عار الكيف مرة أخري

“الكيف” للمخرج “علي عبد الخالق” و”الوجه المدمر” للمخرج الأمريكي “بريان دي بالما” فرسا رهان، الاثنان يعرضان في وقت واحد وسط القاهرة، بل في شارع واحد “ميامي وأوديون” والاقبال عليهما منقطع النظير.
والاثنان يعرضان للمخدرات وسمومها من خلال مشاهد غير مألوفة لشم الكوكايين والحقن بالهيرويين لتثير الفزع في النفوس والرعب في القلوب.

والاثنان لكاتبي السيناريو “محمود أبو زيد” و”أوليفر ستون”، وكلاهما له خبرة واسعة في دنيا المكيفات وغرائبها.

فالأخير صاحب سيناريو “قطار منتصف الليل السريع”.. وهو فيلم مداره عالم مهربي الكيف بالشم وخلافه وجرائمهم التي لا تنتهي.

أما “محمود أبو زيد” فقد سبق له وأن أبدع سيناريو “العار” ذلك الفيلم الزاخر بالاسقاطات علي أخلاقيات الفئات المتوسطة القائمة علي محاولة الإثراء بأية وسيلة حتى لو وصل الأمر إلى حد الإتجار بالمخدرات، والتعرض لما تجلبه، في نهاية المطاف ، من عار ودمار ما بعده دمار.

أرواح ميتة

وفي “الكيف” كما في “العار” بطلا الفيلم من الفئات الدنيا المنحدرة من الطبقة المتوسطة.

إنهما “جمال” محمود عبد العزيز و”صلاح” “يحيي الفخراني”.

والفيلم يبدأ بأولهما مقبوضاً عليه مع أفراد فرقة موسيقية إثر خناقة مع أصحاب أحد الأفراح وبفضل لقطات سريعة نكتشف أنه شاب فاسد مستهتر، يعيش وحيداً لا يهمه من متاع الحياة الدنيا سوى الجنس والمخدر، فشل في كلية الحقوق فلم يكمل الدراسة، ولا أمل في أن يسترد الوعي ويتحرر.

وعلي العكس من ذلك شقيقه “صلاح”، فهو رب أسرة صالح ناجح، متخرج في كلية العلوم، يعمل كيمائياً في إحدى شركات القطاع العام، يعيش مع زوجته “رجاء” “نورا” وابنه “كوكي” “كريم أبو زيد” عيشة تبدو مستقرة هانئة، هادئة، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.. كيف؟
السقوط.. لماذا؟

فدخله من عمله الشريف قليل وأعباء الحياة ومتطلباتها كثيرة، فهو مثلاً، ورغم علو مركزه، غير قادر على توفير المال اللازم لالحاق ابنه الوحيد بإحدى المدارس.

وفي سبيل الخروج من هذا المأزق الصغير، يقتنع بمنطق شقيقه الفاسد، فيوافق على صنع كمية من تركيبة كيميائية شبيهه بالحشيش لوناً ورائحة ومذاقاً بغرض الإتجار.

ومع هذه السقطة الأولى يبدأ مسلسل مرعب من الانحدار ينتهي بالأسرة كما في العار إلى نهاية فاجعة.

فها هو ذا “صلاح”– بعد أن أمر “البهظ” “جميل راتب” كبير تجار المخدرات بحقنه بالهيروين لإجباره على الاستمرار في صنع تلك التركيبة.. ها هو يتحول إلى مدمن فاقد الوعي اختصرت إنسانيته حتى أصبحت أصغر من حبة خردل.

شطحات وخيالات

والكيف يعرض للانهيار من خلال أحداث تجري في خطين متوازيين.. خط الكيف ولوازمه من ناحية، وخط الأغنية الهابطة ومشتقاتها من ناحية ثانية.

والخط الأول ليس فيه جديد سوى فكرة التركيبة الكيمائية الشبيهه بالحشيش يتعاطاها المدمن فترتفع به إلى سماء الدهشة، تسافر به إلى مدن الغرابة كما الحشيش غير المغشوش تماماً؟!
وفي اعتقادي أن تلك الفكرة بعيدة عن الواقع، أقرب إلى الخيال العلمي وشطحاته منها إلى أي شيء آخر..

ومن هنا إفلات البناء الدرامي من يد صاحب السيناريو في الثلث الأخير من الكيف.

وعلى كُلٍ، فهذا المأخذ لا يقلل من أهمية الكيف، ولا يحول دون إبداء الإعجاب به ككل، والإعجاب بحدوتة صعود جمال أو “مزاجنجي”.. اسم شهرته في الأوساط السفلى– في عالم الطرب والغناء.

دائرة الكسل

والشيء الأكيد أن “الكيف” مثله في ذلك مثل “العار” قد نجح في الخروج من دائرة الإعادة والتكرار.

فتجار المخدرات فيه يعربدون يفرضون قانون الغاب دون تخوف من شرطة مختفية لا تشعر بأن لها وجوداً.

وأماكن الأحداث فيه قد تم اختيارها بعناية فائقة، وبحس معماري رفيع، وجرى تصويرها بكاميرا “مأمون عطا”.. وهو فنان واعد يتقن لعبة الظل والتمويه.

وحوار الأبطال فيه شيق لاهث، يضيء كالبرق، فضلاً عن رسم لشخصية “جمال” المزاجنجي” وللشخصيات الثانوية وبالذات “الريس ستاموني” فؤاد خليل، مؤلف أغنية “يا قفا.. يا قفا” من خلال لمسات سريعة، وجمل معبرة من حوار بارع.

والأكيد.. الأكيد أن وراء الكيف كاتب يفكر، وليس فيلمه سوى واحد من الجزر الجميلة القليلة التي يهديها الفكر للسينما المصرية.

حيرة رقابة بين المشروع والممنوع

كان مأخوذاً عن قصة “نيقولا والكسندرا” للكاتب “روبرت ماس” اشترى “سام سبيجل” حق تحويلها إلى عمل سينمائي وهو منتج “لورنس العرب” و”جسر على نهر كواي”.

كان أحد الأفلام الضخمة التي تنفق عليها الملايين بغير حساب. وكان مُقدراً له أن يستمر عرضه في عاصمة مصر مدة تطول إلى أسابيع.

ولأمر ما جاء عرضه بعد منتصف شهر يناير سنة 1977 بقليل، وربطت الرقابة على المصنفات الفنية بين أحداثه الملحمية، وبين وقائع 18و 19 يناير المسماة فى قول بانتفاضة شعبية وفي قول آخر بانتفاضة الحرامية، فكان أن سحبت قرار إجازتها له بعد أسبوع واحد من عرضه، وذلك بحجة أنه فيلم “بلشفى”.

ولفهم هذا الموقف الرقابي، قد يكون من اللازم المفيد سرد بعض أحداث مأساة آخر القياصرة “نيقولا والكسندرا”.

تبدأ سيرة القيصرة والقيصر فى الفيلم بلحظة فرح، حين يزف الأطباء إلى صاحب روسيا بشرى أن زوجته قد انجبت له- وبعد أربع بنات- ولي عهد وزنه ثمانية أرطال يرث الأرض ومن عليها، غير أن الفرح لا يدوم فثمة حرب ضروس مع بلاد الشمس المشرقة تنتهي بالأسطول الروسي فى قاع المحيط الهادي حطاما.
وولي العهد المريض بالهيموفيليا “نزف دم وراثي جاءه من أمه حفيدة الملكة فيكتوريا”، ولا يُرجى له شفاء.

والقيصرة امرأة متعجرفة تنحدر من أصل ألماني، رسالتها فى الحياة الحفاظ على سلطات القيصر كاملة غير منقوصة ولابنهما العليل من بعده، تعتقد في الخزعبلات، إذا ما اصطدمت مصالحها بالعلم وقوانينه لجأت إلى الدجل والشعوذة.

اللعنه

وهي في بحثها عن الخلاص لوحيدها تلتقي برجل يتاجر في الدين اسمه “راسبوتين”.

ومع هذا اللقاء تتشابك خيوط المأساة، وتتصاعد إلى حيث نرى القيصر وأفراد عائلته السته قريباً من النهاية، وقد ساقتهم العاصفة المميتة إلى مشارف سيبريا سجناء (يولية سنة 1918).

وهذه النهاية تمهد لما هو أبشع ففي المشهد الأخير من الفيلم نرى نيقولا والكسندرا وأولادهما، وهم يُقتلون جميعاً برصاصات تنطلق من فوهات بلاشفة قساة .

وهذه المذبحة جرى تصويرها وكأنها مذبحة أبرياء، بقصد أن يخرج المتفرج متأثراً، متعاطفاً مع آل رومانوف، غاضباً على البلاشفة غلاظ القلب.

ومع ذلك فالرقابة عندما جنحت لمنع “نيقولا والكسندرا”- بعد اليوم السابع- تذرعت بأنه خطر على النظام العام بمقولة أنه يحمل من التأييد للثورة البلشفية الشيء الكثير!!

. بعد السقوط . 

هناك إذن خلطٌ شديد.

هناك رقابة المشكلة معها أنها لا تعرف أين هي، ماذا يٌراد منها. إلى أين اتجاهها، وفى سبيل أية غاية أو هدف.

وعلى كُلٍ فالثابت أنها، وهي تطيح “بنيقولا والكسندرا” قد أستندت إلى المادة التاسعة من قانون الرقابة رقم 431 لسنة 1955.

وهي نفس المادة التي أستندت إليها بعد ذلك بست سنوات عندما كشرت عن أنيابها لفيلمي “درب الهوى” و”خمسة باب” فسحبت ترخيصيها لهما بالعرض على امتداد أرض مصر.
ماذا تقول هذه المادة التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب أصحاب الأفلام يعيشون من اساءة استعمالها في رعب وعذاب؟

تقول أن السلطة القائمة على الرقابة يجوز لها أن تسحب الترخيص السابق اصداره فى أي وقت بقرار مسبب إذا طرأت ظروف جديدة .

وغني عن البيان أن المقصود بتلك الظروف في ضوء التفسير الصحيح للمادة هو ما تعلق منها بالنظام العام وحسن الآداب ومصالح الدولة العليا.

وبديهياً أن ظروفاً هذا شأنها تتغير بين يوم وليلة. وبالنسبة للفيلم لا يتصور تغيرها بعد انقضاء أيام معدودة من عرضه. وهذا التفسير الصحيح ضربت به الرقابة عرض الحائط. فبعد سبعة أيام لا تزيد من عرض “نيقولا والكسندرا”.

وبعد ستة عشر يوماً من عرض “خمسة باب” أصدرت قرارها بسحب الترخيص لهما بالعرض العام.

وقد اعترفت لنا أنها منعت الفيلم الأول- وهو أمريكي الجنسية- لأنه بلشفي، وهو اتهام ثبت أنه إلى التخليط الشديد أقرب. أما فيلم “خمسة باب” فقالت تبريراً لمنعه أنه قد اتضح لها- بعد عرضه- أنه “أحدث انطباعاً سيئاً لدى الجماهير”.

.اليتيم المجهول.

والمقصود بالجماهير مقال يتيم نشرته جريدة أخبار اليوم فى العشرين من أغسطس سنة 1983 حمل رأياً نسب إلى مجهول تستر وراء توقيع “مصري”.

وهذا الرأي يعترض على “خمسة باب” يقول فيه ما قاله مالك فى الخمر، يستنفر وزير الثقافة إلى التدخل حماية للآداب.

مرة أخرى تتعثر الرقابة فى الخلط. ولا تفرق بين الجماهير ومقال يتيم مجهول الصاحب.

فالفيلم بحكم أنه عمل فني يمكن أن تختلف من حوله الآراء، ولا يشترط فيه أن يكون موضع استحسان الجميع بلا استثناء، فاختلاف الآراء فى شأنه- قبولاً أو رفضاً- أمر وارد فى جميع الظروف والأحوال.

وعلى كُلٍ فلا يمكن أن يتصور فى الجدل أن يكون مقالاً يتيماً مجهول الصاحب من قبيل الظروف المستجدة التي عناها القانون، والتي تبيح للرقابة سحب قرارها بالترخيص. فمثل هذه الظروف يشترط لتوافرها:

أولاً: أن تكون ظروفاً واقعية أو قانوية جديدة.

ثانياً: أن تكون من شأن توافرها تقويض الأساس القائم عليه القرار الصادر بالترخيص.

ثالثاً: أن تكون غير واردة فى تقدير السلطة المختصة وقت الترخيص.

ولا يُعقل أن يكون لمقال وحيد كل هذا التأثير وباستبعاده كسبب معقول للحكم على “خمسة باب” بالإعدام، فكيف كان للرقابة إذن أن تعرف أن الفيلم قد أحدث انطباعاً سيئاً لدي الجماهير؟

فمن المعروف أن مصر لا يوجد بها معهد أو أسلوب علمي لقياس الرأي العام كما أن هذا القول غير مقبول منها وهي التي رخصت للفيلم بالعرض العام بعد أن قدرت أن المجتمع المصري قد تطور وأصبح يتقبل هذه النوعية من الأفلام .

وليس من شك أن الإقبال على مشاهدته هو خير معيار وخير دليل على أن الجماهير بريئة من تهمة العداء لخمسة باب وغيره من الأفلام .

.مذبحة الأفلام .

ومن أسباب هذا الخلط الجهل بطبيعة العمل السينمائي، بأنه شكل متميز من أشكال التعبير عن الفكر لا يجوز الحجر عليه إلا في أضيق الحدود.

وهذا الجهل والسكوت عليه أديا إلى مزيد من التخبط فى الأحكام الرقابية، إلى زحف غير مقدس للمنح بحيث أصبحت الأفلام تهمة، وإجازتها تهمة أخطر، وأخذت المعرفة بينها وبين الرقابة شكل المذبحة.

فكل فيلم هو بالضرورة صوت الرذيلة يحمل تخريبا للنفوس.

ونظرة طائرة على بعض الأفلام الأجنبية الممنوعة تؤكد فساد هذا الاتجاه وخطورته على حرية التعبير.

.خطوة..خطوة.

فمفيستو واحد من أهم الأفلام فى تاريخ الفن السابع جاء إلى الرقابة تسبقة سمعة أنه أول فيلم مجري يفوز بجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي (1981).
موضوعه يدور حول المثقف الشريف عندما يدخل مصيدة المهادنات.. كيف يتهاوى وينهار متذرعاً بحجج وتبريرات زائفة مثل “إذا لم أفعل ذلك فغيري سيفعل ما هو اسوأ”. “أنا بذلك أستطيع أن أفعل شيئاً أساعد به أصدقائي”  “أنا أدافع عن الثقافة وقيمها”، “على المرء أن يتلاءم مع الظروف”، “الواحد لا يعيش إلا مرة واحدة”، “من حقي أن استغل مواهبي”. وفى نهاية المطاف يجد نفسه وحيداً، لم تنفعه كل تهادناته، كل تحالفاته مع الشيطان.

ولكن يبدو أن الرقابة لا تريد لأحد أن يتعلم درس”مفيستو” أن يستفيد من أخطاء الآخرين، فكان أن منعت الفيلم، أعادت نسخته من حيث أتت، إلى شركة فوكس للقرن العشرين.

“وحمر” هو الآخر جاء إلى الرقابة تسبقة سمعة أن شركة “بارامونت” صرفت علىه أربعين مليون دولار، وأنه فيلم سياسي غرامي، الحب فيه قصة آخاذة متميزة، تدور حول نفرٌ من الناس التحمت حياتهم بوقائع صاخبة جرت في أزمنة باهرة لن تتكرر أبداً.

وهذا التميز في قصة الحب رأته الرقابة- بحكم الاعتياد على قصص الحب التافه في السائد من الأفلام- رأته رذيلة تستوجب حرماننا من مشاهدته حماية لنا من الحب غير التافه الذي كان بين “ريد” (وارن بيتى) صاحب كتاب “الأيام العشرة التى هزت العالم” وبين “لويز براينت” (ديان كيتون)، تلك الفتاة التي ولدت مثل “ريد” في مدينة “بورتلاند” من أعمال ولاية “اوريجون”، انغمست منذ الصبا فى الدعوة الى تحرر المرأة، ثم رحلت بعد طلاقها من طبيب فى تلك المدينة فى أعقاب “ريد” إلى نيويورك حيث ارتبطا بالزواج.

وحياتهما المشتركة التي اعتبرتها الرقابة خطرا كبيراً يتهدد النظام العام- هذه الحياة كانت من النوع العاصف. فما أكثر الهزات التي تعرضت لها بسبب غياب “ريد” الطويل بعيداً على طريق السياسة، وبسبب سحابة حب عابر بينها وبين كاتب المسرح “اوجين اونيل” (جاك نيكلسون).

.غضب الرب.

وعلى مر الأيام يشتد الطوفان، يتكاثر المنع، تفتعل له الأسباب.

فـ”فيكتور وفيكتوريا” إخراج “بليك ادواردز” وتمثيل زوجته “جولي اندروز” و”توتسى” إخراج “سيدنى بولاك” وتمثيل “داستن هوفمان” يُمنعان لا لسبب سوى أن الرجال والنساء على حد سواء ينتحلون شخصيات من الجنس الآخر.
“والبحث عن جودبار” إخراج “ريتشارد بروكس” وتمثيل “ديان كيتون” و”الجوع” إخراج “توني سكوت” وتمثيل “كاترين دي نيف” لا يُرخص بعرضهما لاحتوائهما على مشاهد جنسية تتنافى مع الطبيعة الأخلاقية للسينما.

واثنان في واحد” للمخرج “جون هيرتنيلد” وتمثيل “جون ترافولتا” يُحال بينه وبين العرض لأنه يبدأ بصوت آت من بين النجوم يتحدث مع الممثلين، يتحاور معهم مفاضلاً بين الحياة هنا على الأرض وبينها هناك بعيداً فى السماء.

و”سنة الحياة في خطر” إخراج “بيتر فير” وتمثيل “ميل جيبسون” لا يُرخص له لأن قصته عن الأيام الأخيرة من حكم الرئيس “سوكارنو”، كيف انقلب العساكر على نظامه.. كيف سالت الدماء أنهارا.

وهكذا.. وهكذا تختنق السينما بطوفان المنع يصل إلى الذروة بصدور قرار يحظر أفلام شركة “كولومبيا” جميعها وبلا استثناء حتى “غاندي” لم يسلم من القرار ووجد نفسه متهماً.. خارجاً على القانون.

التخليط لماذا؟

ومع هذا كله، فإن هناك ما هو أفدح وأخطر، وأعني به انعدام المعيار الواحد في الحكم على الأفلام.

فالرقابة التي ارتأت أن “الوجه المدمر” للمخرج الأمريكى “بريان دى بالما” غير مشوب بعيب العنف فأجازته، هذه الرقابة نفسها انتهجت نهجاً آخر عندما ارتأت أن “شوارع من نار” للمخرج الأمريكى “والتر هيل” فيلما مشوباً بهذا العيب مما يوجب عليها الامتناع عن إجازته.

ولو بدأنا بتأمل الفيلم الأول لوجدناه زاخرا بموانع متفجرة كفيلة ببث الرعب فى قلب أي رقيب، نسف ما قد يكون متبقياً عنده من مدخرات الشجاعة.

فما هي هذه الموانع، ما الذى في “الوجه المدمر” يفزع، يحمل لأي رقيب الهمّ والغمّ؟

فيه كمٌّ مهول من العنف لو وزّع على عشرات الأفلام لفاضت دماءً ودماراً. ولا غرابة فى هذا فمخرجة اشتهر بالتعطش للدماء، رأيناها حمراء تسيل بلا حساب فيما اتيح لنا أن نشاهده مما جادت به قريحته من أفلام . وفيه كذلك مشاهد للكوكايين وشمه فى العربات الفارهة والقصور والأوكار، لم تقع على مثلها عين من قبل.
ولا عجب في هذا “وأوليفر ستون” كاتب السيناريو له خبرة طويلة فى عالم تهريب المكيفات وغرائبه، لمسناها في “قطار منتصف الليل السريع” ذلك الفيلم الذى يعرض لحياة مهرب مخدرات شاءت له الأقدار أن يُزَّج به فى واحد من سجون تركيا حيث لاقى أهوالاً يشيب لها الولدان. وفيه مشهد ختامي، لعله واحد من أكثر مشاهد العنف عنفاً.

أمامنا “توني مونتانا” المجرم الكوبي ذو الندبة “ال باشينو”. لقد ذهب شم المسحوق الناصع البياض بعقله. إنه ممسك بمدفع رشاش، تنطلق منه الرصاصات الى القلب من قصره، حتي إذا ما انتهت المعركة الدائرة بينه وبين الفرقة الانتحارية البوليفية التي أرسلها أباطرة الكوكايين للخلاص منه، بسقوطه من شرفة القصر جثة هامدة فى النافورة التي تزين البهو، ران صمت كصمت القبور وسط أشلاء ودمار ودماء.

أما “شوارع من نار” فله قصة آخرى لعب فيها الحظ العاثر دوراً كبيراً.

. قصة الحي الشرقي .

هو من نوع الكوميديا الموسيقية الذى ابتدعته هوليوود بدءا من السادس من أكتوبر سنه 1927.

يبدأ بأفراد واحدة من عصابات شيكاغو بالولايات المتحدة في زمن الروك والرول بأنغامه الشابة الصاخبة. إنهم صعاليك يرتدون ملابس من جلد أسود سميك، يضعون على صدورهم الجمجمة شارة الموت، يمتطون دراجات بخارية يسابقون بها الريح، ينطلقون عابثين تحت سمع وبصر شرطة لا تملك من أمر أمن الشوارع شيئا، إذا دخلوا مكاناً أفسدوه، نشروا فيه الذعر والدمار وألسنة النار.

وهم في لقطات الفيلم الأولي نراهم داخل قاعة رقص كبيرة بها حشد هائل من الشباب المراهق يهلل لكلمات تشدو بها إحدى ملكات الروك “ديان لين”. وفي ثوان يصعدون إلى خشبة المسرح يختطفونها، يذهبون بها أسيرة إلى مكان أمين.

ولايكاد ينتهي المشهد إلا ويكون “الشجيع” (مايكيل باري)و “الشجيعة” (امى ماديجان) قد ظهرا.

وكما في أفلام الغرب الأقصي (رعاة البقر) تبدأ المعارك حامية ضارية بين الخير يرمز إليه الفارس الأوحد، وبين الشر تمثله عصابة من الأوغاد.

وطبعاً ينتهي كل شيء بانتصار الأخيار على الأشرار، بإنقاذ المغنية المخطوفة من براثن زعيم العصابة، طاهرة لم يمسسها بشر، بعودتها إلى محبيها عشاق أغانيها معززة مكرمة.

إذا ما تعمقنا الفيلم قليلاً لتبين لنا أنه بلا دماء بلا قتلى من البشر.

قتلاه- إذا جاز استعمال هذه العبارة- من نوع جديد، دراجات بخارية يطلق عليها الشجيع الرصاص من غدراته فى موضع خزان البترول، فتخر صريعة والنار مشتعلة فيها.

ومن هنا اسم الفيلم “شوارع من نار”، واضح إذن من السرد المتقدم أن نصيب الفيلم الثاني من العنف أقل بكثير من نصيب “الوجه المدمر” ورغم ذلك رد الفعل الرقابي اختلف.
الإباحة لفيلم قصر عرضه فى الولايات المتحدة على الكبار، والمنع لفيلم مباح عرضه في نفس الولايات للجميع.

ما سر هذه المفارقة الصارخة ؟

هنا يتدخل الحظ العاثر.

فوقت عرض “شوارع من نار” على الرقابة ارتكب نفر من الشبان جريمة الحي الشرقي في ضاحية المعادى.

تلوث الجو، صار مشحوناً بهوس الخوف من ذئاب بشرية لا هم لها إلا الاغتصاب، هوس تحريض العدالة على إنزال أشدّ عقاب بتلك الذئاب.

وفي ظل هذا الجو المسموم كان لابد أن يزداد القمع الفكري، أن تنهار معايير التقدير، أن تتقلص رقعة حرية التعبير. وكان لابد أن يصيب الرقابة خوف شديد معه يضيع من الذاكرة التاريخ القريب.

ومن منطلق الخوف هذا نقبت الرقابة في”شوراع من نار” فاكتشفت أن ثمة فتاة اختطفت، وأن شبابنا لو تعرض لفتنة مشاهدة لقطة اختطافها لأندفع من دارالعرض فاقد الوعي، مفسداً فى الأرض.

ومن هنا كان التضاد المحزن بين التبرئة “للوجه المدمر” وبين القضاء على “شوارع من نار” بالإعدام.

المهم فى الأمر أن الرقابة في حيرة، وأشدّ جوانب هذه الحيرة مدعاة للحسرة أنها تفعل مع الفن السابع ما تشاء بغير أسباب وبغير حساب.

اللقاء الأول والمشهد الأخير – قصة سينمائية حزينة

بعد زلزال الخامس من يونية بقليل، أمر وزير الثقافة إدارة الرقابة بإصدار قرار بحظر عرض أفلام الولايات المتحدة وانجلترا وألمانيا الاتحادية فى ديار مصر، والسبب تواطؤ الدول الثلاثة مع العدو الصهيونى فيما اصطلح على تسميته بحرب الأيام الستة.

وطبعا كان لابد من البحث عن أفلام بديلة من انتاج دول لم تتآمر مع العدو، كي تحل فى دور العرض محل ما مُنِعَ من أفلام.

ومن هنا صدر أمرٌ آخر، بعد أيام من أمر الحظر، بتكليفي بوصفي مديراً للرقابة بالسفر مع واحد من أهل القمة فى مؤسسة السينما إلى “براغ” و”باريس” بحثاً عن بدائل لأفلام المتواطئين.

بدات رحلة البحث بتشيكوسلوفاكيا. كانت براغ العاصمة أول أرض اشتراكية التقي بها، أتنفس هواءها، ألامس أهلها.

كلمات.. لكلمات

وكانت كلمات ستة نطق بها لسان المترجمة التشيكية- وهي سيدة فى خريف العمر- أول ما شغل بالي فى الرحلة، كيف ؟

كانت السيارة منطلقة بنا من المطار إلى براغ، وإذا بالسيدة- المرافقة تتنهد من أعماق قلبها، وهي تُشير إلى قصرٍ عالٍ منيف بيننا وبينه نهرٌ هائج برغم سكون الريح، ثم تقول الكلمات التي كانت أول ما شغل البال.

هنا يقيم رئيس الجمهورية.. وكُلُنا نكرهه

ولم يكد ينقضي على هذه الكلمات عام أو بعض عام حتى كانت ساعة الرئيس المكروه “انطونين نافوتني” قد دنت فإذا به يجد نفسه مضطراً إلى ترك كرسي الحكم، مطارداً بالعار، لا همَّ له إلا الإختفاء عن الأنظار.

وإذا بقوات حلف وارسو تجد نفسها مضطرة الى حشد قواتها على حدود تشيكوسلوفاكيا، والانقضاض بها على براغ محررة فى رأي، غازية فى آراء .

وعلى كُلٍ فقد انتهت رحلة “براغ” باختيار باقة من أفلام قصيرة وطويلة، كان أهمها “غراميات شقراء” لماذا؟
لأنه جديد، بعيد عن التعقيد، يشع سحراً خفياً وليد بساطة تبدو سهلة فى متناول الجميع، ولكنها فى الواقع صعبة، بل قل، ممتنعة المنال، فضلاً عن أن صاحبه مخرج شاب، له أسلوب يتميز فى الظاهر بالعفوية، فيه من سينما الحقيقة ممتزجة بأطياف شابلن وجودار، فيه من كل ذلك الشيء الكثير.

ومضت أيام.. وأيام، ثم قرع سُعاة البريد أبواب وزارة الثقافة فى القاهرة حاملين الأفلام التي اخترناها فى براغ، والتي اشتهينا أن نراها مع الناس على ضفاف النيل.

وغني عن البيان أن “غراميات شقراء” كان من بينها.

ولكن يبدو أن مجيئه كان بعد فوات الأوان فما أن انقضت ثلاثة أشهر على أمر منع أفلام المتواطئين، حتى كانت هوليوود قد فتكت به، وعادت بأفلامها إلى شاشات العرض على امتداد أرض مصر، ثملة بخمر النصر.

ومهما يكن من أمر فالقدر المتيقن أن “غراميات شقراء” وقع عليه الاختيار كي يكون واحداً من أفلام يستهل بها نادي السينما عروض العام الأول من حياته 1968.

ولما انتهيت مع المشرفين على برامج النادي ونشرته من إعداد كل شيء، فوجئنا جميعاً بصدور أمر يمنع عرض “غراميات شقراء”.

رحت أبحث عن السبب، وإذا بي أكتشف أن صاحب ألامر لم يتذوق الفيلم وبكلمه واحدة لم ير فيه فناً.

حاولت الاقناع، عساه يتخلى عن أمر المنع فيسمح “لغراميات شقراء” بعرض واحد.

ولكن الجسور كانت مقطوعة تماما، كان مُصراً على أن الفيلم رديء جداً.

إزاء هذا لم أستطع أن أفعل شيئا سوى الذهاب به إلى نادي سينما دار نقابة الصحفيين حيث كان فتنه للناظرين.

والآن لماذا هذه الذكريات، ما الذى أيقظها من سبات عميق؟

أمران.. الأوسكار يفوز بها صاحب “غراميات شقراء” و”فرانسوا تريفو” رائد الموجة الجديدة يحلم “بأماديوس”.. يريد أن يراه قبل الاختفاء.

خيالات

فى صيف حار، بالتحديد فى أغسطس لعام 1968 كان “ميلوش” مقيماً فى باريس عندما زحفت جيوش حلف وارسو متجهة الى براغ تحتلها فى ساعات. لم يستطع العودة الى أرض الأباء، شدَّ الرحال إلى كعبة السينما “هوليوود” حيث أخرج على مدى ستة عشر عاما، ستة أفلام، وحيث جاءه المجد يسعى بفضل “طار فوق عش المجانين” 1975 و”أماديوس” 1984، وهما فليمان حصل أولهما من الاوسكار على خمس جوائز وحصل ثانيهما منها على ثمانية جوائز، كما أنهما قد توجا بأوسكار أحسن فيلم، هذا إلى أن صاحبها خرج من المضمار فائزاً بأوسكار أحسن مخرج مرتين.
وكل هذا ليس بغريب، فالسينما عند “فورمان” سفر إلى الآخرين، لقاء مع بشر حقيقيين.

ولأنه كان قطعة من روح تشيكوسلوفاكيا صار قطعة من روح العالم.

منطقياً، وبعد الخروج من الوطن منفياً كان يجب أن يسقط، ولكنه فاز.

ومنطقياً كان يجب أن يتفرق الناس عنه، ولكنهم التفوا من حوله، عادوا به الى براغ بعد خمسة عشر عاماً ليصور (أماديوس).

ومنطقيا كان يجب أن يغادر ساحة الأطياف، ولكنه بعد سبعة عشر عاماً.. لايزال فى عالم الإخراج نجماً أعظم.. ما السر؟

من يشاهد أفلام “فورمان”- لاسيما ما كان منها منتجاً على أرض الأباء- يحس أن صاحبها ليس هارباً من عصره، من زمنه بحثاً عن أزمنة وكواكب وكائنات أخرى.

إنه لصيق بالناس، جزء منهم، يشاركهم أفراحهم، أحزانهم، فى كلمة يشاركهم الحب.

فصل ينتهى

وهذا الحب بينه وبين الجمهور صار صليباً على كتفيه، زاد أعداؤه.

ولعل قصة الخصومة بينه وبين استديوهات “باراندوف” والمنتج “كارلو بونتي” كما حكاها فى مقاله “صديقى فرانسوا تريفو” المنشور فى جريدة الموند 1-11-1984 بمناسبة استسلام صاحب “فهرنهيت 451” للموت فى 21 من أكتوبر لعام 1984- لعلها تُلقي بعض الضوء على القوى التى تعوق إبداع صانع الأطياف، تريد أن تستأصل غدد الرفض فيه.

“لعب “فرانسوا تريفو” مع “كلود بري” دوراً بالغ الأهمية لصالحي وذلك فور انتهائى من تصوير “كرة رجال الحريق” 1967.”

الفليم كان انتاجاً مشتركاً فيما بين استديوهات “باراندوف” فى تشيكوسلوفاكيا و”كارلو بونتي” في إيطاليا. والذي أسهم في المغامرة بمبلغ 56 ألف دولار.

وما كاد “بونتي” يشاهد الفيلم، حتى رفض استلامه مطالباً التشيك برد مبلغ الـ 56 ألف دولار.

وفعلتي هذه كانوا يعتبرونها فى تشيكوسلوفاكيا عملاً إجرامياً.

ومن هنا ذلك الكتاب الرسمي المُرسل إليَّ من استديوهات “باراندوف”- ماأزال محتفظاً به حتى يومنا هذا- والذي حمل إليَّ إنذاراً بالإحالة إلى المحاكمة بتهمة التخريب الاقتصادى.

الواقع أن”بونتي” مقت الفيلم مقتاً شديداً، وإن كان قد تذرع رسمياً بأنه أقصر دقيقتين مما جرى الاتفاق علية فى العقد.

إذن كنت متهما بأنني لم أحترم كلمتى، كنت عُرضة من الناحية النظرية لأن يُلقى بي فى السجن مدة قد تصل إلى خمسة عشر عاما.

وأغلب الظن أن عقوبتي لم تكن لترتفع إلى هذا الحد الأقصى.

ولكن الشئ الأكيد أنني كنت مهدداً بسنة سجن على أقل تقدير.

وفى هذه اللحظة الحرجة شاهد “تريفو” و”بري” الفيلم، قررا شراءه، أنقذانى.

حديث الوداع  

وكعادته فى أفلامه انتقل فورمان فجأة فى مقاله إلى الحوار الذى دار بينه وبين “تريفو” قبل شهرين فقط من اندحار صاحب “المترو الأخير” أمام الموت.

فحول ماذا كان حديث الوداع بين الصديقين؟ تناول الحديث الذى دام ثلاث ساعات- وهى مدة مرهقة بالنسبة لشخص يعانى آلام ورم فى المخ ومشرف على الموت- موضوعات وطرائف سينمائية شتى لعل أهمها “أماديوس” الرائعة الأخيرة لصاحب “غراميات شقراء”.
كان”تريفو” مشوقاً إلى “أماديوس”، يريد أن يرى الفليم، يسمع الناي السحري، يُنَفِسُ به عن الصدر المكروب. وعد “فورمان” أن يجيء له “بأماديوس” قبل أن ينتهي مشوار الحياة.

والسؤال الآن لماذا كل هذا الشوق إلى “أماديوس”؟

أتصور أن المخرج الراحل قد شاهد “أماديوس” على خشبة المسرح في باريس.

وأتصور أن موضوع المسرحية قد مَسَّ فيه كما مَسَّ فى صديقه “فورمان” وتراً حساساً.

“فأماديوس” فى رأي مخرجه، بعد أن تحول بالمسرحية الى عمل سينمائي “فيلم موسيقي مثير يدور حول جريمة”.

وفى نظر”بيتر شافر” صاحب مسرحيات “الصيد الملكي للشمس”، “الحصان”، “أماديوس” وكاتب السيناريو “الفيلم روائي وقائعه مستلهمة من سيرة موسيقار كبير، قُدِّرَ له أن يودع الحياة وهو فى ربيع العمر لايزال”.

وعند الدعاة المروجين له فيلم محوره “رجل وموسيقاه.. قتل أحاط به الغموض”.

الطفل المعجزة

فمن هو هذا الموسيقار؟

إنه “أماديوس ولفجانج موزار” الذي أسكب نفسه دموعاً على أوتار القيثار .

ثم ما هي الجريمة الغامضة فى حياته، تلك الحياة التى مرت قصيرة رقيقة كسحابة صيف؟

من المعروف عن “موزار” أنه كموسيقار لا يُشق له غبار.

بدأ حياته 27-1-1756 فى مدينة “سالزبورج” طفلاً معجزة يعزف على البيانو، يؤلف أرق الألحان، وهو في الرابعة من عمره لم يتجاوزها إلا قليلا.

طاف، وهو طفل ثم وهو شاب تارة مع ابيه، وتارة في رفقة أمه، عواصم أوروبا ومدنها الكبرى، يرسل موسيقاه يكلم بها السماء عسى أن ترق له، فترحمه مما يقاسي.

الحب الآخير

عرف الحب معرفة كلها شجون، وكلها حنين حين وقعت عيناه على”كونستانزا ويبر” فى فيينا، ازداد بها هياماً وذاب غراماً، لم يعد يفكر إلا فيها، لم يقو على عذاب البعد عنها، عقد، رغم معارضة أبيه قرانه عليها 4-9-1782.

قاسى من مشاق رحلة العيش مع زوجة مريضة لا ترحم، ومن عذابات التغني بموسيقاه الشاجنة لمجتمع أرستقراطيته غليظة القلب لا تفهم.

لم يسغ ركوع التذلل والضراعة طلباً للرزق، لم يحتمل حياة الشقاء والآلآم.

سقط موهون القوى من الحمى الروماتزمية 1784، زادت أموره تعقيداً وكمداً، ترك دار الغناء مغبوناً محزوناً، ولم يقل أحد مقتولا. متى كان الموت وأين؟
فى تمام الساعة الواحدة من صباح الخامس من يناير لعام 1791 على سريره بمنزل الزوجية الواقع فى قلب “فيينا” المدينة العتيقة، عاصمة أسرة الهابسبورج العريقة. أما الدفن فكان في حضور نفرٌ قليل سرعان ما فرقته ريح صرصر عاتية، بجوار كنيسة القديس ماركوس فى مقابر الصدقة !!

خلاصة الخلاصة أن موزار قد فقد حياته كما يفقدها أغلب الناس.

أذن ما مصدر الشائعة القائلة أنه ذهب إلى دار الموتى مقتولاً؟

هو نفسه كان دائم الترديد لها، ولا أحد سواه.

كيف، وإلى من كان يشير متهماً؟

قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بقليل كان يردد مصراً أن موسيقار البلاط الأول “أنطونيو سالييرى” يتآمر على حياته، يستبيح لنفسه أن يضع السم فيما يُحضر له من نبيذ، للخلاص منه ومن ألحانه التى زلزلت أركانه.

وهذه الأسطورة التقطها الكثير، فمثلاً “ريمسكى كورساكوف” الموسيقار الشهير جعل منها محوراً لأوبرا “موزار وسالييرى” و”سيدريك جلوفر” أدار من حولها موضوع بحثه “المتاريس الغامضة” و”بيتر شافر” اهتدى بها عند تأليف المسرحية.

والفيلم يبدأ وينتهي بالموسيقار”سالييرى” موريي إبراهام.

فهو، والحق يُقال، البطل وليس”موزار” توم هلس .

ففى اللقطات التى يستهل بها الفيلم نراه عجوزاً نزيل مستشفى أمراض عقلية زجّوا به فيها إثر محاولة انتحار.

إنه يعترف بما فعل فى حق العبقرى، بالتسبب فى فاجعة موت موزار، وهو لايزال شاباً مبدعاً.

ومن خلال لقطات تسترجع الماضي، يسافر”سالييرى” الى أزمنة، نتابع فيها ما كان بينه وبين الشاب العبقري منذ لحظة مجيئه إلى”فيينا” وحتى لحظة انطفاء حياته ولما يكمل رائعته الموسيقية الأخيرة ” قداس الراحة”.

ومأساة “سالييرى” كما يصورها الفيلم أنما تكمن فى أن السماء وإن كانت قد منحته قدرة التعرف على العبقرية، العريقة إلا أنها حرمته من مقوماتها من متعة التحلي بها.

إنه الموسيقار الرسمي، ومع ذلك، وهو الذى ليس كمثله موسيقار فى البلاط أحسَّ بأنه أمام عبقرية صافية طاغية، وذلك فى أول لقاء له بـ “موزار” وموسيقاه.

ألحان السماء

فى البدء نظر إليه معجباً، مشدوهاً غير مصدق لما يسمع من ألحان .

إلا أنه سرعان ما أفاق إلى نفسه، سرعان ما أضناه الحقد سهداً، وأعيته الكراهية سهراً، فإذا به يقسم على التخلص من الروح مبعث هذه الألحان.. ولكن كيف؟

بدا له فى غضبه العاجز أنه يستطيع تحطيم ما ليس فى وسعه أن يبدعه.. أعد خطة شيطانية أوقف بموجبها جريان نبع موسيقى “موزار” الساحرة وألحانه الرقيقة، ظن أنه وضع بذلك نهاية لها وإلى الأبد.

ثم حدث ما لم يكن فى الحسبان حقاً، نجحت خطة “سالييرى” فى القضاء على “موزار” جسدياً، ولكنها فشلت فيما كانت تستهدفه على المدى البعيد.

فسالييري- ورغم كل الحقد والخديعة- هو الذي توارى، وأصبحت موسيقاه نسياً منسيا. أما “موزار” الموسيقار، فما زال حياً بفيض ما جاد من ألحان.

والأكيد أن أحداً لم يستطع أن يُعيق رحلة موسيقاه صعوداً نحو الخلود.

مشهد المصعد 

وختاماً يبقى سؤال آخير.. هل أحضر “فورمان ” فيلمه “أماديوس” الى المخرج المحتضر؟

فى مقال “الموند” “صديقى تريفو” كتب “فورمان” التالي.

“ثم آن الأوان كي أرحل، ترك فراقنا فى نفسي صورة قد لا أنساها ماحييت. كنا جلوساً فى حجرة يلزم أن تنزل إليها درجات.

لم أشأ أن يودعني حتى الباب لأن ذلك كان يستلزم منه صعود درجات السلم، وهو كان متعباً.

قلت له “فرانسوا.. سأوفر لك فرصة لمشاهدة فيلمي.. أرجو أن أراك قريبا” لسوء الحظ ظهر أن توفير تلك الفرصة أمر غير ممكن. ذكرت له اسم دكتور أعرفه شخصياً مقيم فى سان فرانسيسكو ومتخصص فى أوجاع المخ .

قلت أنه من الأفضل الحصول على تشخيص طبي ثانٍ وأبديت استعدادي لإعداد الترتيبات اللازمة .

ثم صعدت درجات السلم متجهاً إلى الباب الأمامي.

لاحظت أنه كان يتبعني بعينيه.

كانت ابنته وزوجته “مادلين ” بجواره. وعندما اختفيت فى الممر سعياً إلى المصعد، لم يغلق “فرانسوا” الباب الأمامي، حيث ظل واقفاً.

ضغطت على الزر، استغرق مجيء المصعد بعض الوقت.

كان لايزال بالباب، وكأن احساساً ما قد تملكه بأن زواره إنما يرونه للمرة الأخيرة. وحتى الآن أستطيع أن أراه واقفاً هناك بلا حراك، والمصعد يهبط بي. هذه الصورة، أبداً لن أنساها”.