسباتش”- وهو من البيض ذو نزعات إنسانية- صداقة قوية، بفضلها يزداد وعي “وودز” بخطر العنصرية ووحشيتها، فيصمم على مقاومتها، ما وسعته المقاومة، ولا يدخر في سبيل ذلك جهداً. ومع تفاقم الأحداث، يمر أمام أعيننا شريط دام من الفواجع.

فها نحن نرى هجمة الشرطة على مدينة الصفيح السوداء “كروس رودز” خارج مدينة “كيب تاون”، ونرى تحديد إقامة “بيكو” وكيف جعلت من منزله مكاناً أقرب إلى السجن منه إلى أي شيء آخر.

ثم نراه، حين يُلقى القبض عليه، ويُرمى به وراء القضبان، حتى نفاجأ به فاقد الحياة على أيدي شرطة لا ترحم.

مذبحة الأبرياء

وما أن يختفي “بيكو” بالقتل، حتى يبدأ النصف الثاني من “صرخة الحرية” حيث تمكر سلطة القهر بصديقه الأبيض “وودز” مكراً شديداً يكاد يخلو من قطرة إنسانية.

ولا أريد أن ألخص ما في هذا النصف وهو تصوير هروبه متخفياً في ثياب قسيس ومعه مخطوط كتابه عن “بيكو” يحكي فيه ما رأى، ويكشف فيه عن كل ما جرى. ولا أن ألخص محنة زوجته “وندي” وهي تحاول الفرار بأطفالها من الجحيم، حتى يكتب لها النجاة.

ولا أن ألخص محنة مشاهد مذبحة الأطفال السود في “سوويتو” (1976) أو محاكمة “بيكو” حيث استطاع بصدق لهجته من جهة، وبراعته الفنية من جهة أخرى أن يفضح النظام العنصري في جنوب أفريقيا وجرائمه، تلك المشاهد التي قطع بها مخرج الفيلم سياق السرد لرحلة هروب “وودز” إلى الحرية.

أسباب العقاب

وإنما اكتفى بتلخيص النظرية التي يعتمد عليها الفيلم بنصفيه فهو يريد أن يقول أن الصلة القائمة بين حياة البيض والسود قوامها الاستعلاء والاستكبار. البيض يعسفون ويخسفون، والسود يذوقون ألوان الذل والهوان.

فإذا ما حاولوا الخروج من ذلك إلى شيء من العزة والكرامة، ردهم البيض إلى حياتهم البغيضة أعنف الرد.

وأن يقول أيضاً أنه على البيض إذا ما وعوا أبعاد هذه الحياة المسرفة في الإذلال أن يقاوموا.

ومن هنا عقاب الفيلم بحجب جميع جوائز أوسكار عنه. فمثلاً أوسكار أحسن ممثل ثانوي لم يحصل عليها الممثل الملون “دينزل واشنطن” الذي كان مرشحاً لها عن أدائه لدور “بيكو” بجدارة، وحصل عليها “شين كونري” المشهور “بجيمس بوند” عن تقمصه لشخصية شرطي في خدمة الشعب ضد الفساد في آخر أفلام هوليوود عن المجرم “آل كابوني”ً وأوسكار أحسن أغنية لم تفز بها أنشودة “بيكو” بكلماتها التي تدفع إلى الصمود والنضال، وفازت بها أغنية عاطفية تافهة من فيلم لا غناء فيه “الرقص القذر”.

الفيلم الوليمة

والآن، عود إلى الإمبراطور الأخير، ذلك الفيلم الذي فاز بجميع الجوائز ذات الرنين. صاحبه هو “برناردو برتولوتشي”، المخرج الإيطالي الذي سبق له أن أبدع “قبل الثورة” و”المتلائم” و”التانجو الأخير في باريس” و”القرن العشرين”، وهي أربع روائع لها في تاريخ السينما أثر غير قليل.
وأغلب الظن أنه أكثر المخرجين الثلاثة موهبة. (يلاحظ أن أحداً منهم لا يحمل الجنسية الأمريكية). وحتى عام 1978 كان عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي وتركه له لعله يعود إلى خلاف جوهري حول مفهوم المتعة في الفن وأشياء أخرى .. وهو في فيلمه الأخير يحكي بطريقتة مأساة الإمبراطور “بويي” الذي اختارته الإمبراطورة “تزوهو” خلفاً لها (1908) وهو لايزال في المهد صبيا.

عبث الأقدار

وأحداث الفيلم تبدأ به مسجوناً (1950- 1959) بعد أن سلمه الروس إلى الصينيين اثر سقوط حكم الكومنتانج وارتفاع رايات الشيوعية في الصين عالية وكانت التهمة الموجهة إليه هي التعاون مع اليابانيين إبان حقبة احتلالهم للصين. وبلا هوادة سعي سجّانوه إلى تعليمه أو غسل مخه كما يقال في لغة المحللين النفسيين.

أثناء محاولاتهم هذه، ومن خلال بناء سينمائي. يقوم على لقطات تعود بنا إلى الماضي، يتوقف الفيلم عند لحظات من حياة الإمبرطور السجين: الأعمارالثلاثة الأولى (اثنان ونصف، عشرة، خمسة عشر عاماً) من حياته كإمبراطور طفل ومراهق.
منفاه أثناء عقد العشرينيات، محاولاته مع المحتلين اليابانيين إعادة بناء إمبراطورية في منشوريا مسقط رأسه ثم الفشل النهائي. وفي الحق، فهذا الفشل قدر مكتوب عليه منذ البداية. فهو يتوج إمبراطوراً وله من العمر ثلاثون شهراً وهو- بعد ثلاثة أعوام من اعتلاء العرش- لا يملك من أمر الصين شيئاً لأن ثورة قامت وأعلنتها جمهورية. وهو رهين المدينة المحرمة لا يتركها إلا طريداً في بداية العشرينيات بعد تجريده نهائياً من اللقب الإمبراطوري. هو باختصار سجين طوال الفيلم دائماً أمامه سد لا يستطيع أن يتجاوزه. وسد التاريخ المنيع. وحيثما يستأنف السير في أي طريق فإنه لا ينتهي منه إلى غاية.

الحنين لم يعد كما كان

ولا يزال كذلك حتى يجد في سجنه الأخير عالماً جديداً غريباً يستطيع أن يعيش فيه متلائماً مع نفسه ومع الناس. أخيراً تنفتح أمامه الأبواب، فيعمل جناينياً في حدائق المدينة المحرمة حيث كان إمبراطوراً مقدساً وأخيراً يحيا ليموت راضياً مرضياً.

بعد هذا كله، فالإمبراطور الأخير فيه من الخصب والشاعرية والجمال ما لابد وأن يترك في السينما آثاراً بعيدة عميقة، ليس إلى محوها من سبيل.
ومع ذلك فسدنة العدالة في هوليوود لم يتوجوه إمبراطوراً على جميع الأفلام إلا لأنه زاخر بالحنين إلى الصين القديمة.. صين الأرض الطيبة ( وهو فيلم حاز على جوائز أوسكار كثيرة خلال منتصف عقد الثلاثينيات) ومن هنا خروجه من حلبة الصراع على جوائز الأوسكار الكبرى. فائزاً لا شريك له.

اليهود في هوليود سياسة الخطوة خطوة

ظننا إلى عهد قريب  أننا على علم بالدور الذي لعبته الصهيونية ابتغاء السيطرة على السينما، وبالذات عاصمتها هوليوود، بل وإننا نعرف عن هذا الدور الكثير.

وما دار في خلدنا أننا، في حقيقة الأمر، لم نكن نعرف عن هذا الدور وأبعاده إلا القليل، بل قل أقل القليل ولعل لذلك سببا.

فلأمر ما ظل هذا الدور محوطاً بالكتمان، لا يكاد أحد من كتاب ونقاد الغرب يجتهد في إظهار ما خفي منه وما غمض، أو يحفل باستكشاف ما لا يهتدي إليه من جوانبه إلا بعد تفكير عسير وعناء شديد.

الصهيونية أسرار

وعلي كل، فالآن والآن فقط، بدأ نفر من الباحثين يدرس دور اليهود في السينما، ولا أقول دور الصهاينة، ذلك أن النفوس في الغرب لم تهيأ بعد للاقتراب من كلمة “صهيونية” ولو من بعيد.

فهي لا تزال من المحظورات، لم يكتب لها أن تظفر إلا بما ندر من أدوات البحث والاستقصاء والتعمق.

وقد تكون الباحثة الأمريكية “باتريشيا ارينز” بمؤلفها الموسوعي “اليهودي في السينما الأمريكية” رائدة في هذا المجال المحفوف بالمخاطر.

ومن هنا استكتاب القائمين على تحرير مجلة “سينما أكسيون” الفرنسية لها، وهم في سبيل الإعداد لملف خاص يعرض لموضوع واحد “السينما واليهودية” على امتداد العالم بدءاً من هوليوود مروراً بنيويورك ثم أوروبا فمصر وإسرائيل وانتهاء باليابان.

ولو اطلعنا على الملف ومجمل ما ينطوي عليه من مقالات تبلغ الثلاثة والثلاثين عدّاً، لتبين لنا أن ما كتبته “ارينز” ينفرد بأنه جديد ومفيد، لأنه يكشف الجانب الآخر من مصنع الأحلام في هوليوود، ذلك الجانب الغائص في ليل من الأسرار مخيف.

فالمعلومات التي ضمنتها مقالها “1947- 1967 الموشن بكتشر بروجيكت في هوليوود”، كلها مستمدة من أرشيفات لم يسبق نشرها لإحدى تلك الهيئات المنتشرة في ربوع الولايات المتحدة بحجة مقاومة التشهير باليهود، والتي يقف وراءها مسانداً كل من “اتحاد بناي بريث” واللجنة الأمريكية اليهودية.

رقابة أهلية 

وبادئ ذي بدء ما هي هيئة “الموشن بكتشر برجكت” هذه التي يدور المقال حولها وجوداً وعدماً، وما هي المهام المنوطة بها والتي أنشئت من أجلها؟

هي عبارة عن لجنة دائمة بدأت نشاطها قريباً من نهاية الأربعينيات (1947)، تفرغ لإدارتها والإشراف على توجيهها بما يحقق أغراضها يهودي اسمه “جون ستون”، سبق له أن عمل مدرساً ثم منتجاً.

ومن بين مهامها المعلنة إحكام الرقابة على مضمون الأفلام التي تجنح إلى المساس سواء من قريب أو من بعيد بأحد من طائفة اليهود، وذلك حتى في المرحلة السابقة على الانتاج، أي وهي على الورق مجرد مشروعات، لم تر النور.

وعن أعضائها تقول صاحبة المقال أنهم كانوا منذ البداية متنبهين لأهمية السينما، يرون فيها أداة تعليمية قوية، قادرة على التأثير في الجماهير، وتوجيه الرأي العام.

وآية ذلك ما جاء على لسان أحد مؤسسي تلك اللجنة في حديث له عن “الطريق المفروش بالنجوم” (ماكاري 1944) – وهو فيلم دعاية للكاثوليكية وفضائلها، ومتوج بجائزة الأوسكار.

فقد قال عن الفيلم أنه “أفاد الكاثوليكية بأكثر من حملة دفاعية بحتة تستمر عاماً كاملاً”.

وعقب تشكيلها، مضت اللجنة في طريقها من أجل تحقيق ثلاثة أهداف .

أولها: تعديل أنماط الشخصيات السلبية، لاسيما ما كان منها متصلاً بالأنماط اليهودية التقليدية المضحكة، فضلاً عن الشخصيات الفاسدة والإجرامية.

ثانيا: استبعاد كل ما قد يشجع على معاداة السامية، وبالذات في كل ما يعرض لحياة السيد المسيح.

وثالثها: تشجيع المعالجة الإيجابية لصورة اليهودي، ولكل ما يتصل بها من موضوعات.

القياس الفاسد

وفي رأي صاحبة المقال أن تاريخ نشاط تلك اللجنة، وما تحقق بفضله من تجميل لصورة اليهودي في نظر المجتمع الأمريكي، إنما ينهض دليلاً على نجاحها فيما سعت إليه، وبالتالي فإن الوسائل التي اتبعتها في ممارسة هذا النشاط الناجح، إنما تصلح مثلاً يحتذى لكل أقلية تريد صلاح أمورها.

والغريب في هذه النصيحة أن صاحبتها لم تضع في الاعتبار،وهي تلقي بها جزافاً، أن جميع شركات الانتاج السينمائي الكبري في هوليوود، فيما عدا فوكس للقرن العشرين كانت محكومة وقتذاك برؤساء مجالس إدارات، كلهم من اليهود، فضلاً عن أن الأقلية اليهودية تعتبر أقوى وأغنى أقلية في العالم، وفوق كل هذا فهي الحليف الرئيسي لأقوى وأغنى أقلية في الولايات المتحدة، تلك الأقلية البيضاء التي تنحدر من أصول أنجلوسكسونية، تعتنق مذهب البروتستانتية، ويرأس أبناؤها الدولة منذ إعلان الاستقلال وحتى يومنا هذا، وذلك باستثناء كيندي الكاثوليكي الذي انتهت ولايته فجأة بكارثة الاغتيال.

الصبر والصمت

ومهما يكن من شيء، فقد بدأت اللجنة مسيرتها التي كانت تستهدف بها احكام الرقابة على السينما والسيطرة على مصائرها لصالح الأقلية اليهودية.. بدأتها سياسة الخطوة.. خطوة باللجوء بداءة إلى أسلوب الاقناع.

فها هو ذا “جون ستون” يلتقي برؤساء الاستديوهات يحاول دون جدوى أن يوضح لهم ما لديه من مآخذ على رسم الشخصيات الرئيسية اليهودية في المسلسل الإذاعي “آل جولد برج” الذي اتجهت النيه إلى التحول به إلى فيلم.

فإذا ما قوبل “آل جولدبرج” مقابلة سيئة من النقاد، ومقابلة أسوأ من الجمهور، سارعت شركة بارامونت صاحبة الفيلم إلى تغيير اسمه إلى “مولي” بأمل استرجاع الجمهور بفضل الإخفاء تماماً للاسم القديم وما شابهه من أسماء قد تكشف الانتماءات الدينية الحقيقية للشخصيات.

وطبعاً، تعلمت هوليوود الدرس من هذا الفشل، فكان أن امتنعت عن إعادة الإحياء للقوالب اليهودية السابقة على نشوب الحرب العالمية الثانية.

ولم تلبث أن ثارت المشكلة غير مرة فيما يتصل بإظهار الشخصيات الثانوية في هذه القوالب.

إلا أنها سرعان ما حسمت لصالح اليهود، بفضل يقظة أعضاء اللجنة، وممانعتهم لأية انتكاسة من هذا النوع أشد ممانعة.

وداعاً للحرية

بعد ذلك خطت اللجنة خطوة أخرى أكثر جسارة.. شنت حملة ضد إظهار أية شخصية يهودية مشوهة الروح، بلا قيم أو أخلاق، حتى ولو كان ظهورها في أفلام مأخوذة عن روايات معاصرة ناجحة مثل “أستطيع أن أحصل عليها لك بسعر الجملة” لجيروم ودمان أو عن أعمال أدبية شهيرة مثل “ايفانهو” للسير والتر سكوت.

وعن نجاح “جون ستون” في التخفيف من حدة رسم صاحب القصة الأولى لشخصية الترزي اليهودي الطموح الذي لا يتورع عن شيء في سبيل الوصول، عن نجاحه هذا كتب إثر مشاهدته الفيلم المستوحى من تلك القصة قائلاً “الفيلم بإجماع الأعضاء الذين شاهدوه خلو من أي مظهر من المظاهر المتنازع عليها في القصة، والتي كانت مثار قلق بعض الجماعات داخل الطائفة اليهودية.

فهو باستثناء الاسم وأوساط صناعة الملابس، منبت الصلة بالكتاب.

والشخصيات التي يمكن التعرف عليها بوصفها يهودية، بما في ذلك الشخصية الرئيسية “سام كوبر” إنما تشع حرارة وصفوا.

وأغرب من هذا كله التعديلات التي أدخلت على “ايفانهو” بفضل نصائح اللجنة.

إرادة التخريب

من المعروف أن “والتر سكوت” قد رسم شخصيتي “ريبيكا” وأباها “اسحاق” على وجه يتسم بالتعاطف الشديد.

ولكن أن يكون “اسحاق” مرابياً في منتصف القرن العشرين، فهذا أمر كان لابد أن يتسبب في مشاكل لمنتج الفيلم “دور شاري”.

وللحظات جنح به التفكير إلى تغيير نهاية القصة، تلك النهاية التي لم يكن يحبها الأديب الإنجليزي “زاكيراي”، وبسببها اتهم “سكوت” بمعاداة السامية.

وأن يكون تغييره لها بحيث ينتهي الفيلم بزواج “ايفانهو” من “ريبيكا”، غير أنه سرعان ما عاد إليه الرشد، تخوفاً من إيذاء شعور المتفرجين الذين قرأوا واستمتعوا بالقصة، ويعلمون نهايتها غير المحرفة علم اليقين.

ومع ذلك فالمتفرج على الفيلم في صورته النهائية التي خرج بها إلى الناس، هذا المتفرج إذا ما ذهب به الظن إلى أن “اسحاق” هو الذي أنقذ إنجلترا، وليس ريتشارد قلب الأسد، فله العذر كل العذر.

الخطوة الأخيرة

وإلى العام العاشر من حياتها (1957)، اقتصر تدخل اللجنة على التقدم بالاقترحات والمشاهدة.

أما التصور العام للأفلام، فلم يكن لها عليه أي نفوذ.

ومع ذلك فلم تنقض سوى أيام على عرض فيلم “كنت شيوعياً في خدمة مكتب المباحث الاتحادية” لشركة أخوان وارنر، وعلى ردود الفعل الغاضبة التي أثارها في بعض الأوساط اليهودية حتى بدأت الخطوة الثالثة.

فإذا بوارنر والاستديوهات الأخرى تستطلع رأي اللجنة في مشروعات الأفلام، مستجدية موافقتها.

ومجمل تقارير “جون ستون” نصف الشهرية المكتوبة عقب هذا التحول الخطير، إنما تلقي الضوء على التغييرت التي نجح في إحداثها لصالح اللجنة.

فمثلاً جاء فيها عن فيلم “العرايا والموتى” (راؤول والش 1958) “ثمة تعديلات هامة يتعين إدخالها، واستبعاد الكثير من التعبيرات التي تحمل الازدراء لليهود.

ومع ذلك، فمن الأمور التي لها مغزى شخصية اليهودي . فهو الوحيد الذي ظل محتفظاً بمثل أعلى، ولم تمزقه تجربة الحرب التي مرّ بها”.

وجاء عن فيلم “بن هور” (ويليم ويلر 1959) “جميع ملاحظاتي، وكما أوضحت في تقرير سابق كانت محل اعتبار تتبقى العشرون صفحة الأخيرة، وهي وفق آخر الأخبار، جار مراجعتها”

العهد الجديد

وعلي حد تعبير صاحبة المقال، كان للأفلام المستوحاة من التوراة، وبخاصة العهد الجديد، كان لها من المشاكل الشائكة أدقها وأكثرها إثارة للمشاعر.

فعلى مر العصور، كانت تعتبر مسرحيات الصلب كارثة بالنسبة لليهود، يرون فيها الشرّ كل الشرّ.

ولم يتغير الموقف إزاء الصلب السينمائي فهو بدوره يعرضهم لنفس المشاكل، بما يثيره في “نفوس الدهماء من عداء لليهود عن جرائم ارتكبها الأجداد في سالف الزمان”.

ومن هنا معاداة الاتحادات اليهودية لأفلام مثل “تعصب” (جريفيت 1918) و”ملك الملوك” (دي ميل 1927) و”المسيح نجم أعظم” (جوويسون 1973) وبداهة، لم يقف “جون ستون” وصحبه أعضاء اللجنة في مواجهة خطر الصلب بما يثيره من ذكريات كلها أشجان، لم يقفوا مكتوفي الأيدي.

التحريف العظيم 

تحركوا سريعاً، حذفوا كلمات الصلب ومذبحة الأطفال من سيناريو “سالومي” (ويليم ديتريل 1953) حرفوا التاريخ في الفيلم بجعل “هيرود” و”هيرودياد” برابرة أغراباً، ليس لهم صلة دم ببني إسرائيل الذين هم منهم براء. ألصقوا تهمة خيانة المسيح بشخص آخر غير المسيح اسمه “كاييف”.. حقروا من شأن مصر الفراعين  شعباً وجيشاً في الوصايا العشر (دي ميل 1956).

ولم يكتفوا بكل ذلك، بل عملوا على تحقيق الهدف الثالث والأخير من أهداف لجنتهم، ألا وهو تنظيف صورة اليهودي على الشاشة البيضاء. وكان لهم كل ما أرادوا.

فهاهو ذا اليهودي مجملاً محتلاً الشاشات وهاهو ذا في “اتفاقية الجنتلمان” مضطهداً معذباً وفي “مذكرات آن فرانك” معتقلاً في الطريق إلى الموت الجماعي بالغاز، وفي “الخروج” مناضلاً ثائراً سائراً إلى أرض الميعاد وهكذا.. وهكذا.

وقبل أن يجيء الموت “جون ستون” بقليل (1961) كتب عن “الخروج” 1960 الفيلم الذي أخرجه “اوتو برمنجر” ومثله “بول نيومان” كتب عنه مشيدا “الخروج قد أشهد العالم على بسالة اليهود في نضالهم من أجل الحرية.. وذا هو المهم”.

وفي العام التالي لاختفائه، وتحت رئاسة ألن ريفيكين (1962) غيّر اسم اللجنة بحيث أصبح “اللجنة الاستشارية اليهودية”

فإذا ما مرّت الأعوام، وجرى الإعلان عن حل اللجنة (1967) أفصح رئيسها “ريفيكين” عن سبب ذلك قائلاً “المهمة تمت”!!

إطلالة يتيمة علي مصر القديمة

أول ما يفجؤنا في مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة الأخير (الإسماعيلية من 12 إلى 15 مارس)، إنه يجيء بعد انقطاع بينه وبين آخر مهرجان لهذا النوع من الأفلام دام ثمانية أعوام.
وثاني المفاجآت اكتشاف أن عدد ما انتجته السينما المصرية من هذه الأفلام يقل بكثير عن عدد الأفلام الروائية الطويلة المنتجة في نفس الفترة الزمنية، وذلك على عكس المتبع عالمياً، وهو أن يكون للسينما التسجيلية والتجريبية القصيرة نصيب الأسد من الأفلام.
أما ثالثها وأهمها، فهو ذلك الكتاب الذي طبعه أصدقاء “شادي عبد السلام”، وجرى توزيعه مع شريط فيديو لوثيقته السينمائية الأولى “شكاوي الفلاح الفصيح” (1970)، على نفر من النقاد والمثقفين المولعين بما أبدعه المخرج الراحل حتى يقرأوا ويروا وحتى يطبع ما قد يكتبوه عن فلاح “شادي” في مؤلف ينشر على الناس مع أيام المهرجان.

وبعد قراءاة ذلك الكتاب الذي هو عبارة عن دراسة تنطوي على السيناريو الأصلي “للفلاح الفصيح” بالإنجليزية وترجمته إلى العربية ثم النص الفيلمي لشكاوى الفلاح الفصيح.
عطر مصر
وبعد مشاهدة الفيلم مسجلاً على شريط فيديو، وجدتني أشارك الناقد الإنجليزي “جون راسل تيليور” الرأي فيما ذهب إليه منذ ثمانية عشر عاما.
فهو عندما شاهد رائعة “شادي” “ليلة حساب السنين” التي كتب لها أن تشتهر تحت اسم “المومياء”، لم يتمالك نفسه، فاض حماسة لها. ولم يفته، وهو يتغنى بأوجه الجمال فيها، أن يتوقف متأملاً عند فيلم قصير مرفق بها لا يمتد عرضه سوى عشرين دقيقة، ليقول عنه في كلمات أن الفلاح الفصيح حكاية قصيرة مأخوذة من بردية مصرية قديمة، استعملها عبد السلام في واقع الأمر بوصفها المقوم الأساسي الأول لنص سيناريو التصويرالنهائي.
إنه واحد من تلك الأفلام التي تسمو لقطاتها على وجه تصبح مع كل واحدة منها آيه من آيات الجمال.
ومع ذلك، فهو، ويا للعجب، فيلم لا يتمرغ في محاسنه البصرية، بل بالعكس يتقدم إلى الأمام شيئاً فشيئاً، طوال مدة قص حكايته التي تدور حول فلاح سرق، ومطلبه الوحيد أن يتحقق له العدل، وهو قصّ روعي فيه أن يكون مغلفاً بغموض يتناسب مع ذكريات الماضي البعيد.
أشعة في الغمام
وهكذا نجد أنفسنا، وكأننا في واقع الحال نطل من نافذة فجأة فتحت على زمن اختفى، وكما فُتحت فجاة أُغلقت” وعند هذه النافذة المطلة على أزمنة الفراعين التي لم يبق من أمجادها سوى بعض آثار ابتذلتها حوادث الدهر.. عندها أقف قليلا.
مقولة أن “الفلاح الفصيح” نافذة على هذه الأزمنة المدهشة التي ابتلعتها القرون والدهور، هذه المقولة، إذا ما جنحنا إلى تصنيفه، لابد وأن تؤدي بنا إلى إدخاله في عداد الأفلام التاريخية.
وهو بهذه المثابة، يعتبر أول فيلم تاريخي عربي يعرض لحضارة قدماء المصريين
ولعله– وإلى هذه الساعة- الأول والأخير.
خيالات مولع
ورغم هذه النتيجة، ألا وهي أن “الفلاح الفصيح” ذو مضمون تاريخي، فينبغي ألا يغيب عن البال أنه لا يعدو أن يكون رؤية ذاتية لمبدعه، وأن التقدير له، المصحوب بالإعجاب به، إنما يعتمد أساساً على ما تتصف به هذه الرؤية من عمق وبساطة، وليس على الصورة التي حاول بها مبدعه تجسيد التاريخ.
فهذه الصورة لا يضيرها ألا تكون صادقة كل الصدق، أو ألا تكون مطابقة للواقع التاريخي كل المطابقة.
فما يعني المتلقي ويهمه، هو تلك الصورة التي رسمها “شادي” في نفيسته الشيقة للعدل عند المصريين القدامى، وقيمة مطالبة الفلاح به.
وفي الحق، فقيمة الفيلم الكبيرة إنما مردّها إلى حظ “شادي” من الوعي بالتاريخ المصري القديم، فضلاً عن الفهم والإدراك له، وحصيلته الكبيرة من كل ذلك، وهي حصيلة انفرد بها دون صانعي الأطياف جميعاً، وذلك بحكم أنه وقف حياته أو أكثرها على تعمق هذا التاريخ المذهل أشد التعمق، مرتفعا بتفانيه هذا إلى شيء يوشك أن يكون نُسكاً وعبادة.
وعلي كل، فلولا هذه الحصيلة لما استطاع أن يتوصل إلى البردية التي اتخذها عماداً لنفيسته.
وليس من شك أن جمعه بين السينما والتاريخ انطلاقاً من هذه البردية،ونجاحه في المزاوجة بين الإثنين، يعد عملاً رائداً.
فأحد من قبل لم يتح لبردية فرصة أن تعبر عن ذاتها سينمائيا.
والأكيد أن الفلاح الفصيح بوصفه فيلماً روائياً اتخذ من إحدى البرديات لساناً له يعتبر إبداعاً غير مسبوق. ولعله– وإلى يومنا هذا– الأول والأخير.
الظلمات والنور
ومهما يكن من شيء، فاختيار بردية شكاوي الفلاح من بين مئات البرديات ينتهي بالمرء إلى نتيجة قد لا تقبل الشك، ألا وهي عبقرية “شادي” في الاختيار.
فمن مفارقات السينما أنها لابد وأن تبدأ بالكلمات كما قال بحق المخرج الألماني “فيم فندرز” صاحب “باريس.. تكساس”.
فهي التي تقرر مصير الصور، هل ينتهي بها الأمر إلى ميلاد أم إلى اجهاض.
وهي التي تمرر الفيلم من خلال بواباتها، فإذا بالصور تتحرر من الظلمات.. تخرج إلى النور.
ولقد صادف “شادي” التوفيق كل التوفيق عندما اهتدى إلى بردية الشكاوي، فتخفف من عذابات البحث عن الكلمات.
فها هي مكتوبة على البردية منذ فجر الضمير، تنتظر فارسها، تبتغيه بـعثاً لها في أطياف تسعى.
وها هي الأقدار ترتب لها أن تلتقي بفارس الأحلام.. شادي عبد السلام. والأكيد.. الأكيد أن هذا التلاقي متميز وفريد. ولعله– وحتى كتابة هذه السطور– الأول والأخير.
رغوة وصفوة
وهنا، قد يكون من المناسب أن أعود إلى كلمة “نافذة” لأقول باختصار أن النافذة التي فتحها لنا صاحب “الفلاح الفصيح” كيما نطل منها، وللحظات، على الحضارة المصرية القديمة، هذه النافذة– واحسرتاه- لم يكتب لفتحها التكرار.
فأحد بعد فلاح “شادي” لم تتوافر له سبل النجاح في تهيئة متعة إطلالة أخرى على سحر حضارتنا التي استحالت مع مرور الزمن إلى أساطير.
وهذا لمما يرفع من شأن الفلاح الفصيح، ويملأ النفوس إعجاباً به، وتقديراً لصاحبه.
والآن، وقد فتح لنا المهرجان وكتاب أصدقاء شادي باب تاريخنا القديم على مصراعيه، فلنعد آلاف الأعوام إلى الوراء، إذا كان في الزمان من وراء، ومن أمام، فلنعد ونردد مع الفلاح شكواه أو بمعنى أصح أمره إلى الحاكم بأن يقيم العدل.
من أجل الإله الذي أصبح عدله قانوناً للعدل.
فالخلود بالعدل
يهبط مع صاحبه إلى القبر
حينما يلف في كفنه ويوضع في التراب
فلا يمحى اسمه من الارض
بل يذكر لأنه أقام العدل
ذلك هو شرع الإله

لمشاهدة الفيلم  اضغط هنا