ليلة حساب السنين – جريمة أم وليمة؟

كان أول فيلم عربي يبدأ وينتهي بكلمات مأخوذة من تراث قدماء المصريين.. كتاب الموتى “ألفا سنة قبل الميلاد” يبدأ بصور فرعونية يصاحبها صوت يقرأ تلك الكلمات يا من تمضي ستعود.. يا من تنام سوف تنهض يا من تموت سوف تبعث، فالمحبة لك. وينتهي- بعد إختفاء الفلك بمن عليه من فراعين- بتلك الكلمات:

إنهض فلن تفنى.. لقد نوديت باسمك، لقد بعثت.

وكان أول فيلم ناطق بلغة الآباء يعرض لحاضر مصر متصلاً بماضيها على مدى آلاف السنين. يعتز بميراث الأسلاف منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصرياً. يعبر بصدق عن أزمة وعينا بما أقيم من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها في أزمنة الفراعين.
قدر الأفلام الناجحه

وكان أول فيلم مصري الجنسية، عربي الهوية، يتوج بجائزة عالمية “جورج سادول” (1970)، يعرض في دار باريس بولمان- بلندن (1972)، يعتبر أحد أحسن عشرة أفلام عرضت في إنجلترا خلال سنه1972، يختار فيلم الافتتاح لدار جان كوكتو بقصر مهرجان كان (1974)، يفتتح به نادي سينما طوكيو، يطبع السيناريو الخاص به باللغة اليابانية، تكتب عنه دراسة باللغة الفرنسية في مجموعة “دوسيه السينما” يوضع ضمن أحسن ألفي وواحد فيلم اختارها قاموس لاروس للسينما (1986) من بين جميع الأفلام التي أخرجت للناس منذ اكتشاف الأطياف (1895).

كان “ليلة حساب السنين” لصاحبه “شادي عبد السلام” والذي اشتهر تحت اسم “المومياء” كل هذا وأكثر لأنه الفيلم الذي رد اعتبار سينما الوطن العربي، بأن أثار اهتمام نقاد الغرب بها، دافعاً بهم إلى السعي نحو اكتشاف مجاهلها.

يوم مولد

ولعل خير وصف لموقف النقد الغربي من ذلك وبخاصة السينما المصرية قبل المومياء، هو ماجرى به قلم “ديليز باول” الناقدة الإنجليزية المخضرمة في العدد الأسبوعي لمجلة “الصانداي تايمز” أثر مشاهدتها لفيلم “شادي” وقبل أن يهدأ انفعالها به.

“منذ زمن بعيد، وأثناء مشاركتي في مهرجان كورك أسأت إلى سمعتي، عندما قهقهت ضاحكة في تعالٍ على فيلم مصري أرادوا به أن يكون جاداً.

ولم يعدني إلى الصواب إلا تذكرة من جالس إلى جواري صدمه سوء سلوكي، بأن مخرج الفيلم معنا في قاعة العرض.

وعلى كُلٍ فقد كنت أظن أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الاهتمام بما تعرضه الشاشة المصرية.

غير أنني اكتشفت أن لزاماً عليّ أن أهتم.. وأهتم. وعقب هذه الكلمات الطلقات التي استهلت بها الناقدة مقالتها عن “المومياء” عرضت له باعتباره الفيلم الذي غيّر من نظرتها إلى السينما المصرية، وجعلها تهتم وتهتم!!
سكرة فصحوة

وتأكيداً لهذا الطابع المتميز الذي انفرد به المومياء حتى أصبح أشهر فيلم عربي، وواحد من نفائس السينما العالمية، استهل الناقد الفرنسي “كلود ميشيل كلوني” دراسة له مدارها فيلم “شادي” بالكلمات الآتية “طابعه الغريب، بل وأسلوبه يجعلان تصنيفه أمراً محالاً، واستطرد قائلاً: الذي لا يرقي إليه الشك أن هذا العمل يتميز بقدرة على الإبهار، وذلك بفضل أسلوبه البليغ، وجماله الشكلي، وقبس النور الذي بعثه “شادي” من ظلمة الليل البهيم كي نرى في ضيائه مصر الخالدة.. مصر التي تحلم وتتحرك.

وإلى حدٍ بعيد كان من الممكن اعتبار المومياء فيلماً غير مصري لولا أن مصر تقيم في ثناياه بماضيها، بديكورها، بواقعها ، بتمزقاتها، تُعبر داخله عن تفردها.

وشادي “يسافر بنا في فيلمه إلى ماض مرتد آلاف السنين “العصر الفرعوني”.. يوجه بصرنا إلى تلك الهوة السحيقة بين مصر المدينة وبين مصر القرية، ينتقل بنا عبر زمن يبدو ساكناً لا يتحرك.. زمن يجرفنا بشاعريته، يسحرنا ليشهدنا على قطيعة مفاجئة، على مولد عصر جديد كل الجدة، هذا العصر الذي يرغبه “وانيس”، يسعى إليه مدفوعاً بالبصيرة.

والمومياء قصيدة ذلك الصراع، وليس صدفة أن الفيلم ينتهي بصور للنيل يُطل عليه الفجر.

أشعة في غمام

ثم تطرق الناقد الفرنسي إلى إخراج “المومياء” فقال عنه أنه مختلف عن أسلوب الإخراج السائد في السينما العربية حيث تختلط الواقعية بالاستعراضات الغنائية والترفيهية. هذا وبفضل توازن محسوب بين الشعر وبين عنف الموضوعات المطروحة.. ارتقى “شادي” بفيلمه- بعد أن صفّاه من كل شائبة إلى مستوى قريب من العبادة .

أن المومياء بجمال تشكيله، وعطر شعره، فيلم له مقام خاص سواء في السينما العربية أو بين المدارس الغربية. إنه يعبّر دون ريب عن بعض جوانب الروح المصرية ودخائلها بأسلوب يتسم بالابتكار الآخاذ.
الكهوف المظلمة

ورغم كل هذا المديح والإطراء، ظل “المومياء”- بعد عرض يتيم له في نادي سينما القاهرة، ليلة السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- ظل حبيس توابيت العلب في مؤسسة السينما، مكتوباً عليه ألا يعرض داخل مصر زهاء خمسة أعوام.

ولعل خير بيان لمحنة “شادي” أولاً مع فيلمه الأول “المومياء” وثانياً مع مشروع فيلمه “اخناتون” هو ما كتبه الناقد الانجليزي “نيجل اندروز” في عدد الربيع 1973 من مجلة السينما الفصلية “سايت آند ساوند” (صورة وصوت) فعنده “أنه ليس ثمة ما يستطيع أن يجسد أوهام النجاح في مجال السينما خيراً من حالة شادي هذا المخرج الذي حيّته الأقلام رأت فيه أملاً للسينما المصرية. ورغم ذلك فلا يزال مشتبكاً في معركة طويلة مريرة من أجل الحصول علي دعم لمشروع فيلمه الجديد “اخناتون”؛ ثم تطرق الناقد إلى ماضي صاحب المومياء، فقال إنه نجح في تمويل فيلمه الأول بفضل حماس “روبرتو روسيلليني” ورعايته له، ذلك أنه ما أن قرأ المخرج الإيطالي مشروع السيناريو الذي كتبه شادي لفيلمه “ليلة حساب السنين” (المومياء)، إلا وكان قد بادر بالتصديق على طلبه فتح اعتماد حكومي ابتغاء إخراجه.

ومع ذلك، ورغم كل النجاحات التي أحرزها في العديد من المهرجانات الدولية، لم يحصل الفيلم على حق العرض في مصر إلا منذ وقت قريب جداً.

ثمن الخوف

وأغلب الظن أن سبب ذلك إنما يرجع إلى أن أولي الأمر في حقل السينما، يسيطر عليهم الخوف من تشجيع صانع فيلم يبدو أن اهتمامه منصب على ماضي مصر، دون حاضرها، ولا تحمل مشاريعه بصمة النجاح التجاري الأكيد.

ومهما يكن من الأمر، فإنه مما يُحزن أن يهمل شأن اخناتون، فلا يكتب لمشروعه أن يرى النور، لاسيما إذا وضع في الاعتبار أن صاحبه قد أعد للفيلم ما استطاع، فكتب السيناريو، وهيأ الديكور، واختار الممثلين للأدوار. لم يبق سوى أن ينتظر موافقة هيئة السينما على تمويل ميزانيته التي تُقدر بمبلغ لا يزيد على مائة ألف جنيه.

وقصة الفيلم تدور أحداثها في عهد إخناتون الذي كان أول فرعون يؤمن بالتوحيد، فيثور على ما كان يعتبر من السنة في أيامه، ويبتدع ديناً جديداً قوامه عبادة الشمس وعادة يوصف اخناتون بأنه أول فرد في التاريخ.

عصيان

ولا عجب في هذا، فهو الملك الذي تمرد على الاهتمامات القديمة لدين لم يكن له من شاغل سوى الموت، وما بعد الحياة وتحول عنه إلى الإيمان بإله واحد خَيّر، وهّاب للحياة.. الشمس.

والفيلم يعرض للصراع بين اخناتون، وهو يزداد عزلة بهرطقته، وبين السنة الباغية متمثلة في الكهان ورجال الجيش، تنتظر في صبر نهاية فرعون ابتغاء إعادة الاستقرار الديني والسياسي إلى البلاد بالارتداد إلى عبادة آمون.

وامكانات القصة الدرامية والمقابلات والدلالات العصرية الكامنة فيها لا تحتاج إلى مزيد من بيان.

ومما يدعو إلى الأسف أن تترك هيئة السينما المصرية شادي منتظراً المنّ في برد العراء، وذلك رغم أنه الوحيد بين صانعي الأفلام في مصر الحاصل على تقدير عالمي، فضلاً عن أن الأيام قد أثبتت أنه على مستوى عالٍ من الاحساس الفني، وصاحب قدرة فائقة على الإبداع من خلال التحكم في الصور المتحركة .
العجب العجاب

وللحق، فأنه لمن سخرية الأقدار أن تكون صناعة السينما في مصر- هذا البلد العريق صاحب الرصيد الحضاري الذي يعتبر من أغنى أرصدة العالم- دوماً فاشلة في السحب من هذا الرصيد.

ومضى الناقد قائلاً يحكي أنه لما سمع العالم الانجليزي “سيريل الدود” المتخصص في دراسة الحضارة المصرية القديمة بمشروع إخناتون صاح متعجباً “فيلم عن مصر القديمة لمخرج مصري . ياللغرابة” !!

ولسوء الحظ كانت دهشة العالم الانجليزي في محلها، فأحد من المحيط إلى الخليج لم يهتم أو يهتز لما كتب عن مشروع اخناتون.

ولم يسهم أحد بكثير أو قليل في مجالات إحياء المشروع والتحول به من حلم إلى فيلم.

ودارت عجلة الزمان مع شادي، واذا اخناتون- بعد سبع عشرة سنة من إخراج فيلمه الأول “المومياء” لايزال في علم الغيب.. لايزال قضية بلا حل.

لماذا؟

والآن يحق لنا، بل يحق علينا، أن نتساءل لماذا بعد كل هذه السنين التي صُرفت في البحث التاريخي والأركيولوجي.. في صنع المجوهرات، الصولجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية. في إعادة بناء المعابد التي لم يعد لها وجود والمقابر التي اغتصبت منذ أمد بعيد.

لماذا بعد كل هذا الذي بُذل من أجل بعث اخناتون الفرعوني المنتمي إلى الأسرة الثانية عشرة، والذي خرج على دين الآباء والأجداد ليقيم عبادة جديدة جوهرها تقديس قرص الشمس.

لماذا بعد كل هذا الوجد والتفاني والمعاناة، لم يستطع صاحب “المومياء” أن يتغلب علي قوى الظلام ويخرج باخناتون إلى النور؟

بصيص من نور

بادئ ذي بدء قد يُعين على الوصول إلى إجابة عن كل هذه الأسئلة، ذكر ما جرى لصاحب هذه السطور مع المومياء ومبدعها وقت أن كان رقيباً (1967).

في يوم مشحون بالعمل- ودون موعد- جاء إلى مكتبي بالرقابة فنان خمري اللون، ممشوق القوام، يتأبط سيناريو.. رجاني في استحياء شديد أن أقرأه. فلما أغراني حب الاستطلاع على تصفحه، وانتهيت من قراءته، دهشت من سموّ موضوعه، وشموخ بنائه الدرامي، وهو أمر لم أعهده من قبل في أي عمل سينمائي محلي مرّ وأنا رقيب .

تصفيات

والغريب أنه فور انبهاري به، تحدث إليّ هاتفياً رئيس مجلس إدارة شركة الانتاج السينمائي الذي كان يمقت الفن السابع مقتاً شديداً، طلب إليّ عدم الترخيص بعمل فيلم من سيناريو “شادي” انقاذاً لمؤسسة السينما من كارثة إنتاج فيلم غير جماهيري ليس من ورائه سوى الخسارة ووجع القلب.

ترددت محرجاً، ثم رددت قائلاً أن السيناريو لا ينطوي على موانع رقابية تحول دون الترخيص به وأذا به يفجؤني مصححاً: لا، إنه فيلم ضد البلد.. عن أمجاد الفراعنة، مُعاد للقومية العربية!!

ومما قد يعين كذلك في عملية البحث عن إجابة، الغوص في أعماق “المومياء” هذا الفيلم الفريد.

الأكيد أننا لو أوغلنا فيه سعياً إلى المحور الذي يتحرك عليه من بدايته إلى نهايته لوجدنا في أعماقه قوى متعددة تتصارع.

بين عالمين

وقد يساعد على فهم هذه القوى أن أحداث الفيلم تبدأ قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بأشهر معدودة.

فإذا ما انتقلنا بها إلى عرضه اليتيم في السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بتسعة شهور إلا قليلا- لاتضح لنا أن الفيلم إنما كان يتنبأ بقرب انتهاء الحقبة الناصرية، وبداية هجمة أحفاد بلفور والاتباع الدائرين في فلك وعده المشئوم.

ومن العلامات الدالة على ذلك، أولاً وجود الخبراء الأجانب كماسبيرو الذي يبدأ به الفيلم، وغلبة أفكارهم غير الانسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين ومصيرهم، ثانياً طبقة أفندية القاهرة ( الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك الأوروبيين متعاونة معهم ضد الشعب الذي تستمد منه الحياة، ثالثاً الأهالي يمارسون حياتهم اليومية مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة والإهدار للتراث، رابعاً “وانيس” بطل الفيلم يعي الفرق بين الخطأ والصواب ولكنه في حيرة من أمره، كيف يختار.. أيختار أن يعيش ابناً باراً للقبيلة، حافظاً سرها، وخارجاً على القانون؟ أم يكشف السر لسلطات القاهرة الكريهة؟

وهكذا.. وهكذا.. نجد أنفسنا أمام فيلم مليء بالرموز والدلالات. بالاسئلة التي يطرحها حول مشاكل مصر المعاصرة.. حول ماضيها الفرعوني والهوّة السحيقة بينه وبين ثقافتها الإسلامية المُفرغة من مضمونها.. حول اطلالها على الغرب وهويتها العربية ومعاناة التوفيق والاختيار.

البعث

وطبعاً فيلم بمثل هذا المستوى الرفيع من الوعي وطرح الأفكار لا يمكن أن يتكرر في السبعينات.

إنه جريمة لابد ألا تحدث مرة ثانية ولابد ألا تتاح لمرتكبيها فرصة إخرج فيلم آخر لاسيما إذا كان مداره سيرة اخناتون، أي الاستمرار في هرطقة المومياء.

وبعد فإذا كان فيلم شادي في نظر المرتجفين المرتعدة فرائصهم أمام المعرفة جريمة. فإنه في نظر الواقفين في كبرياء أمام علامات التاريخ إبتغاء فك رموزها، قراءتها، تمثلها وليمة لا مثلها، ولا قبلها ولا بعدها وليمة، بها نعرف ننهض لا نفنى، نبعث أحياء .

الطوق والإسورة بين الفيلم والأسطورة

لو وضعت “الطوق والإسورة” في كفة الميزان، ووضع  في كفته الأخرى أغلب ما كُتب من أدب القصة عندنا عقب زلزال الخامس من يونيو “حزيران” لرجحت في ظني قصة يحيي الطاهر عبد الله ومن هنا صعوبة التحول بها إلى لغة السينما شأنها في ذلك شأن أية رائعة من روائع الأدب العالمي.

وعلى كُلٍ وقبل الكلام عن الفيلم، وكيف أقدم “خيري بشارة” على إخراجه عن سيناريو استوحاه بالإشتراك مع الدكتور يحيى عزمي عن “الطوق والإسورة” أرى من اللازم الوقوف قليلاً أولاً عند صاحب القصة وثانياً عند الإبداع فيها.
.الكابوس الأسود.

مر يحيى الطاهر عبد الله بهذا العالم مروراً سريعاً فلم يعش فيه إلا ثلاثة وأربعين عاماً أنفق جزءاً غير قليل منها في الطفولة والصبا متأثراً بما حوله في قرية الكرنك مركز الأقصر حيث ينام الرجل الصعيدي وبندقيته وزوجته وأولاده والكلب والحمار في حجرة واحدة.

وحيث تسلك الذئاب والثعالب تلك الدروب الضيقة على المارة، وحيث يتعذر على الغريب أن يُميّز الآدمي من الوحش والناس والأشياء.

.أيام في المدينة.

وبعد الحصول على دبلوم الزراعة المتوسطة أنفق بعض حياته في مدينة قنا حيث التقى بالشاعرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وحيث كان محاصراً بالسكون والظلمة والتعب وحيث أحس بأن روحه منهكة، وأنه فعلاً مضطهد ومقهور، وإنه حقيقة يتعذب .

فلما رحل (1964) بجسم نحيل وعينين براقتين وكلام مهتاج من الصعيد إلى القاهرة كي يظفر بشيء من الحياة الفنية المستقلة، لم يلتمس عملاً آخر غير كتابة القصة القصيرة يكسب منها القوت.

ورفض النصيحة “خصوصاً من الجيل السابق، لأنه مؤمن بأنه يفتح صفحة جديدة بريئة من الرتابة والصنعة وشكوك التقليد والاقتباس من بعيد لبعيد”

.الجثة.

ثم لا يكاد الربع الرابع من القرن العشرين يتقدم قليلاً حتى يكون قد حقق لنفسه فرحه الخاص بما كتب، فالكتابة بالنسبة له “متعة كما هو الأكل” وحتى يكون بعين مملوءة بالدمع والدم على موعد مع ملاك الموت في سكة القاهرة- الواحات سنة 1981(9 أبريل).

وها هو ـ بعد أن تمكن الموت من الريح وفرغت الحدوتة- يعود طائراً- وهو الذي لم يدخل الطائرة سوى نعشه- إلى مسقط رأسه الكرنك حيث رأت عيناه المضيئتان النور لأول مرة، وحيث دفن مع الشمس وكفن بالضباب.

وها هو محلقاً يسمع لآخر مرة صوت “الأبنودي” في ختام رثاءه يناجيه “دي مش نهايتك يا يحيى.. يمكن تكون دي البداية”.

.شموس.

أظهر ما يمتاز به قصص يحيى الطاهر من الخصائص أنه يصور الموت والقلق من مكر الدنيا الذي يوشك أن يبلغ اليأس وأين..؟ في قرية مركزها الكرنك في الأقصر أي “طيبة القديمة”، وعنها قال يحيى في حديث صحفي لعله الأول والأخير “أرى أن ما وقع على الوطن وقع عليها.. وهي قرية منسية منفية، كما أنا منفي ومنسي.. كما أنها أيضا قرية في مواجهة عالم عصري.. إذن عندما ابتعد عن قريتي أسعى إليها في المدينة، وأبحث عن أهلي وأقربائي وناسي الذين يعيشون معي.

وأنا لا أحيا إلا في عالمهم السفلي.. فحين التقي بهم نلتقي “كصعايدة” وكأبناء “كرنك” ونحيا معاً ألمنا المصري وفجيعتنا العربية وبعدنا عن العصر كشخوص مغتربة.

وأحداث “الطوق والإسورة”- التي هي واحدة من نفائس عقد يحيى- إنما تدور وجوداً وعدماً في قريته هذه، لا تخرج منها أبداً.
.عطر الحبيب.  

فحتى “مصطفى” البطل الغالي الغائب عن جحيم الكرنك بعيداً في السودان ومن بعده فلسطين فالقنال، والذي لا نراه طوال الأيام التي طويت من أعمار أفراد أسرته الصغيرة، وذلك لأنه لا يعود إلى القرية إلا قريباً من النهاية، يعود أمياً كما كان، وفوق هذا مهزوماً مهاناً، حتى هذا البطل الغائب الغالي نحس به وكأنه حاضر في القرية، فهو في عقل الأب “بخيت البشاري” الذي صار بعد العمر الذي مرّ كالقفة.

وهو في قلب الأم “حزينة” الملهوفة التي تخطف رسائله من السودان أرض السحر والأحجبة والمهدي المنتظر، ومن فلسطين الشام جنة الله في الأرض تسلل إليها اليهودي كاره العربي، تخطفها لتشمّها وتقبلها ثم تدسها في الصدر الحنون.

وهو في حواس الأخت “فهيمة” التي تحبه، تتذكر وجهه، الرجل يظفر بالدم الأحمر الدافئ، والعروق في رقبته تنفر وتكاد تنفجر.

.ولادة أسطورة.

وهنا وقفة أخرى لابد منها، ذلك أن “الطوق والأسورة” بما انطوت عليه من كشف ما في نفس صاحبها الغنية، ومن فضح ما في الحياة التي تكرّ حوله في الكرنك من فقر وضحل وبشاعة وغثيان لم تخرج إلى الناس كاملة غير مفتوحة كما هي الآن.. بل خرجت مبتورة في شكل قصتين قصيرتين من مجموعة الدف والصندوق (1974) تحت اسمي “الشهر السادس من العالم الثالث” و”الموت في ثلاث لوحات”.

وهاتان القصتان تشغلان تسع صفحات إلا قليلاً، في حين أن “الطوق والأسورة” تزيد صفحاتها على ذلك بكثير حتى تبلغ سبعة أضعاف هذا الرقم أو يزيد.

ويبدو من الاطلاع عليهما أن “يحيى” قد باشر تأليفهما، وليس في رأسه غير فكرة واحدة وهي أن يصور كيف رحل إنسان بعيداً مع رجال التراحيل، وكيف أثّرت غربته هذه على أسرته حتى انتهت بأفرادها جميعاً إلى موت أكيد.

وبغتة- أجل بغتة- فتق له أن يعود إلى حكاية الغائب والموت، وأغراه بالغ الإغراء أن يتخذ من مصطفى ومأساته ترجماناً لأفكاره، فيصور ما كان من شأنه مع أبيه وأمه وأخته خلال أعوام من العناء المتصل والشتاء المقيم صرفوها في الكرنك، والمسافات تباعد بينهم والزمان يعاديهم.

فكان أن أقبل على كتابة “الطوق والأسورة” (1975)، وقد امتلأ خياله صوراً لأهل بيت مصطفى في غربته. وبسحر ساحر تهيأ له القالب الذي يريده والشخصيات التي كان يفتش عنها.

فكان أن تخلّقت شخصيات بنت الأخت “نبوية”- في الفيلم أسموها ” فرحانة” لا اعرف لماذا؟ـ وابن الشيخ الفاضل والحداد العاجز وشقيقته الحدادة الماكرة وابنها السعدي العاشق ومحمد الشرقاوي الصحفي.
.لعنه الطاحونة.   

ولكن لم يكن بينها صاحب الطاحونة “منصور الصادق” (أحمد بدير) تلك الشخصية التي تلعب دوراً محورياً في الفيلم، فمن أين جاء؟

لصاحب “الطوق والأسورة” قصة قصيرة اسمها “طاحونة الشيخ موسى” نشرت ضمن مجموعة “ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالا” (1970).

وبطلها بنصف عين فقط، عثر على ماكينة طحين نصف عمر.

وبعدها جاءته المتاعب تباعاً بسبب كلام فارغ عن أطفال لابد وأن يرمي بهم داخل الماكينة حتى تدور. كلام يتردد صداه رجفة بقلوب آباء يعبدون الأبناء، وأمهات يفضلن تعب المشوار وشتاء العمر ولا المصيبة في الولد.

وحول هذه المتاعب تدور القصة التي تنتهي بانتصار صاحب الطاحونة بفضل بركات الشيخ موسى.

ولعل هذا الانتصار في المواجهة بين معتقد أهل القرية في أن الماكينة لا يمكن أن تدور دون التضحية بطفل ومعتقدهم الثابت في بركة الشيخ.. لعله هو الذي حدا بالأديب الراحل إلى استبعاد الطاحونة وحكايتها تماماً من حلقة الطوق والأسورة الجهنمية التي تحيط بشخصيات القصة، وهم مسلوبوا القدرة على مواجهتها حتى ينتهي بهم الأمر إلى موت سخيف حقير أو حياة مرة بائسة.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أن حشر هذه الحكاية في سياق السيناريو سار بالفيلم القهقري، ورجع به إلى وراء.. كيف؟

لأنه كان على حساب الروح التي يشعها “الطوق والأسورة” ولأنه أدى إلى بعض الغموض والاضطراب في السرد بحيث كثيراً ما اختلطت الأمور.

ومهما يكن من شيء ففيما عدا هذه الهفوة التي كادت تكون قاتلة، فالفيلم كان في معالجته لأحداث درة يحيى الطاهر أميناً إلى حد كبير.

فهو يبدأ كما القصة بالأب “عزت العلايلي” كالقفة تحملها زوجته “حزينة” “فردوس عبد الحميد” وابنته “فهيمة” (شيريهان) من الشمس إلى الظل ومن الظل إلى الشمس.

وينتهي كما القصة بالابن “عزت العلايلي”- يقوم بدوره علاوة على الأب لا اعرف لماذا؟- ساقطاً من عداد الرجال شاحراً كالذبيحة.

وفيما بين البداية والنهاية يحدثنا الفيلم كما القصة عن الأب كيف تخلص من الأوجاع والعمر المكروه بالذهاب إلى الله الرحيم.
ويحدثنا عن ابنته فهيمة، وقد عقد قرانها على الحداد الهامد “أحمد عبد العزيز” الذي يوسعها ضرباً لأنه لا يستطيع أن يفلح أرضاً، ومن ثم ينفلت في بكاء مرّ.

وحين تعلم “حزينة” بحال ابنتها هذه تذهب بها إلى المعبد القديم المشيّد من الحجر الكبير حيث ينشرخ إناء، وتنمو خرافة الأسطورة في رحم “فهيمة” فيطلقها الحداد، وتنجب طفلة “فرحانة” ثم لا تلبث أن تصاب بحمى يتعذب لها الجسد ولا يستريح إلا بالموت.

.الخيوط تتشابك.

وكذلك يحدثنا عن فرحانة “شريهان” مرة أخرى! يتيمة من الأم والأب الذي مات محترقاً بفعلته مع زوجته الجديدة بنت الصياد.

إنها صبية فقيرة لا تكاد تميز الأشياء.. تعيش حياة ضيقة ضئيلة.. تسعى مع جدتها على رزقها في بيت الشيخ الفاضل حيث حدث الذي لا يقدر على منعه أحد حين يختلي ولد وبنت مولعة به.

فلقد انشرخ الإناء مرة أخرى، ولكن عن غير طريق الأسطورة.

وطبعاً نقلت “حزينة” الخبر المفجع لابنها “مصطفى” الذي أشبع بطن “فرحانة” بما يحمل من حرام رفساً بقدميه، وتركها كوم لحم مهشم العظام حتى انتهى من حفر حفرة أنزلها فيها، وأهال التراب على جسمها حتى العنق، ثم تركها على هذه الحال حتى تموت، وحتى تبوح بمن فعل.

ويعلم بالخبر العاشق “سعدي” ابن الحدادة.

وفي مشاهد- ما أظن أن لها مثيلاً في الجمال المقترن بالقسوة طوال تاريخ السينما في الوطن العربي- يحرر السعدي “فرحانة” من أسر الأرض يحملها كما المحبين إلى الطاحونة لا ليعتلي الفرس وينطلق بها في دنيا الله كما كان يحلم، وإنما ليحصد بالمنجل العنق الشامخ.

كل ذلك يحكيه الفيلم بلغة سينمائية راقية بفضل مخرجه “خيري بشارة”، وبفضل كاميرا المصور الموهوب “طارق التلمساني”.

ولولا هفوة الطاحونة وما صاحبها من ظلال لبدت حسنات “الطوق والأسورة” ساطعة وهّاجة.

سر السقوط

تحولت السينما المصرية في السنوات الأخيرة إلى سينما مناسبات، لا يجري عرض أفلامها علي مدار السنة، كما كان حالها أيام زمان، وإنما يكتفي بعرضها في مناسبات خاصة كالأعياد.

وكثيراً ما ينقطع عرضها في مناسبات خاصة أخري، كدوري كرة القدم ومواسم الامتحانات وشهر رمضان.

وسينما هذا هو وضعها الآن، وهو وضع مزعج بكل المعايير، لا يُرجى لها أي شفاء، فيما لو استمر الحال على هذا المنوال.

ومعروف أن أهم مناسبتين يجري فيهما عرض أفلامنا هما العيدان الصغير والكبير.

وفي أثناء العيد الأخير، قبل شهرين أو يزيد، جرى عرض، ولا أقول فرض، أربعة أفلام على جميع دور السينما بطول وعرض البلاد.

و”ساعة الانتقام” أحد هذه الأفلام، وأقلها شأناً من الناحيتين الفنية والتجارية.
ولن أقف عنده إلا قليلاً لأقول: إن مخرجه أحمد السبعاوي، وأن موضوعه يدور وجوداً وعدماً حول انتقام البطل “الشحات مبروك” من عصابة تتاجر في الرقيق الأبيض، قتلت شقيقه طالب الطب، عندما كان يحاول إنقاذ فتاة “نهلة سلامة”، لجأت إليه لانتشالها من براثن تلك العصابة، التي دفعت بها مكرهة، إلى ممارسة مهنة بيع جسدها إلى الرجال.

ومما يعرف عن أي فيلم للثلاثي “السبعاوي”، ” الشحات” و”نهلة” أن عرضه في دور السينما، إنما يَمُرّ مَرّ الكرام، ولولا العيد السعيد لما حظى بمكان بين الأفلام .

وأنتقل إلى الأفلام الأخرى وهي “البطل” و”مجرم مع مرتبة الشرف” و”دانتيلا”،لأعرض لها باختصار، أرجو ألا يكون مخلاً.

خيبة الأمل  

وأبدأ بـ”البطل” لأنه أول فيلم شاهدته وكان ذلك في حفلة الصباح من أول أيام العيد.

ولأن أحد أبطال الفيلم الثلاثة محمد هنيدي، فأغلب الحضور كانوا من الصغار.

وكم كان الفيلم مخيباً لما علقوا عليه من آمال كبار.
فهنيدي ، على عكس المتوقع، يلعب في الفيلم دور شاب مهزار، سرعان ما تتحول به الأحداث إلى بطل مناضل من أجل الاستقلال، وذلك بعد مقتل أحد رفاقه برصاص جيش الاحتلال.

ولم يكتف كاتب السيناريو “مدحت العدل” بهذا التحول المفاجئ، بل أضاف إليه استبسالاً في النضال انتهى بهنيدي مقتولاً، هو الآخر، برصاص المحتلين، محمولاً نعشه على الأعناق، حتي مثواه الأخير!!

وطبعاً كل هذا ما كان ليرد علي بال جمهور الفيلم بأي حال من الأحوال.

ومن هنا عدم استعداده لصدمة مشاهدة نجمه الهزلي، وقد تحول، دون مقدمات، إلى بطل مأساوي أشبه بأبطال الملاحم الإغريقية في سالف الزمان.

وخروجه من الفيلم محبطاً.

المأساة.. متي؟ 

ولا غرابة فيما أصاب الجمهور، فهنيدي بحكم تكوينه أهل لأن يكون نجماً كوميدياً رائعاً، وليس تراجيدياً.

وربما يتأهل للأدوار ذات الطابع المأساوي، مع زحف الشيخوخة بعد عمر طويل، مثله في ذلك مثل شارلي شابلن، عندما أصبح كهلاً، فلعب أدواراً تمتزج فيها الملهاة بالمأساة بدءاً من”المسيو فيردو” سفاح عجائز النساء.

ورغم أن كل هذا من البداهة، فإنه، ولا مراء، غاب عن إدراك المخرج الواعد “مجدي أحمد علي” صاحب “يا دنيا.. يا غرامي”. فكان أن أسند إلى هنيدي دوراً غير ملائم لشخصيته، مما كان سبباً في إضعاف مصداقية الفيلم إلى حد كبير.

ومن بين النماذج الأخرى المطروحة في الفيلم، وما أكثرها، نموذج النجار الشاب الذي يهوى الملاكمة، فضلاً عن سعد باشا زغلول زعيم الأمة ويؤدي دوره “أحمد زكي”.

الجديد الوحيد

وأحداث الفيلم تدور حول نجاحه في تحقيقه كل طموحاته، بمصاحفة زعيم الأمة في أثناء إلقائه خطاباً أمام الجماهير، وبالانتصار في مباراة ملاكمة عالمية على أحد الأبطال الأوروبيين، وبالزواج من امرأة تفانت في حبه، فأنجبت له الصبيان والبنات.

ودور أحمد زكي في الفيلم لا يعدو أن يكون تكراراً لدوره كملاكم في فيلمي “النمر الأسود” للمخرج عاطف سالم، و”كابوريا” للمخرج خيري بشارة.

والحق، أنه لا يصلح لهذا الدور الآن، وذلك بحكم زحف الأيام وترهل الأجسام.

ولعل الشيء الجديد الوحيد في الفيلم هو “مصطفي قمر” المطرب الشاب الذي يلعب دور فتى من أصل يوناني، عاشق لكل ما هو مصري، رافض لمعاملته وكأنه أجنبي، متمرد علي كل شيء مشارك في النضال.

سمك لبن تمر هندي

وإذا كان العيب الرئيسي الذي شاب “البطل” مرجعه التحول بهنيدي إلى ممثل مأساوي.

فعيب “مجرم مع مرتبة الشرف” مرجعه سيناريو اختلط فيه الحابل بالنابل، على نحو تحول بالفيلم إلى سمك، لبن، تمر هندي.
ففيلم “مدحت السباعي” ليس فيلماً واحداً وإنما عدة أفلام.

فهو يبدأ فيلم حركة وتشويق، تغلب عليه المغامرات والمطاردات، تصاحبها اللكمات والطلقات.

غير أنه ما إن تلتقي “دنيا” “بفؤاد” أو “رغدة” بـ”هشام عبد الحميد”، حتى يتحول إلى فيلم غرامي، ناعم، يتبادل فيه الإثنان القبلات، ويدور الحديث بينهما حول أيام ضاعت من العمر، قبل اللقاء.

من أجل ولدي

ولا يدوم الفيلم الغرامي طويلاً، إذ سرعان ما نواجه بأحداث فيلم آخر ميلودرامي عماده التضحية بالغالي والرخيص من أجل الأولاد، فلذات الأكباد.

وما نكاد نفيق من هول صدمة موت الطفل الصغير ابن “فؤاد”، وهو في أحضانه، داخل إحدى لقطات العودة إلى الماضي، قصد بها المخرج وكاتب القصة والسيناريو والحوار “مدحت السباعي” بيان أسباب انخراط “فؤاد” في عالم الإجرام.

أقول ما نكاد نفيق من هول تلك الصدمة، وصدمات ميلودرامية مماثلة، حتي يظهر أمامنا علي الشاشة فيلم أبطاله أصحاب ذقون سوداء ونفوس فظة، غليظة القلب، يتحرقون شوقاً لإرهاب المجتمع وترويعه بالقتل العشوائي، الذي ينحدر إلى حد الشروع في تفجير حافلة مدرسية، مزدحمة بالأطفال.

وبفضل هذا الظهور المفاجئ، تحول “مجرم مع مرتبة الشرف” إلى فيلم سياسي قوامه الدعوة إلى محاربة الإرهاب.

ومع هذه الكثرة في الموضوعات، كان لابد وأن تتعدد الشخصيات، وتتداخل على نحو مُحير للألباب.

أول القصيدة   

وإذا سلمنا بما جاء في العناوين فالفيلم من إنتاج “هشام عبدالحميد”، الذي يلعب فيه دور لص، نبيل، ليس في طبعه الإجرام.

وأغلب الظن أن أحد دوافع إقدامه على الإنتاج، هو المشاركة بفيلمه في معركة حماية الوطن من خطر طاعون الإرهاب.

والمشاركة علي هذا النحو، دافع ولا شك نبيل.

ومما يُعرف عن مخرج الفيلم أنه من فئة المخرجين المؤلفين.

ولقد خانه التوفيق أولاً في اختيار الممثلين وثانياً في المعالجة السينمائية لخطر الإرهاب.

فرغدة وماجدة الخطيب، كلتاهما تبدو في الفيلم أكبر سناً، الأولى من حبيبها هشام والثانية من زوجها “عبد العزيز مخيون” الذي يتقمص شخصية طبيب واسع الشهرة والثراء. كما أن رغدة في دور الأم الملتاعة على ابنتها الوحيدة المريضة بالقلب، لم تكن مقنعة.

أما لماذا خان التوفيق “السباعي” في معالجته السينمائية لخطر الإرهاب، فذلك لأنه خلط بين أكثر من نوع، بمواقف مضحكة مواقف محزنة، بمواقف عبثية مواقف جادة، وهكذا.. وهكذا، فكان أن جاء فيلمه “خلطبيطة”، كعنوان فيلم آخر له أخرجه قبل أربعة أعوام.

الانفراد بالتكريم

والآن إلى رابع أفلام العيد “دانتيلا”.
وبداية أقول: إنه انفرد دون الأفلام الأخرى بمشاهدة وزيرين مخضرمين له وهما وزيرا الثقافة والكهرباء.

كما انفرد باختيار لجنه المهرجانات بوزارة الثقافة له، ممثلاً للسينما المصرية في مهرجان شيكاغو السينمائي.

وفوق هذا انفرد صانعوه المخرجة إيناس الدغيدي، ونجمته يسرا، وكاتب السيناريو رفيق الصبان، انفردوا بتمثيل مصر في مهرجان “كان” الأخير، على حساب وزراة الثقافة، وهنا لا يفوتني أن أذكر أنه من بين من اختارتهم تلك الوزارة لتمثيلها في ذلك المهرجان “رغدة” نجمة “مجرم مع مرتبة الشرف”، والشاعرة التي لا يشق لها غبار، لاسيما بعد اختفاء “نزار”.

خيش أم دانتيلا

و”دانتيلا” لعله أول فيلم لإيناس بعد “لحم رخيص” الذي يعد بحق واحداً من أكثر أفلام السينما سوقية وسوءا.

هو لا يختلف في السوقية والسوء كثيراً عن لحم رخيص.

حقاً هو أفضل من الفيلم الأخير في التصوير، وفي تكوين بعض اللقطات، ولكنه أسوأ منه في أكثر من مجال.

ويكفي هنا أن أقول أنه أكثر ابتذالاً خاصة في مشاهد السرير التي تتكرر، لا لهدف سوى دغدغة الحواس.

ومشاهد يسرا، وهي تغني أوف.. أوف ودانتيلا.

وياليتها ما خضعت للإغراء، فشوهت صورتها في نظرنا، نحن المتفرجين، بغناء أقرب إلى تأوهات الغانيات، في أحضان طالبي اللذات.

والفيلم يبدأ بلقطات غير ملونة “أبيض وأسود” لفتاتين، إحداهما على وشك أن تغرق في البحر، والأخرى تنقذها من موت أكيد.

قبح وتشويه

وفي اعتقادي أنني لست بعيداً عن الصواب، بجنوحي إلى القول بأن تلك اللقطات، من أقبح ما شاهدته عيناي إخراجاً وتمثيلاً.

وسرعان ما يتضح لنا أمر هاتين الفتاتين، فإذا بإحداهما فتاة سيرك والأخرى بنت أكابر.

وإنهما، ويا للعجب، صديقتان.

وما هي إلا بضع دقائق، حتى تنتقل بنا صاحبة الفيلم من اللقطات البيضاء، السوداء الشديدة القبح إلى مشاهد ملونة أشد قبحاً.

فها هي ذي “يسرا” فتاة السيرك سابقاً، تتلوى وتتثنى في ملهى ليلي، درجة ثالثة، وهي تغني “أوف.. أوف” بين صياح سكارى، أشباه رجال.

وبعد ثوان، تسرع صاحبة الفيلم بمفاجأتنا بإلهام شاهين بنت أكابر، قادمة من القاهرة إلى الإسكندرية، كي تقيم مع حبيبة العمر “يسرا”.
أما لماذا غادرت بيت العز في القاهرة، ولماذا أقامت عند غانية، سكيرة، سيئة السمعة، وذلك رغم أنها محامية، وبنت ذوات، فكل هذا لا نجد له إجابة في سيناريو كتبه ثلاثة كبار “مصطفى محرم”، “إيناس” و”الصبان”.

الشرطة في خدمة الغانيات

وعلي كُلٍ، ولصيق المجال، فلن أعرض بالتفصيل لالتقاء الصديقتين أو الحبيبتين بضابط الشرطة “محمود حميدة” في أحد الأقسام.

ولا لوقوعه في حب بنت الأكابر التي ضحت بحبها له من أجل يسرا.

فكان أن عادت إلى بيت العز، حيث تزوجت من رجل أعمال، اصطحبها إلى كندا، حيث عاشت مملولة، إلى أن تخلصت من أسر الزيجة بالطلاق.

وإنما أكتفي بأن أقول بأن “إلهام” لم تعد إلى بيت العز في القاهرة، وإنما إلى بيت الغانية يسرا في الإسكندرية، حيث فوجئت بها زوجة لحميدة في الحلال.

وإذا بها تغضب لذلك غضباً شديداً، وهي التي سبق لها، وأن ضحت بحبها لحميدة من أجل سعادة حبيبة عمرها يسرا.

ولأن كيدهن عظيم تنجح إلهام في إغراء حميدة، حتى يتخذها زوجة وضرة ليسرا الهائجة عمّال علي بطّال.

وهنا ينحدر الفيلم إلى ملهاة رخيصة، عمادها مواقف مفتعلة أشدّ افتعالاً، تدور حول الصراع من أجل فحولة رجل بين امرأتين، ولا أقول، ذئبتين مفترستين.

ويستمر الفيلم في عبثهم العابث، حتى يصلوا بنا، نحن المتفرجين الضحايا، إلى ختام قلّ أن يكون له مثيل في الافتعال.

ولا يبقى لي مع فيلم كهذا سوى أن أقول: إنه به وبما شابهه من أفلام كان حتماً سقوط السينما في بلادنا سقوطاً مدوياً.