أحياء وأموات وموالد وأعياد سينما

لسبب ما أجدني تائها، لست أدري إلى أي من الأحداث السينمائية المتلاحقة أعرض، وعلى أي منها أركز.
هل أعرض لظهور “ليليان جيش” على شاشات مهرجان كان الأربعين باعتباره أكثر أحداث الشهور القليلة التي مضت إثارة ومدعاة للتفاؤل.. لماذا؟
لأن هذه الممثلة قد بلغت في الرابع عشر من أكتوبر لعام 1986 التسعين من عمرها.
ومن المعروف أنها بدأت التمثيل في هوليوود مع شقيقتها الصغرى “دوروثي” في فيلم “عدو خفي” (1912) لصاحبه المخرج “دافيد جريفيث”.
ومنذ هذا التاريخ الذي أصبح خبراً في ظلمات الزمن، لم تنقطع “ليليان” عن التمثيل، سواء أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح.
وقد كان الظن، وبعض الظن إثم، أنها تحت وطأة الشيخوخة وأعبائها الجسام، قد اعتزلت التمثيل منذ فيلم “زفاف” 1978 الذي لعبت فيه دور عجوز ثرية تفارق الحياة ليلة زفاف أحد الأحفاد.
ولكن ها هي لا تزال على الشاشة تتطلع إليها الأنظار، تشارك “بيت ديفيز” بطولة رائعة المخرج “ليندسي أندرسون” الأخيرة “حيتان أغسطس” (1978).
وهاهي، بالألوان تزين صفحات مجلة “بريميير”. (يونية 1987)، تسرق الكاميرا من الأميرة اللعوب “ديانا” توقع بإمضائها لجمهور المعجبين المشدوهين، وتجيب على وابل الأسئلة في المؤتمر الصحفي المنعقد عقب عرض فيلمها الأخير بيقظة ولباقة منقطعتي النظير، تتذكر وتذكر بأجمل وأمجد أيام الريادة في عاصمة السينما التي بمرور مائة عام، احتفلوا قبل أيام.
والكلام عن النجمة اللامعة على امتداد خمسة وسبعين عاماً من عمر الزمن، لابد أن يجرنا إلى الحديث عن مكتشفها العبقري “جريفيث” وعنه كتب الأستاذ “ألكسندر دوتي” في العدد السادس (ربيع 1986) من مجلة البلاغة المقارنة “ألف” التي تصدر عن قسم الأدب الإنجليزي والمقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، كتب بحثاً تحت عنوان “جماليات المكان والريف المثالي في أفلام “د. و. جريفيث”
السطحية.. لماذا؟
ولعله أول بحث عن جماليات السينما ينشر على صفحات مجلة متخصصة تصدر عن إحدى الجامعات على أرض مصر.
ومن بين ما جاء في هذا البحث القيّم أن “جريفيث” لم ينجح في مجال الإبداع السينمائي للمكان في تصوير حياة الأغنياء فكثيراً ما يبدو هذا التصوير سطحياً، جامداً، أقرب إلى “الكليشيه”، وذلك لأنه لم يبذل جهداً ابتغاء استكناه دلالة للمكان من خلال عناصر الإخراج والتصوير، حتي يغدوالإحساس به تطويراً بصرياً للشخصية وفكرة الفيلم السائدة، وامتداداً لهما.
وإذا كان تصوير جريفيث لأوساط الطبقات العليا، قد ظل سطحياً وتقليدياً فإن خبرته بحياة الطبقة الوسطى الريفية، وبمظاهر الفقر في المدن قد ساعدت على إضفاء دقة ومصداقية على تصويره السينمائي لهما، وذلك حتى في الحالات التي كانت فيها قصص الأفلام التي تعرض لهما مشوبة بطابع عاطفي ميلودرامي.
ألوان وأشجان
ومن عجائب الأشياء أن تظل ليليان حية في سن التسعين على الشاشة وخارجها، وحيدة نوعها لا شريك لها من نجوم جيلها، في حين أن من يصغرها سناً– وبعضهم بكثير قد عاجله موت لا يرحم.
“فأندريه وارهل” الرسام المخرج ورائد سينما تحت الأرض في نيويورك يختفي من الحياة بعد رصاصات انطلقت من غدارة “فاليريا سولانسي” لتستقر في جسمه منذ عشرين عاماً إلا قليلاً (1968) ليعقبها مرض عضال عطل كثيراً مما كان كامناً فيه من آيات الإبداع.
وداليدا بنت شبرا تنتحر بعد أن رأيناها تحاول التمثيل لأول وآخر مرة في “اليوم السادس”، حيث أسند إليها دور غسالة ريفية من باب الشعرية، تحاول إنقاذ حفيدها الوحيد من وباء الكوليرا، ومع ذلك تنهزم أمام الموت.
و”دوجلاس سيرك” المخرج الأمريكي المنحدر من أصل نمساوي يجيؤه الموت وهو في السابعة والثمانين، فتفقد السينما العالمية واحداً ممن ساهموا في العلو بفن الميلودراما، والسمو بها في عالم الأطياف. فأفلامه التي أخرجها في الخمسينات، كانت تعبيراً صادقاً عن يأس الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، والقضاء الذي يسيطر على حياتها، ويصرفها كيف يشاء.
نجمة وأميرة
وما كاد العام يقترب من منتصفه حتى كانت وكالات الأنباء قد طيرت خبر وفاة ريتا هييوارث، تلك الراقصة المنحدرة من أصل أسباني والتي صنعت منها شركة كولومبيا لصاحبها “هاري كوهين” نجمة إغراء، فنجمة أميرة أقرب إلى الأسطورة. “ريتا” هذه التي ظلت طوال سنوات الحرب العالمية الثانية نجمة معبودة يتقاسم جمالها جنود العم سام في الأحلام حتى الموت.
فإذا ما انتهت الحرب أصبحت “جيلدا” و”سالومي” و”كارمن” وزوجة عبقري السينما أورسون ويلز وفوق كل هذا أول أميرة شرقية في تاريخ هوليوود بزواجها من “علي خان” ريتا هذه تصاب فجأة بمرض عضال يفقدها الذاكرة نهائياً، فتعيش لا تعرف حتى اسمها عالة على ابنتها “ياسمين” حفيدة زعيم الطائفة الإسماعيلية “أغا خان” حتى ينقذها الموت في السادس عشر من مايو الماضي، وهي في الثامنة والستين من عمرها الحافل بالعجائب والغرائب.
وبعد اختفائها بأيام، وافت المنية “فريد أستير” في الثامنة والثمانين، وقد راقصها في فيلمي “لن تصبح غنياً أبداً” و”ما أجملك” وهي في قمة المجد والصعود. و”أستير” لا ينافسه في نشر المتعة الفنية صافية نقية بين أكبر عدد من الناس سوى شارلي شابلن.
فكما”شابلن” استطاع “أستير” أن يزيل الحواجز بين ما يعتبر فناً شعبياً وما يسمى فناً رفيعاً.
العبقرية عمل
وفي الحق يعتبر أستير أحد العمالقة القلائل في فن الرقص وعنه قال “جورج بالانشين” مصمم الباليه المشهور إنه أعظم راقص على مر العصور، بل ذهب في التعظيم من شأنه إلى حد مقارنته بالموسيقار “باخ” في مجال القدرة على التركيز. وغني عن البيان أن “أستير” لم يصل إلى ما وصل إليه من مستوى في الرقص يوهم المشاهد برشاقة تلقائية دون عناء إلا بفضل عمل متواصل ليل نهار لأيام وأسابيع وشهور.
وفي هذا الخصوص يقال أن “جنجر روجرز” التي راقصها في عشرة أفلام على امتداد ستة عشر عاماً- وهي تعتبر الإنجاز المحوري للفيلم الموسيقي الأمريكي- يقال إنه أدمى قدميها من عناء مراقصتها في “لن أرقص أبداً” من فيلم “زمن السوينج”.. لماذا؟ لأنه استلزم تصوير هذا المشهد أربعين مرة طلباً للكمال!!
وقبل اختفاء”أستير” بأيام، بل قل ساعات معدودات فاجأنا الموت باختطاف حياة واحدة من أعظم ممثلات المسرح والسينما في الولايات المتحدة “جيرالدين بيج”، اختطفها وهي في الثانية والستين.
ولعل أهم ما يميز سيرتها السينمائية هو أن ظهورها على الشاشة كان متقطعاً، لأنها لم تكن في عرف هوليوود نجمة إغراء، فضلاً عن أنها كانت مدققة في اختيار الأدوار.
وقد يبدو أمراً مثيراً للدهشة، أنها ورغم تتويجها بجائزة أوسكار أحسن ممثلة رئيسية عن دورها في فيلم “رحلة إلى الرخاء” (1986)، فلم يسمع بها وبأفلامها إلا نفر قليل من نقاد وعشاق الفن السابع في ربوع الوطن العربي الفسيح.
ولكن الدهشة سرعان ما تزول إذا ما تذكرنا أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، لاسيما في مجال السينما .
والآن، بعد هذا الحديث الطويل عن الأحياء والأموات، وبعد أن احترت في تيه الأحداث كثيراً، اخترت أخيراً أن أقف قليلاً عند مناسبتين هامتين هما يوبيل “بارامونت” الماسي ويوبيل “جيمس بوند” الفضي.
“إمبراطورية زوكور”
في يوم السابع من يناير عام 1973 اجتمعت هوليوود بكل ما تبقى لها من نجوم في صالونات فندق “بيفرلي هيلز” حيث احتفلوا بذكرى غريبة لم يألفها أحد من قبل في كعبة السينما المطلة على الهادي.
فما هي هذه الذكرى الفريدة التي احتشدت احتفالاً بها النجوم.. كل النجوم؟
إنها ذكري بلوغ أحد رواد صناعة السينما الأوائل وآخر الأحياء منهم، بلوغه المائة.
فمن هو ذلك الأب الروحي ذو القرن من عمر الزمن؟
إنه “ادولف زوكور” الذي ولد قبل تاريخ الاحتفال به في بيفرلي هيلتون بمائه عام من أسرة يهودية بريشي من أعمال المجر.
فلما بلغ السادسة عشرة، هاجر إلى العالم الجديد حيث بدأ جهاده سمساراً ناجحاً في تجارة الفراء بشيكاغو، ومنها انتقل إلى تجارة أكثر انتشاراً وتأثيراً.. السينما فإذا بالحظ يبتسم، فيجعل منه مؤسساً لشركة “بارامونت”، وواحدا من بناة إمبراطورية صناعة الأحلام المخططين لإنتاجها، الراسمين لمسارها على مدى أربعة وستين عاماً.
حكماء هوليود
ومما يثير الدهشة أن ما حدث “لبارامونت” هو بعينه ما حدث لجل إن لم يكن كل شركات هوليوود الأخرى، بحيث تكاد تتفق سيرتها جميعا في أمر واحد.. هو أن يهودياً هاجر وحده أو مع أسرته من وسط أوروبا أو شرقها إلى الدنيا الجديدة حيث اقتحم حقل السينما، ليكتب له نجاح يتوج بإنشاء شركة سينمائية، سرعان ما تتحول إلى واحدة من أمهات الاحتكارات.

فشاموئيل جولدوين الذي ساهم في تأسيس كل من شركتي “مترو جولدين ماير” و”الفنانين المتحدين” هاجر إلى الولايات المتحدة من وارسو عاصمة بولندا.
“ولويس ماير” الذي ساهم في إنشاء الشركة الأولى، وظل مديراً عاماً لها، متحكماً في مصيرها زهاء ثلاثين عاماً، لم يولد في العالم الجديد، وإنما بعيداً في أقصى الشرق من أوروبا، وبالتحديد في مدينة منسك من أعمال روسيا البيضاء.
“ووليم فوكس” صاحب شركة “فوكس فيلم” التي جرى تحويلها فيما بعد إلى فوكس للقرن العشرين هو الآخر قد ولد بعيداً بمدينة “تولكفا” من أعمال المجر.
و”كارل لأمل” الذي أنشأ شركة “يونيفرسال” صاحبة أوسع استديوهات على وجه البسيطة، كان مسقط رأسه مدينة “لوفيم” بألمانيا، ومنها هاجر– وفي جيبه خمسون دولاراً- إلى الولايات المتحدة حيث عمل عند ترزي في شيكاغو، قبل أن يسعى به قدره إلى السينما.
والإخوة “وارنر” ولد أكبرهم “هاري وارنر” في مكان ما ببولندا. ومع والديه وصل إلى ميناء “بليتمور” بالولايات المتحدة، ولما يبلغ من العمر الستة أعوام.
وبالاشتراك مع أشقائه– سام، البرت، جاك– والثلاثة ولدوا بعد الهجرة، قام بشراء بعض دور العرض. ثم ما لبثوا أن أنشأوا شركة إخوان وارنر التي كان لها فضل الانتقال بالسينما من الصمت إلى الكلام المباح (6 أكتوبر عام 1927).
ومما يؤكد هذه الظاهرة مقال الناقد “شارلز فورد” بمناسبة عيد “زوكور” المئوي الذي اعتبر عيداً للسينما، جاء في ختامه “وهكذا.. وبفضل فئة قليلة من (صغار تجار الفراء والترزية من اليهود)- يقصد أصحاب الأسماء المتقدم ذكرها– أتوا من أوروبا الوسطى تم بناء صرح صناعة من أقوى صناعات الولايات المتحدة”.
والأكيد– بعد كل ذلك – أن ظاهرة “بارامونت” ورجلها المعمر الذي وهن العظم منه ليست استثناء من قاعدة.. بل هي القاعدة.
الفك المفترس
ومن المعروف عن “زوكور” عجوز “بارامونت” أنه صاحب عبارة “الجمهور لا يخطئ أبداً”– وهي المرادف لعبارة “الجمهور عاوز كده” عندنا– تلك العبارة التي اتخذت منها هوليوود شعاراً لأفلامها التي غزت بها الجيوب والقلوب.
وأنه مبتكر نظام النجوم ترصع بها سماء عاصمة الأطياف، فإذا بها تتحول إلى سديم بدايته “ماري بيكفورد” فتاة بريئة، معبودة الجماهير، ونهايته “مارلون براندو” أب روحي، عدو للناس أجمعين.
وهم إذ يحتفلون الآن بالعيد الماسي لشركته العملاقة، فإنهم يذكرون محاسنها.. كيف صمدت لأعاصير التغيير، وكما “حوت يونس” أو “الفك المفترس” كيف اتسع جوفها فابتلع الشقيقات الثلاثة “يونيفرسال” و”متروجولدين ماير” و”الفنانين المتحدين”.
وكيف فتحت السوق الصينية مرة أخرى بفيلمها “قصة حب”(17/3/1987) الذي يعتبر أول فيلم أمريكي يعرض في الصين الشعبية منذ عام 1949.
وعلي كل، فمن بين محاسنها التي لا شك فيها البحث الدءوب عن كل وجه جديد موهوب، وعند العثور عليه الإسراع بالتصعيد له إلى أعلى عليين.
ومن بين مساوئها التي لا ريب فيها اختيارها لقصة خروج بني إسرائيل من مصر هرباً من ظلم الفراعين، كي تنتجها مرتين تحت اسم “الوصايا العشر”.
المرة الأولى صامتة بلا ألوان عام 1923، أي عقب وعد بلفور، وفي فترة قل فيها الإقبال على الهجرة إلى أرض الميعاد.
والمرة الثانية متكملة على شاشة عريضة ملونة عام 1956 وفي أيام استشرت فيها موجة هجرة أبناء الشعب المختار إلى فلسطين!
وكلا الفيلمين كان صاحبهما “سيسيل ب دي ميل” شيخ المخرجين.
وفي كلا المرتين لم يكن له من هم سوى أن يتناول قصة موسي وبني إسرائيل أثناء وجودهم على أرض مصر ثم أثناء الخروج منها على وجه مشوه يراد به باطل هو تصوير بني إسرائيل وكأنهم أبناء شعب اختاره الله، وتصوير أهل مصر وكأنهم أبناء شعب نبذه الله، فكتب عليه ذل العيش في أغلال العبودية لفرعون وقومه الظالمين.
الشوق والحنين
فإذا ما انتقلنا إلى “جيمس بوند” ويوبيلة، فسنجد أنفسنا أمام شخصية لها من العمر على الشاشات الفضية خمسة وعشرون عاماً، هو عمر في عرف الزمن السينمائي طويل.
و”ايان فلمنج” الروائي الإنجليزي هو صاحب فكرة “جيمس بوند”.
وأول قصصه التي تحكي بطولات العميل الشهير، هي “الكازينو الملكي” (1953)، أما آخرها فقصة “الرجل ذو المسدس الذهبي” (1965).
وهذان التاريخان لهما مغزى كبير، ففي عام القصة الأولى جرت احتفالات تتويج الملكة “اليزابيث” على وجه قُصد به أن يعاد التأكيد على أمجاد الإمبراطورية التي كان يتغنى بأن الشمس لا تغرب عنها أبداً.
وفي عام القصة الأخيرة حمل جثمان “ونستون تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا العظمى في عصر مدو بطبول الانتصارات، حمل إلى مثواه الأبدي في جناز مهيب اعتبر بمثابة لحن الوداع لعصر مفعم بالغنى والمتاع، وبكل ما يثير الزهو.
وطبعا كان لجيمس بوند دور في هذا العصر المشوب بالشوق والحنين، المفعم بالأسى وجلال الذكريات.
فهو باعتباره ضابطاً مرموقاً في المخابرات البريطانية، وبالتحديد فرعها المختص بشئون الحرب والدمار.
وهو بفضل مغامراته الشائقة وانتصارته المبهرة التي تشعل الخيال.
وهو بما عرف عنه من أنه لا يتحرك إلا محتضناً أمراة حسناء، وأمامه قارورة مليئة بشراب الشمبانيا الشهي، وفي متناول يده بندقية مشحونة تحمل للأعداء صنوفاً من الشقاء والبلاء، ومن حوله تحميه ترسانة أسلحة أبدعها عقل مدبر شيطان.
هو بحكم ذلك كله كان تعويضاً خيالياً للفجيعة الكبرى التي غصت حلوق، وحرقت أكباد الإنجليز لخذلان التاريخ لهم على وجه كان من آثاره فقدان الفتوحات التي أرست قواعد امبراطورية سادت اليابس والماء مئات الأعوام.
ومن هنا نجاح هذا المسخ المعبود “جيمس بوند” حتي أن المباع من رواياته في بريطانيا وحدها قد ارتفع من نصف مليون نسخة عام 1957 إلى 000ر790ر22 فيما بين عامي 1962 و1967.
سر البقاء
والأكيد.. الأكيد أن السينما قد لعبت دوراً حاسماً في تحقق هذا النجاح المنقطع النظير.
فما أن ظهر “بوند” على الشاشة بدءا بفيلم “الدكتور نو” (1962) حتى تعلق به الجمهور، وأصبحت له منزلة مذهلة في قلوب الجميع صغاراً كانوا أم كباراً.
وتفسيراً لذلك يقول الناقد الإنجليزي “جون راسيل تايلور” في دراسة له منشورة في المجلد الخامس من موسوعة السينما (ص103 – دار أوربيس – لندن) أن “الدكتور نو” وما جاء بعده من أفلام مثلها “شين كونري” وهي “من روسيا مع حبي”، “جولد فنجر” (1964)، “الرعد الصاعق” (1965) ، “أنت لا تعيش سوى مرتين” (1967) و”الماس إلى الأبد” (1971)– هذه الأفلام قد اتسمت جميعاً بامتزاج روح الدعابة الساخرة بألاعيب المخترعات غير المألوفة، يتزاوج الجنس المسرف بالعنف غير المعهود.
والشيء المحقق أن حسن اختيار شاب مغمور منحدر من أصل اسكتلندي اسمه “شين كونري” لتقمص شخصية “بوند” قد لعب دوراً كبيراً في نجاح الموجة الأولي من الأفلام المستوحاة من روايات “فلمج”، فلولا سحر حضوره، ولولا إعجاز توحده في تلك الشخصية لما تحول العميل “بوند” الذي لا يهزم أبداً إلى بطل أسطوري، ولما ظفر بهذا الكثير من التوفيق.
وفوق هذا فإن الشخصيات الرئيسية في هذه الأفلام الأولى قد رُسمت على وجه روعي أن يتحقق معه الإرضاء للرجال والنساء على حد سواء.
ففتيات “جميس بوند” مستقلات، متحررات، يخرجن من البحر كما الحوريات، ليس لأجسادهن من ساتر سوى رداء في حجم ورقة التوت إن لم يكن أصغر قليلاً.
يلاحظ هنا أن أحداً لا يتذكر من “الدكتور نو” سوى مشهد “اورسولا اندرسن” في لباس بيكيني أبيض، خارجة من البحر منتصبة كما عروس البحر “فينوس”.
ومع ذلك فالأمر ينتهي بهن في معركتهن مع “بوند” إلى الخضوع والاستسلام التام.
قوة العمر
ومهما يكن من شيء فمع مرور الأيام والأعوام، ومع اعتزال “كونري” تمثيل الدور ليحل محله “روجر مور” الذي استقر في دور “بوند” حتى مشهد “حادثة قتل” (1985)- بدأ الشوق والحنين “لكونري” باعتباره “جميس بوند” الأصيل.
ومن هنا إغراؤه بحوالي خمسة ملايين دولار مقابل الموافقة على العودة عميلاً في خدمة صاحبة الجلالة في “أبداً لا تقل أبداً مرة أخرى”.
ومن عجب أنه قد غاب عن صانعيه من هيئة المنتفعين “ببوند” أن “كونري” عام1984 يقترب من الستين وبالتالي لم يعد صالحاً كما في سالف الزمان، لتقمص شخصية الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار.
ورغم نجاح الفيلم في الشباك، كما العادة مع كل ما هو منتسب لاسم “بوند”، فقد فجع الجمهور في المعبود، إذ وجده عجوزاً متصابياً.
ومع هذا الإحباط، لم يكن ثمة مفر من استدعاء “مور” مرة سابعة ليمثل فيلم “بوند” الرابع عشر.
ومرة أخرى يكتشف الجمهور أن “بوند” الثاني “مور” قد اقترب بدوره من سن الإحالة إلى المعاش، ولا يرجى منه خير، فهو مقطوع النفس، مثقل بحمل الشيخوخة، لا يصلح للاستمرار في تقمص شخصية بطل الأبطال.
وأسقط في يد المنتفعين من الماركة المسجلة “بوند”. وثار السؤال.. ما العمل؟
البحث والتجلي
وكانت الإجابة بأنه لابد من العثور على شاب له حضور، ذو وجه وجيه وسيم، وشخصية جذابة يندمج فيها الرجال وتذوب في فحولتها النساء.
وشاءت لهم الأقدار أن يعثروا على ضالتهم المنشودة في شاب إنجليزي يتفجر حيوية، شاب صاعد في سماء المسرح والسينما اسمه “تيموني دالتون”.
وسرعان ما كلفوه بأداء دور “بوند” في رواية “فلمنج” المسماه “أضواء النهار الحية”.
وأحداث فيلم “بوند” الأخير أو بمعنى أصح مطارداته اللاهثة، إنما تجري بداية من تشيكوسلوفاكيا والمغرب وجبل طارق، ثم تنتقل بأبطاله إلى هضاب وسجون أفغانستان حيث يتضامن “بوند” مع المجاهدين ضد امبراطورية الشر!!
وبغض النظر عن العبث الذي يقوله فيلم “بوند” الخامس عشر، فهل سيكون في استطاعة بوند الجديد “دالتون” أن يُكمل مشوار “كونري” و”مور” حتى نهاية القرن العشرين أم أنه سيسقط في أول اختبار، لن يكون عميلاً أعظم إلا مرة واحدة؟
عن هذا السؤال يجيب كتاب الدعاية “جيمس بوند الرسمي” (1987) بنعم متفائلاً ولكن منذ متى يؤخذ تفاؤل المتربحين مأخذ الجد؟

ثورة.. وسينما لم تكتمل

كثر الهراء غرابة في هذه الأيام ما تكتبه بعض الأقلام من كلام حاصله أن السينما عندنا كانت أحسن حالاً قبل فجر الثالث والعشرين من يوليه لعام 1952 منها بعده.

ووجه الغرابة في هذا الكلام الأقرب إلى اللغو، أنه لو استطعنا العودة عبر رحلة الذاكرة إلى السينما الروائية عند الميلاد على أرض الوطن، أي في الربع الرابع من عقد العشرينات، ثم الصعود مع سيرتها مرة ثانية نحو المستقبل حتى بلوغها سن الخامسة والعشرين ربيعاً في الربع الأول من عقد الخمسينيات، لو استطعنا ذلك لوجدنا أمامنا سينما وطنية تعيش عالة على السينما العالمية في كل صغيرة وكبيرة. فالمعدات مستوردة، والأفكار مستعارة، والأخطر من هذا كله ذلك الانبهار بسينما هوليوود الذي وصل إلى حد التأليه والسجود لأفلامها، والتقليد الأعمى لكل ما تنطوي من زبد لا ينفع الناس.

ولبيان هذا المدى في التأثير، تكفي نظرة طائرة على كل من “قبلة في الصحراء” للأخوين إبراهيم وبدر لاما (5 مايو لعام 1927) الذي يعتبر بحق أول فيلم عربي روائي تجاري طويل.
 و”ليلى” للمخرج “استيفان روستي” (16 نوفمبر لعام 1927)، والذي به- في رأي نفر من مؤرخي السينما– بدأ إنتاج الأفلام الروائية الطويلة في مصر، وذلك باعتبار أن نجمته ومنتجته “عزيزة أمير” تحمل الجنسية المصرية، الأمر غير المتوافر في حق الأخوين “لاما”.

الأرض الخراب

وسواء أكان أي من هذين الفيلمين هو الأول أم الثاني، فمن المتيقن أن الإنتاج السينمائي بدأ على أرض مصر، والوطن العربي، ماعدا المملكة السعودية وإمامة اليمن، ترفرف على جميع ربوعه من المحيط إلى الخليج أعلام الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والأسباني والحكم في مصر يتقاسمه الإنجليز والسراي وأحزاب لا تمثل سوى الأقلية، وشراذم من المغامرين والأفاقين الأجانب.

في هذا الجو الذي يشيع فيه الذل والخوف، بدت السينما في مصر، أو بمعنى أصح في الوطن العربي كما لو كانت لا تعزف إلا لحناً واحداً لا يتغير .

معبود هوليوود

ومهما يكن من الأمر، فما هو هذا اللحن الواحد الذي يعزفه الفيلمان الرائدان؟

أولهما: وهو منقول جملة وتفصيلا عن فيلم أمريكي قام بتمثيله “رودلف فالنتينو” معبود النساء تحت اسم “ابن الشيخ” يقول ضمن ما يقول من تفاهات أن شاباً “شفيق” من الأعراب المقيمين في الصحراء، رأته شابة أمريكية “هلدا” فهامت به من أول نظرة.

وكان “شفيق” مولعاً بسباق الخيل والمراهنة، دائم الشجار مع عمه لهذا السبب.

وحدث ذات يوم أن عثر “شفيق”على عمه قتيلاً،وحامت حوله الشبهات الأمرالذي اضطره إلى الفرار والاختفاء في الصحراء حيث انضم إلى عصابة من قطاع الطرق.

وتشاء الصدف أن تهاجم العصابة قافلة تضم “هلدا” ويأمر “شفيق” رفاقه بإخلاء سبيل القافلة بمجرد تعرفه عليها.

وبفضل خنجر مشدود إلى وسطه تتعرف هي الأخرى عليه، فتعود إليه لتعبر عن هيامها به، ويتعانقان، إلا أنه سرعان ما يتذكر أنه طريد العدالة، ولا يستطيع العودة معها إلى المدينة.

وبعد أن تستأنف رحلتها مع القافلة يزف اليه نبأ الحكم ببراءته، فيلاحق القافلة في الصحراء حيث يكتشف أن ثلاثة لصوص قد اختطفوا “هلدا” فيطاردهم حتى ينتصر عليهم ويسترد محبوبته.

طريق الضياع

ومن عجب أن الأخوين لاما ظلا مدمنين لهذا النوع من الهراء المستورد حتى آخر فيلم لهما “صلاح الدين الأيوبي” (1941) فهو لا يعدو أن يكون مسخاً اختلطت فيه الأمور، فالجيوش الصليبية تكر وتفر بأسلوب قطاع الطرق، تخطف، تنهب، تحرق.

و”صلاح الدين” مع نفر من الأتباع الأبرار يقف بالمرصاد للصليبيين الأشرار كما رعاة البقر في أفلام الغرب الأمريكي.

وللنهوض فنياً بفيلمه اختصر”إبراهيم لاما” الطريق، لجأ إلى ما نعتته مجلة “الراديو” وقتذاك بسرقة غريبة أو تدجيل من نوع جديد كيف؟

بأن قام بلصق أجزاء من المعارك الحربية في فيلم للمخرج الأمريكي الشهير “سيسيل ب . دي ميل” اسمه “الصليبيون”.

فكان أن بدت وجوه العرب “افرنجية الملامح” وعندما قرأ الأخوان “لاما” هذا النقد اللاذع بادرا بحذف المشاهد المختلسة، فكانت النتيجة أنهما– وفق ما جاء في مقال بنفس المجلة– زادا الأمر اضطراباً على اضطراب وعبثاً على عبث”

علية القوم

وفي الفيلم الثاني “ليلى” نجد نفس الهراء متجسداً في قصته التي تدورحول فتاة جميلة يتيمة يكفلها عمدة قرية صغيرة تقع على مشارف الصحراء.

يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم “أحمد” الذي يعمل دليلاً للسائحين.

وتشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بأحمد وتغرية بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل.

وطبعاً تطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف انها حامل من أحمد الذي غدر بها.

وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة، يتوقف لها “رءوف بك” بعربته ثم يصطحبها معززة مكرمة إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

وقد يكون من الصعوبة بمكان تصور قصة بمثل هذا القدر من التفاهة والبعد عن الواقع والحط من شأن الجماهير. ومع ذلك فقد تعرضت “عزيزة أمير” لحملة من الانتقادات، وأخذ عليها إفراطها في الاهتمام بالدهماء.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من نوفمبر لعام 1927 في مجلة “الصباح” خير مثال يساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات.

ففيه يأخذ كاتبه على “عزيزة أمير” جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة، ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة– وهو في أشدّ حالات الاستياء– عن سبب اصرارها على إظهار مصر وكأنها لا تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد “الكثير مما نفخر به”.

وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش.

وكرد فعل لهذا النقد أعلنت “عزيزة أمير” عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة لفيلمها القادم تجري أحداثها وسط الطبقات العليا في مصر.

متكلم وصامت

ولم تكن الفترة الصامتة من حياة السينما العربية على أرض مصر طويلة، فبعد فيلمي “قبلة في الصحراء” و”ليلى” بخمسة أعوام إلا قليلا، وبالتحديد يوم 14من مارس لعام 1932 أي في عهد إسماعيل صدقي باشا- وهو من أشد العهود سواداً في تاريخ مصر الحديث- عرض أول فيلم عربي ناطق “أولاد الذوات” الذي أخرجه “محمد كريم” ومثله “يوسف وهبي”.

وفي هذا اليوم التاريخي اكتشف جمهور الحفلة أنه كان ضحية غش كبير، فقد تبين له أثناء العرض أن “أولاد الذوات” نصفان الأول ناطق عربي اللسان والثاني صامت لا ينطق حرفاً واحداً.

وأن هذا الاستهتار ليس له من سبب سوى رغبة منتجي الفيلم في الحد من تكاليف جعله ناطقاً بالكامل، وهي تكاليف باهظة لا قبل لهم بتحمل أعبائها.

وهكذا ولدت السينما المتكلمة مريضة بداء الاستسهال والتسطيح والجري اللاهث وراء الكسب السريع، وهو داء يرجع إلى الخطيئة الأولى، ألا وهي ميلاد السينما العربية أصلاً في مصر والوطن العربي يئن تحت كعاب جنود الاحتلال الأجنبي.

الماضي المجهول

وبمناسبة قصر الفترة الصامتة من حياة السينما عندنا، لا يفوتني أن أشير هنا إلى ملاحظة ذكية للناقد نور الدين غالي ضمّنها مقاله “السينما المصرية بانعكاساتها وسرابها” المنشور بالعدد 83 من مجلة “جين سينما” الفرنسية.

فهو فيها يرجع فقر المرئيات في “الأفلام المصرية” إلى أن السينما المصرية “تكلمت وهي لاتزال في المهد صبية، فيكاد لا يكون ثمة وجود “لسينما صامتة مصرية” آية ذلك أن “أول فيلم طويل مصري” قد أنتج عام 1927 أي العام الذي نطقت فيه السينما العالمية.

ومن ثم افتقد “المخرجون المصريون” خبرة الفيلم الصامت، وذلك لعدم مرورهم بتجربة إكراه الصمت التي كان لابد أن تجبرهم على التعبير المرئي، فضلاً عن إجراء بحوث في مجالي التشكيل والإيقاع.

المسرح المعلب

وعلاوة على هذا التاريخ الذي يفتقر إلى ماضي صامت، فقد لعب المسرح هو الآخر دوراً في الإساءة إلى السينما والإضرار بها.

ففي البدء مع تكلم السينما وعدم توافر مبدعين سينمائيين، أنيط مصير الفيلم بكتاب سيناريو اعتادوا التعبير بالحوار وليس بالصورة.

وهولاء الكتاب وفدوا في معظمهم إلى السينما من عالم الأدب المسرحي أو الروائي، بل إن بعضهم اكتفى بأن يسجل سينمائياً المسرحيات التي سبق له أن كتبها أو أخرجها دون أن يكلف نفسه عناء حذف أو إضافة همزة أو وصلة.

ولعل يوسف وهبي المثل الصارخ على هذا الغلو.

فمن المعروف عنه أنه استغل شهرته المسرحية باعتباره ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً ومنتجاً في آنٍ واحد، فنقل إلى السينما موضوعات مسرحياته، وهي من نوع الدراما النفسية والاجتماعية الزائفة ذات الأنماط الإنسانية المبسطة.

وهكذا، ومنذ البداية فرض المسرح على السينما أسلوبه في التمثيل وطابعه في الإخراج، وهو وضع ضار كُتب له الاستقرار زمناً طويلاً.

ومن هذا المنطلق وخلال فترة لا تتجاوز العامين (34 – 1935) تم تقنين النمطين الرئيسيين للسينما التجارية في مصر، ألا وهما الفيلم المسرحي تحت رعاية “يوسف وهبي” و”نجيب الريحاني” وغيرهما من أهل المسرح والفيلم الغنائي الذي أرسى المخرج “محمد كريم” قواعده، وكان محمد عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء نجمه الأول بلا منازع.

القاعدة والاستثناء

وعن الظاهرة الأخيرة كتب الناقد “جي هينيبيل”– وهو من المهتمين بالسينما العربية– في مؤلفه “خمسة عشر عاماً من السينما العالمية” (ص 219)، قائلاً ففي مصر هم– يقصد المصريين- مولعون بالأغنية، فالكلمة عند العرب تفوق الصورة في الأهمية لأن الصورة ليست أمراً مستحباً في الإسلام!!

وليس محض صدفة أن الحضارة العربية ترجمت– وهي في أوج مجدها- كل الفلسفة الإغريقية، ولم تترجم المسرح.

وهكذا ظل العالم العربي حصيناً من المسرح الذي لم يستطع التسلل إليه إلا من جحافل الغزو الأجنبي وبخاصة الجنرال بونابرت، ثم انتشر بعد ذلك بفضل السوريين واللبنانيين من أهل الكتاب”.

واستثناء من هذه الأفلام ذات الطابع المسرحي والتي يغلب عليها البكاء والغناء وخروجاً على تقاليدها التي أصبحت من الثوابت، فاجأ كمال سليم الناس بفيلمه الأول الذي أراد له اسم “في الحارة”، وشاءت الأقدار له اسما آخر “العزيمة” (1940).

وهذا الفيلم الاستثناء ذهب نقاد الغرب في شأنه مذهباً واحداً، هو الإشادة به وبالدور الإيجابي الذي لعبه في تاريخ السينما العربية.

وهذا الإجماع في الحماس للعزيمة لم يحظ به فيلم عربي آخر على مدى ثلاثين عاماً أو يزيد.

بعد ذلك كله، فلا عجب إذا ما انصرفت السينما، لا في مصر وحدها بل في أقطار عربية أخرى كسوريا ولبنان، عن تناول أي موضوع جاد يؤدي إلى صحوة وطنية أو نهضة فكرية، بل الأعجب من هذا العجب أن يكون الأمر على خلاف ذلك في ظل احتلال أجنبي ليس له من هدف سوى حجب المعرفة عن الأمة العربية بمزيد من التشدد في الرقابة على حرية الفكر، وبالذات حرية التعبير بلغة السينما.

ومن هنا فليس من باب الصدفة أن أحداً لم يحاول في جميع الأفلام المنتجة في مصر، بل في الوطن العربي بأسره، وحتى عام 1952 حين بدأ “أحمد بدرخان” تصوير فيلمه عن حياة الزعيم مصطفى كامل، لم يحاول أحد أن يعرض لكفاح الأمة العربية ضد المحتل الأجنبي، وضد الظلم الاجتماعي.

وفي مواجهة تصاعد الحركة الوطنية المعادية للاستعمار عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار الفاشية- وقبل الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى بقليل– لجأت الدوائر الحاكمة إلى سلاح الحد من حرية التعبير، لاسيما في مجال السينما.

وإذا كانت مصر مرآة الوطن العربي كما يقول بحق “فؤاد عجمي” في كتابه “المأزق العربي” فإن التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي في فبراير 1947 بغرض تقنين ما جرى عليه العمل رقابياً في مصر فيما يتعلق بالسينما، هذه التعليمات المتشددة التي اشتملت على أربعة وستين محظوراً، كان لابد أن يكون لها انعكاساتها على السينما في الأقطار الأخرى من الوطن العربي.

وفي ضوء هذه المحظورات كان أمراً مقضياً أن تنصرف السينما على امتداد الوطن الفسيح عن معالجة أي موضوع اجتماعي أو سياسي يمس من قريب أو بعيد صراع المعذبين في أرض الوطن ضد الاحتلال والخوف والجوع.

فجر جديد

كل ذلك كان قبل فجر الثالث والعشرين من يوليه، والتحول بمصر من ملكية إلى جمهورية مستقلة متحررة من رق الاستعمار.

ومع هذا الفجر ظهر جيل جديد من المخرجين الشبان كصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وهنري بركات، حاول في بعض أفلامه “كالفتوة” “ودرب المهابيل” “وباب الحديد” “والحرام” أن ينتقد الأوضاع الاجتماعية.
وتدعيم التيار الجاد في السينما بانشاء معهد عال لها ومراكز فنية للأفلام التسجيلية والتجريبية، ونواد للتعريف بالفن السابع باعتباره الدرجة الأسمى التي وصل إليها الفن في تطوره الصاعد.

ومع ذلك ظل النقد الذي انطوت عليه أفلام هذا الجيل الذي ظهر مع الفجر، ظل محصوراً في وصف الأمراض الاجتماعية لا يتجاوزها إلى اقتراح الوسائل السياسية لعلاجها وإحداث التغيير المنشود.

وفوق هذا بقى عدد هذه الأفلام الجادة قليلاً تائهاً في خضم أفلام غريبة عن أرض الوطن لا تكترث بتراثنا العاطفي والاجتماعي والانساني بل قل تستهر به وتشهّر.

فيلم وزلزال

وبداهة ما كان لهذا الوضع الذي تحول مرة أخرى بواقع السينما العربية إلى مستنقع راكد أن يدوم، فبعد مرور أربعة عشر عاماً على الثالث والعشرين من يولية انقض على هذا الواقع المستنقع فيلم “معركة الجزائر” (1966).

ففي مهرجان فينسيا خرج هذا الفيلم متوجاً بالأسد الذهبي جائزته الكبرى، وكذلك بجائزة النقد الدولي.

والوقع الصاعقي الذي أحدثه في الوطن العربي حيثما عرض أو سمع عنه، هذا الوقع، إنما يرجع إلى أنه قادم من أول أرض عربية تحرر من الاستعمار بفضل ثورة شعبية مسلحة، هذا إلى أنه فيلم سياسي من ألفه إلى يائه، فضلاً عن أنه يعرض للثورة في الجزائر العاصمة بأسلوب جمالي يدفع المتلقي إلى فهم يؤدي إلى العمل على تغيير الواقع.

وعلى كل حال، فقد كان من أثر “معركة الجزائر” أن اهتزت السينما في الوطن العربي على وجه أدى إلى تدعيم الاتجاه نحو سينما واقعية جادة. ولا أقول سياسية.

وقبيل زلزال الخامس من يونية لعام 1967، وبعدها تلاحقت الأفلام السياسية داخل مصر وخارجها، وظهر في الساحة السينمائية العربية، ولأول مرة، ما يسمى بالمخرج السياسي، ولعل خير مثل على ذلك “برهان علوية” صاحب “كفر قاسم”.

وبحكم البداية، لم تكن جميع الأفلام السياسية إيجابية في مضونها، فبعضها كان ذا أثر سلبي إذ لعب دوراً من خلال كشف أخطاء ونقائص الأجهزة الحاكمة، وبخاصة الاتحاد الاشتراكي العربي في التشكيك في ثورية نظام عبد الناصر والنظم المماثلة له في أنحاء الوطن العربي، مما مهد الطريق لنكسة جديدة في مسار حركة التحرر الوطني والاجتماعي أدت إلى تفاقم أمر التشتت العربي.

وعن الدور الذي لعبه أحد هذه الأفلام “ميرامار” في هذا الخصوص ألقى صاحبه “كمال الشيخ” بعض الضوء بقوله في حديث له أن الفيلم لم يحصل على ترخيص الرقابة بالعرض إلا بعد أن شاهده نائب رئيس الجمهورية وقتذاك وأجازه مبدياً إعجابه الشديد.

متمردون ومخدوعون

فإذا ما انتقلنا إلى الأفلام السياسية التي لعبت دوراً إيجابياً في كشف الواقع ومواجهته بغرض التمرد عليه وتغييره إلى ما هو أفضل لوجدناها لا تزال نادرة.

وأهمها عندي، وذلك على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، رائعتا توفيق صالح “المتمردون” و”المخدوعون”. والأولى تم إخراجها في مصر بفضل القطاع العام، أما الثانية– فهي مستوحاة من قصة للأديب غسان كنفاني– فلم يستطع إخراجها إلا في سوريا، وأيضاً بفضل القطاع العام ثم “كفر قاسم” لبرهان علوية من لبنان “وصور من مذكرات خصبة” لصاحبه ميشال خليفة من فلسطيين المحتلة.. و”عمر قتلته الرجولة”.. لصاحبه “مرزاق علواش” من الجزائر و”ليلة حساب السنين” (المومياء 1969) رائعة شادي عبد السلام، وعندها أقف قليلاً.

السينما الغائبة

عندما كُتب لنقاد الغرب أن يشاهدوها في مطلع السبعينيات دفع الحماس نفراً منهم إلى أن يشبه “شادي عبد السلام” “بساتيا جيت راي” ويتنبأ له بأن يكون صاحب تأثير خلاق على “السينما المصرية” قريب من تأثير المخرج البنغالي الشهير على السينما الهندية.

غير أن “جون راسل تايلور” الناقد الإنجليزي ذهب، رغم فيض حماسه لشادي وفيلمه، مذهباً على عكس ذلك تماماً.

ففي الدراسة التي خصّ “ساتيا جيت راي” بها في مؤلفه القيّم “مخرجون واتجاهات” كتب في وصف رائعة شادي قائلاً “إنها عمل فردي يتسم بالغرابة والخروج على المألوف، وأغلب الظن أنه لا يعكس سوى مواهب مبدعه.

وفي ظني أن “راسل تايلور” كان في تقويمه لفيلم “ليلة حساب السنين” وأثره أكثر جنوحاً إلى الصواب من أغلب النقاد.

فهو، وبعد انقضاء زهاء عشرين عاماً على إخراجه، لم نر فيلماً أنتج من أفلام، وهي تعد بالمئات، شبيهاً له لا من قريب ولا من بعيد.

بل أن صاحبه امتنع عليه حتى اختفائه بالموت قبل شهور، أن يخرج من بعده فيلماً روائياً طويلاً آخر.

وإذن فليس غريباً إذا ما استخلص من ذلك أن رائعة شادي الشهيرة بالمومياء استثناء.

وفي عالم الأطياف الاستثناء لا مستقبل له، وبخاصة إذا كان الأمر متعلقاً ببناء صرح مدرسة وطنية سينمائية.

وعن مأساة المخرج الراحل ومعها مأساة السينما في الوطن العربي كتب الناقد الإنجليزي كين ولاشين في المجلد السادس من موسوعة الأفلام قائلاً “المومياء لشادي عبد السلام هو أشهر فيلم في فترة السبعينيات ولكن مخرجه لم يبدع أفلاما بعد ذلك، الأمر الذي يعكس حالة الصناعة المصرية”.. وكفى..!!

سينما مؤجلة إلي متي؟

عندما أعددت نفسي لأكتب هذه الكلمات عن “السينما المؤجلة” لصاحبه الناقد “محمد سويد”، قفزت إلى ذهني من ظلمات الماضي القريب نتائج استفتاء أجرته مجلة “اليوم السابع” لمعرفة أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية (22 فبراير و2 مارس عام 1987).
تركت قلمي حيث كان وطالبت نفسي أن تبحث عن الخيط الذي ربط في خواطري المنسابة بين هذا الاستفتاء ونتائجه وبين ما كنت قد هممت بكتابته عن “السينما المؤجلة”.
وبعد تفكير بدت أمامي رابطة أرجّح أنها هي الخيط الذي جذب نتائج استفتاء “اليوم السابع” في سيل الخواطر.
فما هي هذه النتائج، وما هي الرابطة بينها وبين دراسة الناقد البيروتي، تلك الدراسة التي تدور وجوداً وعدماً حول ما يُسمى بالسينما اللبنانية في زمن الحرب؟
الأفلام العشرة التي هزت السينما العربية وفقاً للاستفتاء، وحسب عدد الأصوات الحاصلة عليها ممن جرى اسفتاؤهم هي: (1) المومياء- شادي عبد السلام (2) الأرض– يوسف شاهين (3) باب الحديد– يوسف شاهين (4) المخدوعون– توفيق صالح (5) بداية ونهاية– صلاح أبو سيف (6) العزيمة– كمال سليم (7) أحلام المدينة- محمد ملص “سوريا” (8) الحرام– هنري بركات (9) عمر قتلته الرجولة– مرزاق علواش “الجزائر” (10) كفر قاسم– برهان علوية “لبنان”.
وقراءة سريعة لهذه النتائج يتبين منها:
أولاً: أن سبعين في المائة من مجموع هذه الأفلام لمخرجين من أهل مصر.
ثانياً: أن فيلماً واحداً “كفر قاسم” (1974) لمخرج من أهل لبنان، وبالتحديد جنوبه “برهان علوية”.
ثالثاً: إن جميع الأفلام الفائزة، فيما عدا “العزيمة” الذي أنتجه “ستديو مصر” (1939) و”باب الحديد” الذي انتجه واحد من أهل فلسطين “جبرائيل تلحمي” (1956)- جميعها من انتاج مؤسسات القطاع العام على امتداد الوطن العربي من مشرقه “سوريا” حتى مغربه “الجزائر” مروراً بقبلته “مصر”.
رابعاً: إن “كفر قاسم” إنتاج مشترك بين مؤسسة السينما في سوريا ومخرجه..
وهو فيلم لا يعرض لمحنة الشعب العربي على أرض لبنان، وإنما يعرض لمأساة الشعب العربي في أرض أخرى، هي أرض فلسطين المحتلة، في أيام لها تاريخ فيما بين قرار تأميم قناة السويس وقرار العدوان الثلاثي على الشعب العربي في أرض مصر .
وعنه قال صاحب دراسة “السينما المؤجلة” أنه فيلم “بقى في إطاره الفردي، ولم يشكل في حد ذاته التيار المؤثر والقابل للاستمرار”.
عبقرية المكان
ويستفاد من هذه القراءة أن سينما القاهرة لها نصيب الأسد فيما هو ممتاز وذو تأثير على مسار السينما في الوطن العربي من الأفلام، أما ما عداها من مراكز سينمائية في دمشق وبيروت والجزائر العاصمة وغيرها من أمهات مدن هذا الوطن الفسيح، فهي بإنتاجها المتقطع القليل، ذي التأثير الضئيل، لا تعدو أن تكون روافد سينمائية لتيار سينما القاهرة الجارف.
ولا غرابة في هذا، ففن السينما قد ظهر في الوطن العربي أول ما ظهر على أرض مصر سنة 1912 أي قبل التاريخ الرسمي لظهوره على أرض لبنان بفضل فيلم “مغامرات الياس مبروك” (1929) لصاحبه “جوردانو بيدوتي” المنحدر من أصل إيطالي، والذي “كان يعمل سائق سيارة مياومة عند عائلة جاك تابت بحي السراسقة في الأشرقية”.
وهنا من المفيد التأكيد مرة أخرى على أن انطلاق الانتاج السينمائي في الوطن العربي بدءا من أرض مصر لم يأت من فراغ فمصر بحكم وضعها الجغرافي المركزي الذي يجعلها بمثابة القلب من الوطن الكبير.
وبحكم التقدم النسبي لاقتصادها، ومتعة مدنها الكبرى المشعة ثقافة وفناً وبهجة، فضلاً عن تعرضها لتأثير الأفكار الحرة السائدة في العالم وبالتحديد أوروبا، بحكم ذلك كله كانت مؤهلة لأن تكون قاعدة وطليعة للوطن العربي في الفنون، لاسيما ما كان منها متصلاً بالفن السابع.
لبنان.. أولاً
والعجيب.. العجيب أن هذه الواقعة التي لا منصرف عنها، ولا تخلص منها قد وجدت من يعارضها يكابر فيها وأين؟
على أرض لبنان حيث ثمة أسباب طبيعية حتمت وجود الفيلم التجاري على مراحل متباعدة زمنياً..
أو كما يقول الناقد صاحب الدراسة بحق “من السابق لأوانه الإشارة إلى سينما لبنانية فعلية، يقوم فيها الانتاج على تراكم منتظم (ص 46، 47) ومتى؟
عندما صدرت قرارات التأميمات الكبرى في مصر (1961) لتشمل صناعة السينما، فكان أن انتهز اقتصاد الخدمات في بيروت الفرصة، ففتح الأبواب لبعض الطيور المهاجرة من القاهرة مما عكس ازدهاراً عابراً في انتاج سينمائي هابط بلا هوية..
حروب صغيرة.. أم طائفية
وعن هذه الفترة من عمر السينما في بيروت كتب صاحب الدراسة قائلاً:
“لبنان الستينيات ومطلع السبعينيات عرف فترة فنية غنية، لكنه كان على صعيد السينما يعيش مرحلة انحطاط في الانتاج رغم غزارته واختلاطه بالتجربة المشتركة مع السينما المصرية (يقصد السينمائيين المهاجرين من مصر تخوفاً من التأميم) ولصاحب الدراسة تفسير لظاهرة معاناة السينما على أرض لبنان من انقطاعات مفاجئة تستبعد أي تواصل أو استمرارية أو تكامل في التجارب والأجيال..
فهو يرجعها أولاً إلى وجود خلاف أصلاً حول وطنية لبنان أو بتعبير أدق حول لبنان– الوطن (ص50).
وثانياً إلى قيام تاريخ السينما في لبنان على أفلام وليدة ومغامرات فردية، باء معظمها بالفشل بحكم أنها لم تعط المردود الكافي لاستمرار عجلة الانتاج فضلاً عن بقاء العديد منها أسير العلب، كفيلم “برهان علوية” الأخير “بيروت اللقاء” (1981) .
باختصار هي أفلام لا تشكل تياراً متجانساً يمكن أن يطلق عليه “تسمية السينما اللبنانية”.
الحرب القذرة
وفي محاولة أخرى منه لتفسير هذه الظاهرة أرجع تقطع مراحل الانتاج السينمائي في لبنان إلى كثرة الحروب “فما أن كانت الثلاثينيات حتى جاءت الحرب العالمية الثانية وعهد الاستقلال..
وما أن كانت الأربعينيات والخمسينيات حتى كانت أحداث عام 1958، وما أن كانت الستينيات مرحلة خصبة للإنتاج التجاري المشترك مع مصر، حتي جاءت حرب الخامس من حزيران 1967، ثم كانت السبعينيات وتقلص نفوذ هذا الانتاج لتحل مكانه بعض المحاولات اللبنانية المتواضعة التي لم تلبث أن عطلتها قذائف الحرب في 13 نيسيان 1975” (ص18)
والغريب أن يتبنى صاحب الدراسة هذا التفسير، ولا يكاد يفطن أن مصر قد تعرضت هي الأخرى للحرب العالمية الثانية، فضلاً عن حروب خمسة مع إسرائيل وحلفائها، ومع ذلك لم ينقطع الانتاج السينمائي على أرضها رغم ما صاحب هذه الحروب من خطوب.
ومهما يكن من أمر، فثمة حرب تصلح تفسيراً لتلك الظاهرة، بل قل سبباً لاعتبار السينما على أرض لبنان- بشروط انتاجها الحالية – مغامرة محكوم عليها سلفاً بالإعدام.
وفي الفصل السابع والأخير من الدراسة وعنوانه “آفاق المستحيل” يجنح صاحبها إلى مزيد من اليأس..
فلبنان يشهد أحداثاً تصرف الانتباه عن التطلع إلى القضية القومية الكبرى، يتفتت، يقع فريسة افتعال نظريتي الخوف المسيحي، والغبن الإسلامي، يغرق في دوامة حرب أهلية بين الطوائف..
نهاية حلم
ومع هذا التمزق والتشتت وفقدان الأصل ومن هذا الواقع المتشرذم الأفاق، وعلي خريطته المبعثرة الأطراف، تورط سينمائيو لبنان في توازنات ومعادلات هذه الحرب القذرة. سقط رائدو السينما البديلة أو الأخرى في مستنقع “طوائفية المرحلة” عندما قاموا في أفلامهم برسم صورة للتفكك والتجزئة الطائفية في بنية لبنان على وجه كان لا مفر معه مثلاً من “ملاحظة مسيحية” “ثريا” في “حروب صغيرة” للمخرج “مارون بغدادي” أو شيعية “حيدر” في “بيروت اللقاء” وكذلك مسيحية البطلة وإسلامية البطل في “الانفجار” للمخرج “رفيق حجار”.
ومع بقاء “بيروت اللقاء” في علبه ورفض “حروب صغيرة” في منطقتي بيروت الشرقية والغربية، بدأ طغيان نجاح “الانفجار” في بيروت الغربية على نجاحه في بيروت الشرقية بمثابة نوع جديد من الانقسام المناطقي بالنسبة للفيلم اللبناني (ص104).
وإذا كان الأمر كذلك بالقياس إلى السينما البديلة أو الأخرى، فالسينما كلها على أرض لبنان سواء أكانت سائدة أم نخبوية أم توفيقية وقد اشتدت عليها أزمة تمزق المجتمع، وأخذتها الخطوب والأهوال من جميع وجوهها– هذه السينما قد انكشف أنها بدون بنية تحتية، بدون سوق لتصريف انتاجها .
وأي سينما بغير توافر هذين الشرطين مصيرها حتماً إلى الزوال، وذلك لأنه كما جاء بحق ختاماً للدراسة من العبث اختراق المستحيل بحثاً عن آفاق ليست سوى أوهام.