اعترافات ممثل في مجلس اللوردات

قدّم لسيرته الذاتية “اعترفات ممثل” بتمهيد مشوق كل التشويق. التمس فيه من قارئ الاعترافات المباركة.. لماذا؟ “لأني أخطأت منذ اعترافي الأخير قبل أكثر من خمسين عاماً، قد أرتكبت الخطايا الآتية”.

وبهذا التمهيد أفلح صاحب الاعترافات في أن يتحقق له ما يريد . في أن يثير في مشتري السيرة حب الاستطلاع، أن يسحبه إلى قراءة نهمة لكتاب ضخم (348 صفحة من القطع الكبير) بحثاً عن الخطايا في حياة نجم فنان جمع بين التمثيل والاخراج على مدى خمسين عاماً أو يزيد.

والحق يقال أن الاعترافات فيها من توابل الخطايا الممتعة الشيء الكثير يحكيها صاحبها – وهو واحد من أساطين فن المسرح والسينما – بأسلوب آسر أخّاذ يليق بشيخ مجرب لا يزال يعيش بقلب شاب يفيض حماساً.

ولو راعينا في عرض السيرة ترتيب وقائعها كما جاءت في الاعترافات لوجدنا صاحبها يستهلها بفصل أول تحت عنوان “كيف بدأت”.

علل البخيل

وهو في هذا الفصل لا يكتب عن رحلة المجئ إلى العالم كيف ولد وكيف عاش في المهد صبياً، لا  إنه يكتب عن انسان آخر عن أبيه القسيس كيف كان بخيلاً مقتراً في كل شيء بما في ذلك الماء.. أي ماء ساخناً كان أم بارداً.

“كنت أقسم دائماً أنه يستطيع أن يقسم الدجاجة بحيث تشبع حاجة ستة ثم يبقي منها ما يكفي وجبة الغذاء البارد في الغد، ودبابيس وجبة إفطار صباح اليوم التالي”.

فإذا ما انتهى الفصل – وهو يدور وجوداً وعدماً حول بخل الأب أصنافاً وألواناً – انتقل صاحب السيرة باعترافاته مسافراً داخل نفسه.

وكعادته معنا وقبل أن يبدأ الرحلة نراه يستهل الفصل الثاني “من المهد إلى فتى جوقة غناء” بكلام عن مشهد ليس ثمة صلة في الظاهر بينه وبين المهد.. مشهد من “ذهب مع الريح” ذلك الفيلم الذي لعبت لعنته دوراً في تدمير حبه الذي ذهب فيه مع معشوقته “ڨيڨيان لي” إلى آخر الشوط، تحولت بجمراته إلى رماد تذروه الريح.

الدقات والصرخات

ما هو هذا المشهد؟ وحول أي موضوع يدور؟

أنه لجنود الشمال الامريكي المنتصرين في الحرب الأهلية يقتحمون منزلاً في الجنوب حيث لا يوجد سوى سيدات مرفهات ومربية سوداء اشتعل رأسها شيباً.

يفتشون عن وثائق سرية أو أسلاب يخرجون بها فائزين.

في هذا الجو المرعب تحاول السيدات الصمود للخطر في برود.. الظهور بمظهر وكأن شيئاً أمامهن لا يحدث.

إحداهن وهي أكثرهن شجاعة “ميلاني” (اوليڨيادي هاڨيلند) تتناول أقرب كتاب لها تفتحه تقرأ منه كلمات بصوت جميل عال لا يرتعش. إنها تقرأ فقرة الافتتاح الشهيرة من “داڨيد كوبر فيلد”.

سواء أصبحت بطل حياتي أو سواء احتل هذه المنزلة أي شخص آخر.. هذا ما لابدّ وأن تكشف عنه هذه الصفحات. حتى ابدأ حياتي ببداية حياتي أسجل أني ولدت (كما قيل لي وأصدق) يوم الجمعة الساعة الثانية عشر مساء. وقد لوحظ أن الساعة بدأت تدق وأنا بدأت أصرخ كلانا في وقت واحد.

وهنا يؤكد صاحب الاعترافات أن هذا الوصف لبداية حياة بطل قصة “شارلز ديكنز” إنما ينطبق حرفياً على مولده في الثاني والعشرين من مايو سنة 1907، وذلك فيما عدا تفصيلة واحدة صغيرة هي أن دقات الساعة وصرخات الحياة لم يسمعا معاً في منتصف الليل، وأنما في الخامسة صباحا مع الشروق!

فجر أكبر أهمية

وبكتلة اللحم والدم التي انحدرت من أم صاحب الاعترافات توجه الدكتور رولنجز إلى باب المطبخ حيث كان الأب يقلي بعضاً من السجق له وللدكتور، فترك الكتلة الصغيرة المتمتعة بالصحة والعافية بين ذراعيه، وبدا على وجهة شيء من التقزز.

“هذا التقزز اليسير الذي أحس به عند أول مرة التقت عيناه بي بدا لي ولأمي أمراً قائماً مستمراً طيلة أيام صباي إلى أن حدث لجنّتي، أملي، دنياي المعبودة أمي أن توفيت وأنا في سن الثانية عشر”.

وعن واقعة اختفاء الأم هذه وما دار حولها من أسرار قالت له أخته الوحيدة “سيبيل” أنها كانت بجوار أمه لحظة اقترابها من النهاية وسمعتها توصي زوجها بطفلها خيراً. كما سمعت أباها يعدها أنه سيعمل كل ما في وسعه من أجل إطاعة رغبتها الأخيرة.

وعلي مرّ الأيام أخذ الفتى الصغير يتلقى اشارات تدلّ على ما يبذله الأب من مجهود في سبيل البرّ بوعده إلى الأم وهي على فراش الموت. ولكن هيهات فجميع المحاولات باءت بالفشل، وظل طوفان الكراهية بين الأب وابنه أبداً لا ينحسر.

فيوم أن استسلم الأول لمشيئة الموت قريباً من بداية سنة 1939 كان صاحب الاعترافات يمثل مسرحية “لا وقت للهزل” في انديانا بوليس بالولايات المتحدة حيث تلقى مكالمة تليفونية من وراء المحيط، إنها زوجة أبيه تخطره بأكبر خبر مفجع في حياتها، تطمئنه أنها قد أعدت لكل شيء عُدّته وأنها في غنى عن خدماته.

وبالنظر إلى أنه كان يحمل لها كل الحب والتقدير فقد استطاع أن يصدقها ولم يحاول العودة إلى انجلترا لحضور الجنازة أو لتلقي العزاء.

عتاب النفس

ومع ذلك فخبر الوفاة هزه هزاً أحدث في نفسه فزعاً. فباختفاء الأب سقط جدار الوهم الذي كان يشعر معه بالحماية. فجأة وجد نفسه أمام الموت وجهاً لوجه.

وفي وجود شبح الموت بدأ شريط الذكريات. تساءل صاحب الاعترافات متعجباً لماذا لم يواجه ولو مرة واحدة، الفقيد؟ لماذا ضعف فلم يستطع أن يقول له؟!

“أن تصرفاته كانت غبية، طفلية خاطئة وأحياناً أقرب بتحاملها وجهلها إلى الشر.”

أتذكره ذات مرة وهو يعلن واثقاً من منطلق الإيمان الأعمى أن برنارد شو تقمصه الشيطان (كنت وقت اعلانه هذا قد مثلت مسرحيتين لشو وتظاهرت بأني لم أسمع). “وانصرف فكري باعجاب مشوب بالغيرة إلى شقيقتي كيف تحررت من الخوف، كيف كانت تقف له بالمرصاد معارضة وعيونها الذكية تحملق فيه، تكاد تطّق شرراً وأي من شقيقيها أضعف منها لا يسانداها”.

هكذا كانت ذكريات الابن الأولى حول الأب لحظة سماع خبر انتهاء رحلة عمره.

الدهشة..لماذا؟

وعلي كُلٍ، فلو كان للأخير أن يبصر الصلة التي بين كتلة اللحم والدم التي أثارت تقززه وبين اللورد “أوليڨييه” المعروف في عالم المسرح تحت اسم “لورنس أوليڨييه” الواقف في العشرين من يولية سنة 1971 أمام مجلس اللوردات يلقي خطابه الأول – لتحوّل تقزّزه إلى بهجة. ولو كان له أن يرى ابنه الكذوب الفاشل المتعلق بالمسرح ومسوخه التي هي من صنع الشيطان، يعظ لوردات المملكة مبيناً أهمية المسرح ودوره الحضاري، والحضور يصفقون له استحساناً – لكذّب عينيه وأذنيه ولظل في حيرة لا يعي من أمر نجاح ابنه شيئاً.

ومهما يكن من أمر فما هو سرّ تحول لورنس أوليڨييه إلى نجم مسرح وسينما يدوم ساطعاً أكثر من أربعين عاماً. ما سرّ حصوله على لقب فارس “سير” ثم لورد وهو المطلق مرتين، المتزوج من نجمة أعظم كانت هي الأخرى مطلقة؟

باختصار ما سر نجاحه كل هذا النجاح؟

منطقياً كان يجب أن يسقط.. فأبوه قس قاس متقزز منه ومن أعماله من هوايته ورغبته في أن يكون ممثلاً، وأمه الحبيبة تركت الأقدار تفعل بها ما تشاء، انقطعت انجابها وهو لا يزال صغيراً.

وزوجته الأولى – وقبل عقد القرآن بأسابيع قليلة – تعترف له بأنها كانت تحب آخر ولا تستطيع أن تبادله الحب كما يهوى.

ورحلته إلى هوليوود قريباً من بداية الثلاثينات تخيب، فجريتا جاربو ترفضه، تحرمه شرف الوقوف أمام “الملكة كريستينا” عاشقاً.

ولكنه رغم هذه المحن، ومحن أخرى تكون أشدّ هولاً لم يسقط. لماذا؟

خادم القوم

لأسباب ثلاثة الموهبة.. الحظ.. العمل

وعند السبب الأخير أقف قليلاً لا لسبب سوى أن “لورنس أوليڨييه” هو الآخر وقف عنده طويلاً.

فمن يقرأ الاعترافات بامعان لابد وأن يلاحظ أن “أوليڨييه” ليس هارباً من عصره وأن مكانه الطبيعي خشبة المسرح، وأن الحب بينه وبين الجمهور صار أقوى من أي حب آخر. وأن العمل وحده المخلّص، بدونه تصبح الحياة لا معنى لها.

وفيما قاله “أوليڨييه” في اعترافاته يقول: “كثيراً ما يسألني الناس ما هي هواياتي، ما الذي أفعله من أجل المتعة؟ .. لم أفكر أبداً في شيء من هذا القبيل، أشعر شعوراً قوياً بالذنب عندما أحصل على أجازة، أحس بعدم الراحة فيما لو قمت بأي شيء خلاف العمل.

العمل بالنسبة لي هو الحياة، إنه القصد الوحيد من الحياة، ومصاحباً له ايمان يكاد يكون دينياً بأن الخدمة هي كل شيء.

أحيانا أجدني مع أناس حزانى يسألونني ما هو الشيء الذي من أجله أعيش، ما هو القصد من حياتي؟

والإجابة بأني أعيش من أجل العمل.. ليست دائما بالإجابة المناسبة.

بدلاً منها أجيب على الفور وباختصار مفيد “الخدمة” “فلو كنت تستطيع أن تنشد بها مثلاً أعلى وتدركه ولو استطعت ذلك الجمع، إذن فلا أحد ابتداء من الملكة وحتى أضعف السيدات وأكثرهن تواضعاً، لا أحد يستطيع أن يقطع الطريق وهو يعاني الاحساس بأنه يعيش لا لشيء.. يعيش عبثاً.

البوسطجي .. صراع الخاتمة بين قصة يحيي حقي وفيلم حسين كمال

يحيى حقي مهضوم الحق في السينما، في حين أن أية قصة كبرت أم صغرت لـ”نجيب محفوظ” أو “احسان عبد القدوس” أو “إسماعيل ولي الدين” ما إن يُكتب لها ان تنشر، إلا ويكون تجار السينما متربصين لها بالشراء والتحويل إلى أفلام، فإن الحال مع قصص يحيى حقي على عكس ذلك تماماً فعلى مدى أربعين عاماً أو يزيد، لا يزيد نصيبها في عالم الأطياف عن فيلمين “البوسطجي” و”قنديل أم هاشم”.
وثمة اجماع على أن الفيلم الأخير منبت الصلة بقنديل الأديب الكبير فيه من عدم الفهم لمغزى القصة ودلالاتها الشيء الكثير.

أما “البوسطجي” فلا اجماع حوله. حشد كبير من النقاد تحمس له، اختاره أحد أحسن عشرة أفلام انتجتها السينما المصرية منذ انتهاء عهد الملكية بالسقوط، وفئة قليلة لم تتحمس له، أو حماسها له كان من النوع الفاتر المشوب بكثير من الشك.
وكان صاحب القصة المستوحى منها الفيلم من المتشككين.. كان “يحيى حقي” من الفئة القليلة. كيف؟

في مقاله الأسبوعي “مع الناس” المنشور في جريدة المساء (6 مايو 1968) برر الحديث عن الفيلم في أدب جَمّ وتواضع يليق بالحكماء بقوله “كتبت هذا المقال لأقطعه وهو منشور في “المساء” وأضعه في جيبي أُخرجه لمن سيستجد من السائلين لي عن حكمي على فيلم “البوسطجي” ليُغنينا عن جري لساني بكلام قلته من قبل مراراً، لا شيء يتعبني أكثر من أن أحكي حكاية واحدة أكثر من مرة ولو في جلسات متفرقة على أُناس مختلفين، كأنني اسطوانة انحبست إبرتها داخل تجويف واحد، فأحس حينئذ أن هذه الإسطوانة قد باظت وباخت وأصبحت مزعجة أيضاً”

الغضب.. لماذا؟ 

وقريباً من نهاية الحديث وبعد أن أفصح عن شدة الفرح والإعجاب بالمخرج “حسين كمال”- انتهز الفرصة فتوجه إليه بثلاث نصائح أسماها كلمات لعل أهمها أن يُغير خاتمة الفيلم إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

فما هي هذه الخاتمة التي أغضبت الأديب الحليم فأخرجته عن طوره إلى حد التدخل في عمل فني مستقل عن القصة، والنصح بإدخال تعديل عليه يُغير من نهايته.. ما وجه العيب فيها؟

وهل هي مغضوب عليها لذاتها أم لارتباطها بعيوب أخرى شابت الفيلم فابتعدت عن روح القصة؟
القنطرة الصماء

في حديثه المُشار إليه يقول “حقي” بحق عن درّته “البوسطجي” التي كتبها باسطنبول سنة 1933 أنه قد انعقد فيها خطان أراد القدر أن يتشابكا، الخط الأول منقول بصدق نقلاً فوتوغرافيا عن الواقع، وهو مصرع “جميلة” على يد أبيها، تلك الخاطئة التي كان قد حضر من قبل تشريح جثتها وقرأ بعينيه الخطابات الواردة لها من صاحبها الغائب عنها رغم محنتها.

والخط الثاني من محض الخيال، مأساة البوسطجي- هذا الشاب القاهري الذي يفترسه الملل في الصعيد فيُقدم على فتح الخطابات التي تمر تحت يده ليجد قدمه قد علقت بشوك من حيث لا يحتسب، ماراً به على غير إرادة منه، يدفع بأناس لا علاقة له بهم بل هم مجهولون عنده إلى مصيرهم المأساوي.

ويمضي صاحب القصة الدرّة معترفاً أنه كان بالنسبة لخط مأساة البوسطجي مُتأثراً بقصة “الأبله” لدستويفسكي، هذ المحايد الذي لا عليه ولا له يقلب حياة كل مجتمع يخالطه، ينبش مجرد ظهوره بين أفراد المجتمع كل ما يخفونه من نوازع وعواطف فيكون هو القنطرة الصماء التي يعبرون عليها إلى مصيرهم.

خماسية البوسطجي

وعلى كُلٍ، فمما يلاحظ على القصة أن وقائعها قد اختزلت على وجه أضفى عليها ميزة التركيز الشديد، وأن إيقاعها بفضل اقتصاد في الألفاظ مذهل له جرس موسيقي.

ومن هنا اختيار شكل التكوين لها في خمس أقاصيص أو بمعنى أصح حركات تحت عناوين (1) بلاغ ورا بلاغ (2) عباس أصله وفصله (3) جميلة وبنت ناس (4) فرحة ماتمت (5) سقطة البوسطجي.

وأهم ما في القصة إنما يدور في أرواح الشخصيات وبالذات جميلة “الخاطئة” وخليل “الحبيب” وعباس “البوسطجي”.

وعلى هذا، وكما يقول الدكتور “علي الراعي” في كتابه “دراسات في الرواية المصرية” لا يجد صاحب القصة أن ثمة إلزاماً عليه برسم شخصياته من الخارج، ومن ثم يقصر اهتمامه على محاولة التعمق في أرواحها وعقولها (ص 184).

وليس من شك أن الدين من جوانب الحياة الروحية لهذه الشخصيات بل لعله أهمها.

اختلاف الملّة

ومن هنا ابراز أن “جميلة” أرثوذكسية يزهو أبوها بزيارات القسيس له، ويأخذ أسرته كلها للكنيسة حيث يجلس هو تحت، وتجلس امرأته وبنته الصغيرة “جميلة” في الشرفة محجبة بالشيش.

وأن “خليل” بروتستنتي في مدارس الأمريكان من تلك الأقلية القليلة التي توصل بفضلها المُبشر البروتستانتي الغريب إلى الاختلاط ببقية الأقباط، وفي يده أمنية يلوّح بها ويغري “في أسيوط مدرسة للعيال وللبنات مجانية”.

وأن “عباس” مسلم من أسرة أفرادها موظفون صغار، كلهم يؤكدون أنهم من سلالة عربية، وبعضهم يُضيف أنهم من السادات، رغم أن سلسلة النسب الشريف التي يحفظونها تنتهي عند جدهم الثالث.

وهذا الجانب الهام من الحياة الروحية للأبطال الثلاثة لم تجر الإشارة إليه في نسيج القصة عبثاً.

فبسبب المُبشر البروتستانتي ومدرسته بفكرها المستورد التقت “جميلة” بأول شاب تراه عن قرب “خليل” الذي تعمد الإنفراد بها، أمسك يدها ثم لمس ثديها وقبلها، ونسيا نفسيهما في إحدى هذه الفورات واجتبى منهما الشباب جريته وبسبب اختلاف ملّة الحبيبين كان القسيس بمثابة ماء بارد يُصب بلا رحمة على نار عجلة العروسين فقد وضع لزواجهما شروطاً شكلية تستلزم وقتاً مما أدى إلى تأجيل بل قل التعطيل نهائياً لعقد القران.

الاحتضار الطويل

وهكذا ونتيجة حيلة شكلية غير متوقعة وجدت “جملية” نفسها أمام مشكلة ليست في الحياة مثلها.. هي عقدة كلها اصطدام ونزاع وخيوطها من ديانة وتقاليد ووهم..

وأخذ الجنين في بطنها ينمو يوماً بعد يوم كعقرب الساعة لا ترى العين حركته.

ومع نموه بدأ الاحتضار الطويل، أنات تسمع في رسائل الاستنجاد إلى الحبيب، تتقطع وتتباعد آخرها أنة من كلمتين “خليل.. الحقني”.

من بعدها نسمع الموت لا نراه الا في صوت جرس الكنيسة الصغيرة يدق اشعاراً به.. يكاد ينطق “فقد يعبّر النحاس في بعض الأحيان عن منتهى حزن الإنسان”.

الشفافية والسوقية

بهذه الكلمات الآسرة المشحونة بالألم والمشاركة اختتمت القصة.. بفضلها نعرف أن شمس حياة “جميلة” قد غابت في وهدة الموت إلى الأبد.

إذن القصة قد عرضت لاختفاء “جميلة” بلغة الرمز والإشارة بلغة صاحبها التي تتسم بالسمو والتحليق.

والمؤلم أن الفيلم لم يحترم غلالة الشفافية هذه التي أحاطت بالخاتمة، واصطنع خاتمة أخرى مباشرة غليظة لا أجد مناصاً من وصفها بالسوقية.

فجميلة في الفيلم كما يصنعها السيناريو المنشور تهبط هاربة من نافذة غرفتها المطلة على الحديقة الخلفية، أبوها ينتبه إلى صوت ارتطام جسمها بالأرض، كالمجنونة تجري في شوارع قرية كوم النحل وهي تنادي “خليل.. الحقني”.

وفجأة يظهر المعلم، يستوقف ابنته هاجماً عليها، تصرخ صرخة مروعة بينما يغمد سكينه في قلبها.
يحيط الفلاحون الذين أتوا مهرولين من بعيد على الصرخة بالمعلم وابنته القتيلة على صدره.

المعلم يحمل جميلة والفلاحون من حوله متجمهرون في صمت وكأنهم يشكلون جنازة.

لقطة للقتيلة مع صوت الأم الصارخ في لوعة “جميلة.. ضناي” ثم تتقدم الأم مندفعة مشعثة وهي تصرخ مولولة وتهيل التراب على رأسها “جميلة.. بنتي ضناي”.

الاختلاف والحيرة

هذا البون الشاسع بين الخاتمتين ما سببه؟

قد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما أرجعت هذا المسخ غير المستحب لخاتمة “جميلة” أو “البوسطجي” الاسم المختار لمأساتها.. أرجعته إلى تجريد الشخصيات من أحد جوانبها الروحية الهامة جداً.. الدين.

فالمشاهد لا يعرف أن “جميلة” أورثوذكسية، وأن خليل من القلة القليلة البروتستانتية.

وكذلك الحال بالنسبة للشخصيات التي على صلة قرابة بهما فهي جميعاً وبلا استثناء مجهولة الدين بلا أسماء.

ومن ثمّ فإن اختتام الفيلم كما القصة بصوت جرس الكنيسة الصغيرة يدق اشعاراً بالموت أصبح- والحالة هذه من قبيل المحال الذي لا محل له.

بل أنه حتى بفرض أن المستحيل قد تحقق فحلّت خاتمة القصة محل خاتمة الفيلم استجابة لرغبة مبدع البوسطجي لما تلقى المشاهد المتعجب من دقات الجرس الرسالة أن جميلة ماتت مقتولة، ونظل في حيرة ما بعدها حيرة لا نجد معها لتلك الدقات تفسيراً.
مسوخ أم ضحايا؟!

وإذ كان الحال كذلك فهل كان غائباً عن صاحب القصة أن تغيير الخاتمة من قبيل المستحيل؟

بالطبع لا.. وأغلب الظن أنه بطلبه إعداد خاتمة أخرى للفيلم إنما أراد أن يعبر عن ضيقه بما أُدخل على شخصيات القصة من تغييرات تحوّلت بها إلى مسوخ كاريكاتورية.

فمن المعروف عنه أنه.. وكما وصفه دكتور نعيم عطية في مؤلفه “يحيى حقي وعالمه القصصي” ذو عقلية تتأنى في بناء الشخصيات وصقل الحوار وانتقاء التفاصيل، وأنه ولئن كان في أدبه مهموماً بالحياة الكريهة المرعبة في الريف وبخاصة في الصعيد الجواني إلا أنه عطوف على الشخصيات الريفية التي يرسمها بريشته الساحرة، يكتب عنها بمودة لأنها عنده ضحية بيئة يتشوه فيها الإنسان، يموت على مهل عفنا.

وهو لا يشذ عن هذه القاعدة الإنسانية في وصفه لأبي “جميلة” وأمها، فهما ليسا أشلاء ميتة، ليسا في حالة خمول زوجي.

فالأب المعلم “سلامة” لا يكاد يفترق في مظهره، في أخلاقه وعاداته عن المسلمين، اللبس واحد والعمامة فوق رأسه عليها المقدار ذاته من التراب، يحفظ كل الصلوات نغماً وكلاماً عن ظهر قلب.. الحب الأبوي وحده هو الذي زحزحه عن تعصبه، جعله يسلم جميلة إلى المدرسة البروتستانتية ولما تبلغ العاشرة، وقلبه يفيض بالأمل أنها في يوم ما تكون معلمة.

وعندما أتمت جميلة السنة النهائية ودُعي لحفلة توزيع الشهادات، جاء إلى المدرسة في أحسن ثيابه.

بل وعندما جاءه خليل طالباً يد “جميلة” قبل بالحاح زوجته أن يعقد الإكليل حتى قبل دفع المهر.

إذن وحسب هذا الوصف هو ليس بالوحش الكاسر الجامد.
التشويه.. كيف؟

أما الفيلم فقد ذهب في رسم شخصيته مذهباً آخر، جعل منه رجلاً شاذاً كريهاً، يطارد مريم الخادمة داخل برج الحمام، يحتضنها، يعريها، يسلبها أعز ما تملك. رجل أحمق عنيد يرفض زواج ابنته من خليل لا لسبب سوى أن جميلة زارت أخته في النخيلة.

وجعل من زوجته- وهي في القصة سيدة عاقلة فاضلة- جعل منها امرأة غيورا، يحركها الغيظ والغضب والرغب في الانتقام من الخادمة، يدفعها إلى التخلص منها بالوشاية بها إلى خالها وأخيها اللذين يصطحبانها إلى أجلها المحتوم.

وأغلب الظن أن هذا التشويه لشخصيات البوسطجي هو الذي حدا بـ”يحيى حقي” في حديثه المُشار إليه إلى توجيه النصح إلى حسين كمال بأن لا يبالغ في تصديق اعجاب بعض الأجانب المقيمين عندنا بفيلمه “فإنهم مأخوذون أول الأمر بالجانب الفولكلوري، فإذا ما نفذوا منه إلى ما تحته كان لهم رأيٌ آخر”.

وكم كان أديبنا الكبير بعيد النظر، كم كان حكمه على الفيلم صائباً، فالآن لا أحد من النقاد الأجانب يُبدي اعجاباً بفيلم شوه “البوسطجي”.
على أثر ظهور مقالنا عن فيلم البوسطجي عن قصة الكاتب الكبير يحيى حقي في مجلة الهلال عدد فبراير 1985، والذي تناولنا فيه مدى التزام السيناريو باظهار شخصيات القصة كما عناها الكاتب، ظهر تعليق كاتب السيناريو المرفق على صفحات مجلة صباح الخير والذي نترك للقارئ تقييم ما جاء به.
صفحة ونص عن النقد والهوى الفني!!

عجبت وحزنت حين قرأت هذا الأسبوع مقالاً صغيراً في إحدى المجلات، يقارن بين خاتمة قصة البوسطجي لأديبنا يحيى حقي الذي نحتفل بعيد ميلاده هذه الأيام.. وخاتمة الفيلم المأخوذ عن تلك القصة والذي كتبت له السيناريو والحوار، وأخرجه حسين كمال في عام 1968.. أي منذ سبعة عشر عاماً.

عجبت، لأنه طوال هذه الأعوام السبعة عشر، والبوسطجي يحقق نجاحاً فنياً وجماهيرياً أينما حل وعدد يفوق أصابع اليدين من جامعات العالم المختلفة، يحتفظ بنسخة منه.. وتوجد في جامعات أمريكا وحدها ما لا يقل عن تسع نسخ في كليات الدراما وأقسام السينما بنيويورك وجورج تاون بواشنطن، وبوسطن، ومنيسوتا، ومعهد بسادينا للفنون، ومركز كيندي الثقافي، وغيرها. كما أن غالبية السينماتيك (الأرشيف السينمائي) في عدد من دول العالم، تحتفظ بنسخة من البوسطجي للعرض على جمهورها الخاص، بين الحين والحين.

وقد كان ظهور فيلم البوسطجي في عام 1968 حدثاً فنياً اهتزت له غالبية كبيرة من الأقلام، معجبة ومرحبة، فقد ظهر الفيلم بعد فترة توقف طويلة للسينما المصرية هاجر فيها الفنانون إلى تركيا وإيران ولبنان.. وظهر بعد مرحلة طويلة من الشعور بالاحباط والنكسة بعد هزيمة عام 1967، وكان في كل بيت تقريباً، مأتم لشهيد في تلك الهزيمة.. وعلى حد تعبير الأستاذ يحيى حقي نفسه في الكلمة التي استشهد ذلك المقال الصغير بمقطع منها تاركاً بقية المقاطع، يقول الكاتب الكبير أن فيلم البوسطجي قد شذّ عن بقية أفلامنا العديدة التي لا ترتفع لمستوى النقد، وهذا نجاح من العدل والإنصاف أن نقر له به، أنه جعلنا نترك مقالب الزبالة أو مقابر الأموات، لنخالط الأحياء في العمار، أصحاء كانوا أم معلولين..”
وقد حصل الفيلم وقتها على تسع جوائز من جوائز الدولة، للقصة والسيناريو والحوار والإخراج والتصوير والمونتاج والديكور والانتاج والتمثيل.

ولهذا عجبت أن يجيء اليوم كاتب ذلك المقال، ويلقي بحفنة من التراب والطين على هذه الجهود الفنية التي سبق تقديرها والاعجاب بها. ويستخدم ألفاظاً تكشف العمد وسوء النية في النقد الفني، مثل تشويه شخصيات يحيى حقي وتحويلها إلى مسوخ كاريكاتورية!، واتهام الفيلم بالسوقية، والإدعاء بأنه أغضب الأديب الكبير صاحب القصة، بينما في نفس الكلمة التي كتبها يحيى حقي والتي استشهد ذلك المقال الصغير ببعض عباراتها مقتطفة مبتسرة يقول الكاتب الكبير “أنه لا يملك إلا الثناء عليه، إذ كان تسلسل المشاهد وتركيب بعضها فوق بعض يسيران باتصال مقنع ومريح لا يقطعه تخلخل وركود أو غموض وحشو.. والاضافات التي أدخلها على القصة خدمت الفيلم..”؟!

وأصل القضية في نظر كاتب ذلك المقال الصغير هو اختلاف النهاية من ناحية الشكل الفني، أي التعبير عن موت البطلة أو مقتلها.

فالبطلة جميلة في قصة يحيى حقي تظهر عليها أعراض الحمل سفاحاً فيضمر والدها قتلها، ثم يعبر الكاتب عن وقوع القتل وموت جميلة بجرس الكنيسة يدق.

وقد هبطنا نحن فناني الفيلم بهذه الخاتمة الشاعرية حينما عرضنا وقوع الحدث على المتفرجين..!!

وكان هذا مصدر آخر للعجب من شخص يتصدى للنقد السينمائي، وهو يجهل المفردات الأساسية المختلفة بين اللغتين، لغة الأدب المقروء، ولغة الصورة المرئية..!

فالسينما تقدم للجماهير العريضة المختلفة المستويات والتي يجهل غالبيتها فنون التشبيه والرمز والمقارنة والاستنتاج.. وأبسط واجبات السينما تجاه جمهورها هو أن تكون واضحة ومحددة فيما تقول.. وهي تقول بالحركة والفعل، أي أن المتفرج لابد أن يرى.. وعندما يصف مؤلف القصة بطله مثلاً بأنه “راجل فلاتي” فلابد للسينما أن تقدم ذلك بالفعل والحركة المرئية في مشاهد ومواقف، حتى يترسب المعنى في وجدان الجمهور.. واستخدام الوصف اللفظي للتعبير عن الأحداث في السينما خطأ فني درجنا عليه في أفلامنا العديدة التي تجاوزها البوسطجي، والتي لم تكن ترتفع لمستوى النقد..!

وكانت النهاية بالفعل في فيلم البوسطجي فاجعة حقاً، ونحن نرى الأب يطعن ابنته بالسكين، بعدما لاحقها وهي تحاول الفرار منه.. وقد تأثر الكاتب الكبير بتلك النهاية، وخشى على مشاعر الأجانب منها حين عرض الفيلم في الخارج.. وقد عجبت لأن السيد كاتب المقال الصغير قد ركب نفس المركب، وكان مصدر عجبي أن هذا الناقد طالما هلل وزمر وطبل لأفلام صنعها هؤلاء الأجانب، مليئة بالعنف والدم والتدمير والاغتصاب.. دون أن يتوجع أو يبكي على الشاعرية وغلالة الشفافية، أو يشعر بالغلظة والسوقية اللتين شعر بهما في خاتمة البوسطجي.

وقد تحول عجبي إلى حزن شديد حينما علق أحد الأصدقاء الفنانين قائلاً بأن حفنة التراب والطين في هذا المقال الصغير موجهة في الحقيقة إلى مخرج الفيلم حسين كمال وليس إلى الفيلم نفسه.. لأن كاتب المقال لا يحبه.. أو بمعنى آخر لا يستظرفه..!

زاد حزني في الحقيقة، أن يصل النقد الفني إلى هذا المستوى من الذاتية.. وأن تداس الموضوعية بالأقدام، في سبيل تصفية الخلافات أو الاختلافات الشخصية.

وكان الله في عون الجمهور، ففرصته الأساسية للفهم والمشاركة والتعلم، إنما هي في مقالات النقاد الذين يتناولون الأعمال الفنية بالمتابعة والتحليل.. والنقد ولهذا فإن وظيفة الناقد تكاد تكون مقدسة مثل وظيفة المعلم.. وجدير بصاحبها أن يتجرد عن الهوى.. وأن يزن بميزان الذهب.. كي لا يغرق قراءه في بحر الضلال!

صبري موسى

ثرثرة حول أفلام محورها: دنيا الكأس والكركرة

 كانوا ثلاثة وكنت رابعهم.. ماعدا الكلب.. عزيزة أمير تلمع في حليّ من أحجار كريمة غالية، وإلى جانبها زوجها، شاب كريم من أسرة كريمة في هيئته سمات الحب حينما يصبح مرضاً عضالاً لا يشفيه القرب أو البعد.. وأمامهما رجل ضخم الجسم، واضح الغنى يرضع (الويسكي) ثم يتلمظ ويتحلب ريقه، وكأنه لم يشرب، وهو أحد الباشوات الذين اشتهروا بعطفهم على الفن والفنانين…

هذه السطور قد يظن القارئ اللبيب أن صاحبها أنما يصف بها مشهداً من فيلم مثلته عزيزة أمير.. ولكن المشهد ليس من الخيال في شيء.. إنه الواقع بلحمه ودمه، كما رآه زكي طليمات رأي العين في أول زيارة له لقصر رائدة السينما المصرية، بل قل العربية، وكما وصف بعد أربعين سنة في كتابه الشيق “ذكريات ووجوه”.

كأس الإلهام

 ومع ذلك، فمنذ البداية، والسينما في مصر غالباً ما تستعين بمشهد كهذا، تلعب فيه الخمر دوراً رئيسياً، أو على الأقل تشكل خلفية لما يجري في الفيلم من وقائع أكثرها تافه.

ولم يكن هذا بالأمر الغريب في أزمنة كان يتغنى فيها بأن الدنيا سيجارة وكأس، وكان الفكر السائد في عالم الأطياف والأوهام أن الخمر مصدر مزعوم من مصادر الإلهام..

طبعاً.. هذا لا يعني أن تعاطي الخمر في الأفلام أمر دخيل على السينما، أو بتعبير آخر أمر مكروه.. كل ما يؤخذ على مشاهد الخمر والسكر في الأفلام المصرية هو مجيئها بغتة دون ارتباط بسياق الأحداث، واتصافها بالإعادة والتكرار..

المكان المناسب

 ومن هنا انقطاع الخيط بين مشاهد الكئوس وبين الجمهور المتلقي.. فكي تؤثر هذه المشاهد، لابد أن تكون جزءًا من بنية الفيلم، موظفة لخدمة الموضوع.. وليست كائنات زخرفية.. وهذا أمر لم يحدث إلا نادراً.. في أفلام تعد على أصابع اليد الواحدة مثل “صراع الأبطال” (1962) رائعة (توفيق صالح)…

فمن حسنات مشهد الخمر فيه أنه في مكانه المناسب.. في حفل زفاف سيد القصر “صلاح نظمي” ابن الأكابر: فالمدعوون من علية القوم ، وضيف شرف الفرح قائد معسكر الجيش البريطاني..

وإذن فلا غرابة إذا كان المشروب السائد هو الويسكي الاسكوتلندي.. ولا غرابة إذا ما أمسكت “جيهان هانم” أم العريس بالكأس ترفعه مع الضابط البريطاني لتشرب نخب صفقة شراء فضلات جيش الاحتلال، تلك الصفقة التي ستكون سبباً في ظهور وباء الكوليرا يحصد الأرواح بالآلاف.

الجوزة المستحية

 واستعراض تاريخ الخمر والسكر في السينما المصرية يستلزم وقفة قصيرة عند فيلم آخر لنفس المخرج ” زقاق السيد البلطي” (1970)… ففي هذا الفيلم الذي كان ختاماً لعقد السبعينات، حاول “توفيق صالح” أن يدخل عالم صيادي السمك دخولاً كاملاً شاملاً.. فوجد نفسه مضطراً إلى أن يذهب أحياناً بأبطاله إلى الخمّارة أو بمعنى أدق “البوظة”.

وفي مشاهد “البوظة” هذه ظهرت الجوزة باستحياء شديد، مرت على الشاشة مرور الكرام.. لم تحاول أن تكيّف أحداً.. هذا المرور العابر كان ارهاصة لما هو قادم، لتبني شعار الدنيا جوزة وكأس.. تمهيداً لغزو الشاشة بالجوزة ولوازمها.

انهيار الجدار

والواقع أن المناخ كان مناسباً فالمخدرات كانت قد اتسعت قاعدتها بانتشار الغرز، وبامتداد تعاطيها إلى أوساط المثقفين.. وللمرة الأولى في تاريخ الأدب العربي المعاصر غامر كاتب كبير بكسر جدار الخوف.. فسجّل في قصة طويلة سهرات شلة أنس مع الجوزة داخل عوامّة أو غرزة يوماً فيوما “ثرثرة فوق النيل” (1966).. وبلغة المنتجين والموزعين، الجمهور كان “عاوز كده” أي كان يريد أن يرى الانحلال على الشاشة صنوفاً وألواناً، والدليل “أبي فوق الشجرة” (1969).. وذلك الاقبال منقطع النظير على مشاهدته لا لشيء سوى أن راقصة البحر، وكل البحار “نادية لطفي”.. قد ازدحمت الشاشة بجسدها عارياً نهباً لقبلات لو وزعت على أفلام الموسم وكل موسم لنفدت الأفلام قبل أن تنفد قبلات الجسد العاري.

السد الواطي

 عائق وحيد كان يقف سداً مانعاً أمام تسلل الجوزة ومساطيلها… الرقابة العامة بتعليماتها العتيقة التي ترجع إلى العهد البائد، والتي لم تكن تسمح لأحد بأن يرفع الكلفة ويظهر المناظر الخاصة بتعاطي الكيف.. وكان لابد من فعل شيء. لابد من هدم سور الرقابة من وضع حد لحالة اللاشرعية التي كانت منها الجوزة تعاني.. وكان الحل هو “ثرثرة فوق النيل” أن تبدأ الغرزة بها، كيف؟

قصة “نجيب محفوظ” بطلها “أنيس زكي” (عماد حمدي) وليّ أمر العوامة الغرزة أو حسب كلمات شلة الأنس “وزير شئون الكيف”.. وشخصيات الشلّة من الرجال جميعاً وبلا استثناء عدمية منحلة.

“أحمد نصر”موظف” شيء لا يقدم ولا يؤخر في الحياة”.

“مصطفي راشد” محام يجد ملاذه في التأمل المسطول.

“على السيد” ناقد خنزير ووغد كبير.

“خالد عزوز” كاتب وجد مهربه في الجوزة والجنس والفن الهلامي.

“رجب القاضي” يمتهن الجنس بلا عقيدة ولا مبادئ… أما نساء الشلة فأكثر انحطاطاً.

“سنية كامل” (نعمت مختار) زوجة فاجرة تمارس تعدد الأزواج.

“ليلى زيدان” (سهير رمزي) مترجمة شقراء رائدة جنس متهافتة مدمنة.

“سناء” (مرفت أمين) جامعية عبثية لا تنتمي لشيء.

الشخصية الجدية الوحيدة وسط دخان الجوزة وكركرتها كانت الصحفية “سمارة بهجت” “ماجدة الخطيب”.. ومع ذلك فبعد لحظة الحقيقة، وبعد أن شاركت في حادث قتل فلاح بسيارة “رجب” (أحمد رمزي) التي كانت تستقلها ليلاً مع شلة العوامة.. وبعد أن ضعفت، فلم تبلغ عن الجريمة متواطئة في مؤامرة الصمت… وبعد ذلك كله أصبحت هي الأخرى لا تصلح لشيء… أصبحت كسواق الجوزة وليّ النعم نصف ميتة… نصف مجنونة…

أهلاً بالمعارك

 الأكيد إذن أن قصة بشخصيات كهذه كلها مسطولة هاربة في الادمان والاوهام الكاذبة، لا يجرؤ رقيب على الترخيص لها بتدنيس حرمة الشاشة البيضاء…

والأكيد.. الأكيد.. أنها لو بقيت في السيناريو المعدّ عنها بالنهاية التي إرتاها “نجيب محفوظ”.. أي انحدار الجدية أمام فقدان المعنى، وانهيار الايجابية أمام صور الانحلال والسلبية لما كتب لفيلم “ثرثرة فوق النيل” أن يرى النور.

إذن.. كان لابد من البحث عن مخرج.. أين؟

القصة كتبت سنه 1966 أي قبيل زلزال هزيمة الخامس من يونية (حزيران).. وقائعها عبارة عن رحيل داخل جلسات محورها الجوزة بطقوسها، بأحجارها.. كيف تكرّس، ترص، تبكر.. وعلي الأوغاد والمنحلين والمدمنين.. كيف تدور.. من يقرؤها بامعان يستشف أن أفراد المجتمع-“والقصة عبارة عن نقل فوتوغرافي لواقعه”- جميعاً ضائعون، بلا أمل منهزمون.. وأن ثمة كارثة قادمة ليس لأحد منها نجاة.

وطبعاً، وبحكم أن القصة سابقة على الزلزال، فهي لم تعرض له، ولا لما أعقبه من حروب استنزاف وعبور وما بعد عبور وأخطر ما فعله سيناريو “الثرثرة..” بالقصة هو أنه خرج بوقائعها من زمن ما قبل الخامس من يونية إلى زمن تال له زمن حرب الاستنزاف.

وغيّر المخطط العام لها تغييراً جذرياً بأن أحدث انفصالاً بين سواق الجوزة “عماد حمدي” والصحفية الجادة “ماجدة الخطيب” من ناحية، وبين باقي أفراد الشلة المنحلة من ناحية أخرى.. وهذا الانفصال بدأ قريباً من نهاية الفيلم، باستصحاب الصحفية سواق الجوزة إلى جبهة القتال بالقنال. حيث تحول السواق بسحر أرض المعارك والأبطال إلى مناضل تنتهي به الزيارة ومعها الفيلم صائحاً مردداً: ـ  “الفلاحة ماتت.. ولازم نسلّم نفسنا”.

وهكذا وحدّ صاحب السيناريو بين ممارسات الجوزة ودورانها على المساطيل وبين الدعوة إلى مقاومة العبث بالعودة إلى الإيمان رغم الادمان، عن طريق الالتحام مع المحاربين البواسل على ضفاف القناة!!

وبذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، ضمن للفيلم أن يدور حول جوزة تدور دون أن تثور الرقابة.

وضمن له الحماية لأن أي منتقد سيتهم بإثم خيانة أولادنا في الجبهة!!.. والأخطر أن اخراج الفيلم سلمت مقاليده إلى “حسين كمال” صاحب “أبي فوق الشجرة” فكان أن استبدل الجوزة بالجسد العاري.. وكان أن ملأ الشاشة بها وبدخانها بدءًا من لقطات العناوين.

وكان أن فتح الباب على الواسع لسينما من لوازمها الجوزة والمساطيل، في مشاهدها سحر الفص المذاب ومساء الجمال.

الممنوع مشروع

 وإلى هنا كان المتوقع أن تنتهز الجوزة فرصة انفتاح الباب بالثرثرة (1971) وتدخل عالم السينما بلا حساب.. ولكن الشيء الأكيد أنه، ورغم هذا الانفتاح، ورغم نجاح ثرثرة “حسين كمال”.. ظل أنصار الجوزة في السينما مترددين، متخوّفين لا يعرفون إلى أين ستجرهم الجوزة ولا حجم المفآجات التي تنتظرهم مع سيف الرقابة؟

وهنا، وبسبب لا أعرفه وقع غير المتوقع.. أصدر وزير الأعلام والثقافة في 28 من أبريل قراره الرقيم 220 لسنة 1976.

قبله كان اظهار المناظر الخاصة بتعاطي المخدرات أمراً ممنوعاً! أما بعده فقد أصبح الممنوع مشروعاً لا قيد عليه ولا شرط سوى شرط يتيم.. ألا يوحي ظهور تلك المناظر على الشاشة بأن التعاطي شيء مألوف.

وهكذا أصبح لقعدات الحشيش بكل لوازمها من جوزة وخلافه حق الظهور.. وكل مخرج وشطارته.

وكان “حسام الدين مصطفى” أشطر المخرجين، فبه بدأت الموجة الجديدة المستفيدة مما أباحه القرار التاريخي.

وأول فيلم له بعد القرار “حكمتك يارب” يبدأ بمقدمة تشير إلى وقائع الفيلم اللاحقة.

فأمامنا قطيع من الجمال يساق عبر أهم شوارع القاهرة وميادينها حيث تعيش نعيمة “سهير المرشدي” بنت السلخانة التي تخرجت في كلية الحقوق وكرست عملها وثقافتها لخدمة أولاد البلد، أهل حيها ومصدر عزها.

وأم نعيمة “سناء جميل” المعلمة مهربة المخدرات صاحبة القلب الكبير التي تحيا وتموت من أجل وحيدتها العزيزة الغالية.

“وزكي قدره” (عادل أدهم) الفتوة الذي يحشو بالمخدرات بطون الجمال، ولا يهوى سوى الجنس والمال.

وفي مواجهة المذبح بفتواته وفتياته، بمعلميه ومعلماته، يقف رجل المباحث “حسين” (حسين فهمي) ابن الباشا وحيداً منتصراً للحق والفضيلة، للمساواة والحب.

ومن خلال هذه الأنماط المستهلكة تتصاعد أحداث كلها افتعال مثل اصابة “أم نعيمة” بالخرس عقب ضبطها متلبسة والقاء القبض عليها.

ومثل صعود روحها إلى بارئها، وهي جالسة في قفص الاتهام وراء القضبان باسمة كما القديسات.

وأهم ما يلاحظ على هذا الهراء المحطم للقلب ليس الجوزة التغزل فيها عن طريق قعدات المعلم “قدره” وقفشاته التي يهتز لها الجمهور طرباً.

لا..إنه شيء أخطر من ذلك بكثير نجده متكرراً لازماً فيما هو آت من أفلام . أنه ذلك التعاطف مع المعلمة تاجرة المخدرات بمحاولة رسم شخصيتها وكأنها من النساء الصالحات.

“فشقاوة” (صفيه العمري) في أسوار المدابغ ( 1984) معلمة تدير غرزة، تجئ لزبائنها بالكيف يتحول بهم إلى مساطيل يهيمون في الملكوت.

ومع ذلك فهي، ومن دون كل نساء الفيلم الوحيدة الشهمة صاحبة القلب الكبير.

أما كيف حدث هذا التخليط؟ ولماذا؟ فعلم ذلك عند صانعي الفيم وحدهم دون أحد سواهم.

الأمن والأمان

 وفي مطلع الثمانينات، استمر الفيلم – الجوزة متمدداً على السينما المصرية، لا يجرؤ أحد على المساس به.

انتقلت الكاميرا إلى “الباطنية” حيّ تجار السموم.

وللمرة الأولى زيّنت شوارع مدن مصر الملصقات تطل منها “نادية الجندي” في فيلم “لحسام الدين” على المارة محتضنة جوزة، تدخنها في أمن وأمان.

وبدأ تقليد جديد أن يتغزل الفيلم في سواق الجوزة “حميدو” (سيد زيان) الشاب الناعم الذي يقوم على خدمة القعدة، وأن يتغزل “حميدو” بدوره في الجوزة.. يدلعها متغنياً بفضائلها “السلخانة”(1981) بطولة “سمير صبري”.

ولأن بقاء الحال من المحال.. فقد بدأ الجمهور يملّ.. بدأ اقباله يقلّ على أفلام جوهرها الغرزة والجوزة كيف تدور.. آية ذلك فشل “الراقصة والطبال” رغم أن “عادل أدهم” و”نبيلة السيد” لا يظهران في أية لقطة إلا والجوزة معهما يداعبانها في حنان.. وفشل “أسوار المدابغ” رغم أنه يبدأ بالجوزة.. وبعد رحلة طويلة معها ومع الكأس ينتهي بالشقي “حسين فهمي” مقتولاً أمام غرزة شقاوة المرأة الطيبة الشجاعة.

حقاً لا تزال هناك أفلام من هذا النوع الفاسد المفسد في الطريق إلى دور العرض وأجهزة الفيديو… وقد يكتب لبعضها النجاح كفيلم “حتى لا يطير الدخان” لا لسبب.. سوي قيام “عادل امام” والجوزة معه بأداء الدور الأول فيه.

وعلى كُلٍ، فالقدر المتيقن أن موجة انفتاح السينما على المخدرات في انحسار… وأن هذه السينما في سبيلها إلى الاندثار.. إلى أن تكون ماضياً أقرب إلى العار…