أوسكار التحريف للتاريخ والتعصب المقيت

أوسكار.. تمثال برونزي صغير، يقرأ اسمه علي صفحات مئات الجرائد والمجلات، تشاهد صورته علي مئات الملاين من الشاشات، وهو يسلم إلى كل من كان من نصيبه الفوز به من مبدعي الأفلام علي مدار العام السابق، وذلك في حفل أو استعراض كبير يقام في عاصمة السينما “هوليوود” قريباً من نهاية شهر مارس من كل عام.

ومن هنا جاءت شهرته التي تجاوزت وطنه الولايات المتحدة إلى جميع ارجاء المعمورة بلا استثناء.

ولعله الآن أشهر تمثال في العالم.

ولعل جائزته تفوق في الأهمية والمكاسب المادية جائزة نوبل في أكثر الأحيان.

وغني عن البيان أن “أوسكار” خير داعية لما ينتجه مصنع الأحلام في هوليوود من أفلام.

وعادة يجري التمهيد لأوسكار بجوائز أخرى توزع في احتفالات ومهرجانات سينمائية عديدة تقام في أمهات المدن الأمريكية مع بداية العام، وتعلن نتائجها قبل الترشيح للأوسكار بأيام.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما خلصت إلى القول بأن جوائز الكرة الذهبية، هي أهم هذه الجوائز جميعاً.

عادات وتقاليد

فعندما يفوز فيلم بعدة كرات ذهبية، يكون ذلك إيذاناً بترشيحه للأوسكار، وبفوزه بها، هو وبعض مبدعيه في أغلب الأحوال.

هذه الظاهرة التي كادت تصبح تقليداً أراها تتكرر على مر الأعوام.

“فغاندي” ما أن خرج من حلبة الصراع على تلك الكرة فائزاً بجوائز أفضل فيلم أجنبي ومخرج وممثل وسيناريو، حتى رأيناه بعد ذلك بأيام مرشحاً لعدد كبير من جوائز أوسكار، ثم فائزاً منها بنصيب الأسد.

نفس الشيء تكرر بعد أربعة أعوام مع “الإمبراطور الأخير” (1988) عندما كتب له أن يفوز بأربع كرات ذهبية من بينها الكرات المخصصة لأفضل فيلم ومخرج وسيناريو درامي.

فإذا ما جاءت الليلة الكبيرة.. ليلة أوسكار رأيناه منتصراً على جميع الأفلام الأخرى بالضربة القاضية، متوجاً– رغم أنه فيلم أجنبي– بتسع جوائز أوسكار.

وهو عدد لم يفز به أو بأكثر منه في تاريخ الأوسكار الطويل سوى ثلاثة أفلام.

لذلك عندما فاز “رجل المطر” بالكرة الذهبية باعتباره أفضل فيلم درامي منذ ثلاثة أشهر أو يزيد، كما فاز بها “داستن هوفمان” عن أدائه في الفيلم المذكور لدور “رايموند بابيت”، اعتبر هذا الفوز دليلاً لا يتسرب إليه الشك على أن “رجل المطر” فيلم مبشر بأوسكار، وأن فوزه بها، هو ونفر من مبدعيه أمر شبه أكيد.
وكما كان متوقعاً، فقد جرى ترشيحه لثماني جوائز أوسكار.

وقبل ليلة توزيع الجوائز بقليل تحمست جريدة “الجيروساليم بوست” الإسرائيلية لكل من الفيلم وصاحبه المخرج “باري ليفنسون” وبطله “داستين هوفمان” حماساً شديداً.

وما أن ذاع خبر فوز الفيلم وصاحبه وبطله بالأوسكار الموعود حتى نشرته تلك الجريدة في مكان بارز من عددها الصادر في 31 من مارس 1989 مباهية الأمم بانتساب الفائزين “ليفنسون وهوفمان” إلى يهود هوليوود.

والآن إلى ما يحكيه “رجل المطر” الذي خرج من مضمار أوسكار متوجاً بأربع جوائز بينها أوسكار أحسن سيناريو مبتكر “رولند باس” و”باري مورو”.

يحكي هذا الفيلم قصة شاب وسيم فهلوي “شارلي بابيت” (توم كروز) يعمل بلوس أنجلوس في تجارة السيارات.

الحرمان والعصيان

والحكاية تبدأ به، وقد تلقى ذات صباح مكالمة هاتفية تخبره بوفاة والده الذي لم يلتق به منذ أن كان شاباً يافعاً ليس له من العمر سوى ستة عشر عاماً.

وسرعان ما يكتشف أن والده قد أوصى بكل ثروته التي تقدر بثلاثة ملايين دولار إلى شخص مجهول لا يعرف من أمره شيئاً.

وبعد قليل، يعرف، وهذا هو الأغرب– أن ذلك الشخص المجهول أقرب إليه مما كان يتصور، إنه شقيقه الأكبر.

والسبب في إخفاء أمره عنه أنه متخلف عقلياً، يعيش في مصحة للمعوقين على الساحل الشرقي، بعيداً عن الناس، وما يحمله القرب منهم لمن كان في مثل حالته من أخطار جسام.

وعلى كُلٍ، فما أن التقى بشقيقه في تلك المصحة، حتى تبين له مقدار تخلفه.

فكان أن فكر في خطفه ابتغاء الاستيلاء علي ما أوصي له من ملايين.

ولم يمض وقت طويل، إلا وكان قد اختطفه فعلاً.

وها هو ذا في طريقه إلى الساحل الغربي، ومعه في السيارة شقيقه المعوق الذي رفض السفر بالطائرة لأنه يهاب الانتقال بين الأماكن معلقاً في الفضاء.

عبقرية الأقلية

وأثناء السفر يكتشف “شارلي” أن شقيقه عبقري في لغة الأرقام.

ومن هنا توقفه في “لاس فيجاس”، مدينة القمار، حيث استغل عبقرية شقيقه تلك في الفوز من خلال المقامرة بثروة طائلة فاقت الملايين الموصى بها.

ولقد كان في إمكانه، لو شاء، أن يكسب المزيد، لولا أن أصحاب نوادي القمار في مدينة الشيطان الأصفر قد تنبهوا لخطورة عبقرية شقيقه المعوق، فحالوا بينه وبين الاستمرار في المقامرة.

الأهم من هذا كله، والذي يريد الفيلم أن يركزعليه– هو ذلك التغيّر الذي طرأ علي شخصية “شارلي” بفضل تعايشه مع شقيقه الأكبر خلال الرحلة، واستحالة علاقته به إلى حب أكيد.

ففي البدء حين لقيناه في لقطات الفيلم الأولى، كان أنيقاً في ملبسه، حاد التقاطيع، جشعاً، طامعاً في ملايين شقيقه المحروم منها.

غير أنه عند اقتراب الفيلم من النهاية، نراه وقد استحال شخصاً أكثر إنسانية في التعامل مع شقيقه ومع الآخرين.

وفي الحق، فرجل المطر يسلّط الأضواء لا على “رايمون” المعوق، وإنما على “شارلي” الفتى الطموح المستلب بعبادة المال.

وهو، من خلال الأحداث، يخطو به نحو الحب شيئاً فشيئاً، حتى ولو لم يكن ثمة أمل في أن يبادله الشقيق المعوق حباً بحب.

بعد نظر

وهنا، قد يكون من المفيد أن أذكر ما تصوره أصحاب الفيلم عندما اتصلوا “بهوفمان” لاقناعه بالتمثيل في “رجل المطر”.

لقد تصوروا من منطلق خاطئ في تقدير الأمور أن الدور المناسب له هو دور “شارلي” الشقيق الأصغر. ولكن “هوفمان” بفضل حاسته الفنية التي لا تخيب إلا لماماً، وبفضل حاسته التجارية التي لا تخيب أبداً، وقع اختياره علي دور “رايمون” الشقيق المعوق، وذلك رغم أنه أصغر من الدور الآخر المعروض عليه ابتداء.

وأغلب الظن أنه لو كان لم يسمع سوى صوت الطمع فاندفع إلى الوقوع في فخ إيثار الدور الأكبر علي الدور الأصغر، لما فاز بجائزتي الكرة الذهبية وأوسكار.

يبقي أن أقول أن “رجل المطر” لا يستحق كل الضجة الكبرى التي أثيرت حوله باعتباره فتحاً فنياً مبيناً، ولا كل الجوائز التي أمطروه بها.

فهو فيلم قائم على سيناريو مفتعل أشد افتعال، أحداثه وشخصياته مرسومة حول معان غامضة لم يستطع المخرج أن يقدمها لنا بجلاء.

ومع ذلك، فمما يحسب “لرجل المطر” أن التوقعات القائمة على الاعتقاد الشعبي بأن المرض العقلي لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال القداسة في بعض الأحيان، ومن ثم فقد يكتب “لريمون” المعوق الولي الشفاء، هذه التوقعات لم يتحقق منها شيء بفضل امتناع أصحاب الفيلم عن أن ينتهوا به تلك النهاية السعيدة البلهاء.

شيخوخة مبكرة 

ولو انتقلنا بعد ذلك إلى الأفلام الأخرى التي دخلت بشكل أو بآخر في عداد الأفلام الفائزة بالجائزة المشتهاة مثل “الأرنب روجر” الذي افتتح به مهرجان القاهرة السينمائي الأخير أو “الفتاة العاملة” لصاحبه “مايك نيوكلس” أو “السائح بالصدفة” لصاحبه “لورانس كازدان” أو “حرب الفاصوليا” لصاحبه الممثل المخرج والمنتج “روبرث ردفورد” أو “فندق نرمينوس حياة وأزمنة” كلاوز باربي، لصاحبه “مارسيل أوفلس” أو “المتهمون” لصاحبه “جوناثان كابلان” أو “المسيسيبي يحترق” لصاحبه “آلان باركر”.

وألقينا عليها نظرة طائرة لوجدنا أنفسنا أمام ظاهرة غابت عن انتباهنا طويلاً، هي أن هوليوود قد شاخت، وليس في استطاعتها أن تقدم جديداً نافعاً.

ومهما يكن من أمر هذه الظاهرة فقد يكون من المفيد الوقوف عند الأفلام الثلاثة الأخيرة ولو قليلاً. “فندق ترمينوس” فيلم وثائقي طويل يدور حول جرائم “كلاوز باربي” ذلك الألماني النازي الملقب “بسفاح ليون”. والفيلم عماده لقاءات أجرى فيها المخرج حوارات مع ضحايا هذا السفاح سواء أكانوا من رجال المقاومة الفرنسية أو ممن جرى شحنهم إلى معسكرات الموت ومعظمهم من اليهود!!

جرائم وقحة

أما “المتهمون” فيبدأ ببطلته “سارة توبياس” (جودي فوستر) مندفعة من باب بار إلى الشارع وهي ممزقة الثياب، صارخة فزعاً، ملتمسة النجاة.
وفي الظلام شاب على الرصيف يرتعد خوفاً، وهو يصرخ في سماعة التليفون ملتمساً من الشرطة انقاذ هذه المرأة المبتلاة.

وسرعان ما نعرف سبب صراخها على هذا الوجه الذي يثير الرعب في القلوب.

لقد اغتصبها شبان ثلاثة أمام أعين رواد البار والعجيب أن أحداً من هؤلاء الرواد لم يحرك ساكناً لحمايتها من الاغتصاب.

وأغرب العجب أنهم– فيما عدا قلة صامتة– كانوا بمشهد الاغتصاب البشع الذي أمام أعينهم فرحين، مصفقين بل قل مشجعين.

ولكن ما الذي حدا بالشبان الثلاثة إلى اغتصاب “سارة” هكذا علناً في محل عام، وبهذا الشكل المشين؟

في تلك الليلة– وقبل ذهابها إلى البار- تشاجرت “سارة” مع صديقها الموسيقار الذي يشاركها العيش في منزل متحرك.

وكعادتها ذهبت إلى بار قريب كي تحتسي بضع كئوس. لعلها بها تنسى المشاكل، وتتخفف من الهموم.

وفي هذه المرة، وقبل توجهها إلى البار بصحبة صديقة تعمل معها على خدمة الزبائن في أحد المطاعم، تعاطت أنفاساً من الحشيش.

وها هي ذي داخل البار مرتدية ملابس فاضحة، غير مكتفية بعربدة السكر علناً، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتبادل النظرات مع شاب جذاب، ما أن دعاها إلى مشاركته الشراب حتى قبلت بلا تردد، وأخذت تتجاذب معه أطراف حديث ملؤه الغزل والإيحاءات.
وبينما هو محتضنها في حلبة الرقص يمطرها القبلات، إذا به يطلب منها أمراً لم يكن في الحسبان.

وكلما رفضت أصر لأنه من ذلك الصنف من الشبان الذي لا يقبل من فتاة أن تمتنع وتقول لا. وبمساعدة اثنين من رفاقه دفعها إلى جهاز لعبة الكرة والدبابيس حيث اقترفت جريمة الاغتصاب.

من الجاني؟!

وهذا السلوك المبتذل من قبل “سارة” في مكان لهو ولعب في تلك الليلة الليلاء، كان لابد أن يقف عقبة كئود أمام محققة الإدعاء “كاترين ميرفي” (كيللي ماكجيلليس).. فادعاء فتاة عاملة من الطبقات الدنيا، تسكر وتعربد وتحشش بأنها قد أغتصبت، هذا الادعاء لا يؤخذ مأخذ الجد أمام القضاء.

كل ذلك اضطر المحققة إلى اسقاط تهمة الاغتصاب وبدلاً منها توجيه تهمة تهديد الأرواح والأموال إلى الشبان المعتدين.

وهذا ما أغضب “سارة” التي كانت تتوقع أن تحكي مأساتها أمام المحكمة حتى تنتصف لها العدالة مما وقع على جسدها من اعتداء آثم مهين.

ولم يكن أمام المحققة حتى تعيد المحاكمة، استجابة لرغبة سارة، بعد أن بدأت تتعاطف معها، إلا حلاً وحيداً هو توجيه الاتهام إلى الذين شاهدوا الاغتصاب، ولم يحركوا ساكناً.

ولن أحكي التفاصيل التي بها استطاعت المحققة أن تضيق الخناق على شهود الجريمة التي ما كانت لترتكب فيما لو اتسم سلوكهم بالمبالاة والإقدام. فذلك شيء يطول.

وإنما اكتفي بأن أقول بأن “جودي فوستر” برزت في دور “سارة” المغتصبة ممثلة عظيمة، ومن هنا فوزها بجدارة عن أدائها لهذا الدور بالأوسكار.

وبأن منتجة الفيلم “شيري لانسينج” لم يفتها في حديث لها مع جريدة “دالاس أوبزرفر”، (20 أكتوبر 1988) أن تجري مقارنة بين موقف الجمهور اللامبالي في فيلم “المتهمون” وبين موقف الشعب الألماني غير المكترث بما حدث في ألمانيا الهتلرية لشعب الله المختار!!

والآن إلى الفيلم الثالث والأخير “المسيسبي يحترق”.
سود وعبيد

هذا فيلم يعرض لنضال السود من أجل المساواة مع البيض في الولايات المتحدة خلال العام الذي حصل فيه “مارتن لوثر كنج الصغير” على جائزة نوبل للسلام (1964) ولكنه يعرض لهذا النضال لا من منطلق أن السود هم الذين كافحوا وضحوا حتى اضطروا الكونجرس الأمريكي إلى إعادة حقوقهم السليبة في الحرية والمساواة إليهم وذلك بعد رحلة طويلة من المعاناة والعذاب.

ولكن من منطلق آخر يقلل من دورهم في هذا النضال الباسل، يقول أنهم كانوا متفرجين سلبيين ينتظرون الخلاص علي أيدي رجال “روبرت كندي” النائب العام أو بمعنى أصح على أيدي بطلي الفيلم “جين هاكمان” و”ويلم دافو”، وكلاهما محقق من رجال “هربرت هوفر” رئيس المكتب الاتحادي للمباحث، والذي كان معروفاً عنه أنه يمقت “مارتن لوثر كنج” مقتاً شديداً.

فبفضل هذين المحققين- وكلاهما من البيض– عثر على جثتي “مايكيل شفرنر” و”اندرو جومان” والاثنان من بيض الشمال. كما عثر على جثة “جيمس شابي” وهو من سود الجنوب.

والثلاثة– وهم مناضلون من أجل الحقوق المدنية، كانوا قد اختفوا قريباً من فيلادلفيا- ميسوري قبل أسابيع، وبعد العثور على جثثهم بأربعة شهور ألقي القبض على تسعة عشر رجلاً بتهمة الاشتراك في قتلهم.

وخلال عام 1967 صدر الحكم على سبعة منهم كان من بينهم نائب الشريف لما ثبت في حقهم من تآمر على المناضلين الثلاثة ابتغاء تصفيتهم بالاغتيال.

الخطايا

وأحد عيوب الفيلم الجوهرية امتناعه حتى عن التلميح إلى عداء رئيس المباحث “هوفر” المتأصل للسود ولزعيمهم “كنج”، ذلك العداء الذي وصل إلى حد التصنت على “كنج” بموافقة “روبرت كيندي” سعياً إلى دليل يثبت أنه واقع تحت نفوذ الشيوعيين، فضلاً عن قيام عملاء المباحث بارسال خطاب وشريط تسجيل لعلاقاته الغرامية إلى زوجته بأمل دفعه إلى الانتحار.

والأخطر من كل ذلك امتناع مباحث “هوفر” عن تنبيهه إلى ما كان قد وصل إلى علمها من تهديدات له بالموت، وذلك إلى أن لقي مصرعه برصاصات انطلقت من غدارة أحد غلاة المتعصبين (1968).

وإن شئت أن تعلم شيئاً يفيد في فهم “المسيسيبي يحترق” الحاصل على أوسكار التصوير، فاعلم أن صاحبه “باركر” قد سبق له أن أخرج “قطار منتصف الليل السريع” (1978)، ذلك الفيلم الذي ينفث عداوة متوارثة للأتراك، وبغضاء طائفية متأججة للإسلام.

المتشرد الخالد.. مائة عام

لو لم يجئه الموت ليلة عيد الميلاد المجيد قبل اثنتين وعشرين عاماً أو يزيد، لكان له في منتصف الشهر من العمر مائة عام.

والغريب أن ثمة اختلافاً حول يوم ميلاد هذا المتشرد الصغير الذي يسير في الأفق وحيداً، مرتدياً قبعته الطاسة، وحذاءه المرتخي الكبير، محاكياً مشية البطة أو طيراً من هذا القبيل.

فهذا اليوم حسب الإعلان عن مولده ببيان إلى الناس نشر في مجلة “الماجنت” اللندرية بعددها الصادر في الحادي عشر من مايو لعام 1889 هو الخامس عشر من شهر أبريل.

أما إذا رجعنا إلى مؤلفه الضخم الذي ضمنه سيرته تحت عنوان “قصة حياتي” فسنجده مستهلاً لها على الوجه الآتي.
الأقدار الساخرة

“ولدت في 16 أبريل 1889، الساعة الثامنة مساء”.

والأغرب أن يجئ مولده في نفس السنة، بل وفي نفس الشهر الذي ولد فيه “أدولف هتلر”..،.. وألا يكون ثمة فرق بينهما في السن سوى بضعة أيام، فالأخير”هتلر” يصغر “شارلز سبنسر شابلن” بخمسة أيام فقط لا غير.

والأكثر غرابة، أن تلتقي حياتهما، وهما في سن الخمسين، لا في الواقع، وإنما في الخيال عندما تقمص “شابلن” شخصية “هتلر” في واحد من أكثر أفلامه جرأة “الدكتاتور العظيم”.

وفي وقت كان كلاهما في أوج المجد، الأول أشهر فنان في العالم يأسر بمتشرده الخالد قلوب الملايين والثاني أشهر طاغية يتوعد الإنسانية بحكم استبدادي لو كتب لجيوشه أن تنتصر لدام ألف عام.

وشهرة شابلن العالمية قد اكتسبها– والحق يقال- في تاريخ سابق على اكتساب هتلر لها بأكثر من خمسة عشر عاماً، لا بفضل دسائس ومؤامرات دموية، وإنما بفضل لقاء نادر.. لقاء الحظ بالعبقرية.. كيف؟

اللقاء السعيد

في الثامن والعشرين من فبراير لعام 1914- أي ولشابلن من العمر خمسة وعشرون عاماً- جاء استديو “كيستون” بهوليوود نبأ من “فينيس” في ضواحي “لوس انجلوس” مفاده أن ثمة سباقاً لسيارات الأطفال.

وطبعاً سارع “ماك سينيت” ساحر السينما الضاحكة الصاخبة وصاحب الاستديو إلى استدعاء “شابلن” الممثل الناشئ، طالباً إليه أن يبحث عن ملابس هزلية يتسكع بها- وهو مرتديها– أمام الكاميرا، وهي تصور ذلك السباق.

وهمست الأقدار في أذن “شابلن” أن يتوجه إلى ثلاثة من زملائه في الاستوديو وهم “ارباكيل” المشهور بالسمين و”مارك سوين” و”فورد سترلنج” فيستعير من الأول سرواله الواسع الفضفاض، ومن الثاني شاربه القصير الصغير، ومن الأخير حذاءه المرتخي الكبير.

وما لبثت الاقدار أن أخذت بيده ظهر نفس اليوم إلى مخزن للملابس بالاستوديو حيث اختار قبعة طاسة ومعطفاً ضيقاً وعصا.

وهكذا، وبفضل هذه الملابس، وبفضل هذا الشارب والعصا خرج إلى النور متشرد شابلن الذي سيكتب له الخلود في عالم الاطياف.

مولد متشرد

ونحن لو رأينا “سباق الأطفال في فينيس”– وهو ثاني أفلامه– ولم نكن على علم بأنه لشابلن لتعرفنا عليه فور ظهوره على الشاشة البيضاء ولأحسسنا أن أمامنا بعضاً منه، هذا البعض الفوضوى الذي لا هم له إلا المشاغبة والمداعبة والسخرية من رجال الشرطة والمصورين والأطفال المتسابقين.

ولو أتيحت لنا فرصة مشاهدة فيلمه الرابع “بين الأمطار” لظهر أمامنا المتشرد شابلن بملابسه الرثة الممزقة، وهو يتعارك مع رجل متواجه متأنق من أجل شمسية وقلب حسناء.

فإذا ما فاز بالإثنين معاً، رأيناه يستدير فجأة، يمشي مشية البطة مبتعداً والشمسية بيمينه وظهره إلينا نحن المتفرجين.

ولاستطعنا– بعد هذا المشهد– أن نقول وكلنا ثقة..،.. لقد رأينا مولد شابلن بتكوينه الخارجي، بظاهره الأسطوري الذي يظل متواصلاً دون انقطاع إلى أن تمر الإنسانية بمحنة حربين عالميتين.
صوت الماضي

والحق، أنه ما كان في إمكان “شابلن” أن يكتمل مظهراً وروحاً خلال السنة الأولى من عمره السينمائي.

فهو كان يعمل عند مكتشفه “سينيت”.

وهو كان مطالباً بأن يمثل ويخرج فيلمين من ذلك النوع المضحك الذي عرف تحت اسم “كوميديات كيستون” وفي مدة لا تزيد على سبعة أيام.

وهو كان ملزماً باتباع أسلوب في الإضحاك لا يختلف في كثير أو قليل عن أسلوب الشخصيات الأخرى التي تمثل في أفلام “كيستون”.. وهي أفلام قوامها المطاردات وتبادل الضرب بالعصى وبفطائر الكريم.

أفلام تسخر من كل شيء، تحطم، تدمر، تعربد في إيقاع سريع صاخب، إلى الجنون أقرب.

وعن طيب خاطر قبل “شابلن” المشاركة في لعبة التحطيم والتدمير والعربدة هذه.

ولعله بهذه المشاركة كان مستجيباً لصوت من الماضي يريد أن ينتقم، بطريقة فوضوية، لشقائه في لندن وقت أن كان طفلاً يتيماً، معذباً بالفقر.

أفلام شيطانية

“فشارلز شابلن”- وهو الاسم الدعائي الذي أختير له بداءة- في أفلام سنة أولى سينما– على النقيض تماماً من شابلن الرقيق، الضعيف. إنه ممسوس بالشر والغضب، يضرب بعنف الأزواج ورجال الشرطة والأقوياء.. ولا يهزم أبدا.

وهو كسول، محب للترف، بخيل، سريع الغضب وفوق كل هذا جبان.

ولو جمعنا الأفلام التي مثلها “شابلن” الشاب خلال سنة أولى سينما لكونت كلاً واحداً متجانساً، سواء أكان هو الذي أخرجها أم “سينيت” أم واحد من أعوان الأخير.

بل أنها لو ضمت لبعضها البعض لخرج منها فيلم يدوم عرضه بضع ساعات .

ولأمكن أن يطلق عليه “مغامرات شارلز شابلن البهلوانية” ذلك الاسم الذي اختاره الناقد “جورج سادول” عنواناً لجميع أفلام شابلن في سنته الأولى مع السينما، وهو اسم يعبر بحق عن جوهرها، فهي لا تنهض إلا بفضل حضوره السينمائي ومطارداته وبهلوانياته وحركاته التقليدية الصامتة.

التحرر كيف 

أما الواقع الاجتماعي ونقده فليس فيها منه إلا نزر يسير نراه أكثر ما نراه في “حياته الموسيقية” حيث يجر شابلن وهو على منحدر تل، عربة تحمل بيانو وكأنه حمار فقير معبراً بهذا المشهد الأليم عن معاناة الرجل الصغير. غير أن هذا النغم الإنساني خافت يكاد لا يسمع وكان لابد لسماعه سائداً من أن يتحرر شابلن من عالم الإضحاك غير الإنساني، كما تتحرر الفراشة من الشرنقة.

أن يتحرر شابلن من المهرج الساخر من كل شيء المحطم المدمر لكل شيء حتى يولد شابلن الذي نعرفه شابلن الإنسان.

وعلى كُلٍ، فمع فيلم “شارع الهوى” (1916) نستطيع أن نقول أن شابلن قد ولد من جديد.

ولو تتبعنا أفلام “شابلن” اللاحقة لهذا التاريخ لوجدناها تزداد عمقاً وإنسانية على مر الايام.

الحرب والسلام

وفي الحق، فكل واحد منها يستحق منا وقفة طويلة غير أنني سأكتفي- لضيق المجال- بالوقوف وقفة قصيرة عند فيلمين من مجموع إبداعه فيما بين “شارع الهوى” و”الكونتيسة من هونج كونج” (1967).

والفيلمان هما “الدكتاتور العظيم” (1940) و”مسيو فيردو” (1947).

من المعروف أن “شابلن” قد تقمص في الفيلم الأول شخصيتين أحدهما شخصية دكتاتور أسماه “هينكل” قاصداً به “هتلر”.
والأخرى شخصية حلاق من المستضعفين في الأرض ينتهي الفيلم به حالاً محل الدكتاتور، مرتدياً ملابسه العسكرية موجهاً الخطاب من المنصة بوصفه الزعيم إلى شعب “تومانيا” (ألمانيا).

وهو في خطابه هذا لا يعلن الحرب كما كان الزعيم مخططاً وإنما يعلن السلام.

والعجيب أنه وكما اختفى الطاغية فجأة من فيلم “الدكتاتور العظيم”، اختفى المتشرد هو الآخر من جميع ما أخرج شابلن بعد ذلك من أفلام.

القاتل الفاضل

وظهر بدلاً منه بادئ ذي بدء “مسيو فيردو” ذلك الرجل المزدوج الشخصية الذي عبّر به شابلن مجازاً عن محنة الإنسان المعاصر.

فهو رب أسرة فاضل يعول زوجة مشلولة وطفلاً جميلاً. وهو في نفس الوقت زير نساء يتزوج في الخفاء أرامل مسنات واسعات الثراء بغرض الحصول على ثرواتهن بعد التخلص منهن بالقتل حتى يتمكن من توفير وسائل الراحة لأسرته، ويجعلها بمنجاة من الشقاء.
فإذا ما حكم عليه قريباً من نهاية الفيلم بالإعدام رأيناه، وقبل أن يذهبوا به إلى المقصلة، يتوجه إلينا بالخطاب ساخراً.

“جريمة قتل واحدة تصنع شريراً، وملايين الجرائم تصنع بطلاً”.

وقد يبدو أنه ليس ثمة علاقة بين شابلن المتشرد وبين “فيردو” القاتل المحترف.

وفي الحقيقة فالأخير لا يعدو أن يكون استمراراً للأول، ولكن في أزمنة أكثر إجراماً، أزمنة ما بعد كارثة هيروشيما.

بل أنهما وجهان لشخصية واحدة، شخصية مبدعهما الذي أطل على العالم منذ مائة عام.

ولم يتركه إلا وكان قد ترك في الفن السابع أثاراً بعيدة عميقة ليس إلى محوها سبيل.

يحيي حقي محباً ناقداً للسينما

نشأت في أسرة تعشق السينما رجالاً وصبياناً، لا يخرج حديث مائدة العشاء عن ذكر الأفلام القديمة والحديثة والقادمة وعن ترديد أسماء الممثلين في إيطاليا وألمانيا وأمريكا والمقارنة بينهم. لا أشترك في الحديث– لصغر سني- بل تلتقط أذناي منهم كل كلمة تقال.
هكذا حكى صاحب قنديل أم هاشم الذي لا يجئ ذكر لاسمه إلا وتذكر هذه النفيسة التي يزداد ما تقطره من زاد على مر الأيام عطراً وسحراً.
قصة حب
هكذا حكى يحيى حقي لنفسه ولنا في فاتحة المجلد العاشر من الكتابات النقدية في السينما كيف وقع في غرام السينما قبل خمسة وسبعين عاماً أو يزيد، أي وهو يتحسس طريقه صبياً لا يزال.
وعلى كُلٍ، فهذه الفاتحة الصغيرة الكبيرة القيمة قد كشفت لنا عن جانب مضيء في صاحب القنديل انفرد به دون أدبائنا الكبار جميعاً، وهو شغفه بالسينما، واتقاد شرارة هذا الشغف، في قلبه على وجه انعكس في شدة اهتمامه بالفن السابع وحسن تلقيه لما كان يشاهد من أفلام، وسرعة تصديه بالكتابة فيما ارتآه منها حدثاً سينمائياً هو في الغالب كذلك بفضل رؤية عميقة تستند إلى ذكاء وعلم وسع الكثير من لغة العصر.
وأول ما يلاحظ على هذه الكتابات أنها رفيعة المستوى في الأسلوب لا تجنح إلى استعمال غريب الألفاظ بل على العكس تميل إلى ما كان منها سهلاً ممتنعاً يسيل سيل نبع وديع لا يعكر صفوه لفظ واحد خارج ثقيل.
ولا غرابة في هذا، وقد عاش في بيت وصفه في حديث أجراه معه الأديب فؤاد دوارة صاحب الفضل في خروج هذه الكتابات إلى النور منذ خمسة وعشرين عاماً إلا قليلاً، وصفه بأنه كان يغلب على جوه أولاً: شيء من الإعجاب برشاقة اللفظ والابتهاج بالتوفيق في العثور عليه. وثانياً: نوع من الحياء بحيث ينتبه إلى زلة اللسان مهما كانت طفيفة.
قوى الظلام
وكم هو مثير للحزن، أن معظم هذه الكتابات قد شاءت لها الأقدار الظالمة أن تنشر في صحف قليلة التوزيع والتأثير كما المساء والتعاون.
وأن تحجب بذلك عن قراء صحف ذات جلال في كل العهود مثل الأهرام والأخبار. فلو لم يحدث هذا العزل غير العادل لكان للنشر أثر كبير. ولما انحدر النقد إلى مستواه المتدني حالياً. ولن أتوقف ولو قليلاً عند وليمة الكلمات في كتابات وأسلوب أديبنا الموهوب فهي وليمة دسمة غنية عن أي بيان.
وإنما أتوقف عند ظاهرة صفاء ونقاء هذه الكتابات وخلوها من شوائب العبارات العوراء التي تمتهن النقد بالكراهية والقبح والبذاءات. خذ مثلاً ما كتبه في نقد فيلم “البوسطجي” المأخوذ عن رائعته التي بنفس الاسم.
القاعدة والاستثناء
إنه قلق إزاء إخراج حسين كمال لهذا الفيلم غير مرتاح له ارتياحاً تاماً. فماذا كتب؟ بداءة كتب أنه قبل أن يرى الفيلم لأول مرة في الأسبوع الثاني من عرضه قد استمع لآراء عديدة عنه تتراوح بين الثناء الشديد والذم الشديد.
(هذه ذريعه لبيان أن– وهو صاحب القصة– لم يشاهد الفيلم قبل عرضه على الجمهور، بل أن مشاهدته له قد تأخرت إلى ما بعد انتهاء الأسبوع الأول).
وما أن انتهى من هذه المقدمة التي كشفت عن قلة ذوق صانعي الفيلم حتى انتقل إلى تباين الآراء فيه متخذاً منها برهاناً على أنه قد شذ عن بقية أفلامنا العديدة التي لا ترتفع لمستوى النقد. وهذا نجاح من العدل والإنصاف أن نقر له به مهما اختلف حكمنا عليه.
أنه جعلنا نترك مقالب الزبالة أو مقابر الأموات لنخالط الأحياء في العمار، أصحاء كانوا أم معلولين فالمطلب الأول في العمل الفني هو دبيب الحياة فيه.
الفلك المستقل
وبعد الكلام عن القصة والخيطين اللذين انعقدا فيها وأراد لهما القدر أن يتشابكا. الخيط الأول مفتول بصدقه فتلاً فوتوغرافياً عن الواقع، وهو مصرع جميلة الخاطئة على يد أبيها.
والخيط الثاني من محض الخيال. مأساة البوسطجي، هذا الشاب القاهري الذي يفترسه الملل في الصعيد المحايد الذي لا عليه ولا له يقلب كما أبله دوستيافسكي كل مجتمع يخالطه.
استطرد في محاولة منه لتبرئة الفيلم من تهمة إهدار صاحبه روح القصة، قائلاً: دعوا القصة جانباً، الفيلم عمل فني مستقل بذاته، أننا نحاسب من داخله لا من خارجه، والمخرج هو صانع الفيلم لا كاتب القصة، وكل نجاح أو فشل للفيلم ينبغي أن ينسب كله للمخرج.
غربة ورجاء
ولكنه ها هو ذا قريباً من نهاية المقال يستسمح الأستاذ حسين كمال في أن يقول له ناصحاً بأن لا يرسل الفيلم لمهرجان كما هو، فإن حساسية الذوق في أوروبا تأبى أن يرى المشاهد بعينه منظر السكين في يد الأب وهو يطعن بها ابنته كأنها شاة أو دجاجة.
والقصة تركت جميلة ولا شيء يدل على قتلها إلا دق أجراس الكنيسة. متمنياً عليه وعلى شركة القاهرة للإنتاج السينمائي لو كان في استطاعتهما إعداد خاتمة أخرى غير هذه الخاتمة. وطبعاً لم تسمع لا الشركة ولا المخرج لقول الأديب الأريب. وبقيت الخاتمة كما هي دون أي تعديل.
مثل آخر لهذا النقد الفريد الأقرب إلى التلميح منه إلى التصريح ما كتبه اولا في حق فيلم “الحياة، الحب، الموت”. لصاحبه المخرج الفرنسي كلود لولوش المعروف بغلوه في الانتصار للصهيونية. في هذا الفيلم عالج لولوش قضية الحكم بالإعدام وهل يجوز للمجتمع أن يقتل القاتل فيماثله بل لقد يفوقه قسوة.
مصائب قوم
والبطل الذي وقع عليه اختياره للفيلم فتى أسمر منحدر من أصل جزائري، عنين مصاب بمرض نفسي دفع به إلى خندق عدد غير قليل من المومسات. وزاد المخرج من تعدد وتشابك الخيوط التي تصور هذا البطل رجلاً ممزقاً بين العقل والجنون، بين الاستقامة والشذوذ بأن جعله أيضاً لصاً يسرق وفي يده مسدس يهدد به ضحاياه.
ومع كل ذلك فالمخرج يقول أن قتل مثل هذا الرجل المريض الضعيف جزاء على جرائمه، إنما هو نوع من السادية. ولذلك أطال في تصوير عذابه في السجن انتظاراً ليوم إعدامه. بل صوره لنا وهو يقاوم جلاديه ساعة أن سحبوه للمقصلة، فإذا بهم يجرونه بعنف جراً.
وثانيا ماافرده لكل واحد من المخرجين صاحبي الفلاح والينابيع في أكثر من مقال.
تمنيات وأحلام
وكم كان أديبنا بعيد النظر عندما دعا الله في ثالث وآخر مقال له عن الفلاح الفصيح أن يحرس نجم شادي في ضلوعه، وأن ينجيه من المخاطر، مخاطر الاغترار بالنفس تأتيه من داخله، ومخاطر العقبات الجسام التي تلقيها في طريقه تحكمات الروتين الحكومي أو بعض الذين يعدون كل نصر لغيرهم هزيمة لهم. أو الذين يمنحهم فقرهم الغني ثراء فاحشاً في الهجوم والتجريح. ولا عجب في كل هذا الحماس للسينما التسجيلية في فنان ولهان بحب شعب مصر يحلم بفيلم عن النخلة، تلك الشجرة العجيبة ذات الخط الواحد أم الخير والبركة.
ويحلم بفيلم آخر عن الغراب، هذا الطائر العجيب الذي يعيش بيننا ولا نتنبه له كثيراً. وبفيلم ثالث عن نيلنا العظيم من منبعه إلى مصبه. يعرض علينا حياته وشطآنه وصخوره ومختلف شعوبه وحيوانه ونباته.
وفي الحق، فلم يتحقق من هذه الأحلام سوى فيلم واحد، ينابيع الشمس الذي استغرق إعداده خمسة أعوام كاملة (من 1962 إلى 1967). كما استغرق تصويره ستة شهور، واقتضى السفر إلى أوغندا والحبشة والسودان والصعود إلى أعالي جبال القمر، هذا الفيلم التحفة معروض الآن في القاهرة (أبريل1970).
سأواري وجهي من الخجل إذا لم يشتد الإقبال عليه، أتمنى أن أرى على باب السينما زحاماً لا يقل عن الذي تحظى به أفلام الجنس والجريمة أو رعاة البقر الأمريكان.
ولابد أنه أخفى وجهه خجلاً عندما علم أن الفيلم قد فشل، فلم يستمر عرضه في دار السينما سوى أسبوع بالكاد كان هو الأول والأخير.
الصيحة والصدى
وكم كان متفائلاً أديبنا عندما كتب منادياً هيا بنا نعرضه سريعاً في المدارس والقرى، وفي التليفزيون بعد وقت غير طويل والمسامح كريم يا مؤسسة السينما. ثم نبذل كل جهدنا– وهذا هو الأهم في الترويج لهذا الفيلم في الأسواق الخارجية للعرض السينمائي والتليفزيوني.
يكفي أن اسم مصر سيتردد على الألسن، ويعود مقامها الجليل في الحضارة إلى الأذهان. كم كان متفائلاً فشيء من هذا لم يحدث، لم يعرض ينابيع الشمس لا على الشاشات الكبيرة أو الصغيرة في الخارج حتى هذه الساعة. كما لم يعرض على شاشات تليفزيون بلدنا إلا في العام الماضي بمناسبة إعادة الاحتفال بوفاء النيل.
ولست أشك أنه لو وصل إلى علم أديبنا صاحب دمعة وابتسامة ما واجه ينابيع الشمس من أهوال تفوق كل خيال لاستمر هادئاً متفائلاً لا تفارقه ابتسامته الويعة المشبعة بروح العطف. فهو من تلك الفئة القليلة التي لا ترى ما يدور حولها بمنظار قاتم. هو من القلائل أصحاب القلوب الكبيرة التي تحمل لنقائص الإنسان ونقائضه عطفاً كثيراً ورثاءً غير قليل.