السينما في مفترق الطرق

قبل أن يلملم  عام  1986 أطرافه ويختفي في العدم جاء “شادي عبد السلام” الموت في الثامن من أكتوبر، وهو في الستة والخمسين من سنيه، ليغادر الأرض مخلفاً فيلماً روائياً طويلاً واحداً من إخراجه على امتداد عشرين عاماً إلا قليلا، ومشروعاً لفيلم ثان يحكي مأساة عمرها ثلاثة آلاف عام أو يزيد.. حياة اخناتون الفرعون الكافر.
هذا المشروع الذي استهلك خمسة عشر عاماً قضاها صاحب “ليلة حساب السنين” في صنع المجوهرات، الصولاجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية، في إعادة البناء والرسم للمعابد التي لم يعد لها وجود، وللمقابر التي اغتصبت، جردت من محتوياتها الشيقة النفيسة منذ أمد بعيد.

كل ذلك جرى من أجل أن يبعث اخناتون الفرعون الذي خرج على دين الآباء والأجداد، كي يقيم عبادة جديدة عمادها تقديس قرص الشمس، وتكريسه إلهاً واحداً لا شريك له.

كل ذلك بُذل من عرق ودم وهمّ ليرتطم بجدار الأفق المسدود.

الجريمة لا تفيد

وما كادت تنقضي عشرة أيام على رحيل حكيم السينما عنا في هدوء كما عاش في وادينا هادئاً رقيقاً كالنسيم، حتى روع الوسط الفني بخبر مقتل نيازي مصطفى رائد السينما في مصر وشيخ مخرجيها، وهو في الخامسة والسبعين من العمر، ليترك المعترك مخلفاً مائة واثنين وخمسين فيلماً آخرها “التوت والنبوت” المأخوذ عن الحكاية التي تنتهي بها حرافيش “نجيب محفوظ” والتي نراها في الفيلم، وقد تحولت إلى زعيق وخناقات وضرب بالنبابيت، وامرأة يلهث وراءها رجالات الحارة وفتواتها، وغانية وخواجة يلهثان صباح مساء وراء زين الفتوات “سمير صبري” !!، وكذلك مشروعاً لفيلم اسمه “القرداتي” (فاروق الفيشاوي) شاءت الأقدار للمخرج القتيل ألا يرحل دون أن يكمله بتصوير آخر لقطاته، تاركاً أمر التوليف للخلف المستفيد من كل الضجيج والعجيج والأضواء الذي لابد أن يصاحب حادث قتل وتمثيل بجسم نجم له في سماء سينما الشباك شأن كبير.
حيرة وضياع  

ولو حاولنا أن نسترجع ما جرى للفن السابع في ديار مصر قبل الثامن من أكتوبر وبعده، لوجدناه في حالة جزر يثير القلق.

فأي متأمل لحصاد 1986من الأفلام المتسمة بالجدية أو المصطنعة لها يلاحظ عليها:

أولاً: أنها بالنسبة لرقم الأفلام التي عرضت خلال العام- وهو قياسي- قليلة جداً، فهي لا تزيد على عشرة أفلام بدأت بفيلم “للحب قصة أخيرة” لرأفت الميهي ثم “سعد اليتم” لأشرف فهمي “فقفص الحريم” لحسين كمال و”الطوق والأسورة” لخيري بشارة ” و”مشوار عمر” لمحمد خان و”البداية” لصلاح أبو سيف و”الجوع” لعلي بدرخان و”اليوم السادس” ليوسف شاهين” و”عودة مواطن” لمحمد خان وأنتهت “بآه يا بلد آه” لحسين كمال.

ثانياً: إنها في معظمها تتعامل بأسلوب بال عفا عليه الزمن، ومع موضوعات قديمة طرقت من قبل كالضياع والفساد والاستبداد وشقاء المرأة والفقراء إلى غير حد، وانتشار التنافس والتباغض والاحتيال إلى آخر هذه الرذائل التي تتكشف عنها الطبيعة الإنسانية حين تلم بها الخطوب، وتلح عليها الكوارث باختصار لم تسع بحثاً عن آفاق جديدة عن أحلام ترفض الاستسلام، تصعد بنا قليلاً لنبصر.

ثالثاً: أنها، فيما كان منها مأخوذاً عن أعمال أدبية كـ”قفص الحريم” والطوق والأسورة” و”الجوع” و”اليوم السادس”، إما قد خانت أمانة الرؤية الصادقة لهذه الأعمال، أو أسرفت في الاصطناع والتعقيد لتفاصيلها، أو تحولت بها من مرآة للحياة إلى كاريكاتور زائف لها.

رابعاً: إنها في غالبيتها لم تشف غليلاً، لم تطفئ ناراً ملتهبة في القلوب لم تثر اهتماماً ولو كان قليلاً، لم تظفر بنجاح جماهيري ولو كان ضئيلاً، وكما جاءت ذهبت دون أن تترك أثراً له وزن على مسار السينما في الوطن العربي.

الطوفان.. لماذا؟

ولعل الفشل المذهل الذي كان من نصيب الجوع يستلزم وقفة قصيرة عنده بالذات، في محاولة منا لإلقاء بعض الضوء على أسباب الفشل المزلزل الذي واجه أفلام العام بوجه عام.

في اعتقادي أن “الجوع” فيلم أتيح له من فرص النجاح ما لم يتح لفيلم آخر جاد منذ أعوام.
فمخرجه “علي بدرخان” صاحب “الحب الذي كان” وأفلام أخرى ظفر بعضها بإعجاب الكثير. ونجمته “سعاد حسني” مشهود لها بحضور على الشاشة آسر ساحر للقلوب. ونجمه “محمود عبد العزيز” له في التمثيل منزلة رفيعة لا يرقى إليها إلا القليل الموعود. ومصمم ديكوراته وأزيائه “صلاح مرعي” ذلك الفنان المرموق الذي لعب دوراً كبيراً في النهوض بالمومياء.

وفوق هذا فهو مستوحى من إحدى حكايات “الحرافيش” للأديب “نجيب محفوظ” وبالتحديد الحكاية التاسعة.

ومع ذلك، فما نكاد نمضي في مشاهدته، حتي يدركنا شيء من خيبة الأمل.. لماذا؟

الأصل والصورة

من المعروف عن حرافيش الأديب الكبير أنها ميلودراما صارخة من عشر حكايات، أولاها “عاشور الناجي” تنتهي به فتوة للحارة دون منازع، مقيماً فتوته على الأصول، ناشراً العدل والكرامة والطمأنينة.

فإذا ما اختفى ولم يعثر له على أثر في بداية الحكاية الثانية “شمس الدين” لم يتوقف الزمن.

فها هي عائلته في الحكايات التالية تمر بحياة محصورة في الحارة، كثرت فيها الفتن والمحن والكوارث، وصرخت فيها النفوس عن مكنونها، فظهر الضعف والقوة، والإخلاص والجبن.

ظهر كل ذلك وأكثر، وإذا الأيام تكشف عن أنيابها الحادة القاسية، ففيضان النيل شحيح، وشبح الجوع يتضخم، ويشيع أن الناس يأكلون الخيل والحمير والكلاب والقطط، وأنهم عما قريب سيأكل بعضهم بعضا.

في هذا الظلام الذي يسود الحكاية التاسعة “سارق النعمة” تخلقت معجزة، فثمة صرة حاوية لطعام تُدَس في أيدي المعذبين بالجوع ، تعقبها همسة تقول من “عاشور الناجي”، وفي الحق كان صاحب صرة الرحمة والهمسة هو “فتح الباب” حفيد الجد المختفي.

لقد كان فتى يرى جده “عاشور” في كل مكان، ينبض في قلبه وخياله، يشتعل في أشواقه وآماله.

ويرى في أجولة الغلال المكتنزة في مخزن أخيه “سماحة” ذي الوجه القبيح حقاً للسائل والمحروم.

وإذن فالصراع الدرامي في “سارق النعمة” إنما يدور بين الأخوين “فتح الباب” و”سماحة”.

وهو في الحكاية ينتهي بانتصار الأول على الأخير عندما سيطر الحرافيش على الحارة تحت قيادة الأخ الأصغر، اقتحموا مخزن “سماحة” الفتوة، نهبوا ما فيه من غلال حتى آخر حبة.

ولم يكتفوا بذلك، بل انهالوا بالطوب على الأخ الأكبر”سماحة” حتى انهار فوق عتبة الدار مسلماً الروح.

وسرعان ما عرف دور “فتح الباب” في المعركة، فتجسد أسطورة ونودي به فتوة للحارة.

ولكنه لسوء الحظ لم يكن يملك قوة جده “عاشور”، فلم يكد يتولى أمور أهل الحارة بالعدل، حتى حدد الأشرار إقامته في مسكنه حيث امتد به الزمن بلا حياة تنصف، ولا موت يسعف.

وذات صباح عُثر على جثته مهشمة في أسفل المئذنة، وقيل أنه آثر التخلص من الحياة بالانتحار وهكذا أنتهت سيرته وجهاده.

التحوير والتدوير

وهنا قد يكون من المناسب بيان كيف تناولت المعالجة السينمائية تلك الحكاية.

بادئ ذي بدء، يُلاحظ أن عنوانها “سارق النعمة” قد تغيّر في الفليم إلى عنوان أبشع هو “الجوع”.

والأغرب أن المؤلف قد أُغفل ذكر اسمه تماماً في عناوين الفيلم وملصقاته، وكأن الحرافيش لقيط بلا مبدع اسمه “نجيب محفوظ”.

والأكثر غرابة أن أسماء أبطال الحكاية قد أدخل عليها هي الأخرى التغيير والتبديل.

فكان أن تحول “عاشورالناجي” إلى “فضل الجبالي” و”سماحة” إلى “فرج” (محمود عبد العزيز) و”فتح الباب” إلى “جابر” (عبد العزيز مخيون) و”فردوس” إلى “ملك” (يسرا).

ومهما يكن من أمر كل هذا التحوير والتدوير في الأسماء الذي يصل إلى حد تعمد الإخفاء، فالأدهى والأمر هو تكليف الحكاية ما لا تطيق بإقحام شخصيات وبافتعال مواقف ونهايات.

عدوى الشباك

ولعل شخصيتي الزوجة الأولى الدميمة (سناء يونس) و”زبيدة” بائعة البطاطا (سعاد حسني) هما أهم شخصيتين جرى إقحامهما على سياق الحكاية بشكل مخل زاد الفيلم تعقيداً وترهلاً.. كيف؟
“ففرج” ذو الوجه القبيح في حكاية “نجيب محفوظ” لم يتزوج سوى مرة واحدة من الجميلة الصغيرة الغنية “ملك” بنت الحسب والنسب، مالكة محل الغلال التي وهبته “عطايا من العذوبة والنضارة، ورغداً من حياة القصور وأساليب المعيشة الرفيعة” أنساه ماضي الفقر والقهر الذي كان يحيط بالحرافيش في الحارة، ولايزال.

أما زوجة أيام الذل والهوان الأولى فهي شخصية مختلفة أتاح لها صاحب الفيلم وجوداً لم يكن لها في الحكاية.

ويبدو أنه أريد بها استغلال الإمكانيات الكوميدية عند الممثلة التي أدت دورها (سناء يونس) لانتزاع الضحكات.

إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن تمثيلها كان قوامه المبالغة، والافتعال على وجه انحدر بالمشاهد التي ظهرت فيها إلى مستوى مشوب بالابتذال.

ومن المعلوم أن أبغض الضحك ما يقوم على الحط من شأن المرأة بالسخرية السوقية منها.

وجابر”سارق النعمة” لم يٌكتب له في الحكاية أن يتزوج إلى يوم العثور عليه منتحراً.

بطاطا وثورة

إلا أنه في الفيلم وقع منذ البداية في حب بائعة البطاطا “زبيدة” التي تعترف له بأن أحد الفتوات قد اعتدى عليها، فيذهب إلى المعتدي الآثم: مطالباً إياه بإصلاح غلطته في حقها بالزواج منها دون جدوى.

ويمضي الفيلم فإذا بهذا المعتدي يُقتل في معركة بين الفتوات تصادمت فيها النبابيت وسالت الدماء، حتى انتهت “بفرج” منتصباً بين الحرافيش زعيماً بلا منافس.

وإذا بسارق النعمة يصلح غلطة الفتوة المقتول، فيتزوج من حبيبة العمر بائعة البطاطا الحامل سفاحاً غير حافل ولا مكترث.

ويمضي الفيلم هكذا على شر حال حتى يضبط متلبسا بانتحال شخصية جده “الجبالي” وبسرقة النعمة، فيأمر أخوه “فرج” بتعليقه من قدميه في السقف حتى تُصفى روحه نقطة بعد نقطة.

وهنا تتحول “زبيدة” بائعة البطاطا إلى امرأة ثورية، تحرض الحرافيش على العصف بقصر الذي طغى حيث تعثر على زوجها معلقاً، مدلي الذراعين، مغمى عليه بين الحياة والموت.
الطريق إلى جهنم

وطبعاً لا ينتهي الفيلم بسارق النعمة ميتاً كما في الحكاية، وإنما حيٌّ يُرزق في أحضان بائعة البطاطا التي استحالت داعية لإعداد النبابيت والاستعداد لمواجهة قوى الاستغلال الباغية.

وقد يكون من الخير هنا أن نلاحظ أخيراً أن الفيلم لا هو بالواقعي ولا هو بالمتجاوز لها، تحليقاً في آفاق الخيال وإنما هو شيء بين الإثنين يملأ النفس حيرةً وسأماً.

وأن شخصياته كثيراً ما ابتذلت من قبل في أفلام مدارها عالم الفتوات، آخرها حرافيش حسام الدين مصطفى والتوت والنبوت.

ولربما هذا- مع أزمة السينما- هو الذي أوقع “الجوع” في هاوية إعراض الناس عنه.

ورغم ذلك فالفيلم يستحق المشاهدة لأمرين، أولهما ديكورات الحارة والملابس التي أبدعها خيال صلاح مرعي.

والثاني.. ولعله الأمر الأهم- هو تأمل كيف ترتطم النوايا الحسنة في السينما بجدار الأفق المسدود.

ليلة حساب السنين – جريمة أم وليمة؟

كان أول فيلم عربي يبدأ وينتهي بكلمات مأخوذة من تراث قدماء المصريين.. كتاب الموتى “ألفا سنة قبل الميلاد” يبدأ بصور فرعونية يصاحبها صوت يقرأ تلك الكلمات يا من تمضي ستعود.. يا من تنام سوف تنهض يا من تموت سوف تبعث، فالمحبة لك. وينتهي- بعد إختفاء الفلك بمن عليه من فراعين- بتلك الكلمات:

إنهض فلن تفنى.. لقد نوديت باسمك، لقد بعثت.

وكان أول فيلم ناطق بلغة الآباء يعرض لحاضر مصر متصلاً بماضيها على مدى آلاف السنين. يعتز بميراث الأسلاف منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصرياً. يعبر بصدق عن أزمة وعينا بما أقيم من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها في أزمنة الفراعين.
قدر الأفلام الناجحه

وكان أول فيلم مصري الجنسية، عربي الهوية، يتوج بجائزة عالمية “جورج سادول” (1970)، يعرض في دار باريس بولمان- بلندن (1972)، يعتبر أحد أحسن عشرة أفلام عرضت في إنجلترا خلال سنه1972، يختار فيلم الافتتاح لدار جان كوكتو بقصر مهرجان كان (1974)، يفتتح به نادي سينما طوكيو، يطبع السيناريو الخاص به باللغة اليابانية، تكتب عنه دراسة باللغة الفرنسية في مجموعة “دوسيه السينما” يوضع ضمن أحسن ألفي وواحد فيلم اختارها قاموس لاروس للسينما (1986) من بين جميع الأفلام التي أخرجت للناس منذ اكتشاف الأطياف (1895).

كان “ليلة حساب السنين” لصاحبه “شادي عبد السلام” والذي اشتهر تحت اسم “المومياء” كل هذا وأكثر لأنه الفيلم الذي رد اعتبار سينما الوطن العربي، بأن أثار اهتمام نقاد الغرب بها، دافعاً بهم إلى السعي نحو اكتشاف مجاهلها.

يوم مولد

ولعل خير وصف لموقف النقد الغربي من ذلك وبخاصة السينما المصرية قبل المومياء، هو ماجرى به قلم “ديليز باول” الناقدة الإنجليزية المخضرمة في العدد الأسبوعي لمجلة “الصانداي تايمز” أثر مشاهدتها لفيلم “شادي” وقبل أن يهدأ انفعالها به.

“منذ زمن بعيد، وأثناء مشاركتي في مهرجان كورك أسأت إلى سمعتي، عندما قهقهت ضاحكة في تعالٍ على فيلم مصري أرادوا به أن يكون جاداً.

ولم يعدني إلى الصواب إلا تذكرة من جالس إلى جواري صدمه سوء سلوكي، بأن مخرج الفيلم معنا في قاعة العرض.

وعلى كُلٍ فقد كنت أظن أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الاهتمام بما تعرضه الشاشة المصرية.

غير أنني اكتشفت أن لزاماً عليّ أن أهتم.. وأهتم. وعقب هذه الكلمات الطلقات التي استهلت بها الناقدة مقالتها عن “المومياء” عرضت له باعتباره الفيلم الذي غيّر من نظرتها إلى السينما المصرية، وجعلها تهتم وتهتم!!
سكرة فصحوة

وتأكيداً لهذا الطابع المتميز الذي انفرد به المومياء حتى أصبح أشهر فيلم عربي، وواحد من نفائس السينما العالمية، استهل الناقد الفرنسي “كلود ميشيل كلوني” دراسة له مدارها فيلم “شادي” بالكلمات الآتية “طابعه الغريب، بل وأسلوبه يجعلان تصنيفه أمراً محالاً، واستطرد قائلاً: الذي لا يرقي إليه الشك أن هذا العمل يتميز بقدرة على الإبهار، وذلك بفضل أسلوبه البليغ، وجماله الشكلي، وقبس النور الذي بعثه “شادي” من ظلمة الليل البهيم كي نرى في ضيائه مصر الخالدة.. مصر التي تحلم وتتحرك.

وإلى حدٍ بعيد كان من الممكن اعتبار المومياء فيلماً غير مصري لولا أن مصر تقيم في ثناياه بماضيها، بديكورها، بواقعها ، بتمزقاتها، تُعبر داخله عن تفردها.

وشادي “يسافر بنا في فيلمه إلى ماض مرتد آلاف السنين “العصر الفرعوني”.. يوجه بصرنا إلى تلك الهوة السحيقة بين مصر المدينة وبين مصر القرية، ينتقل بنا عبر زمن يبدو ساكناً لا يتحرك.. زمن يجرفنا بشاعريته، يسحرنا ليشهدنا على قطيعة مفاجئة، على مولد عصر جديد كل الجدة، هذا العصر الذي يرغبه “وانيس”، يسعى إليه مدفوعاً بالبصيرة.

والمومياء قصيدة ذلك الصراع، وليس صدفة أن الفيلم ينتهي بصور للنيل يُطل عليه الفجر.

أشعة في غمام

ثم تطرق الناقد الفرنسي إلى إخراج “المومياء” فقال عنه أنه مختلف عن أسلوب الإخراج السائد في السينما العربية حيث تختلط الواقعية بالاستعراضات الغنائية والترفيهية. هذا وبفضل توازن محسوب بين الشعر وبين عنف الموضوعات المطروحة.. ارتقى “شادي” بفيلمه- بعد أن صفّاه من كل شائبة إلى مستوى قريب من العبادة .

أن المومياء بجمال تشكيله، وعطر شعره، فيلم له مقام خاص سواء في السينما العربية أو بين المدارس الغربية. إنه يعبّر دون ريب عن بعض جوانب الروح المصرية ودخائلها بأسلوب يتسم بالابتكار الآخاذ.
الكهوف المظلمة

ورغم كل هذا المديح والإطراء، ظل “المومياء”- بعد عرض يتيم له في نادي سينما القاهرة، ليلة السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- ظل حبيس توابيت العلب في مؤسسة السينما، مكتوباً عليه ألا يعرض داخل مصر زهاء خمسة أعوام.

ولعل خير بيان لمحنة “شادي” أولاً مع فيلمه الأول “المومياء” وثانياً مع مشروع فيلمه “اخناتون” هو ما كتبه الناقد الانجليزي “نيجل اندروز” في عدد الربيع 1973 من مجلة السينما الفصلية “سايت آند ساوند” (صورة وصوت) فعنده “أنه ليس ثمة ما يستطيع أن يجسد أوهام النجاح في مجال السينما خيراً من حالة شادي هذا المخرج الذي حيّته الأقلام رأت فيه أملاً للسينما المصرية. ورغم ذلك فلا يزال مشتبكاً في معركة طويلة مريرة من أجل الحصول علي دعم لمشروع فيلمه الجديد “اخناتون”؛ ثم تطرق الناقد إلى ماضي صاحب المومياء، فقال إنه نجح في تمويل فيلمه الأول بفضل حماس “روبرتو روسيلليني” ورعايته له، ذلك أنه ما أن قرأ المخرج الإيطالي مشروع السيناريو الذي كتبه شادي لفيلمه “ليلة حساب السنين” (المومياء)، إلا وكان قد بادر بالتصديق على طلبه فتح اعتماد حكومي ابتغاء إخراجه.

ومع ذلك، ورغم كل النجاحات التي أحرزها في العديد من المهرجانات الدولية، لم يحصل الفيلم على حق العرض في مصر إلا منذ وقت قريب جداً.

ثمن الخوف

وأغلب الظن أن سبب ذلك إنما يرجع إلى أن أولي الأمر في حقل السينما، يسيطر عليهم الخوف من تشجيع صانع فيلم يبدو أن اهتمامه منصب على ماضي مصر، دون حاضرها، ولا تحمل مشاريعه بصمة النجاح التجاري الأكيد.

ومهما يكن من الأمر، فإنه مما يُحزن أن يهمل شأن اخناتون، فلا يكتب لمشروعه أن يرى النور، لاسيما إذا وضع في الاعتبار أن صاحبه قد أعد للفيلم ما استطاع، فكتب السيناريو، وهيأ الديكور، واختار الممثلين للأدوار. لم يبق سوى أن ينتظر موافقة هيئة السينما على تمويل ميزانيته التي تُقدر بمبلغ لا يزيد على مائة ألف جنيه.

وقصة الفيلم تدور أحداثها في عهد إخناتون الذي كان أول فرعون يؤمن بالتوحيد، فيثور على ما كان يعتبر من السنة في أيامه، ويبتدع ديناً جديداً قوامه عبادة الشمس وعادة يوصف اخناتون بأنه أول فرد في التاريخ.

عصيان

ولا عجب في هذا، فهو الملك الذي تمرد على الاهتمامات القديمة لدين لم يكن له من شاغل سوى الموت، وما بعد الحياة وتحول عنه إلى الإيمان بإله واحد خَيّر، وهّاب للحياة.. الشمس.

والفيلم يعرض للصراع بين اخناتون، وهو يزداد عزلة بهرطقته، وبين السنة الباغية متمثلة في الكهان ورجال الجيش، تنتظر في صبر نهاية فرعون ابتغاء إعادة الاستقرار الديني والسياسي إلى البلاد بالارتداد إلى عبادة آمون.

وامكانات القصة الدرامية والمقابلات والدلالات العصرية الكامنة فيها لا تحتاج إلى مزيد من بيان.

ومما يدعو إلى الأسف أن تترك هيئة السينما المصرية شادي منتظراً المنّ في برد العراء، وذلك رغم أنه الوحيد بين صانعي الأفلام في مصر الحاصل على تقدير عالمي، فضلاً عن أن الأيام قد أثبتت أنه على مستوى عالٍ من الاحساس الفني، وصاحب قدرة فائقة على الإبداع من خلال التحكم في الصور المتحركة .
العجب العجاب

وللحق، فأنه لمن سخرية الأقدار أن تكون صناعة السينما في مصر- هذا البلد العريق صاحب الرصيد الحضاري الذي يعتبر من أغنى أرصدة العالم- دوماً فاشلة في السحب من هذا الرصيد.

ومضى الناقد قائلاً يحكي أنه لما سمع العالم الانجليزي “سيريل الدود” المتخصص في دراسة الحضارة المصرية القديمة بمشروع إخناتون صاح متعجباً “فيلم عن مصر القديمة لمخرج مصري . ياللغرابة” !!

ولسوء الحظ كانت دهشة العالم الانجليزي في محلها، فأحد من المحيط إلى الخليج لم يهتم أو يهتز لما كتب عن مشروع اخناتون.

ولم يسهم أحد بكثير أو قليل في مجالات إحياء المشروع والتحول به من حلم إلى فيلم.

ودارت عجلة الزمان مع شادي، واذا اخناتون- بعد سبع عشرة سنة من إخراج فيلمه الأول “المومياء” لايزال في علم الغيب.. لايزال قضية بلا حل.

لماذا؟

والآن يحق لنا، بل يحق علينا، أن نتساءل لماذا بعد كل هذه السنين التي صُرفت في البحث التاريخي والأركيولوجي.. في صنع المجوهرات، الصولجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية. في إعادة بناء المعابد التي لم يعد لها وجود والمقابر التي اغتصبت منذ أمد بعيد.

لماذا بعد كل هذا الذي بُذل من أجل بعث اخناتون الفرعوني المنتمي إلى الأسرة الثانية عشرة، والذي خرج على دين الآباء والأجداد ليقيم عبادة جديدة جوهرها تقديس قرص الشمس.

لماذا بعد كل هذا الوجد والتفاني والمعاناة، لم يستطع صاحب “المومياء” أن يتغلب علي قوى الظلام ويخرج باخناتون إلى النور؟

بصيص من نور

بادئ ذي بدء قد يُعين على الوصول إلى إجابة عن كل هذه الأسئلة، ذكر ما جرى لصاحب هذه السطور مع المومياء ومبدعها وقت أن كان رقيباً (1967).

في يوم مشحون بالعمل- ودون موعد- جاء إلى مكتبي بالرقابة فنان خمري اللون، ممشوق القوام، يتأبط سيناريو.. رجاني في استحياء شديد أن أقرأه. فلما أغراني حب الاستطلاع على تصفحه، وانتهيت من قراءته، دهشت من سموّ موضوعه، وشموخ بنائه الدرامي، وهو أمر لم أعهده من قبل في أي عمل سينمائي محلي مرّ وأنا رقيب .

تصفيات

والغريب أنه فور انبهاري به، تحدث إليّ هاتفياً رئيس مجلس إدارة شركة الانتاج السينمائي الذي كان يمقت الفن السابع مقتاً شديداً، طلب إليّ عدم الترخيص بعمل فيلم من سيناريو “شادي” انقاذاً لمؤسسة السينما من كارثة إنتاج فيلم غير جماهيري ليس من ورائه سوى الخسارة ووجع القلب.

ترددت محرجاً، ثم رددت قائلاً أن السيناريو لا ينطوي على موانع رقابية تحول دون الترخيص به وأذا به يفجؤني مصححاً: لا، إنه فيلم ضد البلد.. عن أمجاد الفراعنة، مُعاد للقومية العربية!!

ومما قد يعين كذلك في عملية البحث عن إجابة، الغوص في أعماق “المومياء” هذا الفيلم الفريد.

الأكيد أننا لو أوغلنا فيه سعياً إلى المحور الذي يتحرك عليه من بدايته إلى نهايته لوجدنا في أعماقه قوى متعددة تتصارع.

بين عالمين

وقد يساعد على فهم هذه القوى أن أحداث الفيلم تبدأ قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بأشهر معدودة.

فإذا ما انتقلنا بها إلى عرضه اليتيم في السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بتسعة شهور إلا قليلا- لاتضح لنا أن الفيلم إنما كان يتنبأ بقرب انتهاء الحقبة الناصرية، وبداية هجمة أحفاد بلفور والاتباع الدائرين في فلك وعده المشئوم.

ومن العلامات الدالة على ذلك، أولاً وجود الخبراء الأجانب كماسبيرو الذي يبدأ به الفيلم، وغلبة أفكارهم غير الانسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين ومصيرهم، ثانياً طبقة أفندية القاهرة ( الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك الأوروبيين متعاونة معهم ضد الشعب الذي تستمد منه الحياة، ثالثاً الأهالي يمارسون حياتهم اليومية مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة والإهدار للتراث، رابعاً “وانيس” بطل الفيلم يعي الفرق بين الخطأ والصواب ولكنه في حيرة من أمره، كيف يختار.. أيختار أن يعيش ابناً باراً للقبيلة، حافظاً سرها، وخارجاً على القانون؟ أم يكشف السر لسلطات القاهرة الكريهة؟

وهكذا.. وهكذا.. نجد أنفسنا أمام فيلم مليء بالرموز والدلالات. بالاسئلة التي يطرحها حول مشاكل مصر المعاصرة.. حول ماضيها الفرعوني والهوّة السحيقة بينه وبين ثقافتها الإسلامية المُفرغة من مضمونها.. حول اطلالها على الغرب وهويتها العربية ومعاناة التوفيق والاختيار.

البعث

وطبعاً فيلم بمثل هذا المستوى الرفيع من الوعي وطرح الأفكار لا يمكن أن يتكرر في السبعينات.

إنه جريمة لابد ألا تحدث مرة ثانية ولابد ألا تتاح لمرتكبيها فرصة إخرج فيلم آخر لاسيما إذا كان مداره سيرة اخناتون، أي الاستمرار في هرطقة المومياء.

وبعد فإذا كان فيلم شادي في نظر المرتجفين المرتعدة فرائصهم أمام المعرفة جريمة. فإنه في نظر الواقفين في كبرياء أمام علامات التاريخ إبتغاء فك رموزها، قراءتها، تمثلها وليمة لا مثلها، ولا قبلها ولا بعدها وليمة، بها نعرف ننهض لا نفنى، نبعث أحياء .

الطوق والإسورة بين الفيلم والأسطورة

لو وضعت “الطوق والإسورة” في كفة الميزان، ووضع  في كفته الأخرى أغلب ما كُتب من أدب القصة عندنا عقب زلزال الخامس من يونيو “حزيران” لرجحت في ظني قصة يحيي الطاهر عبد الله ومن هنا صعوبة التحول بها إلى لغة السينما شأنها في ذلك شأن أية رائعة من روائع الأدب العالمي.

وعلى كُلٍ وقبل الكلام عن الفيلم، وكيف أقدم “خيري بشارة” على إخراجه عن سيناريو استوحاه بالإشتراك مع الدكتور يحيى عزمي عن “الطوق والإسورة” أرى من اللازم الوقوف قليلاً أولاً عند صاحب القصة وثانياً عند الإبداع فيها.
.الكابوس الأسود.

مر يحيى الطاهر عبد الله بهذا العالم مروراً سريعاً فلم يعش فيه إلا ثلاثة وأربعين عاماً أنفق جزءاً غير قليل منها في الطفولة والصبا متأثراً بما حوله في قرية الكرنك مركز الأقصر حيث ينام الرجل الصعيدي وبندقيته وزوجته وأولاده والكلب والحمار في حجرة واحدة.

وحيث تسلك الذئاب والثعالب تلك الدروب الضيقة على المارة، وحيث يتعذر على الغريب أن يُميّز الآدمي من الوحش والناس والأشياء.

.أيام في المدينة.

وبعد الحصول على دبلوم الزراعة المتوسطة أنفق بعض حياته في مدينة قنا حيث التقى بالشاعرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وحيث كان محاصراً بالسكون والظلمة والتعب وحيث أحس بأن روحه منهكة، وأنه فعلاً مضطهد ومقهور، وإنه حقيقة يتعذب .

فلما رحل (1964) بجسم نحيل وعينين براقتين وكلام مهتاج من الصعيد إلى القاهرة كي يظفر بشيء من الحياة الفنية المستقلة، لم يلتمس عملاً آخر غير كتابة القصة القصيرة يكسب منها القوت.

ورفض النصيحة “خصوصاً من الجيل السابق، لأنه مؤمن بأنه يفتح صفحة جديدة بريئة من الرتابة والصنعة وشكوك التقليد والاقتباس من بعيد لبعيد”

.الجثة.

ثم لا يكاد الربع الرابع من القرن العشرين يتقدم قليلاً حتى يكون قد حقق لنفسه فرحه الخاص بما كتب، فالكتابة بالنسبة له “متعة كما هو الأكل” وحتى يكون بعين مملوءة بالدمع والدم على موعد مع ملاك الموت في سكة القاهرة- الواحات سنة 1981(9 أبريل).

وها هو ـ بعد أن تمكن الموت من الريح وفرغت الحدوتة- يعود طائراً- وهو الذي لم يدخل الطائرة سوى نعشه- إلى مسقط رأسه الكرنك حيث رأت عيناه المضيئتان النور لأول مرة، وحيث دفن مع الشمس وكفن بالضباب.

وها هو محلقاً يسمع لآخر مرة صوت “الأبنودي” في ختام رثاءه يناجيه “دي مش نهايتك يا يحيى.. يمكن تكون دي البداية”.

.شموس.

أظهر ما يمتاز به قصص يحيى الطاهر من الخصائص أنه يصور الموت والقلق من مكر الدنيا الذي يوشك أن يبلغ اليأس وأين..؟ في قرية مركزها الكرنك في الأقصر أي “طيبة القديمة”، وعنها قال يحيى في حديث صحفي لعله الأول والأخير “أرى أن ما وقع على الوطن وقع عليها.. وهي قرية منسية منفية، كما أنا منفي ومنسي.. كما أنها أيضا قرية في مواجهة عالم عصري.. إذن عندما ابتعد عن قريتي أسعى إليها في المدينة، وأبحث عن أهلي وأقربائي وناسي الذين يعيشون معي.

وأنا لا أحيا إلا في عالمهم السفلي.. فحين التقي بهم نلتقي “كصعايدة” وكأبناء “كرنك” ونحيا معاً ألمنا المصري وفجيعتنا العربية وبعدنا عن العصر كشخوص مغتربة.

وأحداث “الطوق والإسورة”- التي هي واحدة من نفائس عقد يحيى- إنما تدور وجوداً وعدماً في قريته هذه، لا تخرج منها أبداً.
.عطر الحبيب.  

فحتى “مصطفى” البطل الغالي الغائب عن جحيم الكرنك بعيداً في السودان ومن بعده فلسطين فالقنال، والذي لا نراه طوال الأيام التي طويت من أعمار أفراد أسرته الصغيرة، وذلك لأنه لا يعود إلى القرية إلا قريباً من النهاية، يعود أمياً كما كان، وفوق هذا مهزوماً مهاناً، حتى هذا البطل الغائب الغالي نحس به وكأنه حاضر في القرية، فهو في عقل الأب “بخيت البشاري” الذي صار بعد العمر الذي مرّ كالقفة.

وهو في قلب الأم “حزينة” الملهوفة التي تخطف رسائله من السودان أرض السحر والأحجبة والمهدي المنتظر، ومن فلسطين الشام جنة الله في الأرض تسلل إليها اليهودي كاره العربي، تخطفها لتشمّها وتقبلها ثم تدسها في الصدر الحنون.

وهو في حواس الأخت “فهيمة” التي تحبه، تتذكر وجهه، الرجل يظفر بالدم الأحمر الدافئ، والعروق في رقبته تنفر وتكاد تنفجر.

.ولادة أسطورة.

وهنا وقفة أخرى لابد منها، ذلك أن “الطوق والأسورة” بما انطوت عليه من كشف ما في نفس صاحبها الغنية، ومن فضح ما في الحياة التي تكرّ حوله في الكرنك من فقر وضحل وبشاعة وغثيان لم تخرج إلى الناس كاملة غير مفتوحة كما هي الآن.. بل خرجت مبتورة في شكل قصتين قصيرتين من مجموعة الدف والصندوق (1974) تحت اسمي “الشهر السادس من العالم الثالث” و”الموت في ثلاث لوحات”.

وهاتان القصتان تشغلان تسع صفحات إلا قليلاً، في حين أن “الطوق والأسورة” تزيد صفحاتها على ذلك بكثير حتى تبلغ سبعة أضعاف هذا الرقم أو يزيد.

ويبدو من الاطلاع عليهما أن “يحيى” قد باشر تأليفهما، وليس في رأسه غير فكرة واحدة وهي أن يصور كيف رحل إنسان بعيداً مع رجال التراحيل، وكيف أثّرت غربته هذه على أسرته حتى انتهت بأفرادها جميعاً إلى موت أكيد.

وبغتة- أجل بغتة- فتق له أن يعود إلى حكاية الغائب والموت، وأغراه بالغ الإغراء أن يتخذ من مصطفى ومأساته ترجماناً لأفكاره، فيصور ما كان من شأنه مع أبيه وأمه وأخته خلال أعوام من العناء المتصل والشتاء المقيم صرفوها في الكرنك، والمسافات تباعد بينهم والزمان يعاديهم.

فكان أن أقبل على كتابة “الطوق والأسورة” (1975)، وقد امتلأ خياله صوراً لأهل بيت مصطفى في غربته. وبسحر ساحر تهيأ له القالب الذي يريده والشخصيات التي كان يفتش عنها.

فكان أن تخلّقت شخصيات بنت الأخت “نبوية”- في الفيلم أسموها ” فرحانة” لا اعرف لماذا؟ـ وابن الشيخ الفاضل والحداد العاجز وشقيقته الحدادة الماكرة وابنها السعدي العاشق ومحمد الشرقاوي الصحفي.
.لعنه الطاحونة.   

ولكن لم يكن بينها صاحب الطاحونة “منصور الصادق” (أحمد بدير) تلك الشخصية التي تلعب دوراً محورياً في الفيلم، فمن أين جاء؟

لصاحب “الطوق والأسورة” قصة قصيرة اسمها “طاحونة الشيخ موسى” نشرت ضمن مجموعة “ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالا” (1970).

وبطلها بنصف عين فقط، عثر على ماكينة طحين نصف عمر.

وبعدها جاءته المتاعب تباعاً بسبب كلام فارغ عن أطفال لابد وأن يرمي بهم داخل الماكينة حتى تدور. كلام يتردد صداه رجفة بقلوب آباء يعبدون الأبناء، وأمهات يفضلن تعب المشوار وشتاء العمر ولا المصيبة في الولد.

وحول هذه المتاعب تدور القصة التي تنتهي بانتصار صاحب الطاحونة بفضل بركات الشيخ موسى.

ولعل هذا الانتصار في المواجهة بين معتقد أهل القرية في أن الماكينة لا يمكن أن تدور دون التضحية بطفل ومعتقدهم الثابت في بركة الشيخ.. لعله هو الذي حدا بالأديب الراحل إلى استبعاد الطاحونة وحكايتها تماماً من حلقة الطوق والأسورة الجهنمية التي تحيط بشخصيات القصة، وهم مسلوبوا القدرة على مواجهتها حتى ينتهي بهم الأمر إلى موت سخيف حقير أو حياة مرة بائسة.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أن حشر هذه الحكاية في سياق السيناريو سار بالفيلم القهقري، ورجع به إلى وراء.. كيف؟

لأنه كان على حساب الروح التي يشعها “الطوق والأسورة” ولأنه أدى إلى بعض الغموض والاضطراب في السرد بحيث كثيراً ما اختلطت الأمور.

ومهما يكن من شيء ففيما عدا هذه الهفوة التي كادت تكون قاتلة، فالفيلم كان في معالجته لأحداث درة يحيى الطاهر أميناً إلى حد كبير.

فهو يبدأ كما القصة بالأب “عزت العلايلي” كالقفة تحملها زوجته “حزينة” “فردوس عبد الحميد” وابنته “فهيمة” (شيريهان) من الشمس إلى الظل ومن الظل إلى الشمس.

وينتهي كما القصة بالابن “عزت العلايلي”- يقوم بدوره علاوة على الأب لا اعرف لماذا؟- ساقطاً من عداد الرجال شاحراً كالذبيحة.

وفيما بين البداية والنهاية يحدثنا الفيلم كما القصة عن الأب كيف تخلص من الأوجاع والعمر المكروه بالذهاب إلى الله الرحيم.
ويحدثنا عن ابنته فهيمة، وقد عقد قرانها على الحداد الهامد “أحمد عبد العزيز” الذي يوسعها ضرباً لأنه لا يستطيع أن يفلح أرضاً، ومن ثم ينفلت في بكاء مرّ.

وحين تعلم “حزينة” بحال ابنتها هذه تذهب بها إلى المعبد القديم المشيّد من الحجر الكبير حيث ينشرخ إناء، وتنمو خرافة الأسطورة في رحم “فهيمة” فيطلقها الحداد، وتنجب طفلة “فرحانة” ثم لا تلبث أن تصاب بحمى يتعذب لها الجسد ولا يستريح إلا بالموت.

.الخيوط تتشابك.

وكذلك يحدثنا عن فرحانة “شريهان” مرة أخرى! يتيمة من الأم والأب الذي مات محترقاً بفعلته مع زوجته الجديدة بنت الصياد.

إنها صبية فقيرة لا تكاد تميز الأشياء.. تعيش حياة ضيقة ضئيلة.. تسعى مع جدتها على رزقها في بيت الشيخ الفاضل حيث حدث الذي لا يقدر على منعه أحد حين يختلي ولد وبنت مولعة به.

فلقد انشرخ الإناء مرة أخرى، ولكن عن غير طريق الأسطورة.

وطبعاً نقلت “حزينة” الخبر المفجع لابنها “مصطفى” الذي أشبع بطن “فرحانة” بما يحمل من حرام رفساً بقدميه، وتركها كوم لحم مهشم العظام حتى انتهى من حفر حفرة أنزلها فيها، وأهال التراب على جسمها حتى العنق، ثم تركها على هذه الحال حتى تموت، وحتى تبوح بمن فعل.

ويعلم بالخبر العاشق “سعدي” ابن الحدادة.

وفي مشاهد- ما أظن أن لها مثيلاً في الجمال المقترن بالقسوة طوال تاريخ السينما في الوطن العربي- يحرر السعدي “فرحانة” من أسر الأرض يحملها كما المحبين إلى الطاحونة لا ليعتلي الفرس وينطلق بها في دنيا الله كما كان يحلم، وإنما ليحصد بالمنجل العنق الشامخ.

كل ذلك يحكيه الفيلم بلغة سينمائية راقية بفضل مخرجه “خيري بشارة”، وبفضل كاميرا المصور الموهوب “طارق التلمساني”.

ولولا هفوة الطاحونة وما صاحبها من ظلال لبدت حسنات “الطوق والأسورة” ساطعة وهّاجة.