رسالة قرطاج.. مولد سينما أخري في المغرب العربي

موعدنا مع أيام قرطاج السينمائية مرة واحدة كل سنتين .. وأين؟

في قلب تونس العاصمة، وبالتحديد في مثلث يقف على رأسه أبو التاريخ “ابن خلدون” شامخاً بتمثاله المهيب، يذكرنا بماضٍ ثقافي مجيد.

وبعد التمثال، وعلى امتداد البصر، ينساب نهج الحبيب أبو رقيبه، وهو شارع معبق بعطر الماضي التليد، يَسّر بأشجاره وأطياره الناظرين.

ولعله واحد من أجمل شوارع العاصمة التونسية، ولا أقول شوارع من الوطن العربي من الخليج إلى المحيط.

فداخل هذا المثلث الذي لا تزيد مساحته كثيراً عن مساحة نهج الحبيب، تركز عدد من دور العرض على وجه ليس له مثيل على امتداد هذا الوطن الفسيح.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب، إذا ما جنحت إلى القول بأن عدد دور السينما في هذا المثلث، إنما يفوق عددها في وسط القاهرة، هوليوود الوطن العربي، بل قد يفوقها بكثير.

ومما يزيد الأمر غرابة أن تونس بلد صغير، لا ينتج ثلاثة أفلام على مدار السنة، في حين أن ما تنتجه استديوهات القاهرة لا يقل عن ستين فيلماً بل قد يزيد.

سر الاستمرار

ومثل ذلك الحشد للدور في بقعة واحدة وسط عاصمة خضراء، يتيح للمشاهد فرص الانتقال فيما بينها في بضع ثواني، ودون كبير عناء.

وهذا شرط لابد منه لقيام أي مهرجان سينمائي جاد، ولا أقول لنجاحه، ودوام استمراره مادام ثمة أفلام.

ولعل توافره في قلب مدينة غير بدينة مثل تونس العاصمة، هو الذي أهّل تلك المدينة العريقة لأن تكون مركزاً لأيام قرطاج، واتاح لهذه الايام أن تستمر قرابة ثلث قرن من عمر الزمان.

ومن بين الأسباب الأخرى لنجاح الأيام، ذلك الجمع الغفير من عشاق الفن السابع الذي كنت أراه في تلك الايام يحتشد داخل دور العروض، وأمامه تمر مناظر العري والفراش، دون أن تثير صرخة من حلق، أو دبدبة من أقدام.

وأغلب الظن أن وجود جمهور بمثل هذا الذوق المصفى المهذب، أنما يرجع أولاً إلى فهم ما يجري على الشاشات من أحداث، لا لسبب سوى أن جميع المثقفين يجيدون التحدث باللغة الفرنسية، علاوة على لغة الآباء.

وثانياً الدور الذي لعبه النقاد، فهم لم يغفلوا لحظة واحدة عن مفهوم السينما باعتبارها فناً له أصوله وقواعده، وعن ضرورة التوعية بها بوصفها لغة العصر.

ولقد أسهم دورهم هذا في فتح النوافذ على كل ما له قيمه ودوام في انتاج السينما العالمية، كما ساعد على انطلاق أيام قرطاج من عقال الجدل العقيم في مهرجانات مفتعلة، بلا هوية، كمهرجان الاسكندرية إلى طريق وحب لا ينتهي إلى سراب.

ولولا هذا الدور لما أصبحت قرطاج بأيامها أقدم مهرجان لفن السينما في جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي الأقطار العربية كلها بلا استثناء، ولما استمرت ملتقى للمبدعين، ومناراً للسينما العربية والافريقية، حتى يومنا هذا.

لزوم الهوية

وثمة مزايا أخرى للأيام، أذكر من بينها أنه منذ البداية (1963)، وله هوية أفريقية عربية، لم يحد عنها أبدا.

فحسب قواعده الصارمة، ليس لأي فيلم لم يبدعه مخرج أفريقي أو عربي الدخول في مضمار التنافس على جوائزه التي تمنح في لية الختام.

كما أن التيار السينمائي السائد عالمياً، وهو تيار هوليوود بطبيعة الحال، ليس له مركز مرموق في أيامه، مثل ذلك المركز الذي يشغله في مهرجانات القاهرة وفينيسيا وكان.

وفضلا عن ميزة الهوية تلك، هناك حسن الاختيار فلا اهتمام بالكم يتولد عنه زحام أفلام، يضيع في صخبه ما ينفع الناس.

قصة وعظة

ومن هنا قصر العروض الخاصة بالسينما العالمية فيه على روائع مثل “اللاعب” للمخرج الأمريكي “روبرت اكتمان” و”حمى الأدغال” للمخرج الأمريكي الأفريقي “سبايك لي” و”العاشق” للمخرج الفرنسي “جان جاك انو” و”تستمر الحياة” للمخرج الإيراني “عباس تخيا روستامي” و”كعب عال” للمخرج الاسباني “بدور المودوفار” وفوق كل هذا “الفهد” (1963) أول فيلم يبدعه المخرج الايطالي الراحل “لوكينو فيسكونتي” لإحدى شركات هوليوود الكبرى “فوكس للقرن العشرين” ومعروف عن “الفهد”، وهو تحفة بين الأفلام قل أن يجود الزمان بمثلها، أن فيسكونتي أخرجه قبل تسع وعشرين سنة وبفضله فاز بجائزة كان المسماة بالسعفة الذهبية. هذا، وقد ارتأت “فوكس” ألا يعرض”الفهد” كاملاً، لأنه في تصورها لو عرض كذلك لكان فيلماً طويلاً، شديد الأملال.

وبعد كل هذه السنين جرى عرضه في أيام قرطاج كاملاً، بحيث استمر الاستمتاع بمشاهده الآخاذة مدة ثلاث ساعات، وازدادت عشر دقائق، لم نشعر خلالها بملل، ولو قليلاً.

وافتتحت العروض الرسمية بفيلم “ضباع” للمخرج السنغالي “جبريل ديوب ممبيتي”، وهو مأخوذ عن مسرحية للأديب السويسري “درونمات”.

ولن أقف عنده، ولا عند أي فيلم أفريقي آخر لأن الحديث عن أزمة السينما الأفريقية يطول، وفي نفس الوقت حزين.

وهدة ونهضة

ولا يفوتني أن أشير بمناسبة مجيء كلمة أزمة في أثناء الحديث، أن اشير إلى ظاهرة أراها جديدة كل الجدة وجديرة بالوقوف عندها، ولو قليلاً.

فلقد لوحظ أن الكثير من الترقب والتلهف لم يتركز على الأفلام القادمة من مصر، كما كان يحدث في سالف الأيام، وإنما تركز على الأفلام التي أبدعها مخرجون من أبناء المغرب العربي.

وفي الحق، فالأفلام التونسية والجزائرية والمغربية كانت أعجوبة بين الأفلام العربية، بفضل جرأتها في تناول قضايا الساعة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو حتى دينية.

وهي جرأة، ولا شك منقطعة النظير وتبشر بالخير الكثير.

الحدث الجليل

وفي رأيي أن هذه الجرأة أو بمعنى أصح النهضة، بدأت تباشيرها قبل سنوات، وفي تونس بالذات.

والفضل في ذلك كان لكوكبة من المبدعين الموهوبين، أذكر من بينهم على سبيل المثال “محمود بن محمود”، “نوري بوزيد”، “ناصر خمير” و”فريد بوغدير”.

وجرى تتويج هذه النهضة، قبل سنتين، بالحلفاويين رائعة الآخير.

وهي رائعة أراها حدثاً جليلاً في الانتاج السينمائي العربي، لأنها فتحت باباً بقى موصداً، حتى يوم عرضها في تونس بنجاح في الشباك، فاق كل التوقعات.

ومن ارهاصات تلك النهضة الغاء الرقابة على فن السينما في المغرب قبل خمس عشرة سنة، وتطويعها لخدمة هذا الفن في كل من الجزائر وتونس.

مولد سينما

ومنذ قديم كان السؤال .. أين السينما المغربية؟

وجاءت الإجابة في أيام قرطاج قاطعة بوجود هذه السينما قوية، قادرة على التعبير بحرية، متحررة من أكثر القيود التي تكبل السينما العربية لاسيما ما كان منها مصرياً.

والسينما المغربية استوقفت الانتباه بفيلمين أولهما شاطئ الأطفال الضائعين لصاحبه المخرج “جيلالي فرحاتي” الذي قام بإسناد الدور الرئيسي فيه لشقيقته “سعاد فرحاتي”.

وهي في فيلمه تؤدي دور فتاة شبه بلهاء يخفيها أبوها عن عيون الجيران في قرية صيادين تطل على المحيط، لأنها حامل والمسئول عن ذلك سائق لم يعد بإمكانه إنقاذها، لا لسبب سوى أنها قتلته دون قصد ثم أخفت جثته في أحد كثبان الملح المنتشرة على سطح الشاطئ الكئيب.

ومع مرّ الأيام، ينمو الجنين، وتساعدها زوجة أبيها العاقر بادعاء أنها هي الحامل.

والفيلم بموضوعه الفريد، وبأسلوبه الساحر وبلغته السينمائية الهادئة الرصينة، إنما يذكرنا بروائع “بازوليني” و”باراد جانون” و”مومياء شادي عبد السلام”.

ومن عجب ابتعاد صاحبه في تناوله لمأساة تلك الفتاة عن مرجعية السينما العربية السائدة، فلا تعامل مع المشاهد باعتباره كائناً ساذجاً، تستغل عواطفه، وتستدر دموعه بالصراخ والعويل.

فإذا ما أنتقلنا إلى الفيلم الآخر “حب في الدار البيضاء” فسنجد مخرجه “عبد القادر لقطع” يطرح فيه مشكلة صراع الأجيال من خلال قصة فتاة تعمل مدرسة، تسقط في حب عشيقين، نكتشف والفيلم يقترب من نهايته الفاجعة، أن أولهما الأكبر سنا إن هو إلا والد العشيق الشاب.

ومخرج الفيلم يعرض لهذه العلاقات الخطرة بجرأة غير مألوفة في السينما المتكلمة بلغة الضاد.

والأكيد أن هذه الجرأة، لعبت دوراً كبيراً في نجاح الفيلم جماهيراً داخل المغرب، وذلك رغم ضعف إخراجه إذا ما قورن بإخراج “شاطئ الأطفال الضائعين”.

ارهاب الفساد

أما السينما الجزائرية، فقد أدهشتنا بفيلم “خريف أكتوبر في الجزائر” لصاحبه المخرج والممثل وكاتب السيناريو”مالك لخصر حميته” ابن أول مخرج عربي يفوز بجائزة مهرجان كان الكبرى عن  فيلم “سنوات الحمر”.

و”خريف أكتوبر” أول فيلم يخرجه “مالك” وفيه يحكي صفحة من تاريخ الجزائر الحديث، وبالتحديد الفترة السابقة بأيام على أحداث أكتوبر 1988، تلك الأحداث الدامية التي انتهت بسقوط حكم الشاذلي بن جديد الشديد الفساد.

وهو يحكيها من خلال أسرة جزائرية متوسطة الحال، محورها ثلاثة أشقاء، أحدهم فنان متحرر والثاني سلفي متحجر والآخير متخلف عقلياً.

والشقيق الفنان يتعرض طوال الفيلم لألوان من الضرب والإهانة على أيدي المتعصبين وجلادي السلطة على السواء، وكلاهما في أهانته وتعذيبه لا يقيم وزناً لأيه حرمة من الحرمات.

بيع الأجساد

يبقى أن أقول أن السينما التونسية ساهمت هي الأخرى في هذه الموجة من الأعمال السينمائية الجريئة بفيلم المخرج “نوري بوزيد” اسماه “بزنس”.

 وفيه يعرض لمأساة الشباب التونسي الذي يتربح من بيع جسده للسائحات، وكأن هذا الجسد ليس إلا سلعة تباع وتشترى وفقاً لقوانين العرض والطلب.

و”روفا” بطل فيلم “بوزيد” واحد من هذا الشباب الضائع.

إنه يعيش ازدواجية أخلاقية مقيتة، فهو مع أهل بيته وشريكة حياته مستقل، محافظ متمسك بالتقاليد إلى أقصى الحدود. أما خارج البيت، ومع النساء السائحات بالذات، فهو لا يتورع عن بيع فحولته، ويبيعها بلا حياء، مستحلاً كل المحرمات.

وختاماً، نستطيع بعد كل هذا أن نتنفس الصعداء، ونقول متفائلين أصبح للمغرب العربي سينما يُعمل لها حساب.

الحب الغائب في آيس كريم

لو اكتفينا  بإلقاء نظرة طائرة على فيلم خيري بشارة الأخير، لانتهينا إلى مثل ما انتهى إليه الكثير، وهو أنه عمل سينمائي مداره كفاح شاب طروب يسعى إلى الصعود والإرتقاء في عالم الغناء ابتغاء الشهرة والثراء.

أما إذا لم نكتف بذلك، وغصنا في أعماق “آيس كريم في جليم”، لوجدنا دعوة صريحة بأن نغنم من الحاضر لذاته .. لماذا؟

لأنه كما قال الشاعر عمر الخيام في سالف الزمان “ليس في طبع الليالي الأمان”.

فبطل الفيلم “سيف” عمرو دياب عندما تمرد، فغنى “أنا حر .. وطز في الفلوس” أمام الخدم والحشم في قصر أحد الأغنياء، انتهى به الأمر مقبوضاً عليه، مفترشاً الغبراء في أحد أقسام الشرطة جنباً إلى جنب مع المساجين.

وكانت الحال كذلك، عندما غنى “رصيف نمرة خمسة” وهي أغنية رقيقة عن المعذبين في الأرض بالأعداء الثلاثة الققر والجهل والمرض، ألفها “نور” أشرف عبد الباقي كاتب الأغاني الثوري الناصري الذي ضيع عمره في الأوهام، ولحنها “زرياب” على حسنين، الموسيقار العجوز البوهيمي المؤمن، لا يزال، بمبادئ ماركس ولينين.

النعيم المقيم

غير أنه عندما غنى، والفيلم يقترب من الختام السعيد، “آيس كريم في ديسمبر، آيس كريم في جليم” وبحر اسكندرية وراءه، والفتيان والحسان أمامه يصفقون فرحين مهللين، كان ذلك إيذاناً بفجر جديد يفتح له أبواب النعيم.

والمقصود بالنعيم هنا الحب والشهرة والمال.

ومن عجب أن الحب أقل أشياء النعيم هذه مرتبة في الأهمية عند صاحب الفيلم.

“فسيف” أو عمرو دياب لا يثور لحبه، ولا لشرفه عندما يكتشف أن خطيبته “سيمون” قد أصبحت بغيا ولا يهتم ولا يهتز، عندما يلتقي أخيراً بفتاة أحلامه التي مرت بحياته قبل سنوات كالطيف، فإذا بها مخلوقة من صخر، بقلب من حديد.

وحتى “آية” (جيهان فاضل) التي ينتهي بها الفيلم وهي في أحضانه، حبه لها، نحس به وكأنه حب عابر، سطحي، سريع الذوبان كالآيس كريم، وليس من ذلك النوع الأصيل الذي لا يكاد يبلغ القلوب، حتى يستقر ويدوم.

ممنوع الحب

وبطبيعة الحال، ليس للحب مكان داخل جحيم القاهرة المدينة البدينة.

فالعلاقة التي نشأت بين سيمون والثري العائد من أمريكا “د. عزت أبو عوف” قوامها الحُلي والمجوهرات، وإذاً فهي ليست من الحب في شيء.

وكذلك الحال بالنسبة لتلك العلاقات التي قامت بين “سيف” والمرأة العابثة التي التقطته صيداً ثميناً، تغيظ به عشيقاً ثرياً.

وبين الموسيقار العجوز المنهار والمومس التي بادلته غراماً مفتعلاً، انتهى به ميتاً في مكان عام.

القديم والجديد

وليس من الغريب أن يكون الفيلم بلا حب، وإنما الغريب ألا يتعلم صاحبه من فيلم له سابق، ومن فيلم آخر اسمه “الهجّامة” أن “سيمون” لا تملك القدرة على التعبيرعن العواطف، وأن أحداً ليس في استطاعته أن يجعل منها نجمة سينما، تحبها الكاميرا، فتعشقها الجماهير.

يبقي أن أقول أنه من مزايا الفيلم، كثرة الوجوه الشابة الجديدة والجميلة معاً.

وهو أمر نادر في أفلامنا ولعله ببدء تحققه في آيس كريمِ يساعد في أن يضئ للسينما المصرية ظلام الطريق.