أوسكار.. تمثال برونزي صغير، يقرأ اسمه علي صفحات مئات الجرائد والمجلات، تشاهد صورته علي مئات الملاين من الشاشات، وهو يسلم إلى كل من كان من نصيبه الفوز به من مبدعي الأفلام علي مدار العام السابق، وذلك في حفل أو استعراض كبير يقام في عاصمة السينما “هوليوود” قريباً من نهاية شهر مارس من كل عام.
ومن هنا جاءت شهرته التي تجاوزت وطنه الولايات المتحدة إلى جميع ارجاء المعمورة بلا استثناء.
ولعله الآن أشهر تمثال في العالم.
ولعل جائزته تفوق في الأهمية والمكاسب المادية جائزة نوبل في أكثر الأحيان.
وغني عن البيان أن “أوسكار” خير داعية لما ينتجه مصنع الأحلام في هوليوود من أفلام.
وعادة يجري التمهيد لأوسكار بجوائز أخرى توزع في احتفالات ومهرجانات سينمائية عديدة تقام في أمهات المدن الأمريكية مع بداية العام، وتعلن نتائجها قبل الترشيح للأوسكار بأيام.
وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما خلصت إلى القول بأن جوائز الكرة الذهبية، هي أهم هذه الجوائز جميعاً.
عادات وتقاليد
فعندما يفوز فيلم بعدة كرات ذهبية، يكون ذلك إيذاناً بترشيحه للأوسكار، وبفوزه بها، هو وبعض مبدعيه في أغلب الأحوال.
هذه الظاهرة التي كادت تصبح تقليداً أراها تتكرر على مر الأعوام.
“فغاندي” ما أن خرج من حلبة الصراع على تلك الكرة فائزاً بجوائز أفضل فيلم أجنبي ومخرج وممثل وسيناريو، حتى رأيناه بعد ذلك بأيام مرشحاً لعدد كبير من جوائز أوسكار، ثم فائزاً منها بنصيب الأسد.
نفس الشيء تكرر بعد أربعة أعوام مع “الإمبراطور الأخير” (1988) عندما كتب له أن يفوز بأربع كرات ذهبية من بينها الكرات المخصصة لأفضل فيلم ومخرج وسيناريو درامي.
فإذا ما جاءت الليلة الكبيرة.. ليلة أوسكار رأيناه منتصراً على جميع الأفلام الأخرى بالضربة القاضية، متوجاً– رغم أنه فيلم أجنبي– بتسع جوائز أوسكار.
وهو عدد لم يفز به أو بأكثر منه في تاريخ الأوسكار الطويل سوى ثلاثة أفلام.
لذلك عندما فاز “رجل المطر” بالكرة الذهبية باعتباره أفضل فيلم درامي منذ ثلاثة أشهر أو يزيد، كما فاز بها “داستن هوفمان” عن أدائه في الفيلم المذكور لدور “رايموند بابيت”، اعتبر هذا الفوز دليلاً لا يتسرب إليه الشك على أن “رجل المطر” فيلم مبشر بأوسكار، وأن فوزه بها، هو ونفر من مبدعيه أمر شبه أكيد.
وكما كان متوقعاً، فقد جرى ترشيحه لثماني جوائز أوسكار.
وقبل ليلة توزيع الجوائز بقليل تحمست جريدة “الجيروساليم بوست” الإسرائيلية لكل من الفيلم وصاحبه المخرج “باري ليفنسون” وبطله “داستين هوفمان” حماساً شديداً.
وما أن ذاع خبر فوز الفيلم وصاحبه وبطله بالأوسكار الموعود حتى نشرته تلك الجريدة في مكان بارز من عددها الصادر في 31 من مارس 1989 مباهية الأمم بانتساب الفائزين “ليفنسون وهوفمان” إلى يهود هوليوود.
والآن إلى ما يحكيه “رجل المطر” الذي خرج من مضمار أوسكار متوجاً بأربع جوائز بينها أوسكار أحسن سيناريو مبتكر “رولند باس” و”باري مورو”.
يحكي هذا الفيلم قصة شاب وسيم فهلوي “شارلي بابيت” (توم كروز) يعمل بلوس أنجلوس في تجارة السيارات.
الحرمان والعصيان
والحكاية تبدأ به، وقد تلقى ذات صباح مكالمة هاتفية تخبره بوفاة والده الذي لم يلتق به منذ أن كان شاباً يافعاً ليس له من العمر سوى ستة عشر عاماً.
وسرعان ما يكتشف أن والده قد أوصى بكل ثروته التي تقدر بثلاثة ملايين دولار إلى شخص مجهول لا يعرف من أمره شيئاً.
وبعد قليل، يعرف، وهذا هو الأغرب– أن ذلك الشخص المجهول أقرب إليه مما كان يتصور، إنه شقيقه الأكبر.
والسبب في إخفاء أمره عنه أنه متخلف عقلياً، يعيش في مصحة للمعوقين على الساحل الشرقي، بعيداً عن الناس، وما يحمله القرب منهم لمن كان في مثل حالته من أخطار جسام.
وعلى كُلٍ، فما أن التقى بشقيقه في تلك المصحة، حتى تبين له مقدار تخلفه.
فكان أن فكر في خطفه ابتغاء الاستيلاء علي ما أوصي له من ملايين.
ولم يمض وقت طويل، إلا وكان قد اختطفه فعلاً.
وها هو ذا في طريقه إلى الساحل الغربي، ومعه في السيارة شقيقه المعوق الذي رفض السفر بالطائرة لأنه يهاب الانتقال بين الأماكن معلقاً في الفضاء.
عبقرية الأقلية
وأثناء السفر يكتشف “شارلي” أن شقيقه عبقري في لغة الأرقام.
ومن هنا توقفه في “لاس فيجاس”، مدينة القمار، حيث استغل عبقرية شقيقه تلك في الفوز من خلال المقامرة بثروة طائلة فاقت الملايين الموصى بها.
ولقد كان في إمكانه، لو شاء، أن يكسب المزيد، لولا أن أصحاب نوادي القمار في مدينة الشيطان الأصفر قد تنبهوا لخطورة عبقرية شقيقه المعوق، فحالوا بينه وبين الاستمرار في المقامرة.
الأهم من هذا كله، والذي يريد الفيلم أن يركزعليه– هو ذلك التغيّر الذي طرأ علي شخصية “شارلي” بفضل تعايشه مع شقيقه الأكبر خلال الرحلة، واستحالة علاقته به إلى حب أكيد.
ففي البدء حين لقيناه في لقطات الفيلم الأولى، كان أنيقاً في ملبسه، حاد التقاطيع، جشعاً، طامعاً في ملايين شقيقه المحروم منها.
غير أنه عند اقتراب الفيلم من النهاية، نراه وقد استحال شخصاً أكثر إنسانية في التعامل مع شقيقه ومع الآخرين.
وفي الحق، فرجل المطر يسلّط الأضواء لا على “رايمون” المعوق، وإنما على “شارلي” الفتى الطموح المستلب بعبادة المال.
وهو، من خلال الأحداث، يخطو به نحو الحب شيئاً فشيئاً، حتى ولو لم يكن ثمة أمل في أن يبادله الشقيق المعوق حباً بحب.
بعد نظر
وهنا، قد يكون من المفيد أن أذكر ما تصوره أصحاب الفيلم عندما اتصلوا “بهوفمان” لاقناعه بالتمثيل في “رجل المطر”.
لقد تصوروا من منطلق خاطئ في تقدير الأمور أن الدور المناسب له هو دور “شارلي” الشقيق الأصغر. ولكن “هوفمان” بفضل حاسته الفنية التي لا تخيب إلا لماماً، وبفضل حاسته التجارية التي لا تخيب أبداً، وقع اختياره علي دور “رايمون” الشقيق المعوق، وذلك رغم أنه أصغر من الدور الآخر المعروض عليه ابتداء.
وأغلب الظن أنه لو كان لم يسمع سوى صوت الطمع فاندفع إلى الوقوع في فخ إيثار الدور الأكبر علي الدور الأصغر، لما فاز بجائزتي الكرة الذهبية وأوسكار.
يبقي أن أقول أن “رجل المطر” لا يستحق كل الضجة الكبرى التي أثيرت حوله باعتباره فتحاً فنياً مبيناً، ولا كل الجوائز التي أمطروه بها.
فهو فيلم قائم على سيناريو مفتعل أشد افتعال، أحداثه وشخصياته مرسومة حول معان غامضة لم يستطع المخرج أن يقدمها لنا بجلاء.
ومع ذلك، فمما يحسب “لرجل المطر” أن التوقعات القائمة على الاعتقاد الشعبي بأن المرض العقلي لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال القداسة في بعض الأحيان، ومن ثم فقد يكتب “لريمون” المعوق الولي الشفاء، هذه التوقعات لم يتحقق منها شيء بفضل امتناع أصحاب الفيلم عن أن ينتهوا به تلك النهاية السعيدة البلهاء.
شيخوخة مبكرة
ولو انتقلنا بعد ذلك إلى الأفلام الأخرى التي دخلت بشكل أو بآخر في عداد الأفلام الفائزة بالجائزة المشتهاة مثل “الأرنب روجر” الذي افتتح به مهرجان القاهرة السينمائي الأخير أو “الفتاة العاملة” لصاحبه “مايك نيوكلس” أو “السائح بالصدفة” لصاحبه “لورانس كازدان” أو “حرب الفاصوليا” لصاحبه الممثل المخرج والمنتج “روبرث ردفورد” أو “فندق نرمينوس حياة وأزمنة” كلاوز باربي، لصاحبه “مارسيل أوفلس” أو “المتهمون” لصاحبه “جوناثان كابلان” أو “المسيسيبي يحترق” لصاحبه “آلان باركر”.
وألقينا عليها نظرة طائرة لوجدنا أنفسنا أمام ظاهرة غابت عن انتباهنا طويلاً، هي أن هوليوود قد شاخت، وليس في استطاعتها أن تقدم جديداً نافعاً.
ومهما يكن من أمر هذه الظاهرة فقد يكون من المفيد الوقوف عند الأفلام الثلاثة الأخيرة ولو قليلاً. “فندق ترمينوس” فيلم وثائقي طويل يدور حول جرائم “كلاوز باربي” ذلك الألماني النازي الملقب “بسفاح ليون”. والفيلم عماده لقاءات أجرى فيها المخرج حوارات مع ضحايا هذا السفاح سواء أكانوا من رجال المقاومة الفرنسية أو ممن جرى شحنهم إلى معسكرات الموت ومعظمهم من اليهود!!
جرائم وقحة
أما “المتهمون” فيبدأ ببطلته “سارة توبياس” (جودي فوستر) مندفعة من باب بار إلى الشارع وهي ممزقة الثياب، صارخة فزعاً، ملتمسة النجاة.
وفي الظلام شاب على الرصيف يرتعد خوفاً، وهو يصرخ في سماعة التليفون ملتمساً من الشرطة انقاذ هذه المرأة المبتلاة.
وسرعان ما نعرف سبب صراخها على هذا الوجه الذي يثير الرعب في القلوب.
لقد اغتصبها شبان ثلاثة أمام أعين رواد البار والعجيب أن أحداً من هؤلاء الرواد لم يحرك ساكناً لحمايتها من الاغتصاب.
وأغرب العجب أنهم– فيما عدا قلة صامتة– كانوا بمشهد الاغتصاب البشع الذي أمام أعينهم فرحين، مصفقين بل قل مشجعين.
ولكن ما الذي حدا بالشبان الثلاثة إلى اغتصاب “سارة” هكذا علناً في محل عام، وبهذا الشكل المشين؟
في تلك الليلة– وقبل ذهابها إلى البار- تشاجرت “سارة” مع صديقها الموسيقار الذي يشاركها العيش في منزل متحرك.
وكعادتها ذهبت إلى بار قريب كي تحتسي بضع كئوس. لعلها بها تنسى المشاكل، وتتخفف من الهموم.
وفي هذه المرة، وقبل توجهها إلى البار بصحبة صديقة تعمل معها على خدمة الزبائن في أحد المطاعم، تعاطت أنفاساً من الحشيش.
وها هي ذي داخل البار مرتدية ملابس فاضحة، غير مكتفية بعربدة السكر علناً، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتبادل النظرات مع شاب جذاب، ما أن دعاها إلى مشاركته الشراب حتى قبلت بلا تردد، وأخذت تتجاذب معه أطراف حديث ملؤه الغزل والإيحاءات.
وبينما هو محتضنها في حلبة الرقص يمطرها القبلات، إذا به يطلب منها أمراً لم يكن في الحسبان.
وكلما رفضت أصر لأنه من ذلك الصنف من الشبان الذي لا يقبل من فتاة أن تمتنع وتقول لا. وبمساعدة اثنين من رفاقه دفعها إلى جهاز لعبة الكرة والدبابيس حيث اقترفت جريمة الاغتصاب.
من الجاني؟!
وهذا السلوك المبتذل من قبل “سارة” في مكان لهو ولعب في تلك الليلة الليلاء، كان لابد أن يقف عقبة كئود أمام محققة الإدعاء “كاترين ميرفي” (كيللي ماكجيلليس).. فادعاء فتاة عاملة من الطبقات الدنيا، تسكر وتعربد وتحشش بأنها قد أغتصبت، هذا الادعاء لا يؤخذ مأخذ الجد أمام القضاء.
كل ذلك اضطر المحققة إلى اسقاط تهمة الاغتصاب وبدلاً منها توجيه تهمة تهديد الأرواح والأموال إلى الشبان المعتدين.
وهذا ما أغضب “سارة” التي كانت تتوقع أن تحكي مأساتها أمام المحكمة حتى تنتصف لها العدالة مما وقع على جسدها من اعتداء آثم مهين.
ولم يكن أمام المحققة حتى تعيد المحاكمة، استجابة لرغبة سارة، بعد أن بدأت تتعاطف معها، إلا حلاً وحيداً هو توجيه الاتهام إلى الذين شاهدوا الاغتصاب، ولم يحركوا ساكناً.
ولن أحكي التفاصيل التي بها استطاعت المحققة أن تضيق الخناق على شهود الجريمة التي ما كانت لترتكب فيما لو اتسم سلوكهم بالمبالاة والإقدام. فذلك شيء يطول.
وإنما اكتفي بأن أقول بأن “جودي فوستر” برزت في دور “سارة” المغتصبة ممثلة عظيمة، ومن هنا فوزها بجدارة عن أدائها لهذا الدور بالأوسكار.
وبأن منتجة الفيلم “شيري لانسينج” لم يفتها في حديث لها مع جريدة “دالاس أوبزرفر”، (20 أكتوبر 1988) أن تجري مقارنة بين موقف الجمهور اللامبالي في فيلم “المتهمون” وبين موقف الشعب الألماني غير المكترث بما حدث في ألمانيا الهتلرية لشعب الله المختار!!
والآن إلى الفيلم الثالث والأخير “المسيسبي يحترق”.
سود وعبيد
هذا فيلم يعرض لنضال السود من أجل المساواة مع البيض في الولايات المتحدة خلال العام الذي حصل فيه “مارتن لوثر كنج الصغير” على جائزة نوبل للسلام (1964) ولكنه يعرض لهذا النضال لا من منطلق أن السود هم الذين كافحوا وضحوا حتى اضطروا الكونجرس الأمريكي إلى إعادة حقوقهم السليبة في الحرية والمساواة إليهم وذلك بعد رحلة طويلة من المعاناة والعذاب.
ولكن من منطلق آخر يقلل من دورهم في هذا النضال الباسل، يقول أنهم كانوا متفرجين سلبيين ينتظرون الخلاص علي أيدي رجال “روبرت كندي” النائب العام أو بمعنى أصح على أيدي بطلي الفيلم “جين هاكمان” و”ويلم دافو”، وكلاهما محقق من رجال “هربرت هوفر” رئيس المكتب الاتحادي للمباحث، والذي كان معروفاً عنه أنه يمقت “مارتن لوثر كنج” مقتاً شديداً.
فبفضل هذين المحققين- وكلاهما من البيض– عثر على جثتي “مايكيل شفرنر” و”اندرو جومان” والاثنان من بيض الشمال. كما عثر على جثة “جيمس شابي” وهو من سود الجنوب.
والثلاثة– وهم مناضلون من أجل الحقوق المدنية، كانوا قد اختفوا قريباً من فيلادلفيا- ميسوري قبل أسابيع، وبعد العثور على جثثهم بأربعة شهور ألقي القبض على تسعة عشر رجلاً بتهمة الاشتراك في قتلهم.
وخلال عام 1967 صدر الحكم على سبعة منهم كان من بينهم نائب الشريف لما ثبت في حقهم من تآمر على المناضلين الثلاثة ابتغاء تصفيتهم بالاغتيال.
الخطايا
وأحد عيوب الفيلم الجوهرية امتناعه حتى عن التلميح إلى عداء رئيس المباحث “هوفر” المتأصل للسود ولزعيمهم “كنج”، ذلك العداء الذي وصل إلى حد التصنت على “كنج” بموافقة “روبرت كيندي” سعياً إلى دليل يثبت أنه واقع تحت نفوذ الشيوعيين، فضلاً عن قيام عملاء المباحث بارسال خطاب وشريط تسجيل لعلاقاته الغرامية إلى زوجته بأمل دفعه إلى الانتحار.
والأخطر من كل ذلك امتناع مباحث “هوفر” عن تنبيهه إلى ما كان قد وصل إلى علمها من تهديدات له بالموت، وذلك إلى أن لقي مصرعه برصاصات انطلقت من غدارة أحد غلاة المتعصبين (1968).
وإن شئت أن تعلم شيئاً يفيد في فهم “المسيسيبي يحترق” الحاصل على أوسكار التصوير، فاعلم أن صاحبه “باركر” قد سبق له أن أخرج “قطار منتصف الليل السريع” (1978)، ذلك الفيلم الذي ينفث عداوة متوارثة للأتراك، وبغضاء طائفية متأججة للإسلام.