الرقابة ومحنة حرية التعبير

كل شيء في شرقنا العربي من الخليج إلى المحيط يتغير، فيما عدا الرقابة الراسخة رسوخ الجبال.

فالثابت على وجه اليقين أن لغتها بمفرداتها الجامدة، البعيدة كل البعد عن روح العصر، لا تزال، كما هي، لم تتغير منذ منتصف أربعينات القرن العشرين.

ولعل خير دليل على ذلك، موقف الرقابة من “شفرة داڤنشي” فهذا فيلم من ذلك النوع المسمى بأفلام التشويق، موضوعه مستمد من قصة بنفس الاسم، حققت حينما نشرت مبيعات منقطعة النظير.

الواقع والخيال

فيها طرح مؤلفها الأديب الامريكي “دان براون” فكرة قوامها خيال جامح، عماده أن السيد المسيح، على نقيض ما جاء في الأناجيل الأربعة تزوج من “مريم المجدلية” التي أنجبت له ابنة، لايزال بعض أحفاد أحفادها يعيش بيننا، وإن كان في السر والخفاء.

وحتى لا يلحق أي منتسب إلى ذريتها أذى تكونت جماعة سرية هدفها احاطة أمر وجودها بسياج من الكتمان الشديد.

وكان بين أعضائها، على مر العصور، مشاهير مثل: “ليوناردو داڤنشي”، “اسحاق نيوتون” و”فيكتور هيجو”.

إذن فالفيلم، والحق يقال، يتمحور حول فكرة خيالية، ترجمها إلى لغة السينما “رون هوارد”، ذلك المخرج الامريكي الذي سبق له الفوز، قبل ثلاثة أعوام، بجائزتي أوسكار، هو وفيلمه “عقل جميل”.

ولم يزعم “هوارد” في ترجمته لقصة “بروان” مع كاتب السيناريو “اكيتا جولدسمان” الفائز هو الآخر بجائزة أوسكار أفضل سيناريو عن “عقل جميل”، أقول لم يزعم أنه صاحب رؤية صحيحة للدين. ولا صاحب رسالة علمية مثل “جاليليو” الذي ركب المخاطر، عندما قال منذ بضعة قرون أنه اكتشف عكس ما كانوا يعتقدون، أن الأرض ليست ثابتة، وإنما تدور.

اثم الظن السيئ

فكان جزاؤه عن ذلك العقاب وبئس المصير من قبل قوم، دأبوا على الخلط بين الرأي والإيمان.

ومع ذلك، اساءت الرقابة الظن بالفيلم، كما اساء به الظن غلاة المعادين لحرية التعبير فحتى قبل مشاهدته هرولت الرقابة من منطلق الفزع الشديد إلى سحب ترخيصها بالعرض العام لمقدمات الدعاية للفيلم رغم أن هذه المقدمات كانت خالية تماماً مما قد يشير سواء بالتصريح أو التلميح إلى موضوع السيد المسيح.

عدوان على القانون

ولم تكتف الرقابة بذلك العدوان على حرية التعبير بل تمادت في غيها إلى حد الاعلان بلسان رئيسها أنه من المفترض ألا يصرح بعرض دعاية لأي فيلم إلا بعد مشاهدة نسخته الأصلية والترخيص لها بالعرض العام.

وهذا الاعلان مؤداه حظر عرض المقدمات، حتى ولو كانت غير مشوبة بأي عيب من العيوب المنصوص عليها في القوانين المنظمة للرقابة على المصنفات الفنية، وهو ما يعد، ولا شك، أمراً مخالفاً لروح تلك القوانين. اللافت للنظر أنه منذ اقتراب موعد عرض الفيلم عالمياً، والتليفزيونات لا تمل من مناقشته، وعرض الأفلام الوثائقية عنه، مستعيدة بعض الفصول من “شفرة داڤنشي”، القصة المستمد منها الفيلم.

واللافت كذلك أن هذا السيل التليفزيوني ترافق مع سحب اعلانات عرض الفيلم من أغلب دور السينما في الدول العربية، حيث كان محدداً لعرضه يوم السابع عشر من شهر مايو.

والسؤال : ما جدوى المنع بعد هذا السيل؟