رحلة فرنسا وألمانيا.. ثمار صيف حار

كان “مدينة الخطيئة” الفيلم الوحيد الذي شاهدته في باريس أثناء زيارتي الأخيرة لها، وهي زيارة لم تدم سوى أربعة أيام. وكان “السفارة في العمارة” أول فيلم أشاهده في القاهرة بعد عودتي من أوروبا، وحتي الآن لم أشاهد سواه.

وفيما بين هذين الفيلمين “مدينة الخطيئة” و”السفارة في العمارة” شاهدت وأنا مقيم في المانيا العديد من الأفلام بينهما أربعة أفلام أعمال سينمائية، مدار نصفها الحرب العالمية الأولى، ومدار نصفها الآخر الحرب العالمية الثانية، وبالذات الموقعة الفاصلة في تلك الحرب الضروس، موقعة “ستالينجراد”.

جرائم رقابية

ولن أعرض بالتفصيل للفيلمين اللذين يدوران حول الحرب الأولى التي قدم بها العهد، وهما “طرق المجد” (1957) للمخرج الأمريكي الأشهر”ستانلي كوبريك” و”خطوبة طويلة جدا” (2004) فذلك شيء يطول مكتفياً بأن أقول أن “طرق المجد” ظل عرضه العام في فرنسا بلد الحرية والإخاء والمساواة ممنوعاً رقابياً ردحاً طويلاً من الزمن، لا لسبب سوى أنه أظهر الوجه القبيح للعسكرية الفرنسية.

وأن “خطوبه طويلة جداً” قد تعرض هو الآخر لمحنة مماثلة ولكن في مصر المحروسة. ومن الأكيد أنه لن تتاح له فرصة العرض العام في ديارنا، لا في زمن قريب أو بعيد.

أم المعارك

والآن إلى الفيلمين اللذين يدوران وجوداً وعدماً حول “ستالينجراد” أولهما جرى عرضه قبل ثلاثة عشر عاماً، وهو فيلم ألماني اسمه “ستالينجراد” وصاحبه المخرج “جوزيف فيلسماير”.

أما الفيلم الثاني، فقد جرى عرضه قبل أربعة أعوام، تحت اسم “العدو على الأبواب” وصاحبه “چان چاك انو” المخرج الفرنسي ذائع الصيت.

وهو إنتاج مشترك بين ثلاث دول أوروبية، المانيا، بريطانيا، وايرلندا.

ويعتبر أكثر الأفلام الأوروبية تكلفة، إذ صُرف على إنتاجه ستون مليون جنيه استرليني.

أول استسلام

وموضوعه يدور حول صمود مدينة ستالنجراد أمام زحف جحافل الجيش الألماني، ذلك الصمود الذي انتهى بالجيش السادس تحت قيادة الفيلد مارشال “فردريك فون باولوس” محاصراً بدءًا من 23 نوفمبر 1942 حتى الثاني من فبراير 1943، تاريخ استسلامه مع جيشه الذي لم يبق منه سوى واحد وستين ألف جندي وذلك بعد فقده حوالي مائة وخمسين ألف جندي، قبل وأثناء الحصار.

وقود بشري

ولقطات فاتحة الفيلم مذهلة، ففيها نرى ركاب أحد القطارات من المدنيين وهم يؤمرون بمغادرته فوراً حتى تستقله حشود المجندين الذين نراهم يحشرون في عرباته وكأنهم قطعان من الأغنام وما هي إلا ثوان من الزمن السينمائي حتى يساق بهم إلى قوارب تعبر بهم نهر الفولجا في رحلة نحو جحيم ستالينجراد، تحت وابل من القنابل تتساقط عليهم من طائرات الألمان فتحصد أرواحهم، حتى يموج النهر بجثثهم، وبجثث من حاول الهروب من الهلاك، فأردته رصاصات الرفاق، امتثالاً منهم لأوامر صادرة بقتل كل من تسول له نفسه النجاة من موت أكيد في ساحة القتال.

أما المدينة نفسها فقد تحولت بفعل المعارك الشرسة في شوارعها وداخل مبانيها، والقذف المتواصل من مدافع وطائرات الغزاة الألمان إلى بقايا من سقوف وجدران تطل من بعضها فجوات كانت إلى عهد قريب نوافذ أو أبواب.

صراع الأبطال

ولن أحكي تفاصيل كل ما عرض له الفيلم وخاصة الصراع المرير بين القناصين الروسي (ويؤدي دوره النجم “چود لو”) والألماني (ويؤدي دوره النجم “أد هاريس”) وكيف انتهى بمصرع الأخير، فذلك شيء يطول مكتفياً بأن أقول أن عرض الفيلم للمعارك كان يشعرنا بأننا مشاركون فيها، وذلك من فرط الاتقان.

فلا استسهال كما هو الحال في أفلامنا التي عرضت لمعاركنا، ومن بينها أذكرعلي سبيل المثال “بدور” و”الرصاصة لا تزال في جيبي” وإنما دقة بحث وحسن استقصاء وتجويد سعياً إلى الكمال.

وهذا ولا شك من خصال أية سينما جادة تريد أن تقول شيئاً ينفع الناس.

حرب العوالم

هذا الفيلم لا يدور حول عوالم شارع محمد علي أو أي شارع آخر من شوارع مصر المحروسة، كما قد يتبادر إلى الأذهان.

إنه يدور حول عوالم من طبيعة أخرى، كائناتها سدم ونجوم وكواكب، مجال تحركها الفضاء.

وصاحبه “ستيفن سبيلبرج” ذلك المخرج الأمريكي الذي ذاع صيته، بحيث لا يجري استطلاع رأي عن أعظم المخرجين في تاريخ السينما بدءًا من تحرك الصورة قبل أكثر من مائه عام، وحتى يومنا هذا، إلا ويجئ ترتيبه في الصدارة، الأول بجدارة ولا غرابة في هذا، فهو صاحب عدة أفلام، كل واحد منها علامة في تاريخ السينما.

ومن بينها أذكر على سبيل المثال “الفك المفترس”، “لقاءات قريبة من النوع الثالث”، “أي تي” ، “الذكاء الصناعي” و”تقرير الأقلية”.

وهو الفائز مع فيلمه “قائمة شندلر” بجائزتي أوسكار أفضل فيلم وإخراج.

والفائز بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلمه “إنقاذ الجندي ريان”.

وفضلاً عن ذلك، فبعض أفلامه حققت أعلى إيرادات في تاريخ السينما، ومن بينها أذكر “الفك المفترس” وثلاثية “أنديانا جونز” بطولة “هاريسون فورد”.

هذا، ومن بين المزايا التي جعلته فريد نوعه في عالم السينما، أنه يحس عصرنا، يرى صورته الظاهره وأعماقه معاً.

كما أنه يمتلك قدرة فائقة على اكتشاف المواهب، وتحريك الحشود والمجاميع، وإسناد الأدوار المناسبة للممثلين، الكبار منهم والصغار فضلاً عن ابتكار أفكار ووسائل فنية عديدة، فتحت للغة السينما آفاقاً جديدة.

ومعروف أنه بداءً من فيلمه الأول “صراع ” لم ينقطع عن الإخراج.

ومع ذلك فرصيده من الأفلام، خلال أربعة وثلاثين عاماً، ثلاثة وعشرون فيلماً فقط.

واللافت للنظر في رصيده هذا، أن حوالي ربعه من ذلك النوع من الأفلام المسمى بأفلام الخيال العلمي.

و “حرب العوالم” – جمع كلمة عالم بفتح اللام – المعروض في مصر تحت اسم “الغزو الرهيب” من ذلك النوع من الأفلام.

وموضوعه مستوحي من قصة بنفس الاسم (1898) للأديب الإنجليزي “هـ. ج. ويلز” جرى إخراجها أكثر من مرة للراديو والسينما والتليفزيون.

وكعهدنا “بسبيلبرج”، اختار لواحد من أهم الأدوار في الفيلم فتاة صغيرة “داكوتا فاننج” ليس لها من العمر سوى أحد عشر عاماً وعندي أنها تفوقت في الأداء على نجم النجوم “توم كروز”.

فهو، والحق يُقال، لم يكن مقنعاً في أدائه لدور الأب الذي يعمل جاهداً في هذا الفيلم من أجل حماية فلذة كبده من بطش غزاة الفضاء، المتعطشين للدماء.

وصفوة القول أن “سبيلبرج” بفيلمه الأخير لم يخب ظن المعجبين بموهبته الفذة، خاصة في مجال إخرج أفلام الخيال العلمي.

بل أن الفيلم يؤكد أن خبرته التي اكتسبها على مر الأعوام قد صقلت موهبته، وزادتها رصانه وعمقاً.

جريمة في الأمم المتحدة

فيلم “المترجمة” أو “مؤامرة في الأمم المتحدة” الاسم العربي الذي وقع عليه الاختيار، من ذلك النوع الذي أطلق عليه أفلام الإثارة والتشويق.

وعلى كُلٍ، فهو أول فيلم في تاريخ السينما يحصل على ترخيص من أمين عام الأمم المتحدة “كوفي عنان” بتصوير الكثير من أحداثه داخل مبناها الشهير بحي مانهاتن.

الأمين والشقراء

ويقال من بين ما يقال أن من بين الأسباب التي رجحت كفة موافقة الأمين العام، ومعه مجلس الأمن، على تصوير الفيلم داخل المبنى، أن بطلته هي النجمة الاسترالية الشقراء “نيكول كيدمان” الفائزة قبل عامين بجائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن تقمصها، بنجاح، شخصية الأديبة الانجليزية التي اختارت الموت بالانتحار “فيرجينيا وولف” في فيلم “الساعات”.

أوسكار بالجملة 

و”كيدمان” ليست وحدها الفائزة بتلك الجائزة، فنجم الفيلم “شين بن” الذي شاركها بطولته، ومخرجه “سيدني بولاك” كلاهما سبق له، هو الآخر، الفوز بالأوسكار.

الأول قبل عام، وذلك عن أدائه في فيلم “النهر الغامض” لصاحبه “كلينت ايستوود” الفائز، قبل بضعة شهور، بأوسكار أفضل مخرج عن “فتاة بمليون دولار” والثاني، أي “بولاك” عن إخراجه قبل عشرين عاماً، فيلم “الخروج من أفريقيا”.

مؤامرة في نيويورك 

وفضلاً عن قيام الأخير بعبء إخراج “المترجمة” منذ أسند لنفسه دور رئيس ضابط المباحث الاتحادية “توبين كيللر”– ويؤدي دور “شين بن”– المكلف بجمع التحريات عن “سيلفيا بروم”– وتؤدي دورها “كيدمان”.

بحثاً عن مقدار الصدق فيما أبلغت به سلطات الأمن من أنها، وقبل مغادرتها مبنى الأمم المتحدة، سمعت، بالصدفة، بضع كلمات من حديث هامس، مداره الإعداد لجريمة اغتيال رئيس جمهورية “ماتوبو” الأفريقية، أثناء قيامه بإلقاء خطاب في مبنى الأمم المتحدة أمام وفود الدول الأعضاء بغرض تبرئة نفسه، من اتهامات، لو ثبتت في حقه، لوجبت محاكمته عنها في “لاهاي” وذلك لمعاقبته عما ارتكب في حق شعبه من جرائم يشيب من هولها الولدان.

بلد ولغة من صنع الخيال

ورغم أن الفيلم تدور أحداثه حول مؤامرة اغتيال رئيس بلد أفريقي يسوم شعبه سوء العذاب، رغم ذلك، فذلك البلد واسمه “ماتوبو” ولغة شعبه التي تردد من حين لآخر على لسان البطلة “سلفيا” واسمها “كوش”، كلاهما ليس له وجود واقعي في القارة السوداء، كلاهما، والحق يقال، من صنع الخيال.

وفضلاً عن ذلك، فإن ما دار من أحداث على أرض تلك القارة، أقل من القليل، لم يستغرق من وقت الفيلم سوى بضع دقائق، سابقة على ظهور العناوين.

وفيما عداها، فالفيلم تدور أحداثه بالكامل في مدينة نيويورك، حيث تحاك خيوط مؤامرة وهمية من أجل اغتيال “ادموند زواني ” رئيس “فاتوبو” تلك الجمهورية الصورية التي ابتدعها خيال كاتبي سيناريو الفيلم.

عربي أم أفريقي

وفي البداية كانت النية منصرفة إلى رسم شخصية الرئيس الديكتاتور المهدد بالاغتيال، بحيث يكون رئيساً عربياً، يجمع بين الفساد والاستبداد، إلا أن أصحاب الفيلم آثروا السلامة، فاستبدلوا بالرئيس العربي رئيساً أفريقيا.

وعملوا على رسم شخصيته، بحيث تبدو قريبة الشبه من “موجابي” رئيس جمهورية زيمبابوي الذي بدأ حياته السياسية مناضلاً من أجل الاستقلال، ومن أجل تحرير الشعب من نير الاستعمار، غير أنه ما أن استولى على السلطة حتى استبد بها، وإذا به ينقلب وحشاً كاسراً، يحكم بالحديد والنار.

يبقى لي أن أقول أن الفيلم فيه من التشويق الشيء الكثير وإن كان سينمائيا، لا يقول شيئاً جديداً.

ومن الأكيد أنه يخدم سياسة الولايات المتحدة الخارجية في منحاها الجديد، القائم على محاربة الارهاب.