ظهور واختفاء الفلاح من السينما المصرية

السينما المصرية لا تنفرد بغياب الريف عن الشاشة، ولا بقلة أو ندرة الأفلام التي تعتبر مرآة للحياة فيه بكل ما تزخر به من مشاكل وصراعات.

فهذا العيب منتشر الوباء، نلمسه في سينما هوليوود حيث لا مكان للريف الأمريكي بأسياده وأجرائه بيضاً كانوا أم سود إلا في قلة قليلة من الأفلام مثل “أعناب الغضب” و”طريق التبغ” و”فدان الرب” ورائعة “تيرينس ماليك” الثانية “أيام السماء” “1978” عن عمال التراحيل في ولاية تكساس، والتي يكفي أن نذكرها لنعرف أن الريف من بعدها قد اختفى أمام زحف أفلام الفضاء وازدحام الشاشة بحكايات النجوم، وحروب فيما بينها لا تنتهي، وأن صاحبها قد اختفى هو الآخر من عالم السينما، فلم يكتب له- وعلى مدى خمسة أعوام أو يزيد- أن يخرج فيلما ثالثاً..

ونلمسه كذلك في سينما شبه القارة الهندية حيث الأفلام في معظمها مسخ وتشويه للمجتمع، أو كما وصفها الأديب الهندي الأشهر “ملك راج أناند” في كلمة واحدة “نفاية”!!

وهنا أتذكر حماس هذا الأديب سنة 1947 لفيلم “أولاد الأرض”، وكيف طار به فرحاً، فاعتبره في مقال له نشرته مجلة المسرح الجديد الإنجليزية أول فيلم هندي عظيم.. لماذا؟ لأنه عرض ببساطة لحياة بعض الأسر في قرية صغيرة بولاية البنغال أيام الرخاء النسبي قبيل إعصار المجاعة، كيف انهزمت تحت تأثيره الأحلام.. كيف بدأت هذه الأسر مسيرة طويلة من العذاب إلى خارج منطقة الدمار.. إلى كلكتا..

إذن أن تكون غالبية أفلامنا نفاية أوغير منسجمة مع الواقع بمنأى عن الريف وما يعتمل فيه من تحولات، فليس في هذا شذوذ، وليس فيه خروج عن مسار السينما العالمية منذ نشأتها الأولى.

الشيء المُحير بالنسبة للسينما عندنا أنها في البدايات اتجهت إلى الريف.

فأول فيلم روائي طويل مصري يُعرض في القاهرة “ليلى”- 6 نوفمبر سنة 1927- أحداث قصته تدور في قرية حول فتاة جميلة- يتيمة “عزيزة أمير” يكفلها العمدة.
يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم أحمد الذي يعمل دليلاً للسائحين..

تشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بالشاب الشهم.. تغريه بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل. تُطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف أنها حامل من حبيبها الذي خانها. وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة، يتوقف “رءوف بك” بعربته ويصطحبها إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

قد يكون من الصعوبة بمكان تصور قصة بمثل هذا القدر من التفاهة والبعد عن الواقع والحط من شأن جماهير الفلاحين ومع ذلك فقد تعرضت “عزيزة أمير” لحملة من الانتقادات.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من نوفمبر سنة 1927 في مجلة “الصباح” خير مثال يُساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات وخطورتها على الفن السنيمائي. ففيه يأخذ كاتبه على “عزيزة أمير” جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة، ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة- وهو في أشد حالات الاستياء- عن سبب إصرارها على إظهار مصر وكأنها ما تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد فيه الكثير مما نفخر به”.

وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش الفلاحين.

وكرد فعل لهذا النقد أعلنت “عزيزة أمير” عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة لفيلمها التالي تجري أحداثها في المجتمع الراقي.

مخاطرة محسوبة

بعد هذا النقد فلا عجب إذا ما انصرفت السينما عن تناول أي موضوع له صلة بالريف من قريب أو بعيد.

ومع ذلك فقد كان لـ”زينب” للدكتور محمد حسين هيكل- وهي قصة من صميم الرومانسية التي يطغى فيها الخيال على المنطق- تأثير السحر على المخرج “محمد كريم” الذي كان بدوره غارقاً إلى أذنيه في صميم الرومانسية.

وكان أن انتهى به الأمر إلى المخاطرة بإخراج فيلمين مأخوذين عنها الأول صامت “1930” والثاني متكلم “1952”.
وفي الحالتين كانت المخاطرة محسوبة.. كيف؟ لأن زينب في القصة والفيلمين ولئن كانت فتاة ريفية تحب إلا أنها تحب أنقى الحب. زوجوها بمن لا تحب ولكنها لا تخون عهد الحب، ولا تخون عهد الزواج. تعيش حياتها ترضي الطرفين في حدود القيم وأخلاق القرية!!

ولأن المخرج حرص- وهو يصور زينب الصامت- على إظهار كل الفلاحين يلبسون “البلغ” في أقدامهم، وعدم إظهارهم “حُفاة”.

ولأنه وعد “جبريل نحاس”- وهو يقنعه بإنتاج زينب المتكلم- بأنه سيعرض الريف على الشاشة كما يجب أن يكون، لا كما هو عليه، وكان عند وعده.

وتأييداً لذلك اقتطف من مذكرات “محمد كريم” الفقرات التالية:

“لم يعجبني التراب فوق القمم الخضراء لحقول القصب. طلبت أن يغسل الحقل كله. وظل موضوع غسل حقول القصب بهذا المطر الصناعي مما يتندر به الذين شاهدوا هذه العملية ويحمدون الله على أنني لم أصور وقتها الهرم وإلا طلبت غسله بصابون “أومو” ليكون أكثر بياضاً” “ص172 من المذكرات، جزء ثان”.

“شاهد الفيلم “هيكل باشا” في عرض خاص وعلق قائلاً: أهنئك يا أستاذ كريم.. أنا سعيد بـ”زينب” وبك.. إننا نريد أن يكون عندنا في مصر ريف مثل هذا الريف الذي خلقته لنا في الفيلم”.

الريف الحق

الأكيد إذن أن زينب الصامت والمتكلم لا صلة بينهما وبين الحياة الواقعية في الريف، وآية ذلك أنه مزوق باعتراف المخرج.

والشيء الأكيد أن أياً من فيلمي “زينب” لو عُرض حالياً على المتفرج لما خرج منه بشيء مفيد عن الريف.

ذلك أن الريف الحقيقي في مصر كان أغلب سكانه من صغار الملاك الزراعيين والفلاحين المُعدمين، وكان لا فارق كبير بينهم من حيث ظروف المعيشة.

فكلاهما كان يعيش عيشة بائسة جداً تقترب من حد الكفاف إن لم تكن أقل.

وكانت هناك عائلات بأكملها تعيش على أجر لا يتعدى بضعة قروش لا تكاد تكفي وجبة واحدة من خبز الذرة، وقطعة من الجبن وبعض الخضراوات.

فالرقابة بمحظوراتها التي وصلت بموجب التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية في فبراير سنة 1947 إلى أربعة وستين محظوراً، كانت تعتبر من الأمور غير المقبولة أن يُساء إلى سمعة مصر باظهار “بيوت الفلاحين الفقراء ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة”.

ومنتجو الأفلام وموزعوها- وهم في غالبيتهم من الأجانب واليهود والمتمصرين- لم يكن من مصلحتهم أن تشد الكاميرا الرحال إلى الريف.. أن تكشف جريمة الاستعمار وحلفائه في حق أصحاب الجلاليب الزرقاء.. وفي مجتمع كهذا، يضع الريف في قائمة المحرمات والممنوعات، يتقلص الوطن الذي تتعامل معه السينما.. يضيق.. لا يبقى من غاياته سوى شجرة.. وتصبح أفلامه في حقيقتها فيلماً واحداً متكرراً لا حياة فيه.

الموجة الجديدة

كل هذا كان قبل 23 يوليو سنة 1952. أما بعدها، وبنهاية عصر أسرة محمد علي بدأت ارهاصات سينما تحاول أن تنسجم مع التحولات السياسية العنيفة التي صاحبت الثورة.

وكان أخطر ما فعلته تلك السينما هو أنها سافرت إلى الريف في محاولة منها لكي تكون مرآة للحياة فيه كما هي، لا كما يجب أن تكون.

وبسفرها هذا ربحت مساحات جديدة من أرض الواقع.

فليست أفلام “دعاء الكروان” لهنري بركات “1959” و”صراع الأبطال” لتوفيق صالح “1962” و”الحرام” لهنري بركات و”الجبل” لخليل شوقي “1965” و”جفت الأمطار” لسيد عيسى “1967” و”الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف و”البوسطجي” لحسين كمال و”يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق صالح “1968” و”المومياء” أو “ليلة حساب السنين” لشادي عبد السلام “1969” و”الأرض” ليوسف شاهين “1970” و”حادثة شرف” لشفيق شامية “1971”- ليست سوى بعضاً من جزر الواقعية التي أهدتها حرية التعبير للفيلم المصري.
وأول ملاحظة تسجل على هذه الأفلام هي أنها في معظمها مستوحاة من روايات لبعض من أهم أدباء مصر: طه حسين، يوسف إدريس، فتحي غانم، رشدي صالح، يحيى حقي، توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي.
والملاحظة الثانية التي يتعين تسجيلها في سياق الحديث عن مصادر هذه الأفلام هي أن أكثرها إسهاماً باتجاه العمق في الريف، هما فيلما “صراع الأبطال” و”ليلة حساب السنين” وكلاهما عن سيناريو مبتكر غير مأخوذ عن عمل أدبي سابق.

والملاحظة الثالثة التي يلزم الوقوف عندها هي أن ستة من هذه الأفلام: الأرض، ليلة حساب السنين، الحرام، دعاء الكروان، البوسطجي، صراع الأبطال قد فازت في الاستفتاء الذي أقامته مجلة الفنون عن أحسن عشرة أفلام مصرية انتجت خلال فترة الثلاثين سنة التالية للثورة. ودخلت في عداد الأفلام العشرة الأولى.
الجنس والجوزة

والملاحظة الرابعة والأخيرة التي لابد من وقفة عندها هي أن موجة هذه الأفلام قد بدأت في الانحسار أمام موجة أفلام الجنس والجوزة بعد انكسار الهزيمة، فليس محض صدفة أن ينتج فيلم “أبي فوق الشجرة” خلال سنة 1968، وأن يُعرض فيلم “ثرثرة فوق النيل” خلال سنة 1971، وأن يكون “حادثة شرف” آخر أفلام موجة الريف.

فبعده، وطوال عقد السبعينات، اختفى الفلاح المصري تماماً من السينما الروائية المصرية.. أصبح وكأنه لا وجود له.

وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبته الرقابة في انتكاسة السبعينات هذه.
فمن تقريرها المؤرخ 19 يولية سنة 1971 عن “حصان الطين” للمخرجة “عطيات الأبنودي”- وهو فيلم تسجيلي قصير جداً- الذي انتهى برفض السماح له بالتصدير للخارج اقتطف الفقرات الآتية:

“الفيلم يحتوي على مشاهد تُسيء للشعب المصري وهي:

  1. ظهور الفلاح المصري بمظهر البؤس والشقاء فهو يرتدي الملابس الممزقة ويأكل القليل.
  2. اشتراكه مع حيوانه في الشرب والاستحمام من ماء النيل في وقت واحد.

والآن نقف وقفة قصيرة عند فيلمي “صراع الأبطال” و”ليلة حساب السنين” لما فيهما من دلالات.

الأطعمة الفاسدة

الفيلم الأول يعرض لصراع طبيب شاب في الريف، كان يحلم بمعالجة الفلاحين من أمراضهم. ترك حياة المدينة، ذهب إلى القرية. أدرك أن المرض يهون في حياة الفلاحين أمام مشاكلهم الاجتماعية الشديدة التعقيد.

وجد عندما ظهر وباء الكوليرا أن التطعيم ضده مرفوض من الجميع. اكتشف أن رسالته لابد أن تبدأ بتشخيص الواقع الاجتماعي والبحث عن علاج له، أي أن يكون بادئ ذي بدء سياسياً.

وضحت له الرؤية بعد أن تبين له أن الفلاحين يعملون في أرض مقابل الطعام. وضح له أنه يقاتل فوق أرض وعرة، يخوض حرباً اقتصادية.. المرض أهم جولاتها.

اقتنع أن المعركة في مجتمع يغلب عليه السحر والتنجيم والتخلف.. معركة طويلة ومريرة.

فإذا ما انتقلنا إلى “ليلة حساب السنين” لوجدنا أنفسنا أمام ريف يحكي مأساته من زاوية أخرى.
فقصة الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، حيث مات “سليم” كبير العائلة و”وانيس” ثاني أولاده يُبكيه، وجثمانه يوارى التراب. ويوم الدفن مساءً يرى عمه يمزق مومياء يسلبها ما حولها من حُلي، ويتساءل أهكذا عاش أبوه والأجداد؟

يعجب أفراد القبيلة لنفوره.. أوليست هذه الجثث غريبة؟ أليست بلا آباء، بلا أولاد، وبلا أسماء؟ وأليس أفندية القاهرة يطمعون فيها دون وجه حق؟ وأليسوا هم الأحياء أولى بالذهب المُكدس في القبور؟

ويحتار “وانيس” لكل هذه الأسرار الجديدة عليه، حتى يقابل بين جدران المعابد فلاحاً شبيهاً له، وكأنه توأمه، من سكان الوادي يخبره أن تماثيل الموتى ليست أحجاراً صماء، وأن الرسوم التي عليها إنما هي كتابات ذات معنى كبير، وأن “الأفندية” إنما يبحثون عن قوم نعيش على أطلالهم يسمونهم الجدود ويقرأون على الأحجار نقوشهم.

هذه الأحجار التي يتعلق بها قلب “وانيس” قد لازمته منذ نعومة أظافره، فكيف يترك جثث أصحابها نهباً للصوص؟

إنه الآن يشقى بعذاب التمزق.. يحاول ما وسعته الحيلة أن ينعتق من رق الشك والحيرة.

وفي النهاية لا يجد سبيلاً للخلاص إلا بسماع صوت الهاتف قادماً من ماضٍ بعيد.. يأمره بالبوح بالسر الكبير إلى أفندية القاهرة.

ولو أوغلنا في الفيلم بحثاً عن المحور الذي يتحرك عليه لتبين لنا أنه أنما كان يتنبأ ببداية هجمة استعمارية شرسة.
ومن العلامات الدالة على ذلك:

أولاً: وجود الخبراء الأجانب “ماسبيرو” وغلبة أفكارهم غير الإنسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين.

ثانياً: طبقة أفندية القاهرة (الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك أوروبا متعاونة معها ضد الفلاحين الذين تستمد منهم الحياة.

ثالثاً: الفلاحون يمارسون حياتهم اليومية، مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة، والإهدار للتراث.
والواقع أن هذه القوى المتعددة في أعماق الريف التي عرض لها الفيلم ما تزال موجودة تتصارع.

والشيء الأكيد أنها تعرضت خلال السبعينات لتحولات اقتصادية وسياسية جذرية، صاحبتها تحولات مماثلة في عقل الفلاح المصري وتطلعاته.

فمثلاً في الخمسينات والستينات كان التعليم بالنسبة له هو أسرع السبل نحو الحراك الاجتماعي إلى أعلى.

أما الآن فالهجرة إلى بلد عربي غني بالنفط- وليس التعليم- هي السبيل إلى الصعود.

والغريب أن تقف السينما بمعزل عن هذه التحولات الخطيرة في الريف متفرجة.. تشاهد ولا تشارك.