!إعصار العنف في السينما.. الي أين؟

سارت سفينة الحياة به في بحر ساكن لا موج فيه، حتي قارب الستين. هنا فاجأه شيء لم يكن في الحسبان كان خارجاً من السينما بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم “الإخوة  موزار” عائداً مع شريكة حياته إلى المنزل سيراً على الأقدام، وإذا به- ودون مقدمات- على الثلج مُلقى يقترب من عالم الأموات، يصبح ماضياً جميلاً لا يبقى منه سوى ذكريات.

من القاتل

فمن هو ذلك الرجل الذي دارت به الأيام دورتها ليجد نفسه وجها لوجه أمام عنف عنيف يعترض سبيله برصاصات وأين ؟.

في بلد هادئ وجد حلاً لبعض مشاكله بالبعد عن الحروب لا يشارك فيها منذ بونابرت وأيامه السود.

إنه أول رئيس وزراء لدولة أوروبية عريقة في الديمقراطية يُغتال- وهو في السلطة- منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إنه ذلك الرجل الذي انفرد بشخصية متميزة جعلت منه سياسياً شجاعاً لا يهاب بأس واشنطن، لايتردد- وهو رئيس وزراء- في أن يدين العدوان على فييتنام، يصف قصف “هانوى” بالصواريخ والنابالم بالبربرية، يصف استخدام أسلحة الإبادة الكيمائية ضد الشعب الفيتنامي بالنازية.
ولعله ليس صدفة- بعد ذلك- أن يكون آخر ما كتبه بخط يده، قبل أن تجيئه الطعنه القاتلة من حيث لم يكن يتوقع- وهنا ضعفه- هو التوقيع باسمه “أولف بالم” على نداء سلام يدعو إلى وقف التجارب النووية. وليس من شك أن اختفاء رئيس وزراء السويد بهذا الأسلوب الدموي، قد كشف عن حقائق عديدة من بينها ان استمرار بقاء العالم على شفا الهاوية مهدد بالفناء الذري كما يُشّكل تربة خصبة تستنبت فيها كل ضروب العنف وتزدهر، وأن أحداً ليس بمنجاة من العنف يعصف إعصاره بالأخضر واليابس، لا يقف شيء أمام دوامته التي تحمل الموت والدمار.

التكامل

وبعد هذا كله فما علاقة الفن السابع بهذا الإعصار ومنجل الموت الذي يحمله، هل ثمة مغازلة بينهما.. ولماذا؟.

من الملحوظ أن العنف مرتبط بالسينما، موجود فيها منذ وجودها، متصاعد مع صعودها.

فهو إذن ليس بدعاً وافداً عليها.

إن له أصولاً قديمة ترجع الى أيام أن كانت السينما خرساء لا تستطيع الكلام، أي منذ مائة عام إلا قليلاً، وقت أن كان الجمهور يقف مشدوهاً في الأسواق كي يشاهد لقطة لرأس ملكة سكوتلاندا، وهي تُفصل بالمقصلة عن جسدها، فتسقط متدحرجة على الأرض.

وبعد العنف جاء دور الجنس انطلاقاً من قبلة بين رجل وامرأة تظهر على الشاشة البيضاء لأول مرة بفضل جرأة نفر من رواد السينما في مملكة صغيرة أو جزيرة منعزلة اسمها الدنمارك.

وبعجلتي الجنس والعنف تحركت عربة هوليوود لتصل بقيم الفيلم ونجومه إلى أقاصي الأرض، فلا تلبث أن تؤثر بالغ الأثر في التفكير، وفي نهج الحياة الاجتماعية والسياسية.

اللقطة الرصاصة   

وفي الحق فلو أردنا أن نؤرخ للعنف في السينما فلابد أن نبدأ بالفيلم الأمريكي “سرقة القطار الكبرى” (1903) لماذا؟

لأنه أول فيلم عظيم، والمقصود بالعظمة هنا أنه كان أول عمل سينمائي يأسر الوعي، يبقي أثره مترسباً في تلافيف العقل الباطن الأمريكي ودهاليزه.

ولا ريب في أن اللقطة التي ينتهي بها كان لها دور فاصل في أحداث هذا الأمر.

ففيها نرى الشاشة، وقد احتلها شخص ذو ذقن عريض مشقوق، وشنب كث، تغطي رأسه قبعة راعي بقر كبيرة، نبصره يستل غدارته، يصوب فوهتها نحونا، يشد الزناد، فتنطلق رصاصة منها متوجهة إلينا، تصرعنا جميعا بلا استثناء!!
وابتداء من هذه اللقطة الأخيرة المهلكة، أصبح من تراث السينما الأمريكية أن يصوب مخرجوها فوهات البنادق إلى المتفرجين، أن يشدوا الأزندة إثارةً وإبهاراً.

وطبعاً كل هذا كان قبل اكتشاف أرض الميعاد في هوليوود، قبل أن يتحولوا بها إلى كعبة السينما وخير وارث للعنف، تعتبره نعمة لا نقمة، شيئاً مادياً كارتشاف قدح قهوة.

ومن حسنات العنف على السينما الأمريكية- إذا كان له حسنات- أنه جعل منها سينما زاخرة بالتوتر والحرارة، بالعنفوان والحركة.

صوت العالم 

وهذا كان مؤداه النجاح والاكتساح، أن تفرض هوليوود نمطها، بل قل أسلوبها على جميع صانعي الأفلام في العالم مهما اختلفت البيئات والثقافات.

وعلى كُلٍ ففي خضم الأزمة العالمية وما تلاها من انتصار النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية، في ذلك الخضم الهائل، المتلاطم بشتى الأهواء والشهوات والنزوات والتيارات، أخذ الجنس والعنف في التصاعد، وأعتاد جمهور السينما على مشاهدة الحب والعنف من القبلات إلى اللكمات كما تصورها هوليوود داخل إطار رقابي انحدر في نفاقه إلى حد حظر ظهور الرجل والمرأة معاً بالكامل في مخدع واحد، حتي ولو كان مخدع الزوجية.

أفعال فاضحة

وظل الحال كذلك حتى اقتراب الخمسينات من النهاية، فتحت تأثير الفيلم الفرنسي، وبخاصة المد الفني الذي أتى بالموجة الجديدة، أخذت الجسور الرقابية في الانهيار.

ولعل فيلم “العشاق” للمخرج الفرنسي “لويس مال” أحد الأعمال السينمائية القليلة التي لعبت دوراً إيجابياً هاماً في تحرير الفن السابع من القيود الرقابية في مجال الجنس.
فقد استطاع صاحبه أن يتغلب على كل العقبات الرقابية وذلك رغم جرأة الموضوع الذي يدور حول حب محرم من خلال مشاهد عارية أخاذة لعاشقين يتبادلان الحب بمصاحبة أنغام إحدى رباعيات “براهمز” تحلق بالمتفرج إلى أقصى سماء.

وبفضل نجاح الفيلم فنياً وتجارياً خرجت من أحضان عاشقيه مشاهد أخرى من الحب لا تُنسى في روائع “لانطونيوني” و”ريتشاردسون” و”برونويل” وغيرهم كثير، وفي نفس الوقت خرجت منها مشاهد جنسية سوقية في أفلام لا عد لها ولا حصر ازدحمت دور العرض بطوفانها المبتذل.

ومع انهيار الكثير من الجسور الرقابية إلى حد أدى إلى الترخيص بعرض أفلام الجنس الفاضح المسماة بالزرقاء، بل وإلى إلغاء الرقابة تماماً على جميع الفنون بما في ذلك السينما، كما هو الحال الآن في مملكة الدنمارك وبعض دول أوروبا وآسيا والأمريكتين، مع هذا الانهيار بدأ اقبال الجمهور على أفلام الجنس في الانحسار.

مرحلة تنتهي

وكان لابد من البحث عن بديل ناجح للجنس. وسرعان ما وجد تجار السينما ضالتهم المنشودة في العنف والتصعيد له.

وهنا قد يكون من المفيد أن أسرد حكاية السينما مع العنف في مرحلة ما بعد انهيار الرقابة، لا من البداية وإنما من النهاية.

منذ عام أو يزيد، وضمن جدران إحدى دور السينما بمدينة نيويورك، صاحت شابة في العتمة غاضبة “يا للبشاعة”.

هذه الصيحة تبعتها صيحات متفرجين آخرين داخل قاعة العرض آثار اشمئزازهم ما يجري أمام بصرهم من مشاهد منبتة الصلة بالذوق السليم.

كان من بين المشاهد محل الاستنكار، منظر مائدة عشاء عامرة بالطيبات، صُفت علىها جماجم محشوة بأمخاخ قردة تتصاعد منها الأبخرة، إناء كبير مليء بحساء يغلي تقفز منه كرات أعين تشع فزعاً، تنين مُزقت أحشاؤه لتخرج منها حيات صغيرة تسعى.

هذا المنظر، مع مناظر أخرى شبيهة في الفظاعة والبشاعة من بينها لقطة لقلب ينبض بالحياة، نراه يُنتزع من صدر إنسان، تكون بعضاً من تسالي قنبلة موسم 84/1985 “أنديانا جونز والمعبد الملعون” لساحر هوليوود وصانع معجزاتها “ستيفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” فيلم الرعب الشهير.

الآن، وبعد هذه النهاية المفزعة، فقد آن الاوان للارتداد إلى الوقائع القديمة التي بدأت بها حكاية ما بعد الانهيار.

محرر العبيد   

لعلى لست بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أن إشارة البدء بتصعيد العنف هي أفلام “كلنت ايستوود” في مرحلتها الإيطالية وذلك بما أدخلته على أفلام “رعاة البقر” من عنف بدائي ساذج ورخيص.

فنجاح تلك الأفلام وولع الجمهور “بكلنت ايستوود” لوجهه القاسي الحاد التقاطيع نَبّه منتجي السينما إلى أهمية العنف وضرورة الإسراع بتصعيده جلباً لمزيد من الربح.

والأدهى والأدهش أنه في الدعاية لفيلمه الأخير “الفارس الشاحب” (1985)- وهو من إخراجه وتمثيله- أفردت صفحات وصفحات في كبرى المجلات لعقد مقارنات بينه وبين الرئيس “رونالد ريجان” في مدى الشعبية وبينه وبين رئيس آخر “إبراهام لينكولن” في مدى تشابه ملامح الوجهين.

وكعهدنا بكل اتجاه جديد في السينما خرج من العنف المتصاعد تياران:

تيار غير فني سائد يستغل العنف بغير هدف سوى الربح، وآخر فني يتناول العنف درامياً بهدف الدمغ والكشف له.

فارس الاوهام

ومن عجب أن الرقابة وفريقاً من الساسة والنقاد خلط بين التيارين على وجه انتهى إلى تقبل الأفلام غير الفنية التي تسيل دماً طالما أنها تعرض للعنف بخفة واستهتار وكأنه نكته تثار.

وإلى الاعتراض على الأفلام الفنية التي تطرح قضية العنف في المجتمع بجدية تحمل الاتهام له في مختلف صوره وأشكاله.

ففي الوقت الذي ارتاح فيه ضمير بعض الرقباء والساسة والنقاد إلى أفلام صعدت العنف، ولا هدف لها سوى أن تتخذ من ذلك وسيلة للإثارة المدرة للربح كأفلام “الطيب والشرير والقبيح” و”الفجر الأحمر” و”رامبو” هذا الفيلم الذي يمجد العنف وسفك الدماء بلا حساب، والذي أشاد به “ريجان”، عند استقباله لرهائن الطائرة الأمريكية المختطفة في بيروت، قائلاً “لقد شاهدت فيلم (رامبو) وأصبحت أعرف كيف أتصرف في المرات القادمة”.
في هذا الوقت بالذات أستيقظ الضمير فجأة ضد روائع “كالقطيع المتوحش” لسام بيكينباه و”أندريه روبليف” لأندريه تاركوفسكي لما فيها من عنف جامح لم تألفه عين، وضعت به بعض المشاهد بغرض إحداث تأثير درامي يجنح بالمتفرج إلى استنكار العنف والإيمان بعدم جدواه وسيلة للحياة.

صدمة عنيفة

ومما زاد من حدة هذا الاضطراب في الحكم الرقابي، وهذا الاهتزاز في الميزان النقدي هجمة لمجموعة من الأفلام ذات المستوى الفني الرفيع، ومع ذلك فيها من العنف الشيء الكثير.

وعند فيلمين من هذه المجموعة أقف قليلاً:

أولهما “كلاب قش” لصاحبه “سام بيكنباه” وبطله “داستن هوفمان” الذي يمثل دور أستاذ رياضيات أمريكي وديع، آثر الإقامة مع زوجته الانجليزية “سوزان جورج” في قريتها الهادئة على ساحل “كورنوول” بانجلترا بعيداً عن فوضى العنف بالولايات المتحدة، آملاً في أن يتفرغ للبحث العلمي عاماً كاملاً، غير أنه غاب عنه أن العنف لا فكاك منه في عالم يسوده العنف.

ففي هذه القرية التي تبدو هادئة رجال يطمعون في زوجته، ويدفعهم هذا الهوى الطائش إلى الاغتصاب والتعرض لحق الأستاذ في أن يكون سيداً في بيته.
وفي لحظة استفزاز، وبعد أن فاض إناء الصبر، يقول الأستاذ “هذا بيتي.. ولن أسمح بارتكاب العنف ضد بيتي” وتنشب المعركة بينه وبين عصابة المشاغبين المهاجمين لتنتهي بأفرادها جميعاً مقتولين.

أما الفيلم الثاني وهو”البرتقالة الآلية” فمن إخراج “ستانلي كوبريك” صاحب “لوليتا” و”سبارتاكوس” و”أوديسة الفضاء” و”باري ليندون”.

وفيه يتناول من خلال رؤياه الساخرة القاتمة مشاكل مجتمع المستقبل القريب.

القطعان والطوفان

ووفقاً لهذه الرؤية تتنازع شوارع لندن قطعان من الفتيان تائهة في اللذة، يتحكم فيها هوى الخروج على القانون بالاغتصاب والسرقة والقتل وما إلى ذلك من ألوان الانحراف.
أما السلطة ففي يد حكومة فاسدة يستبد بها وزير داخلية يحاول بوسائل التكنولوجيا الحديثة أن يروض زعماء هؤلاء الفتيان.. أن يجعل منهم آلات طيعة مجندة لتحقيق أطماعه السياسية.

فإذا ما انتقلنا إلى المعارضة وجدناها متمثلة في صحفي مضلل يتشدق بألفاظ جوفاء عن الحرية، يصف الشعب بهذه العبارة “الشعب قطيع يُساق.. يُقاد.. يُدفع”

ومن مهازل القدر أن يلقى عرض هذين الفيلمين من الجمهور والرقابة التأييد كل التأييد، في حين لا يلقى الفيلم الأول من النقاد سوى الاعتراض ولا يلقى الفيلم الثاني من وزير داخلية انجلترا سوى الامتعاض.

صحوة رقابة

فالجمهور أقبل على مشاعدة رائعتي “بكنباه” و”كوبريك” مستمتعاً بداستن هوفمان وهو يقتل المعتدين على كوخه دفاعاً عن شرفه، معبراً عن اغتباطه بنجاح الأستاذ في إبادة القطيع المهاجم بالصياح “حسناً فعلت”، مندمجاً مع “ملكولم ماكدوول” بطل “البرتقالة الآلية” حين يتغلب على غسيل المخ ويعود سيرته الأولى متمرداً مغتنماً اللذات.

ومدير هيئة الرقابة على السينما في انجلترا يدافع عن قرار إباحة عرض “كلاب قش” قائلاً لمراسلة “السنداي تايمز” لقد شاهدت الفيلم ثلاث مرات.. وما أزال انتفض من تأثيره حتى الآن.. إنه يقول شيئاً ما بأمانة.. ونحن لم نشعر أن العنف في الفيلم جاء اعتباطاً وبلا مسوغ.. ربما يحمل النقاد له كراهية شديدة، ولكني لا أظن أن أحداً منهم عاب في إخراجه أو قال عنه أنه غير رائع.

يُقال لنا دائماً أن الحرب والعنف وسيلتان لفض المنازعات.. ولكنك لا يمكن أن تشاهدي هذا الفيلم ثم تخرجي من السينما وأنت مؤمنة بأن العنف يصلح وسيلة لحل أية مشكلة.

إن الرقابة لا يجب أن تحول بين الناس وبين مشاهدة كل ما هو عاجل وهام حتى ولو نجم عن ذلك بعض معاناة”.

غباء وغضب

أما النقاد فأرسلوا خطاباً غاضباً إلى جريدة “التايمز” هاجموا فيه “كلاب قش”، عابوا على الرقيب “ستيفن مورفي” تناقض أحكامه الرقابية وتضاربها وضربوا مثلاً على ذلك بقرار منع عرض فيلم “عفاشة” لصاحبه “أندريه وارهول” الذى يعرض فيه لمأساة تعاطي المخدرات.

ولقد انعكست سورة الغضب هذه على “ديليز باول” حين كتبت مقالتها الأسبوعية في “السنداي تايمز” لتقول وهي جزعة “لأول مرة في حياتي أجدني أحس بالقلق على مستقبل السينما”.

والظاهر ان اهتمام وزير الداخلية بالعنف في السينما اقتصر على “البرتقالة الآلية”.
فلأول مرة في تاريخ انجلترا يتوجه الوزير بنفسه لمشاهدة فيلم سبق وأن أجازته الرقابة ليتأكد مما إذا كان عرضه يتهدد القانون والنظام العام.

وأغلب الظن أن ما حدا به إلى إعادة مراقبة الفيلم خروجاً على التقاليد هو انطواؤه على سخرية مريرة بدولة الغد العصرية ذات الطبيعة البوليسية. وكشف لوسائلها الفاشية في القضاء على ملكة الذكاء، وإحالة المواطن إلى لاعق حذاء.

ومهما يكن من أمر هذه الأزمة التي فجرها تصعيد العنف في الأفلام. فإن أزمة السينما المعاصرة إنما ترجع في جوهرها إلى أسباب أكثر عمقاً واتساعاً.

ومن بين هذه الأسباب تحكم الغرباء في السينما على وجه يضطر معه صانعو الأفلام إلى البحث عن وسائل للإثارة حتى ولو أدى الأمر إلى التضحية بالفن السابع وبحرية التعبير من خلاله.

وارتفاع المستوى الثقافي لجمهور السينما- على عكس جمهور التليفزيون- الأمر الذي أثار التساؤل حول مصير الرقابة هل استمرارها لازم أم أختفاؤها هو اللازم.

فمن المعروف أن الرقابة تقوم أساساً على فكرة مضمونها وصاية من يعرفون “الرقباء” على من لا يعرفون “الجمهور”، وهي وصاية تستهدف حماية الجمهور من مخاطر مشاهدة ما قد يضره، وذلك بافتراض أن الرقباء لا يتأثرون بما يشاهدون مهما كانت درجة خطورته لأنهم محصنون ضد جرثومة الإفساد.

وأن الجمهور ضعيف وبالتالي لا يمكن أن تمنح له حرية مشاهدة كل ما شاهده الرقباء، لأن مثل هذه الحرية المسرفة في الثقة به، لابد وأن تؤدي إلى انحرافه على وجه ضار بالصالح العام.

وغني عن البيان أن هذا المنطق المتعالي لا حُجّة فيه، آية ذلك الاتجاه العام- رغم خطر العنف المتزايد في الأفلام- إلى إلغاء الرقابة على السينما بالنسبة للكبار أو تخفيف أحكامها في كثير من الدول التي للرأي العام فيها وزن واحترام يسمح للمواطن باسترداد كل أو بعض حرياته السليبة في مجال الاستمتاع بالفن السابع إبداعاً وتلقياً بلا رقيب أو حسيب.