رسالة قرطاج.. مولد سينما أخري في المغرب العربي

موعدنا مع أيام قرطاج السينمائية مرة واحدة كل سنتين .. وأين؟

في قلب تونس العاصمة، وبالتحديد في مثلث يقف على رأسه أبو التاريخ “ابن خلدون” شامخاً بتمثاله المهيب، يذكرنا بماضٍ ثقافي مجيد.

وبعد التمثال، وعلى امتداد البصر، ينساب نهج الحبيب أبو رقيبه، وهو شارع معبق بعطر الماضي التليد، يَسّر بأشجاره وأطياره الناظرين.

ولعله واحد من أجمل شوارع العاصمة التونسية، ولا أقول شوارع من الوطن العربي من الخليج إلى المحيط.

فداخل هذا المثلث الذي لا تزيد مساحته كثيراً عن مساحة نهج الحبيب، تركز عدد من دور العرض على وجه ليس له مثيل على امتداد هذا الوطن الفسيح.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب، إذا ما جنحت إلى القول بأن عدد دور السينما في هذا المثلث، إنما يفوق عددها في وسط القاهرة، هوليوود الوطن العربي، بل قد يفوقها بكثير.

ومما يزيد الأمر غرابة أن تونس بلد صغير، لا ينتج ثلاثة أفلام على مدار السنة، في حين أن ما تنتجه استديوهات القاهرة لا يقل عن ستين فيلماً بل قد يزيد.

سر الاستمرار

ومثل ذلك الحشد للدور في بقعة واحدة وسط عاصمة خضراء، يتيح للمشاهد فرص الانتقال فيما بينها في بضع ثواني، ودون كبير عناء.

وهذا شرط لابد منه لقيام أي مهرجان سينمائي جاد، ولا أقول لنجاحه، ودوام استمراره مادام ثمة أفلام.

ولعل توافره في قلب مدينة غير بدينة مثل تونس العاصمة، هو الذي أهّل تلك المدينة العريقة لأن تكون مركزاً لأيام قرطاج، واتاح لهذه الايام أن تستمر قرابة ثلث قرن من عمر الزمان.

ومن بين الأسباب الأخرى لنجاح الأيام، ذلك الجمع الغفير من عشاق الفن السابع الذي كنت أراه في تلك الايام يحتشد داخل دور العروض، وأمامه تمر مناظر العري والفراش، دون أن تثير صرخة من حلق، أو دبدبة من أقدام.

وأغلب الظن أن وجود جمهور بمثل هذا الذوق المصفى المهذب، أنما يرجع أولاً إلى فهم ما يجري على الشاشات من أحداث، لا لسبب سوى أن جميع المثقفين يجيدون التحدث باللغة الفرنسية، علاوة على لغة الآباء.

وثانياً الدور الذي لعبه النقاد، فهم لم يغفلوا لحظة واحدة عن مفهوم السينما باعتبارها فناً له أصوله وقواعده، وعن ضرورة التوعية بها بوصفها لغة العصر.

ولقد أسهم دورهم هذا في فتح النوافذ على كل ما له قيمه ودوام في انتاج السينما العالمية، كما ساعد على انطلاق أيام قرطاج من عقال الجدل العقيم في مهرجانات مفتعلة، بلا هوية، كمهرجان الاسكندرية إلى طريق وحب لا ينتهي إلى سراب.

ولولا هذا الدور لما أصبحت قرطاج بأيامها أقدم مهرجان لفن السينما في جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي الأقطار العربية كلها بلا استثناء، ولما استمرت ملتقى للمبدعين، ومناراً للسينما العربية والافريقية، حتى يومنا هذا.

لزوم الهوية

وثمة مزايا أخرى للأيام، أذكر من بينها أنه منذ البداية (1963)، وله هوية أفريقية عربية، لم يحد عنها أبدا.

فحسب قواعده الصارمة، ليس لأي فيلم لم يبدعه مخرج أفريقي أو عربي الدخول في مضمار التنافس على جوائزه التي تمنح في لية الختام.

كما أن التيار السينمائي السائد عالمياً، وهو تيار هوليوود بطبيعة الحال، ليس له مركز مرموق في أيامه، مثل ذلك المركز الذي يشغله في مهرجانات القاهرة وفينيسيا وكان.

وفضلا عن ميزة الهوية تلك، هناك حسن الاختيار فلا اهتمام بالكم يتولد عنه زحام أفلام، يضيع في صخبه ما ينفع الناس.

قصة وعظة

ومن هنا قصر العروض الخاصة بالسينما العالمية فيه على روائع مثل “اللاعب” للمخرج الأمريكي “روبرت اكتمان” و”حمى الأدغال” للمخرج الأمريكي الأفريقي “سبايك لي” و”العاشق” للمخرج الفرنسي “جان جاك انو” و”تستمر الحياة” للمخرج الإيراني “عباس تخيا روستامي” و”كعب عال” للمخرج الاسباني “بدور المودوفار” وفوق كل هذا “الفهد” (1963) أول فيلم يبدعه المخرج الايطالي الراحل “لوكينو فيسكونتي” لإحدى شركات هوليوود الكبرى “فوكس للقرن العشرين” ومعروف عن “الفهد”، وهو تحفة بين الأفلام قل أن يجود الزمان بمثلها، أن فيسكونتي أخرجه قبل تسع وعشرين سنة وبفضله فاز بجائزة كان المسماة بالسعفة الذهبية. هذا، وقد ارتأت “فوكس” ألا يعرض”الفهد” كاملاً، لأنه في تصورها لو عرض كذلك لكان فيلماً طويلاً، شديد الأملال.

وبعد كل هذه السنين جرى عرضه في أيام قرطاج كاملاً، بحيث استمر الاستمتاع بمشاهده الآخاذة مدة ثلاث ساعات، وازدادت عشر دقائق، لم نشعر خلالها بملل، ولو قليلاً.

وافتتحت العروض الرسمية بفيلم “ضباع” للمخرج السنغالي “جبريل ديوب ممبيتي”، وهو مأخوذ عن مسرحية للأديب السويسري “درونمات”.

ولن أقف عنده، ولا عند أي فيلم أفريقي آخر لأن الحديث عن أزمة السينما الأفريقية يطول، وفي نفس الوقت حزين.

وهدة ونهضة

ولا يفوتني أن أشير بمناسبة مجيء كلمة أزمة في أثناء الحديث، أن اشير إلى ظاهرة أراها جديدة كل الجدة وجديرة بالوقوف عندها، ولو قليلاً.

فلقد لوحظ أن الكثير من الترقب والتلهف لم يتركز على الأفلام القادمة من مصر، كما كان يحدث في سالف الأيام، وإنما تركز على الأفلام التي أبدعها مخرجون من أبناء المغرب العربي.

وفي الحق، فالأفلام التونسية والجزائرية والمغربية كانت أعجوبة بين الأفلام العربية، بفضل جرأتها في تناول قضايا الساعة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو حتى دينية.

وهي جرأة، ولا شك منقطعة النظير وتبشر بالخير الكثير.

الحدث الجليل

وفي رأيي أن هذه الجرأة أو بمعنى أصح النهضة، بدأت تباشيرها قبل سنوات، وفي تونس بالذات.

والفضل في ذلك كان لكوكبة من المبدعين الموهوبين، أذكر من بينهم على سبيل المثال “محمود بن محمود”، “نوري بوزيد”، “ناصر خمير” و”فريد بوغدير”.

وجرى تتويج هذه النهضة، قبل سنتين، بالحلفاويين رائعة الآخير.

وهي رائعة أراها حدثاً جليلاً في الانتاج السينمائي العربي، لأنها فتحت باباً بقى موصداً، حتى يوم عرضها في تونس بنجاح في الشباك، فاق كل التوقعات.

ومن ارهاصات تلك النهضة الغاء الرقابة على فن السينما في المغرب قبل خمس عشرة سنة، وتطويعها لخدمة هذا الفن في كل من الجزائر وتونس.

مولد سينما

ومنذ قديم كان السؤال .. أين السينما المغربية؟

وجاءت الإجابة في أيام قرطاج قاطعة بوجود هذه السينما قوية، قادرة على التعبير بحرية، متحررة من أكثر القيود التي تكبل السينما العربية لاسيما ما كان منها مصرياً.

والسينما المغربية استوقفت الانتباه بفيلمين أولهما شاطئ الأطفال الضائعين لصاحبه المخرج “جيلالي فرحاتي” الذي قام بإسناد الدور الرئيسي فيه لشقيقته “سعاد فرحاتي”.

وهي في فيلمه تؤدي دور فتاة شبه بلهاء يخفيها أبوها عن عيون الجيران في قرية صيادين تطل على المحيط، لأنها حامل والمسئول عن ذلك سائق لم يعد بإمكانه إنقاذها، لا لسبب سوى أنها قتلته دون قصد ثم أخفت جثته في أحد كثبان الملح المنتشرة على سطح الشاطئ الكئيب.

ومع مرّ الأيام، ينمو الجنين، وتساعدها زوجة أبيها العاقر بادعاء أنها هي الحامل.

والفيلم بموضوعه الفريد، وبأسلوبه الساحر وبلغته السينمائية الهادئة الرصينة، إنما يذكرنا بروائع “بازوليني” و”باراد جانون” و”مومياء شادي عبد السلام”.

ومن عجب ابتعاد صاحبه في تناوله لمأساة تلك الفتاة عن مرجعية السينما العربية السائدة، فلا تعامل مع المشاهد باعتباره كائناً ساذجاً، تستغل عواطفه، وتستدر دموعه بالصراخ والعويل.

فإذا ما أنتقلنا إلى الفيلم الآخر “حب في الدار البيضاء” فسنجد مخرجه “عبد القادر لقطع” يطرح فيه مشكلة صراع الأجيال من خلال قصة فتاة تعمل مدرسة، تسقط في حب عشيقين، نكتشف والفيلم يقترب من نهايته الفاجعة، أن أولهما الأكبر سنا إن هو إلا والد العشيق الشاب.

ومخرج الفيلم يعرض لهذه العلاقات الخطرة بجرأة غير مألوفة في السينما المتكلمة بلغة الضاد.

والأكيد أن هذه الجرأة، لعبت دوراً كبيراً في نجاح الفيلم جماهيراً داخل المغرب، وذلك رغم ضعف إخراجه إذا ما قورن بإخراج “شاطئ الأطفال الضائعين”.

ارهاب الفساد

أما السينما الجزائرية، فقد أدهشتنا بفيلم “خريف أكتوبر في الجزائر” لصاحبه المخرج والممثل وكاتب السيناريو”مالك لخصر حميته” ابن أول مخرج عربي يفوز بجائزة مهرجان كان الكبرى عن  فيلم “سنوات الحمر”.

و”خريف أكتوبر” أول فيلم يخرجه “مالك” وفيه يحكي صفحة من تاريخ الجزائر الحديث، وبالتحديد الفترة السابقة بأيام على أحداث أكتوبر 1988، تلك الأحداث الدامية التي انتهت بسقوط حكم الشاذلي بن جديد الشديد الفساد.

وهو يحكيها من خلال أسرة جزائرية متوسطة الحال، محورها ثلاثة أشقاء، أحدهم فنان متحرر والثاني سلفي متحجر والآخير متخلف عقلياً.

والشقيق الفنان يتعرض طوال الفيلم لألوان من الضرب والإهانة على أيدي المتعصبين وجلادي السلطة على السواء، وكلاهما في أهانته وتعذيبه لا يقيم وزناً لأيه حرمة من الحرمات.

بيع الأجساد

يبقى أن أقول أن السينما التونسية ساهمت هي الأخرى في هذه الموجة من الأعمال السينمائية الجريئة بفيلم المخرج “نوري بوزيد” اسماه “بزنس”.

 وفيه يعرض لمأساة الشباب التونسي الذي يتربح من بيع جسده للسائحات، وكأن هذا الجسد ليس إلا سلعة تباع وتشترى وفقاً لقوانين العرض والطلب.

و”روفا” بطل فيلم “بوزيد” واحد من هذا الشباب الضائع.

إنه يعيش ازدواجية أخلاقية مقيتة، فهو مع أهل بيته وشريكة حياته مستقل، محافظ متمسك بالتقاليد إلى أقصى الحدود. أما خارج البيت، ومع النساء السائحات بالذات، فهو لا يتورع عن بيع فحولته، ويبيعها بلا حياء، مستحلاً كل المحرمات.

وختاماً، نستطيع بعد كل هذا أن نتنفس الصعداء، ونقول متفائلين أصبح للمغرب العربي سينما يُعمل لها حساب.

الحب الغائب في آيس كريم

لو اكتفينا  بإلقاء نظرة طائرة على فيلم خيري بشارة الأخير، لانتهينا إلى مثل ما انتهى إليه الكثير، وهو أنه عمل سينمائي مداره كفاح شاب طروب يسعى إلى الصعود والإرتقاء في عالم الغناء ابتغاء الشهرة والثراء.

أما إذا لم نكتف بذلك، وغصنا في أعماق “آيس كريم في جليم”، لوجدنا دعوة صريحة بأن نغنم من الحاضر لذاته .. لماذا؟

لأنه كما قال الشاعر عمر الخيام في سالف الزمان “ليس في طبع الليالي الأمان”.

فبطل الفيلم “سيف” عمرو دياب عندما تمرد، فغنى “أنا حر .. وطز في الفلوس” أمام الخدم والحشم في قصر أحد الأغنياء، انتهى به الأمر مقبوضاً عليه، مفترشاً الغبراء في أحد أقسام الشرطة جنباً إلى جنب مع المساجين.

وكانت الحال كذلك، عندما غنى “رصيف نمرة خمسة” وهي أغنية رقيقة عن المعذبين في الأرض بالأعداء الثلاثة الققر والجهل والمرض، ألفها “نور” أشرف عبد الباقي كاتب الأغاني الثوري الناصري الذي ضيع عمره في الأوهام، ولحنها “زرياب” على حسنين، الموسيقار العجوز البوهيمي المؤمن، لا يزال، بمبادئ ماركس ولينين.

النعيم المقيم

غير أنه عندما غنى، والفيلم يقترب من الختام السعيد، “آيس كريم في ديسمبر، آيس كريم في جليم” وبحر اسكندرية وراءه، والفتيان والحسان أمامه يصفقون فرحين مهللين، كان ذلك إيذاناً بفجر جديد يفتح له أبواب النعيم.

والمقصود بالنعيم هنا الحب والشهرة والمال.

ومن عجب أن الحب أقل أشياء النعيم هذه مرتبة في الأهمية عند صاحب الفيلم.

“فسيف” أو عمرو دياب لا يثور لحبه، ولا لشرفه عندما يكتشف أن خطيبته “سيمون” قد أصبحت بغيا ولا يهتم ولا يهتز، عندما يلتقي أخيراً بفتاة أحلامه التي مرت بحياته قبل سنوات كالطيف، فإذا بها مخلوقة من صخر، بقلب من حديد.

وحتى “آية” (جيهان فاضل) التي ينتهي بها الفيلم وهي في أحضانه، حبه لها، نحس به وكأنه حب عابر، سطحي، سريع الذوبان كالآيس كريم، وليس من ذلك النوع الأصيل الذي لا يكاد يبلغ القلوب، حتى يستقر ويدوم.

ممنوع الحب

وبطبيعة الحال، ليس للحب مكان داخل جحيم القاهرة المدينة البدينة.

فالعلاقة التي نشأت بين سيمون والثري العائد من أمريكا “د. عزت أبو عوف” قوامها الحُلي والمجوهرات، وإذاً فهي ليست من الحب في شيء.

وكذلك الحال بالنسبة لتلك العلاقات التي قامت بين “سيف” والمرأة العابثة التي التقطته صيداً ثميناً، تغيظ به عشيقاً ثرياً.

وبين الموسيقار العجوز المنهار والمومس التي بادلته غراماً مفتعلاً، انتهى به ميتاً في مكان عام.

القديم والجديد

وليس من الغريب أن يكون الفيلم بلا حب، وإنما الغريب ألا يتعلم صاحبه من فيلم له سابق، ومن فيلم آخر اسمه “الهجّامة” أن “سيمون” لا تملك القدرة على التعبيرعن العواطف، وأن أحداً ليس في استطاعته أن يجعل منها نجمة سينما، تحبها الكاميرا، فتعشقها الجماهير.

يبقي أن أقول أنه من مزايا الفيلم، كثرة الوجوه الشابة الجديدة والجميلة معاً.

وهو أمر نادر في أفلامنا ولعله ببدء تحققه في آيس كريمِ يساعد في أن يضئ للسينما المصرية ظلام الطريق.

سينما المستقبل بين الواقع والخيال

يوم صدور الهلال كانت الصورة على وشك أن تتحرك، وكانت لغةً جديدة وفناً سابعاً قاب قوسين أو أدنى من الميلاد.

فلم يمض على أول ظهور للهلال سوى سنتين وسبعة شهور، إلا ويسجل الأخوان لويس وأوجست لوميير براءة اختراعهما لما أسمياه “السينماتوجراف”، وهو عبارة عن جهاز يتيح عرض الصور المتحركة على شاشة بيضاء أمام حشد من الناس.

بعد ذلك التسجيل بحوالي ثمانية شهور، وبالتحديد يوم السبت الموافق الثامن والعشرين من ديسمبر لسنة 1895، دعا الأخوان لوميير نفراً من علية القوم والعلماء الأجلاء إلى المقهى الكبير المطل على شارع كابوسين، وسط باريس، حيث جرى أول عرض سينمائي على ملاءة بيضاء.

الدهشة الأولى

وكان من بين الأفلام المعروضة، وكلها تسجيلية قصيرة لا تزيد مدة الواحد منها عن دقائق معدودات، فيلم لقطار يدخل إحدى محطات السكك الحديدية “لاسييوتا”، فإذا بأحد من المدعوين يتوهم أن القطار إنما يتحرك متجهاً نحوه، وطلباً للنجاة يهم بالفرار.

وهنا في القاهرة، بعد أقل من سنة من عرض المقهى الكبير بمدينة النور، وبالتحديد في الثامن والعشرين من نوفمبر لسنة 1896، جرى عرض السينماتوجراف لأول مرة أمام صفوة المجتمع القاهري داخل صالة حمام شنيدر.

وعن هذا الحدث التاريخي، كتبت جريدة المقطم، بعد العرض بثلاثة أيام، تقول وهي في حالة انبهار شديد:

“من أبدع ما تتمتع به الأنظار في هذا الشتاء من المخترعات والألعاب التي يأتينا بها الأوربيون كل عام الصور المتحركة، فقراء المقتطف يعلمون أن المصورين بالشمس تواصلوا إلى تصوير الصور وضم بعضها إلى بعض بحيث إذا مرت أمام عيني الناظر رأها تتحرك كأنها الأجسام الحية تماماً.

وقد ظفر حضرة المسيو “دلسترولولجو” بامتياز عرض هذه الصور في القطر المصري .. وعرضها مساء السبت الماضي في حمام شنيدر بجانب دائرة البرنس حليم باشا على جماعة من أهل الذوق ورجال الأدب، يتقدمهم سعادة محافظ العاصمة، فراقهم ما رأوه من الصور المتحركة، حتى خُيِل لهم أنهم يرون أمامهم أشباحاً متحركة وأجساماً حية لا ينقصها إلا الصوت.

فيرى الانسان في صورة القطار قادماً من بعيد، ثم يكبر كلما دنا منه حتى يقف في المحطة، وتنفتح أبوابه ويخرج الركاب منه ويدخل الناس إليه، وكلهم مهتم بأمره كما يشاهد في كل محطة.

ويرى في أخرى البحر هائجا وأمواجه تعلو كالجبال ثم تتنفس على الصخور فيتطاير زبدها في الهواء، ويسقط على اثنين يركضان ويستغيثان، وفي أخرى كوكبة من الفرسان تعدو في الميدان من بعيد ثم تدنو”.

النبوءة

وتمر الأيام بعد هذا العرض الأول أعواماً بعد أعوام، وتنشر الهلال في عددها الصادر في الأول من يونيه لسنة 1905 ما معناه أن بعض العلماء يشتغلون في اصطناع صور تتحرك وتتكلم في وقت واحد باستخدام السينماتوغراف والفونوغراف معاً.

وتستطرد قائلة، وكأنها تقرأ الغيب: “فستأتي أيام نرى فيها العالم وحوادثه رأي العين، ونحن جلوس في غرفنا، وذلك كله من معجزات هذا التمدن”.

وفي السادس من أكتوبر لسنة 1927 تحقق جزء من تلك النبوءة عندما تكلمت السينما لأول مرة في الفيلم الأمريكي “مغني الجاز”.

ولم يكن قد مضى على عرض هذا الفيلم في نيويورك إلا ستة شهور، حتى أعلن عن عرض فيلم أمريكي آخر ناطق على شاشة سينما الهمبرا بالاسكندرية (14/3/1928).

بعد ذلك بتسعة شهور (20/12) جرى عرض فيلم “مغني الجاز” في سينما أمريكان كوزموجراف بالاسكندرية، ومن مفاجآته غناء ممثله الأول “آل جولسون” في معبد يهودي بأحد أحياء مدينة الشيطان الأصفر “نيويورك”، وما هي إلا خمس سنوات على تعلم السينما الكلام، حتى كان يوسف وهبي يتكلم هو الآخر في النصف الأول من فيلم “أولاد الذوات”، ومطرب الملوك والأمراء يغني لوردة الحب الصافي في “الوردة البيضاء”.

اختراعات بالجملة

وقبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بقليل، أخذت نبوءة الهلال في التحقق باختراع التليفزيون.

وفي أثناء السنوات التالية لالقاء تلك الحرب سلاحها (1945)، وهي السنوات التي شهدت تحولات عميقة في حياة الشعوب، تحققت اختراعات أخرى، أذكر من بينها، الفيديو واستعمال الأقمار الصناعية في نقل المعلومات، ونحن على مشارف الربع الأخير من القرن العشرين.

وفي ظن المخرج “جان لوك جودار” رائد الموجة الجديدة الفرنسية، أن هذه الاختراعات تؤذن بتغيرات عميقة في حياة الناس، وهي تغييرات من شأنها حتماً محتوماً أن تنتهي إلى صورة حضارية جديدة نراها الآن في طريق التكوين.

العبور العظيم

فمعرفتنا بالعالم الذي داخلنا، وذلك الذي من حولنا، تزداد على مر الأيام عمقاً واتساعاً.

وثوره الفيديو أنما تؤيد ذلك وتؤكدة.

فبفضلها، وبفضل ثورات أخرى تؤدي إلى مزيد من الاختراعات المثيرة، لن نودع القرن العشرين، إلا وقد تحول كل بيت في الغرب وأنحاء من الشرق إلى مركز اليكتروني كامل شامل للترفيه والتعليم.

وطبعاً لا يستطيع شخص عاقل، في مواجهة هذا الحدث الكبير التأثير على مصير الانسان، أن يتظاهر، وقد تحصن وراء نظارة سوداء، أنه لا يرى حقائق الحياة (بالمناسبة “فيديو” تعني لغويا “أرى”).

فالعلم قد نجح في العبور بنا نحو آفاق جديدة وعلينا أن نعبر معه ونستفيد.

ولقد ظن البعض أن هذه الاختراعات بدءًا بالتليفزيون، ومرورًا بالفيديو، وانتهاءً بالارسال عن طريق الأقمار الصناعية، لابد وأن تؤدي إلى اختفاء دور السينما.

اليائسون

ومما ساعد على انتشار هذا الظن، انخفاض عدد دور العرض السينمائي فعلاً أمام زحف التليفزيون الذي أصبح مع اقتراب عقد الخمسينات من نهايته جزءًا لا يتجزأ من أسلوب حياة الأسرة الأمريكية على جميع المستويات.

فمثلاً عدد تلك الدور على امتداد الولايات المتحدة سنة 1946 كان قد ارتفع إلى عشرين ألف دار.

وعدد المتفرجين فيها كان قد وصل إلى تسعة وسبعين مليوناً، وازدادوا أربعمائة ألف متفرج.

غير أنه بعد سبع عشرة سنة من التاريخ الأخير، إذا بعدد المتفرجين ينحدر إلى النصف، ويتكرر الانحدار بنفس النسبة بعد مدة مماثلة، وذلك رغم أن السكان كانوا طوال تلك الحقبة من عمر الزمان، في ازدياد مستمر وعلى وجه لا مثيل له في تاريخ الولايات.

وما حدث في أمريكا، حيث يوجد أكبر وأغنى سوق ترفيه في العالم، حدث وبشكل أسوأ بكثير في جميع البلاد، لاسيما ما كان منها فقيراً، متخلفاً، تعربد فيه الرقابة وتعيث فساداً.

ولعل انخفاض عدد دور العرض وتدهور مستواها في مصر، وهي من مراكز الاشعاع القليلة في دنيا الأطياف، باغلاق بعضها، وبتحويل بعضها الآخر إلى مسارح، وأحيانا إلى خرابات، لعله يؤكد وجهة النظر الجانحة إلى القول بأن دور السينما إلى زوال.

واذا كان هذا هكذا، فلن تبدأ سنوات القرن الحادي والعشرين، إلا وتكون دور السنما قد اختفت من كوكب الأرض نهائيا، وأصبحت خبراً قديماً يدرس في كتب التاريخ.

ولكن هذا الاستخلاص أراه استخلاصاً غير سائغ، يكذبه واقع الحال.

التجديد والتجلي

فثمة عود على الأقل في الغرب إلى بناء دور عرض كبيرة مجهزة بشاشات عريضة شبيهة بتلك التي انتشرت ابان عقد الخمسينيات.

فمعروف أنه ما أن ظهر التليفزيون واشتد الاقبال عليه قبل أربعين سنة أو يزيد، حتى أصيب مصنع الأحلام في هوليوود بذعر شديد.

وفي مواجهة هذا الخطر المميت، لجأ المصنع إلى انتاج أفلام ضخمة، مع عرضها على شاشات كبيرة، عريضة، كانت على مر السنين تزداد ضخامة وابهارا.

ومن هنا التوسع في تجهيز دور العرض بشاشات السينما سكوب والسينيراما، وما إلى ذلك من ابتكارات ذلك الزمان.

والآن، ها هو ذا مصنع الأحلام يجد نفسه، ازاء انتشار سوق الفيديو، مضطراً إلى اللجوء مرة أخرى إلى الشاشة العريضة، وذلك بتصوير الأعمال السينمائية الضخمة على فيلم خمسة وستين مللي، وعرضها بعد ذلك في دور مجهزة بمعدات عرض سبعين ميللي، ونظم صوت متعددة القنوات أذكر من بينها نظام “تي ايتش اكس” الذي ابتكره جورج لوكاس مخرج فيلم “حرب النجوم”، والاسم مستوحى من أول فيلم لهذا المخرج، وكان بنفس العنوان.

ولعل خير مثل على هذا النوع من الأفلام المعد خصيصا للعرض في مثل هذه الدور “الآفاق البعيدة” لصاحبه المخرج “رون هوارد”، وهو فيلم أسندت بطولته إلى “توم كروز” أمام زوجته الجميلة “نيكول كيدمان”.

وبعرضه خارج المسابقة على شاشة سبعين ميللي، انتهى مهرجان “كان” الأخير.

بل ربما يلجأ مصنع الأحلام إلى الانتقال بأفلامه إلى دور مجهزة بشاشات عريضة تعرض عليها الأفلام تليفزيونياً، بواسطة الارسال عن طريق الأقمار.

وشيء كهذا يعني توفير المبالغ الطائلة التي تنفق على عمال العرض، وعلي طبع نسخ الأفلام، وعددها بالمئات، ولا أقول بالآلاف في بعض الأحيان.

إذ يكفي أن تعرض نسخة واحدة في هوليوود، ثم يجري ارسال معلومات تلك النسخة إلى قمر صناعي يكون همزة الوصل بين الفيلم وبين شاشات العرض في وقت واحد، وبوضوح رؤية غير مشوبة بأي عيب.

سينما المستقبل

والأهم من ذلك كله دور عرض أخرى يجري تشييدها منذ خمس عشرة سنة أو يزيد، بمواصفات تقنية، منقطعة الصلة بالمواصفات التي كانت تبنى دور السينما بموجبها في سالف الزمان.

وهذه الدور الجديدة مهيأة لعرض الأفلام المصورة بطريقتي ايماكس (الصورة الأقصى) وأومنيماكس، بل هي لا تستطيع أن تعرض إلا مثل هذا النوع من الأفلام.

ولقد سبقتها، قبل أن تصل إلى صورتها الحالية المتكاملة، ارهاصات، بداياتها كانت في معرض مونتريال الدولي بكندا (1967).

وفي السنوات الثلاث اللاحقة لهذا المعرض، كان مشروع انتاج أفلام تصور وتعرض بتلك الطريقة يتخلق ويتشكل، وكأنه جنين في مراحله الأولى.

ومما ساعد على سرعة تكونه نهايئاً، تحديد موعد لابداع فيلم مصور بطريقة ايماكس، غايته معرض أوزاكا الدولي باليابان (1970).

فضلاً عن اكتشاف رجل في أستراليا اسمه “رون جونز” نجح في اختراع آلة تعرض الفيلم أفقياً بسرعة أربع وعشرين صورة في الدقيقة ومائة ومترين في الدقيقة.

وعلى كُلٍ، فبدءًا من سنة 1971، ومن مدينة تورونتو بكندا، أتيح لسينما جديدة أن تولد، سينما تعرض أفلامها، كما هو الحال في سينما جييود بمدينة العلوم والصناعة بإحدى ضواحي باريس، على شاشة تبلغ مساحتها ألف متر مربع، مع اثنى عشر مكبر صوت بقوة اثنى عشر ألف كيلووات.

وحتي الآن، جميع الأفلام التي أنتجت بتلك الطريقة من ذلك النوع المسمى بالأفلام التسجيلية، وذلك فيما عدا اسثناءً وحيداً، ألا وهو فيلم “أكتب في الفضاء” للمخرج الفرنسي”بيير ايتي”.

فهو عمل روائي عرض في العاشر من يوليه لسنه 1989 في صالة جييود، وذلك بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي سنة على العصف بالباستيل.

وحضر حفل الافتتاح الرئيس فرانسوا ميتران.

وأغرب ما يعجب له كل من شاهد هذا الفيلم أو غيره من أفلام تلك السينما الجديدة، هو الشعور بنفس الدهشة التي شعر بها المشاهدون الأوائل، وقطار الأخوين لوميير يدخل محطة “لاسييوتا” قبل مائة سنة إلا قليلا.

وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن الانسان لا يكف عن الاندهاش.