سينما في حالة انحسار وانكسار وأخرى فى حالة تألق وإزدهار

حديث السينما في ربوع مصر هذه الأيام لا يدور إلا حول الافلام التى نجح اصحابها فى أن يحجزوا لها مكانا فى دور السينما، اثناء ايام العيد الكبير واولاها “الفيل الأبيض” للمخرج “مروان حامد”
ثم “عش البلبل” وللتعريف به، يكفى أن أذكر أن بطليه، هما النجمان “سعد الصغير” و “دينا” وأخيرا ففيلم “هاتولى راجل” للمخرج “محمد شاكر” هذا ويبقى فى دور السينما، من بين افلام “عيد الفطر” ، “قلب الأسد” ذلك الفيلم الذى هزم وحده، جميع الافلام المتنافسة معه على فلوس الشباك، محققا، ويا للعجب ايرادات فاقت ما حققته تلك الافلام مجتمعه، وبفارق كبير وواضح من اسماء هذه الأفلام المبشرة بالفوز بايام العيد الكبير وغيرها من افلام تنتظر دورها فى طابور يانصيب ذلك العيد، مثل “رغم انفه” و “القشاش” و “الجرسوفييرة” انها فى مجموعها افلاما، غير جادة، لا تقول شيئا جديدا، مفيدا لفن صناعة الاطياف.
QalbAlAssad هذا عن السينما المصرية، واحوالها غير المشجعة، فى المستقبل القريب
اما عن احوال السينما خارج البلاد، وبخاصة فى اوروبا، اقرب القارات الينا فاكثر الحديث فى وسائل الإعلام الجماهيرية بها، إنما يدور حول فيلمين لمخرجين كبيرين، احدهما “ديانا” لصاحبه المخرج الالمانى “اوليفرهيرشبيجل” السابق له، قبل تسعة أعوام أخراج “السقوط” عن أيام هتلر الاخيرة قبل انتحاره، هو وعشيقته “ايفابراون” فى مخبئه ببرلين.
والمانيا النازية فى النزع الأخير، على وشك الاستسلام، بلا قيد أو شرط، لجيوش الحلفاء اما الفيلم الآخر “فليخ فاونسا” للمخرج البولندى المخضرم “اندريه فايدا” صاحب العديد من الروائع السينمائية، التى تعد والحق يقال من العلامات البارزة فى تاريخ الفن السابع.
ومن بينها أخص بالذكر رائعته “دانتون” (1983) وكلا الفيلمين “ديانا” و “فاونسا” من نوع أفلام السيرة فالاول يتناول جانبا من سيرة الاميرة الانجليزية “ديانا” وتحديدا السنة الاخيرة منها قبل أن يجيئها الموت، فى حادث سيارة بمدينة باريس (31 أغسطس 1997) والثانى هو الآخر يتناول السنوات الاخيرة من سيرة “ليخ فاونسا” بدءا من انشائه حركة “تضامن” وسط عمال الميناء فى مدينة “جدانسك” المطلة على بحر البلطيق التى أخذت فى الانتشار على نحو ادى فى نهاية الأمر إلى سقوط النظام، وفوزه فى انتخابات حرة، نزيهة برئاسة “بولندا” متحررة من الاحتلال الروسي، وغيره من اشكال الاستبداد ولان فيلم “ديانا” لم تتح له فرصة العرض العام إلا فى لندن حيث قوبل بالسنة حداد، من قبل جمهرة النقاد.
diana والفيلم الثاني، هو الآخر لن تتاح له فرصة العرض العام إلا فى الخريف بعد بضعة أسابيع .
فلن يكون فى وسعى والحالة هذه الحديث عن كليهما لاسلبا ولا ايجابا.
وفى هذا السياق قد يكون من المفيد الحديث ولو قليلا عن “دانتون” رائعة المخرج البولند “فايدا” فدانتون” ثائر مثله فى ذلك مثل “فاونسا” ولكن مع نهاية غير سعيدة، عندما وجد نفسه ذاهبا، مع نفر من رفاقه، إلى الجيلوتين، حيث فصلت رأسه عن بقية جسمه، وبئس المصير.

WALESA676_980 اما كيف ولماذا وصل الصراع داخل صفوف الثوار المنادين بالحرية والمساواة والإخاء إلى تلك النهاية الفاجعةأن يعدم واحد من ابرز زعمائها “دانتون” بمقصلة الجيلوتين، فى ميدان الثورة “الكونكورد” حاليا، فذلك ما يحكيه سيناريو الحكم البناء.
بفضله نرى اتساع هوة الخلاف، بين معسكر المتشددين تحت قيدة “ماكسميلنان روبيسبير” ومعسكر المعتدلين تحت قيادة “جورج دانتون” وكالمعتاد اثناء سنوات الثورة الفرنسية كان الصراع وينتهى بغلبة معسكر المتشددين، وقطع رقاب المعتدلين بالجيلوتين ولا يفوتنى هنا، أن أذكر أن من تقمص شخصية “دانتون” فى الفيلم هو الممثل الفرنسى الاشهر “جيراديبارديو” وكم كان متفوقا الى حد كاد يصل بتقمصه الى حد الكمال.

لبنان فوق‭ ‬بركان

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت زهاء عشرين سنة، كغيرها من الحروب التى يقتتل فيها أبناء الوطن الواحد.
كانت حربا طائفية، وقف عندها التاريخ ليقول فى وصفها قوله الفصل، بأنها أقذر حرب أهلية ابتلى بها وطن من الأوطان.
خرج من اتونها لبنان الشقيق، مثخنا بالجراح، مبتليا بميليشيات حزب الله، التى لا تدين بالولاء إلا لملالى ايراني.
وفوق هذا، باحتلال سورى لأرضه، زاد من الاحتقان الطائفي، على نحو يهييء الظروف، لا محالة، لحرب أهلية ثانية، ربما أكثر شراسة وسفكا للدماء.
أهوالها لن تقف عند حد قتل المسيحى للمسلم، أو العكس، لمجرد الهوية، كما كان عليه الحال فى الحرب الأهلية الأولي، بل ستتحول الى اقتتال بين المسلم وأخيه المسلم، لمجرد أن أحدهما سني، والآخر شيعي، بحيث يغرق لبنان، فى مستنقعات تعصب ديني، لا أول له، ولا آخر، وتفتت اجتماعي، غير مسبوق.
فضلا عن شيوخ السلاح، وفوضى عارمة، وبغضاء، لا تقيم وزنا لحياة كل مختلف فى الرأى والدين.
وعن كل هذه الأحوال التى قاسى منها لبنان ابان سنوات الحرب الأهلية الأولي. أبدع “دينيس فيلنيف”، وهو مخرج كندي، منحدر من أصل فرنسي، فيلما مستوحى من مسرحية شعرية للأديب اللبنانى “وجدى موواد”، حكى فيها مأساة الفتنة الطائفية، وكيف كادت عاصفتها المميتة، أن تفقد الشعب الوعى بضرورة المواطن، بحيث غدا جاهلا بمغزاها، تائها فى ظلمات الطائفية، مسكونا بكراهية الآخر، لمجرد أنه مختلف عنه، دينا، أو عنصرا، أو اسلوبا فى ممارسة الحياة.
والفيلم، واسمه “حرائق”، لا يقول صراحة أن أحداثه الفاجعة مكانها لبنان.

incendies ومع ذلك، نخرج منه، ونحن على يقين، ان لبنان، وليس بلدا آخر، هو مكان الفواجع التى كادت تحطم بطلة الفيلم “نوال مروان”- وتؤدى دورها “لبنى عزابال” – التى سبق لنا مشاهدتها فى الفيلم الفلسطينى الرائع “الجنة الآن”.
وأحداث الفيلم تبدأ – بعد مشهد رعوى لنخيل فى جو صحراوي، وبضع لقطات لصبية.
فى مكتب محام بمدينة “مونتريال”، حيث كانت تعمل “نوال” الى أن جاءها الموت، مخلفة وراءها رسالتين احداهما الى الابنة “جان”، ومنها الى أبيها الذى لم تكن تعرف، لا هي، ولا شقيقها التوأم “سيمون”، انه لا يزال حيا.
والأخرى الى الابن، ومنه الى أخ، لم يكن، لا هو، ولا شقيقته، يعرف بأن له وجودا.
وبدءا من استلام الرسالة، وتنفيذا منها لوصية الأم، تبدأ “جان” رحلة البحث عن أبيها، فى بلد عربى “لبنان”، وبعدها بقليل، يبدأ “سيمون”، هو الآخر، رحلة البحث عن أخيه.
ومن خلال رحلتى الاثنين: كلا فى طريق، نكتشف، وبخاصة مع “جان” أن أمها “نوال” ولدت مسيحية، ووقعت فى حب لاجيء فلسطينى مسلم.
ولأن حبها هذا، كان فى ذلك الزمن حالك السواد، حبا مستحيلا، انتهى بها الأمر، هاربة فى رحلة عذاب، بعد مقتل حبيبها، أمام عينيها، برصاصة، انطلقت من غدارة أحد أشقائها وأثناء رحلتها هذه، ذاقت ألوانا من العذاب، يشيب من هولها الولدان.
فالناس، من حولها، الذين لم يكن من طبيعتهم العدوان، تحولوا الى مجرمين، يمارسون القتل فى كلا الجانبين، المسيحى والمسلم باسم السماء.
وعندما حصد الموت آلاف الأرواح البريئة، استغنوا عن مساندة السماء، مستمرين فى ذبح الأبرياء، استجابة لنداء الثأر، والانتقام.
ولن أحكى كيف توصل التوأم “جان” و”سيمون” الى الالتقاء، هى بالأب، وهو بالأخ، فذلك شيء يطول، مكتفيا بأن أقول، بأن المفاجآت التى صادفها الاثنان، أثناء رحلتيهما، كشفت النقاب، عما ارتكب ابان الحرب الأهلية من جرائم، يندى لها الجبين.
يبقى لى أن أقول أن “حرائق” كان أحد أفلام خمسة، غير متكلمة باللغة الانجليزية، جرى ترشيحها لأوسكار أفضل فيلم أجنبى (2011).
وحتى يومنا هذا، لم تتح له فرصة العرض العام، لا فى دور السينما العادية، ولا ضمن عروض أى نادى سينما، ولا أى مهرجان من تلك المهرجانات المنتشرة فى ربوع مصر دون أن يحقق أى منها، ما علق عليه من آمال!!

محرقة كتب في ريف مصر

كم كان أمر فاجعا، عندما جاءني خبر قيام نفر همجى من قوى الظلام بالانتقام من فكر الكاتب الصحفى اللامع محمد حسنين هيكل، وذلك بحرق مكتبته فى بيته الريفي، بعد نهب نفائس محتوياتها، على نحو كان، لابد أن يعيد الى شاشة ذاكرتنا افعال قطعان النازية فى المانيا الهتلرية، ابان ثلاثينات القرن العشرين، حيث كانت تجمع الكتب الموجهة الى مؤلفيها سهام العنصرية المقيته، فى أكوام، تشعل فيها النيران، حتى تأتى على الكتب المتهمة، فتصبح رمادا وذلك الخطر الخطير الذى يتهدد الكتب بالحرق، لم تنطوى عليه من أفكار يحمل لها الهمج من العداء الشئ الكثير لم تقف أمامه الإنسانية مكتوفة الايدي، بل كانت تقاومه بلا هوادةومما هو جدير بالذكر هنا، أنه ومع اندحار النازية، وحليفتهما الفاشية، أنحسر الخطر، بل كاد أن يكون فى خبر كان غير أنه سرعان ما أن عاد الاحساس بأن الخطر لا يزال قائما، محدقا بالكتاب والفضل فى عودة ذلك الاحساس بالخطر، إنما يرجع الى قصة بقلم “راى برادبري” الاديب الامريكى ذائع الصيت، فى ذلك النوع من الادب الذى يطلق عليه أدب الخيال العلمي.
وقصته هذه اسمها “فهرنهايت 451”
ولقد لاقت رواجا كبيرا، لانها كانت من اوائل الأعمال الادبية التى نبهت الى خطر عودة محرقة الكتب، ولكن بصورة أكثر مكرا ودهاء
فهم الآن يعملون على التخلص من الكلمة المقروءة، بإحلال الصورة والصوت محلها، حتى يجئ اليوم الذى تصبح فيه الكلمة المقروءة فى كتاب، أو فى غير ذلك من وسائل الاتصال، من الممنوعات التى تحظر القوانين حيازتها، وتعاقب أى مخالف للخطر عقابا شديدا وفى ظل هذه القوانين ومع مرور الايام يصبح الكتاب مطاردا، وحيثما يتم ضبطه يعدم فورا ويجرى الاعدام بالحرق، مثلما كان يحرق لهراطقة فى القرون الوسطي، حيث كانت الكلمة العليا لمحاكم التفتيش وكعهدنا بأية قصة ناجحة، سرعان ما جرى ترجمة “فاهرنهايت 451” إلى لغة السينما فى فيلم من إخراج “فرانسوا تريفو” أحد رواد الموجة الجديدة الفرنسية وتدور أحداث فيلمه فى مدينة من صنع الخيال، حيث المهمة الاولى والاخيرة المكلف بها رجال الاطفاء، ليست أطفاء الحرائق، وإنما وعلى غير المعتاد، التخلص من الكتب المضبوطة جنائيا، باحراقها حتى تصبح هباء.
Fahrenheit451B والدوران الرئيسيان فى الفيلم، اسندهما المخرج الى الممثل الامريكى اوسكار فيرنر فى دور “مونتاج” عامل احراق الكتب والممثلة البريطانية “جولى كريستي” التى تلعب فى الفيلم دورين أحدهما دور زوجة “مونتاج” الفاقدة الذاكرة والوعي، بحكم ادمانها الجلوس أمام شاشة تلفاز كبير والآخر دور “كلاريس” الفتاة المتمردة، على القوانين الجائرة التى تخطر القراءة، واقتناء الكتب وبفضلها أخذ “مونتاج” يضيق من غيبوبة اللاوعي، حتى انتهى به الامر متمرد، بدوره، معاديا للنظام ومن اللقطات شديدة التأثير فى الفيلم، تلك اللقطات التى تحرق فيها الكتب المضبوطة، بواسطة قوات اشعال الحرائق، وبخاصة لقطة صاحبة المكتبة المليئة بذخائر الكتب الادبية والفلسفية، حيث نراها تختار الموت محروقة مع الكتب، مفضلة بذلك الا تبقى حية، فى عالم بدون كتبها، كل ما فيه حالك السواد وختاما، يظل لى أن أقول أن فيلم “فاهرنهايت 451” رخص له بالعرض العام، فى نادى السينما بالقاهرة وبعد ذلك طواه النسيان!!