الزيارة الأخيرة لعاصمة السينما.. رسالة باريس

باريس مدينتي المفضلة، لا لأنها واحدة من أجمل مدن العالم. وإنما لأنها وبحق، عاصمة السينما. لا تنافسها في هذا اللقب مدينة أخرى، بما في ذلك لوس انجلوس، حيث هوليوود، صانعة النجوم والأحلام وباريس عاصمة السينما عن جدارة، فهي تنفرد، دون جميع المدن الأخرى بعرض ثلاثمائة فيلم أو يزيد، على مدار الأسبوع الواحد، وبست عشرة مكتبة سينمائية، لو دخلت إحداها لوجدت نفسك في كون، فيه من كل فن ولون.

شارع المتعة

وليس مغالياً إذا ما جنحت إلى القول بأنه لا يوجد شارع يضارع الشانزليزيه في عدد دور السينما. فهذا الشارع الرائع يبدأ شرقاً من متحف اللوفر، ويعتبر في نظر البعض أعظم محور مدائني في العالم، لامتداده في خط مستقيم من قوس النصر (الكاروسيل) المشيد قبل قرنين إلا أربعة أعوام، تكريماً لانتصارات الغازي بونابرت، مروراً بحدائق التوليري، حتى ميدان الكونكورد، حيث مسلة الفراعيين فميدان شارل ديجول (أتوال)، حيث قوس النصر الشهير. ومنه، ولبضعة أميال، تحت مسمين آخرين (لاجراند آرمي) أي الجيش العظيم وشارل ديجول، يمتد الشانزليزيه حتى قوس الدفاع.
ووقوفي طويلاً عند هذا الشارع الفريد، إنما يرجع إلى أنه مزدان بواحدة وستين دار سينما، وهو عدد يفوق بكثير عددها في قاهرة مصر أم الدنيا. وعكس الحال عندنا، تعرض جميع الأفلام بطول وعرض فرنسا، دون رقيب، احتراماً لحرية التعبير.

علم قليل

ومن هنا اختياري مدينة النور، وشارعها ذا الواحد والستين دار سينما، ليكونا قبلتي، ازورهما من حين لآخر، كي استزيد وارتوي من فن لم نؤت من علمه إلا قليلاً.

ولقد كانت آخر زيارة أقوم بها لهذه المدينة قبل ثلاث سنوات، وبالتحديد قبل بضعة أسابيع من الحادي عشر من سبتمبر، ذلك اليوم البغيض، الذي جرى أثناءه تدمير برجي مانهاتان.

ومنذ هذا العدوان، وحتى يوم سفري إلى باريس قبل شهر بالتمام، وقعت أحداث كثيرة، آخرها بدء موسم الصيف السينمائي عندنا بأفلام قوامها إما محاكاة الأفلام الأمريكية دون حياء أو التهريج الرخيص.

الموت والمعاناة

وخبر فاجع طيرته وكالات الأنباء، مفاده أن النجم “مارلون براندو” قد جاءه الموت، وهو على مشارف الثمانين وشاءت لي الأقدار أن أجدني في مدينة النور، وشارعها الفريد، بعد سته أيام من إعلان وفاة النجم الكبير. وبعد بضع ساعات من معاناة مشاهدة فيلمين هما “تيتو” و”خالتي فرنسا”.
ولأن مدة اقامتي في عاصمة السينما لم تزد على سبعة أيام. فقد اكتفيت، لضيق الوقت بمشاهدة ثلاثة أفلام. أولها “فهرنهايت 11/9″، فيلم “مايكل مور” الفائز بالجائزة الكبرى “السعفة الذهبية” في مهرجان كان الأخير.

وثانيها “التربية السيئة” الفيلم الذي افتتح به ذلك المهرجان، وصاحبه “بدرو المودوفار” المخرج الأسباني ذائع الصيت.

وثالثها “لا تقولي شيئاً” لصاحبته المخرجة الأسبانية “ايسيار بولان” والفائز بست جوائز جويا، المقابل الأسباني لجوائز أوسكار.

كشف المستور

وأهم ما استفدته من مشاهدة الأفلام الثلاثة هو كشف المستور في بضعة أمور، أذكر من بينها فساد التحكيم في مهرجان كان، عمق أزمة حرية التعبير في بر مصر، وزيف سينما المرأة عندنا، خاصة سينما “ايناس الدغيدي” ومن سرن على دربها من السينمائيات المصريات.

وأقف قليلاً عند فساد التحكيم في المهرجان الكبير، لأقول أن رئيس لجنة التحكيم في هذا المهرجان كان المخرج الأمريكي “كوينتين تارانتينو” صاحب “اقتل بيل” وأفلام أخرى تسيل فيها الدماء أنهاراً.

أدلة الاتهام

ومما استرعى انتباهي، أثناء مشاهدة “فهرنهايت” أن ثمة ملصق دعاية لـ”اقتل بيل” داخل الفيلم مرت عليه كاميرا المخرج “مور” بحيث تبدو وكأنها تمر مروراً عابراً، لا يستهدف الدعاية له.

وأن الأخوين “واينشتين” مؤسسي شركة “ميراماكس” السينمائية، هما موزعا “فهرنهايت” بعد امتناع استوديوهات “ديزني” عن توزيعه، لانطوائه علي دعاية انتخابية غوغائية. ويبين من عناوين “اقتل بيل” جزء أول وثان أنهما مشاركان في انتاجه.

والسؤال: كيف بقى “تارانتينو” رغم كل هذا رئيساً للجنه التحكيم؟

فساد الأمكنة

ولماذا لم يتنح عن الرئاسة، بعدئذ تبين أن بين الأفلام المتسابقة فيلم “فهرنهايت” وأنه توزيع منتجي فيلمه “اقتل بيل”. ولماذا لم يرده أحد، بل بالعكس أتيحت له فرصة البقاء، حتى يستطيع تتويج “فهرنهايت” بسعفة مهرجان كان. ولعل أقل ما يقال في كل هذا أن ثمة فساداً وصل إلى نخاع ذلك المهرجان!!

فيلم أم درس في النشل والردح والاحتيال؟

هناك أفلام ما إن نخرج من القاعة المظلمة إلى الشارع المزدحم، حتى تختفي تماماً من شاشة ذاكرتنا، فلا نجد منها شيئا.

وأغلب الظن أن “خالتي فرنسا” من ذلك النوع من الأفلام، وما أكثرها في هذه الأيام.

ويكفي لتأكيد ذلك أن صاحبيه المخرج “علي رجب” وكاتب السيناريو “بلال فضل” هما صاحبا “صايع بحر”، ذلك الفيلم السابقة، الخادش للحياء، والبعيد كل البعد عن واقع حياتنا وتقاليدنا.

ففيلمهما الثاني معاً “خالتي فرنسا” لا يقل عن “صايع بحر” سوءاً.

باسم المعذبين في الأرض

فجيمع أبطاله صيع، يزعم صاحب السيناريو أنهم من فئة المهمشين المعذبين في أرض مصر.

ومن بين أبطاله، تنفرد الشخصيات النسائية، خاصة “خالتي فرنسا” وابنة أختها “بطة” بالأدوار الرئيسية.

و”بطة” وخالتها فرنسا ليس لهما عمل في الفيلم سوى النشل، وعند الارتقاء، الردح أو الشرشحة حسب تعبير (منى ذكي) في حديث أدلت به من منطلق الدعاية للفيلم، إلى جريدة قومية، ذات جلال في كل العهود.

حكايات شاذة

وحكاية “بطة” مع خالتها فرنسا (عبلة كامل) يرويها صوت (منى ذكي) أثناء ظهور العناوين.

وتبدأ الحكاية كما جاءت في الرواية ببطة وهي مجرد نطفة في رحم أمها، ليلة دخلتها، وكيف عكرت صفو الليلة، خالتها فرنسا.

وسرعان ما تنتقل “بطة” بحكيها إلى أتوبيس حيث ولدتها أمها، بعد حمل لم يدم سوى سبعة شهور.

ثم إلى أوتوبيس آخر، حيث يجري ضبط أمها وأبيها متلبسين بالشروع في نشل أحد الركاب.

وأثناء وجودهما في السجن، حيث مكثا عشر سنوات، تكفلت بتربية “بطة” أو بمعنى أصح أساءت تربيتها، خالتها فرنسا. وما أن تم الإفراج عنهما حتى حملت الأم.

حادث أليم

ومرة أخرى ولدت في الأوتوبيس بنت ثانية اسمها “وزة” ولأن والدي “بطة” وأختها “وزة” قد جاءهما الموت في حادث أليم أثناء عودتهما من الأراضي المقدسة، بعد أداء فريضة الحج والقيام بعلمية نشل لحجاج البيت الحرام، توجت بنجاح كبير.

فقد تولت “الخالة فرنسا” أمر تعليم الأختين اليتيمتين النشل والردح، حتى وصل تفوقهما في المهنتين إلى درجة من الاعجاز، قل أن يكون لها مثيل.

ومع انتهاء “بطة” من حكيها لتاريخها مع عائلتها في البدايات، حاول صاحبا الفيلم “بلال” و”رجب” أن يدغدغا حواسنا بحدوتة تافهة، فيها من ألوان الردح والسباب الشيء الكثير.

خلاف عائلي

وحتى يشدا أعصابنا، ويعلقا عيوننا ببياض الشاشة وسوادها، افتعلا صراعاً بين “بطة” وخالتها فرنسا.

“فبطة” تريد لأختها الصغيرة “وزة” أن تتعلم لأن العلم نور، ويبتعد بها عن طريق الإجرام وتريد لنفسها حياة قوامها العمل وكسب العيش الشريف بعرق الجبين.

ولكن الخالة فرنسا تأبى ذلك بإصرار وعناد كعناد البغال.

أمن مصر

كما افتعل صاحبا الفيلم صراعاً آخر بين قوتين إحداهما شريرة متمثلة في عصابة تهرب المخدرات إلى بر مصر، تحت زعامة رجل أعمال، واسع الثراء (سامي العدل)، والأخرى خيرة متمثلة في ضابط شرطة همام، لا هدف له سوى انقاذ البلاد والعباد من خطر المخدرات.

ولأمر ما، وقع اختيار الضابط على “بطة” لتكون شغالة جاسوسة مدسوسة في قصر “العدل” المنيف.

فتى الأحلام

وكما في حكاية سندريلا تلتقي “بطة” بفتى الأحلام (عمر واكد) فيقع في حبها، وتبادله حباً بحب.

وطبعاً ينتهي كل هذا الهراء بانقاذ البلاد من خطر المخدرات، وبزواج “بطة” من حبيب قلبها ابن الأكابر في فرح ولا كل الأفراح.

وتودع هي وأختها “وزة” وخالتها فرنسا دنيا النشل والردح والاحتيال!!