الأيام الأخيرة في حياة الطغاة

الآن وشمعة طاغية ليبيا وملك ملوك إفريقيا علي وشك الانطفاء. من بعد أن ملأ بتخريفاته جو الأرض ضوضاء فلا أخبار عنه سوي أنه وذريته مطاردون والمطلوب العثور عليهم أحياء أو أموات ولا شيء من إنجازاته المبعثرة علي شاشات التلفاز، سوي تماثيل محطمة، وأعلام ممزقة وجثث مشوهة، وصور تداس بالأقدام، ومخابئ ودهاليز مشيدة في أعماق الأرض، كي يحتمي بها الطاغية من عاديات الزمان.

ومع ذلك لم تفده شيئاً، بعد أن أسدل الستار علي ساعته المليئة بالصخب والغضب، تلك الساعة التي قضاها علي خشبة المسرح بين الاختيال والاهتياج ومع رؤية سفينته غارقة، لا محالة وجدتني أسترجع علي شاشة ذاكرتي مخبأ شيده طاغية آخر في أعماق الأرض إبان الحرب العالمية الثانية.. وأين؟

في عاصمة الرابخ الثالث «برلين»، وذلك لحماية هتلر من موت ليس لهارب منه نجاة.
Der-untergang

وعن حياة ذلك الطاغية الذي ترك ألمانيا أرضاً خراباً، في مخبئه هذا، وتحديداً الأيام العشر الأخيرة من تلك الحياة، تدور أحداث «السقوط»، ذلك الفيلم التاريخي، المأخوذ موضوعه عن مؤلفين أحدهما صاحبه «يواخيم فست» والآخر صاحبته إحدي سكرتيرات الطاغية «تراودي يونجمي»، ترجمهما إلي لغة السينما المخرج الألماني «أوليفر هيرشبيجل».

ويتقمص شخصية هتلر في الفيلم الممثل السويسري «برونو جانز». وتقمصه لها ارتفع إلي مستوي ليس له ما فوقه، كاد يصل إلي حد الكمال وبطبيعة الحال، فجميع أحداث الفيلم تدور وجوداً وعدماً حول «هتلر» ذلك الطاغية الذي اختصر ألمانيا في شخصه.
der-untergang_2

كما أنه، فيما ندر لم تغادر الكاميرا المخبأ، حيث كان هتلر مع عصابته يقيم، ومن أمثلة مغادرتها مشهد حرق جثتي «هتلر» وعشيقته إيفا براون»، خارج المخبأ، بعد انتحارهما حتي لا يقعا في أسر الجيش الروسي، الذي أحكمت قواته حصار «برلين».

واللافت في حياة هتلر، قبل بضعة أيام من انتحاره، أنه داخل المخبأ كان يحتكر جميع السلطات.

كان شريراً، مجنوناً، عليلاً، فضلاً عن أنه كان قد خسر الحرب، ومع ذلك يواصلها، تحت تأثير خياله المريض.

يشير إلي الخرائط، يوجه الإنذارات، يحرك قوات لم يعد لها وجود، يصدر الأوامر إلي قادة في عداد الأموات، معتمداً علي مجيء النجدة من قبل جيوش من صنع الخيال.
Der-untergang_3

ومما يدعو إلي الاستغراب أن أحداً من قادته ووزرائه المقيمين معه في المخبأ لم يرفع راية العصيان رغم أن جنونه كان ظاهراً، دون لبس أو إبهام، ورغم أن قوات العدو كانت علي الأبواب، ليس بينها وبين اقتحام برلين، والعصف بالمخبأ سوي بضعة أيام، إن لم يكن بضع ساعات.

وهذا العجز عن حسم الصراع مع الطاغية، حتي في لحظة هزيمته الكبري، إنما هو نتاج إشاعة الخوف وبثه في القلوب، معززاً بسلوك وحشي رسمي منهجي ومديد.