ثرثرة حول أفلام محورها: دنيا الكأس والكركرة

 كانوا ثلاثة وكنت رابعهم.. ماعدا الكلب.. عزيزة أمير تلمع في حليّ من أحجار كريمة غالية، وإلى جانبها زوجها، شاب كريم من أسرة كريمة في هيئته سمات الحب حينما يصبح مرضاً عضالاً لا يشفيه القرب أو البعد.. وأمامهما رجل ضخم الجسم، واضح الغنى يرضع (الويسكي) ثم يتلمظ ويتحلب ريقه، وكأنه لم يشرب، وهو أحد الباشوات الذين اشتهروا بعطفهم على الفن والفنانين…

هذه السطور قد يظن القارئ اللبيب أن صاحبها أنما يصف بها مشهداً من فيلم مثلته عزيزة أمير.. ولكن المشهد ليس من الخيال في شيء.. إنه الواقع بلحمه ودمه، كما رآه زكي طليمات رأي العين في أول زيارة له لقصر رائدة السينما المصرية، بل قل العربية، وكما وصف بعد أربعين سنة في كتابه الشيق “ذكريات ووجوه”.

كأس الإلهام

 ومع ذلك، فمنذ البداية، والسينما في مصر غالباً ما تستعين بمشهد كهذا، تلعب فيه الخمر دوراً رئيسياً، أو على الأقل تشكل خلفية لما يجري في الفيلم من وقائع أكثرها تافه.

ولم يكن هذا بالأمر الغريب في أزمنة كان يتغنى فيها بأن الدنيا سيجارة وكأس، وكان الفكر السائد في عالم الأطياف والأوهام أن الخمر مصدر مزعوم من مصادر الإلهام..

طبعاً.. هذا لا يعني أن تعاطي الخمر في الأفلام أمر دخيل على السينما، أو بتعبير آخر أمر مكروه.. كل ما يؤخذ على مشاهد الخمر والسكر في الأفلام المصرية هو مجيئها بغتة دون ارتباط بسياق الأحداث، واتصافها بالإعادة والتكرار..

المكان المناسب

 ومن هنا انقطاع الخيط بين مشاهد الكئوس وبين الجمهور المتلقي.. فكي تؤثر هذه المشاهد، لابد أن تكون جزءًا من بنية الفيلم، موظفة لخدمة الموضوع.. وليست كائنات زخرفية.. وهذا أمر لم يحدث إلا نادراً.. في أفلام تعد على أصابع اليد الواحدة مثل “صراع الأبطال” (1962) رائعة (توفيق صالح)…

فمن حسنات مشهد الخمر فيه أنه في مكانه المناسب.. في حفل زفاف سيد القصر “صلاح نظمي” ابن الأكابر: فالمدعوون من علية القوم ، وضيف شرف الفرح قائد معسكر الجيش البريطاني..

وإذن فلا غرابة إذا كان المشروب السائد هو الويسكي الاسكوتلندي.. ولا غرابة إذا ما أمسكت “جيهان هانم” أم العريس بالكأس ترفعه مع الضابط البريطاني لتشرب نخب صفقة شراء فضلات جيش الاحتلال، تلك الصفقة التي ستكون سبباً في ظهور وباء الكوليرا يحصد الأرواح بالآلاف.

الجوزة المستحية

 واستعراض تاريخ الخمر والسكر في السينما المصرية يستلزم وقفة قصيرة عند فيلم آخر لنفس المخرج ” زقاق السيد البلطي” (1970)… ففي هذا الفيلم الذي كان ختاماً لعقد السبعينات، حاول “توفيق صالح” أن يدخل عالم صيادي السمك دخولاً كاملاً شاملاً.. فوجد نفسه مضطراً إلى أن يذهب أحياناً بأبطاله إلى الخمّارة أو بمعنى أدق “البوظة”.

وفي مشاهد “البوظة” هذه ظهرت الجوزة باستحياء شديد، مرت على الشاشة مرور الكرام.. لم تحاول أن تكيّف أحداً.. هذا المرور العابر كان ارهاصة لما هو قادم، لتبني شعار الدنيا جوزة وكأس.. تمهيداً لغزو الشاشة بالجوزة ولوازمها.

انهيار الجدار

والواقع أن المناخ كان مناسباً فالمخدرات كانت قد اتسعت قاعدتها بانتشار الغرز، وبامتداد تعاطيها إلى أوساط المثقفين.. وللمرة الأولى في تاريخ الأدب العربي المعاصر غامر كاتب كبير بكسر جدار الخوف.. فسجّل في قصة طويلة سهرات شلة أنس مع الجوزة داخل عوامّة أو غرزة يوماً فيوما “ثرثرة فوق النيل” (1966).. وبلغة المنتجين والموزعين، الجمهور كان “عاوز كده” أي كان يريد أن يرى الانحلال على الشاشة صنوفاً وألواناً، والدليل “أبي فوق الشجرة” (1969).. وذلك الاقبال منقطع النظير على مشاهدته لا لشيء سوى أن راقصة البحر، وكل البحار “نادية لطفي”.. قد ازدحمت الشاشة بجسدها عارياً نهباً لقبلات لو وزعت على أفلام الموسم وكل موسم لنفدت الأفلام قبل أن تنفد قبلات الجسد العاري.

السد الواطي

 عائق وحيد كان يقف سداً مانعاً أمام تسلل الجوزة ومساطيلها… الرقابة العامة بتعليماتها العتيقة التي ترجع إلى العهد البائد، والتي لم تكن تسمح لأحد بأن يرفع الكلفة ويظهر المناظر الخاصة بتعاطي الكيف.. وكان لابد من فعل شيء. لابد من هدم سور الرقابة من وضع حد لحالة اللاشرعية التي كانت منها الجوزة تعاني.. وكان الحل هو “ثرثرة فوق النيل” أن تبدأ الغرزة بها، كيف؟

قصة “نجيب محفوظ” بطلها “أنيس زكي” (عماد حمدي) وليّ أمر العوامة الغرزة أو حسب كلمات شلة الأنس “وزير شئون الكيف”.. وشخصيات الشلّة من الرجال جميعاً وبلا استثناء عدمية منحلة.

“أحمد نصر”موظف” شيء لا يقدم ولا يؤخر في الحياة”.

“مصطفي راشد” محام يجد ملاذه في التأمل المسطول.

“على السيد” ناقد خنزير ووغد كبير.

“خالد عزوز” كاتب وجد مهربه في الجوزة والجنس والفن الهلامي.

“رجب القاضي” يمتهن الجنس بلا عقيدة ولا مبادئ… أما نساء الشلة فأكثر انحطاطاً.

“سنية كامل” (نعمت مختار) زوجة فاجرة تمارس تعدد الأزواج.

“ليلى زيدان” (سهير رمزي) مترجمة شقراء رائدة جنس متهافتة مدمنة.

“سناء” (مرفت أمين) جامعية عبثية لا تنتمي لشيء.

الشخصية الجدية الوحيدة وسط دخان الجوزة وكركرتها كانت الصحفية “سمارة بهجت” “ماجدة الخطيب”.. ومع ذلك فبعد لحظة الحقيقة، وبعد أن شاركت في حادث قتل فلاح بسيارة “رجب” (أحمد رمزي) التي كانت تستقلها ليلاً مع شلة العوامة.. وبعد أن ضعفت، فلم تبلغ عن الجريمة متواطئة في مؤامرة الصمت… وبعد ذلك كله أصبحت هي الأخرى لا تصلح لشيء… أصبحت كسواق الجوزة وليّ النعم نصف ميتة… نصف مجنونة…

أهلاً بالمعارك

 الأكيد إذن أن قصة بشخصيات كهذه كلها مسطولة هاربة في الادمان والاوهام الكاذبة، لا يجرؤ رقيب على الترخيص لها بتدنيس حرمة الشاشة البيضاء…

والأكيد.. الأكيد.. أنها لو بقيت في السيناريو المعدّ عنها بالنهاية التي إرتاها “نجيب محفوظ”.. أي انحدار الجدية أمام فقدان المعنى، وانهيار الايجابية أمام صور الانحلال والسلبية لما كتب لفيلم “ثرثرة فوق النيل” أن يرى النور.

إذن.. كان لابد من البحث عن مخرج.. أين؟

القصة كتبت سنه 1966 أي قبيل زلزال هزيمة الخامس من يونية (حزيران).. وقائعها عبارة عن رحيل داخل جلسات محورها الجوزة بطقوسها، بأحجارها.. كيف تكرّس، ترص، تبكر.. وعلي الأوغاد والمنحلين والمدمنين.. كيف تدور.. من يقرؤها بامعان يستشف أن أفراد المجتمع-“والقصة عبارة عن نقل فوتوغرافي لواقعه”- جميعاً ضائعون، بلا أمل منهزمون.. وأن ثمة كارثة قادمة ليس لأحد منها نجاة.

وطبعاً، وبحكم أن القصة سابقة على الزلزال، فهي لم تعرض له، ولا لما أعقبه من حروب استنزاف وعبور وما بعد عبور وأخطر ما فعله سيناريو “الثرثرة..” بالقصة هو أنه خرج بوقائعها من زمن ما قبل الخامس من يونية إلى زمن تال له زمن حرب الاستنزاف.

وغيّر المخطط العام لها تغييراً جذرياً بأن أحدث انفصالاً بين سواق الجوزة “عماد حمدي” والصحفية الجادة “ماجدة الخطيب” من ناحية، وبين باقي أفراد الشلة المنحلة من ناحية أخرى.. وهذا الانفصال بدأ قريباً من نهاية الفيلم، باستصحاب الصحفية سواق الجوزة إلى جبهة القتال بالقنال. حيث تحول السواق بسحر أرض المعارك والأبطال إلى مناضل تنتهي به الزيارة ومعها الفيلم صائحاً مردداً: ـ  “الفلاحة ماتت.. ولازم نسلّم نفسنا”.

وهكذا وحدّ صاحب السيناريو بين ممارسات الجوزة ودورانها على المساطيل وبين الدعوة إلى مقاومة العبث بالعودة إلى الإيمان رغم الادمان، عن طريق الالتحام مع المحاربين البواسل على ضفاف القناة!!

وبذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، ضمن للفيلم أن يدور حول جوزة تدور دون أن تثور الرقابة.

وضمن له الحماية لأن أي منتقد سيتهم بإثم خيانة أولادنا في الجبهة!!.. والأخطر أن اخراج الفيلم سلمت مقاليده إلى “حسين كمال” صاحب “أبي فوق الشجرة” فكان أن استبدل الجوزة بالجسد العاري.. وكان أن ملأ الشاشة بها وبدخانها بدءًا من لقطات العناوين.

وكان أن فتح الباب على الواسع لسينما من لوازمها الجوزة والمساطيل، في مشاهدها سحر الفص المذاب ومساء الجمال.

الممنوع مشروع

 وإلى هنا كان المتوقع أن تنتهز الجوزة فرصة انفتاح الباب بالثرثرة (1971) وتدخل عالم السينما بلا حساب.. ولكن الشيء الأكيد أنه، ورغم هذا الانفتاح، ورغم نجاح ثرثرة “حسين كمال”.. ظل أنصار الجوزة في السينما مترددين، متخوّفين لا يعرفون إلى أين ستجرهم الجوزة ولا حجم المفآجات التي تنتظرهم مع سيف الرقابة؟

وهنا، وبسبب لا أعرفه وقع غير المتوقع.. أصدر وزير الأعلام والثقافة في 28 من أبريل قراره الرقيم 220 لسنة 1976.

قبله كان اظهار المناظر الخاصة بتعاطي المخدرات أمراً ممنوعاً! أما بعده فقد أصبح الممنوع مشروعاً لا قيد عليه ولا شرط سوى شرط يتيم.. ألا يوحي ظهور تلك المناظر على الشاشة بأن التعاطي شيء مألوف.

وهكذا أصبح لقعدات الحشيش بكل لوازمها من جوزة وخلافه حق الظهور.. وكل مخرج وشطارته.

وكان “حسام الدين مصطفى” أشطر المخرجين، فبه بدأت الموجة الجديدة المستفيدة مما أباحه القرار التاريخي.

وأول فيلم له بعد القرار “حكمتك يارب” يبدأ بمقدمة تشير إلى وقائع الفيلم اللاحقة.

فأمامنا قطيع من الجمال يساق عبر أهم شوارع القاهرة وميادينها حيث تعيش نعيمة “سهير المرشدي” بنت السلخانة التي تخرجت في كلية الحقوق وكرست عملها وثقافتها لخدمة أولاد البلد، أهل حيها ومصدر عزها.

وأم نعيمة “سناء جميل” المعلمة مهربة المخدرات صاحبة القلب الكبير التي تحيا وتموت من أجل وحيدتها العزيزة الغالية.

“وزكي قدره” (عادل أدهم) الفتوة الذي يحشو بالمخدرات بطون الجمال، ولا يهوى سوى الجنس والمال.

وفي مواجهة المذبح بفتواته وفتياته، بمعلميه ومعلماته، يقف رجل المباحث “حسين” (حسين فهمي) ابن الباشا وحيداً منتصراً للحق والفضيلة، للمساواة والحب.

ومن خلال هذه الأنماط المستهلكة تتصاعد أحداث كلها افتعال مثل اصابة “أم نعيمة” بالخرس عقب ضبطها متلبسة والقاء القبض عليها.

ومثل صعود روحها إلى بارئها، وهي جالسة في قفص الاتهام وراء القضبان باسمة كما القديسات.

وأهم ما يلاحظ على هذا الهراء المحطم للقلب ليس الجوزة التغزل فيها عن طريق قعدات المعلم “قدره” وقفشاته التي يهتز لها الجمهور طرباً.

لا..إنه شيء أخطر من ذلك بكثير نجده متكرراً لازماً فيما هو آت من أفلام . أنه ذلك التعاطف مع المعلمة تاجرة المخدرات بمحاولة رسم شخصيتها وكأنها من النساء الصالحات.

“فشقاوة” (صفيه العمري) في أسوار المدابغ ( 1984) معلمة تدير غرزة، تجئ لزبائنها بالكيف يتحول بهم إلى مساطيل يهيمون في الملكوت.

ومع ذلك فهي، ومن دون كل نساء الفيلم الوحيدة الشهمة صاحبة القلب الكبير.

أما كيف حدث هذا التخليط؟ ولماذا؟ فعلم ذلك عند صانعي الفيم وحدهم دون أحد سواهم.

الأمن والأمان

 وفي مطلع الثمانينات، استمر الفيلم – الجوزة متمدداً على السينما المصرية، لا يجرؤ أحد على المساس به.

انتقلت الكاميرا إلى “الباطنية” حيّ تجار السموم.

وللمرة الأولى زيّنت شوارع مدن مصر الملصقات تطل منها “نادية الجندي” في فيلم “لحسام الدين” على المارة محتضنة جوزة، تدخنها في أمن وأمان.

وبدأ تقليد جديد أن يتغزل الفيلم في سواق الجوزة “حميدو” (سيد زيان) الشاب الناعم الذي يقوم على خدمة القعدة، وأن يتغزل “حميدو” بدوره في الجوزة.. يدلعها متغنياً بفضائلها “السلخانة”(1981) بطولة “سمير صبري”.

ولأن بقاء الحال من المحال.. فقد بدأ الجمهور يملّ.. بدأ اقباله يقلّ على أفلام جوهرها الغرزة والجوزة كيف تدور.. آية ذلك فشل “الراقصة والطبال” رغم أن “عادل أدهم” و”نبيلة السيد” لا يظهران في أية لقطة إلا والجوزة معهما يداعبانها في حنان.. وفشل “أسوار المدابغ” رغم أنه يبدأ بالجوزة.. وبعد رحلة طويلة معها ومع الكأس ينتهي بالشقي “حسين فهمي” مقتولاً أمام غرزة شقاوة المرأة الطيبة الشجاعة.

حقاً لا تزال هناك أفلام من هذا النوع الفاسد المفسد في الطريق إلى دور العرض وأجهزة الفيديو… وقد يكتب لبعضها النجاح كفيلم “حتى لا يطير الدخان” لا لسبب.. سوي قيام “عادل امام” والجوزة معه بأداء الدور الأول فيه.

وعلى كُلٍ، فالقدر المتيقن أن موجة انفتاح السينما على المخدرات في انحسار… وأن هذه السينما في سبيلها إلى الاندثار.. إلى أن تكون ماضياً أقرب إلى العار…