مئوية كارثة هزت العالم

قبل مائة عام، انطلقت «تايتانيك» من ميناء «سوثهمبتون» بانجلترا صوب نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في أول رحلة لها، وقتها لم يكن ليرد علي البال، أن هذه السفينة العملاقة التي أطلق عليها أصحابها من باب الزهو والتفاخر أنها أضخم كتلة عائمة من صنع الإنسان وغير قابلة للغرق.

ستصطدم بعد بضعة أيام من إبحارها بجبل جليدي عائم، ولن تمض سوي ساعتين علي اصطدامها إلا وتكون حطاما راقدا في قاع المحيط، وركابها وبحارتها يصارعون الموت غرقا،أو تجمدا من انخفاض درجة الحرارة الي ما دون الصفر بكثير.
Titanic

وعن هذه الكارثة الكبري في تاريخ الملاحة البحرية أبدع «چيمس كاميرون» المخرج الكندي ، ذائع الصيت قبل خمسة عشر عاما، فيلما تحت اسم «تايتانيك»، من نوع الإنتاج الضخم يمتد عرضه زهاء 194 دقيقة، وتجاوزت تكاليفه مائتي مليون دولار. وحقق حيثما عرض إيرادات مذهلة حتي جاوزت في مجموعها الألف مليون دولار.

وبفضل نجاحه علي هذا النحو أصبح من الأفلام العلامات في تاريخ السينما الأمريكية، مثله في ذلك مثل «ميلاد أمة» لصاحبه المخرج «داڤيد جريفيث» و«ذهب مع الريح» لصاحبه المخرج «ڤيكتور فلمنج». وكما فاز الفيلم الأخير بالعديد من جوائز الأوسكار، قبل سبعين عاما، أو يزيد فاز «تايتانيك» هو الآخر بالعديد منها، خاصة جائزتي أوسكار أفضل فيلم ومخرج «كاميرون» 1998 وسيناريو «تايتانيك» من تأليف مخرج الفيلم أي «كاميرون»، وهو سيناريو محكم البناء، يقوم علي خيطين أساسيين،أحدهما غرق السفينة بمن فيها ومن عليها، والآخر قصة حب بين فتي فقير من ركاب الدرجة الثالثة، «چاك» ويؤدي دوره «ليوناردو دي كابريو» وفتاة من الطبقة الراقية «روز» وتؤدي دورها «كيت وينسلت»، ويقف عقبة كأداء أمام حبهما أن «روز» مخطوبة لرجل واسع الثراء، يصطحبها إلي الولايات المتحدة، هي وأمها، حيث يتم الزفاف في فيلادلفيا وتتشابك قصة الكارثة مع قصة الحب، خاصة والسفينة تلفظ أنفاسها الأخيرة لتستقر في قاع المحيط، وقد أصبحت حطاما والمدهش في الفيلم أن مخرجه قد عني بالتفاصيل أشد عناية وكان متئدا، رزينا، لم يجنح الي الاستثارة أو التهريج، وبفضل تحريكه لهما صعد «دي كابريو» و«وينسلت» الي مصاف النجوم، ولم تمر سوي بضعة أعوام إلا وكانت «وينسلت» فائزة بجائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن أدائها في فيلم «القارئ».

وبعد «تايتانيك» لم يخرج «كاميرون» سوي فيلم واحد «اڤاتار» الذي حقق بدوره إيرادات، فاقت كل التوقعات، كما فتح الباب للأفلام ثلاثية الأبعاد، وقد جري ترشيحه للعديد من جوائز أوسكار أذكر من بينها جائزتي أوسكار أفضل فيلم ومخرج، وكان المنافس الرئيسي لفيلمه «اڤاتار» فيلما لزوجته السابقة «كاترين بيجلو» اسمه «مخزن الأيلام»، ولدهشة الكثير خرجت هي وفيلمها من مضمار المنافسة، فائزتين بجائزتي أفضل فيلم ومخرج وكانت، بهذا الفوز أول مخرجة في تاريخ الأوسكار تتوج بجائزة أفضل مخرج.

يبقي لي أن أول إنه بمناسبة مئوية مأساة «تايتانيك»، عاد «كاميرون» بفيلمه عن تلك المأساة، ليعرضه في نسخة ثلاثية الأبعاد،وفي عرض خاص للفيلم في نسخته تلك، لاحظت أن رقابتنا الساهرة علي حمايتنا من أنفسنا حذفت من الفيلم مثلما فعلت قبل أربعة عشر عاما، مشهد رسم «چاك» لحبيبته «روز» وهي عارية، وعكس ذلك تماما، مكان موقف الرقابة في الهند.

فحسبما أذيع في وسائل الإعلام صححت الرقابة الهندية موقفها من ذلك المشهد، فلم تحذفه كما فعل من قبل، بل أبقت عليه، ليعرض الفيلم لأول مرة كاملا، لم يمسسه مقص الرقيب، ولعل رقابتنا، تتعظ فتكون علي شيء من الشجاعة، وتعيد إلي الفيلم ما حذف منه دون وجه حق!

(يحيا زاباتا (وكيف يشوه تاريخ الأبطال

قبل ستين عاما بالتمام، بهرت استوديوهات فوكس بهوليوود العالم بفيلم عن سيرة الثائر المكسيكي «ايمليانو زاباتا»، أخرجه «ايليا كازان» عن سيناريو للأديب الأمريكي «جون شتاينبك» الحاصل علي جائزة نوبل للآداب، تحت اسم «يحيا زاباتا» (1952).
Viva_Zapata!

ولقد تصادف عرضه عندنا في مصر، ولما لم يكن قد مضي علي ما سمي بثورة الضباط الأحرار، سوي بضعة شهور.

هذا، ولم يواكب عرضه أي استهجان، بالعكس قوبل بالإشادة والاستحسان.

ومما ساعد علي ذلك شهرة الأسماء المشاركة في إبداعه، لا سيما النجم «مارلون براندو» والأديب «شتاينبك» والمخرج «الياكازان» فوقتها كان كل واحد من ذلك الثلاثي. نجما في مجاله يجري اسمه علي كل لسان.

غير أن أقوي الدوافع التي جعلت كل من شاهد الفيلم مستحسنا له، لا مستهجنا.

الاعتقاد بأنه فيلم متعاطف مع الثورة المكسيكية بقيادة «زاباتا».

ولكن تحليل الفيلم، بعمق، يكشف عن فساد هذا الاعتقاد.

ومرد ذلك إلي اختلال في الموازين سببه الجهل بتاريخ الثورة المكسيكية والأخطر الجهل بما كان يجري في أروقة الكونجرس من نشاطات معادية للحريات، أرهبت أسماء لامعة في هوليوود.

فأخذت تتهاوي، ملطخة بأوحال التنظير الزائف، والتبرير المتهافت لما اقترفت من خيانات، في حق من وثقوا بها أيام النضال ضد الفاشية، وذلك قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، واثنائها، خاصة بعد عدوان اليابان.

وكان علي رأس قائمة تلك الأسماء المتهاوية اسم «الياكازان».

ومن هنا، قيامه بتحريف تاريخ الثورة المكسيكية بقيادة زاباتا، مع سبق الإصرار وبداية آثار تحريفه لها غضب الشعب المكسيكي.

فكان أن ضغط علي حكومته، حتي اضطرها إلي إصدار قرار بمنع عرض الفيلم.

ولكنها سرعان ما تراجعت عن قرارها، تحت ضغط وزارة خارجية جارها الشمالي القوي بالسلاح والمال.

والآن إلي تحريف «كازان».

جوهر حياة «زاباتا» فيما كتبه فرانك تانينباوم الباحث المتخصص في الثورة المكسيكية.

ومن المؤكد أن مؤلفاته كانت تحت نظر كل من «كازان» و«شتانبيك»، وهما يعدان المادة العلمية للفيلم.

فماذا كتب «فرانك» عن ذلك الثائر المكسيكي كان من بين ما كتبه أنه من يوم أن ثار، وحتي يوم ان لقي مصرعه، أبدا لم يستسلم، أبدا لم يهزم، أبدا لم يتوقف، ولو لحظة عن القتال.

غير ان «زاباتا» في فيلم «كازان» إنسان آخر.

رجل مستسلم، في لحظة النصر نراه إنسانا زاهدا في السلطة.

يغادر العاصمة، عائدا إلي قريته، حيث يلقي مصرعه بأيدي أعداء الثورة.

ولقد أكد «كازان» ذلك في رسالته إلي مجلة «ساتيرداي ريڤيو» المؤرخة 5 من إبريل 1952، حيث ضمنها تجربته مع «شتاينبك» و«داريل – ف. زانوك» رئيس فوكس للقرن العشرين، أثناء الإعداد للفيلم، مشيرا فيها إلي التوترات السياسية التي صاحبتها، وكيفية التغلب عليها علي الوجه الآتي «فعل درامي واحدمن سيرة زاباتا» هو الذي بهرنا، ذلك الفعل هو عدم خضوعه لإغراء السلطة، لحظة النصر.

كان في وسعه، وهو في العاصمة مع قواته الرثة، ان ينصب نفسه في تلك اللحظة، رئيسا ديكتاتورا، زعيما، إلا أنه آثر فجأة ودون تفسير، ان يمتطي جواده، ليعود به إلي قريته.

وهنا شعرنا ان ذلك النكران للذات، هو نقطة الذروة في حكايتنا، والمفتاح لفهم شخصيته «زاباتا».

والحق، أن القول بنكران «زاباتا» للذات وزهده في السلطة، لا يعدون ان يكون مجرد اختلاق فإسراعه بمغادرة العاصمة، لا هو بالسر المستعصي علي الفهم والتفسير، ولا هو بالأمر المتصل بنكران الذات، حسب زعم «كازان».

فالثابت، وهو ما أكده المؤرخ «كارلتون بيلز» في رسالة إلي المجلة المذكورة، فند فيها تحريف «كازان» للتاريخ، ان «زاباتا» غادر العاصمة بسبب قوة الحشود العسكرية الزاحفة عليها، يؤازرها جبروت الولايات المتحدة التي هددت «زاباتا» بالتدخل عسكريا.

ومما جاء في تلك الرسالة ان «زاباتا» لم يخن اتباعه الثوار، فهو لم يغادر العاصمة إلا لأنها كانت علي وشك ان تصبح مصيدة، تحاصرها جيوش قوية، متفوقة بنسبة عشرة إلي واحد علي قوات الثوار.

وعند مغادرته القصر الوطني لآخر مرة، كانت أصوات الرشاشات والمدفعية، تهز مدينة المكسيك.

وهنا يثور سؤال، ما الذي حدا بكازان ومعه «شتاينبك» و«زانوك» إلي تحريف تاريخ «زاباتا» بالتشويه علي الوجه سالف البيان.

لعل خير جواب يكمن فيما جاء علي لسان كازان، وهو في مجال التبرير لذلك التحريف وينحصر فيما يلي:

في لحظة حسم، لابد ان ذلك القائد الصامت، غير المتعلم، قد شعر في قرارة نفسه بتأثير قوة القانون القديم.. السلطة مفسدة ومن هنا عزوفه عنها».

وكأن «كازان» يريد بذلك ان يقول ان أي قائد نزيه عليه ان يفرض عباءة السلطة، لأنه ان قبلها، فلا نجاة له من الفساد.

ولما كان أي صراع من أجل حقوق الإنسان، يطرح ضمنا، وبالضرورة، شكل السلطة، فالقول بوجوب اعتزال السلطة، مخافة الفساد، وتجنبا له، مؤداه ألا يتحقق أبدا أعز أماني الشعوب بالثورات، لانه يعني الاستبعاد نهائيا لأية قدرة علي أي توظيف عقلاني للسلطة، من أجل تحقيق أهداف الثورة، بوسائل ديموقراطية تحمي المواطنين من الطغيان.

من حصان الطين.. إلي حصان الحرب

يعتبر «حصان الطين» لصاحبته المخرجة «عطيات الأبنودي» واحداً من أكثر الأفلام التسجيلية المصرية شهرة وتعبيراً عن واقع مر يعيشه الإنسان والحيوان علي حد سواء.

عرضت فيه المخرجة لاستغلال الصغار والحصان في صناعة الفخار، استغلالاً وحشياً، كنت أعتقد أنه ليس له نظير، إلي أن شاهدت قبل بضعة أيام فيلم «حصان الحرب» لصاحبه «ستيفن سبيلبرج» المخرج الأمريكي ذائع الصيت.. ففيلمه هذا وقد كان واحداً من أفلام تسعة روائية طويلة جري ترشيحها لجائزة أوسكار أفضل فيلم، انعقدت بطولته بدءاً من أولي لقطاته وحتي مشهد الختام، لا لواحد من بني الإنسان وإنما الحصان.
war-horse

فكم من عذابات أشبه بعذابات الجحيم مرت بالبطل – أي الحصان – خاصة أثناء الحرب العالمية الأولي، عندما جري تجنيده مثل بني الإنسان ليكون وقوداً لنيران حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

وهي عذابات – والحق يقال – مقارنة بها تهون العذابات التي مرت بحصان الطيل، وفيلم «سبيلبرج» مأخوذ عن قصة للأطفال من تأليف الأديب «مايكيل موريبو» تبدأ أحداثها قبل نشوب الحرب العالمية الأولي بقليل وتنتهي مع انتهاء تلك الحرب الضروس.

وفي القصة الحصان واسمه «جووي» هو الراوي لما حدث له، بدءاً من مولده في أول مشاهد الفيلم وسط المروج الخضراء، وحتي مشهد الختام.. ولكن سبيلبرج عرض لملحمة «جووي» لا بروايتها بلسانه، وإنما بأسلوب السرد التقليدي في غالب الأفلام.. فسيناريو الفيلم يحكي علاقة حميمية نشأت في إنجلترا عام 1914 بين فتي ريفي ابن مزارع متوسط الحال اسمه «ألبرت» ويؤدي دوره ممثل ناشئ «جيريمي إيرفين».. ولقد وقع اختيار سبيلبرج عليه من بين كثير لأداء الدور لأن وجهه ينطق بالبراءة.

أما كيف نشأت العلاقة بين الفتي والحصان حتي انتهت إلي تبادلهما حباً بحب، فذلك لأن «ألبرت» رأي الحصان، وهو يخرج إلي الدنيا مولوداً صغيراً ضعيفاً.. ثم سرعان ما يهب واقفاً علي أرجله الأربعة مواجهاً الحياة بجوار أمه.. وبعد ذلك تابع حياته، وهو ينمو حتي أصبح جواداً رهواناً.

ويأخذه أصحابه إلي سوق القرية، حيث كان ثمة مزاد لبيع الجياد، ويشتريه أبو «ألبرت» ويؤدي دوره الممثل القدير «بيتر بولان» بثمن باهظ يثير غضب زوجته «أم ألبرت» وتؤدي دورها الممثلة البارعة «أميلي واتسن».. وحفاظاً علي الحصان، حتي لا يتخلص منه أبوه، بناء علي إلحاح أمه، يتعهد الفتي بأن يقوم بمهمة ترويض الحصان، بحيث يكون صالحاً لحرث الأرض، وما شابه ذلك من مهام، لا يستطيعها سوي خيول الحقول و«جووي» ليس واحداً منها.. وبفضل العلاقة الحميمية بين الاثنين الفتي والحصان يتحقق المراد.

ومع اشتعال نيران الحرب العالمية وإصابة الأب بضائقة مالية اضطرته إلي بيع الحصان إلي الجيش البريطاني بثمن بخس.. وبدءاً من بيعه هذا يبدأ فصل مليء بالأهوال في حياة الحصان.. ولن أحكي تفاصيل المعارك التي خاضها الحصان ولا كيف بالصدفة نجا منها.. فذلك شيء يطول مكتفياً بأن أقول بأن سبيلبرج تعهد بأنه قد عني بتفاصيل المعارك أشد عناية، بجيث جعلنا نشعر بأننا نشاهد معارك حقيقية، مثلما شعرنا عند مشاهدة رائعته «إنقاذ الجندي ريان» عن الحرب العالمية الثانية الفائز عنها بجائزة أوسكار أفضل مخرج.