يحيى حقي مهضوم الحق في السينما، في حين أن أية قصة كبرت أم صغرت لـ”نجيب محفوظ” أو “احسان عبد القدوس” أو “إسماعيل ولي الدين” ما إن يُكتب لها ان تنشر، إلا ويكون تجار السينما متربصين لها بالشراء والتحويل إلى أفلام، فإن الحال مع قصص يحيى حقي على عكس ذلك تماماً فعلى مدى أربعين عاماً أو يزيد، لا يزيد نصيبها في عالم الأطياف عن فيلمين “البوسطجي” و”قنديل أم هاشم”.
وثمة اجماع على أن الفيلم الأخير منبت الصلة بقنديل الأديب الكبير فيه من عدم الفهم لمغزى القصة ودلالاتها الشيء الكثير.
أما “البوسطجي” فلا اجماع حوله. حشد كبير من النقاد تحمس له، اختاره أحد أحسن عشرة أفلام انتجتها السينما المصرية منذ انتهاء عهد الملكية بالسقوط، وفئة قليلة لم تتحمس له، أو حماسها له كان من النوع الفاتر المشوب بكثير من الشك.
وكان صاحب القصة المستوحى منها الفيلم من المتشككين.. كان “يحيى حقي” من الفئة القليلة. كيف؟
في مقاله الأسبوعي “مع الناس” المنشور في جريدة المساء (6 مايو 1968) برر الحديث عن الفيلم في أدب جَمّ وتواضع يليق بالحكماء بقوله “كتبت هذا المقال لأقطعه وهو منشور في “المساء” وأضعه في جيبي أُخرجه لمن سيستجد من السائلين لي عن حكمي على فيلم “البوسطجي” ليُغنينا عن جري لساني بكلام قلته من قبل مراراً، لا شيء يتعبني أكثر من أن أحكي حكاية واحدة أكثر من مرة ولو في جلسات متفرقة على أُناس مختلفين، كأنني اسطوانة انحبست إبرتها داخل تجويف واحد، فأحس حينئذ أن هذه الإسطوانة قد باظت وباخت وأصبحت مزعجة أيضاً”
الغضب.. لماذا؟
وقريباً من نهاية الحديث وبعد أن أفصح عن شدة الفرح والإعجاب بالمخرج “حسين كمال”- انتهز الفرصة فتوجه إليه بثلاث نصائح أسماها كلمات لعل أهمها أن يُغير خاتمة الفيلم إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
فما هي هذه الخاتمة التي أغضبت الأديب الحليم فأخرجته عن طوره إلى حد التدخل في عمل فني مستقل عن القصة، والنصح بإدخال تعديل عليه يُغير من نهايته.. ما وجه العيب فيها؟
وهل هي مغضوب عليها لذاتها أم لارتباطها بعيوب أخرى شابت الفيلم فابتعدت عن روح القصة؟
القنطرة الصماء
في حديثه المُشار إليه يقول “حقي” بحق عن درّته “البوسطجي” التي كتبها باسطنبول سنة 1933 أنه قد انعقد فيها خطان أراد القدر أن يتشابكا، الخط الأول منقول بصدق نقلاً فوتوغرافيا عن الواقع، وهو مصرع “جميلة” على يد أبيها، تلك الخاطئة التي كان قد حضر من قبل تشريح جثتها وقرأ بعينيه الخطابات الواردة لها من صاحبها الغائب عنها رغم محنتها.
والخط الثاني من محض الخيال، مأساة البوسطجي- هذا الشاب القاهري الذي يفترسه الملل في الصعيد فيُقدم على فتح الخطابات التي تمر تحت يده ليجد قدمه قد علقت بشوك من حيث لا يحتسب، ماراً به على غير إرادة منه، يدفع بأناس لا علاقة له بهم بل هم مجهولون عنده إلى مصيرهم المأساوي.
ويمضي صاحب القصة الدرّة معترفاً أنه كان بالنسبة لخط مأساة البوسطجي مُتأثراً بقصة “الأبله” لدستويفسكي، هذ المحايد الذي لا عليه ولا له يقلب حياة كل مجتمع يخالطه، ينبش مجرد ظهوره بين أفراد المجتمع كل ما يخفونه من نوازع وعواطف فيكون هو القنطرة الصماء التي يعبرون عليها إلى مصيرهم.
خماسية البوسطجي
وعلى كُلٍ، فمما يلاحظ على القصة أن وقائعها قد اختزلت على وجه أضفى عليها ميزة التركيز الشديد، وأن إيقاعها بفضل اقتصاد في الألفاظ مذهل له جرس موسيقي.
ومن هنا اختيار شكل التكوين لها في خمس أقاصيص أو بمعنى أصح حركات تحت عناوين (1) بلاغ ورا بلاغ (2) عباس أصله وفصله (3) جميلة وبنت ناس (4) فرحة ماتمت (5) سقطة البوسطجي.
وأهم ما في القصة إنما يدور في أرواح الشخصيات وبالذات جميلة “الخاطئة” وخليل “الحبيب” وعباس “البوسطجي”.
وعلى هذا، وكما يقول الدكتور “علي الراعي” في كتابه “دراسات في الرواية المصرية” لا يجد صاحب القصة أن ثمة إلزاماً عليه برسم شخصياته من الخارج، ومن ثم يقصر اهتمامه على محاولة التعمق في أرواحها وعقولها (ص 184).
وليس من شك أن الدين من جوانب الحياة الروحية لهذه الشخصيات بل لعله أهمها.
اختلاف الملّة
ومن هنا ابراز أن “جميلة” أرثوذكسية يزهو أبوها بزيارات القسيس له، ويأخذ أسرته كلها للكنيسة حيث يجلس هو تحت، وتجلس امرأته وبنته الصغيرة “جميلة” في الشرفة محجبة بالشيش.
وأن “خليل” بروتستنتي في مدارس الأمريكان من تلك الأقلية القليلة التي توصل بفضلها المُبشر البروتستانتي الغريب إلى الاختلاط ببقية الأقباط، وفي يده أمنية يلوّح بها ويغري “في أسيوط مدرسة للعيال وللبنات مجانية”.
وأن “عباس” مسلم من أسرة أفرادها موظفون صغار، كلهم يؤكدون أنهم من سلالة عربية، وبعضهم يُضيف أنهم من السادات، رغم أن سلسلة النسب الشريف التي يحفظونها تنتهي عند جدهم الثالث.
وهذا الجانب الهام من الحياة الروحية للأبطال الثلاثة لم تجر الإشارة إليه في نسيج القصة عبثاً.
فبسبب المُبشر البروتستانتي ومدرسته بفكرها المستورد التقت “جميلة” بأول شاب تراه عن قرب “خليل” الذي تعمد الإنفراد بها، أمسك يدها ثم لمس ثديها وقبلها، ونسيا نفسيهما في إحدى هذه الفورات واجتبى منهما الشباب جريته وبسبب اختلاف ملّة الحبيبين كان القسيس بمثابة ماء بارد يُصب بلا رحمة على نار عجلة العروسين فقد وضع لزواجهما شروطاً شكلية تستلزم وقتاً مما أدى إلى تأجيل بل قل التعطيل نهائياً لعقد القران.
الاحتضار الطويل
وهكذا ونتيجة حيلة شكلية غير متوقعة وجدت “جملية” نفسها أمام مشكلة ليست في الحياة مثلها.. هي عقدة كلها اصطدام ونزاع وخيوطها من ديانة وتقاليد ووهم..
وأخذ الجنين في بطنها ينمو يوماً بعد يوم كعقرب الساعة لا ترى العين حركته.
ومع نموه بدأ الاحتضار الطويل، أنات تسمع في رسائل الاستنجاد إلى الحبيب، تتقطع وتتباعد آخرها أنة من كلمتين “خليل.. الحقني”.
من بعدها نسمع الموت لا نراه الا في صوت جرس الكنيسة الصغيرة يدق اشعاراً به.. يكاد ينطق “فقد يعبّر النحاس في بعض الأحيان عن منتهى حزن الإنسان”.
الشفافية والسوقية
بهذه الكلمات الآسرة المشحونة بالألم والمشاركة اختتمت القصة.. بفضلها نعرف أن شمس حياة “جميلة” قد غابت في وهدة الموت إلى الأبد.
إذن القصة قد عرضت لاختفاء “جميلة” بلغة الرمز والإشارة بلغة صاحبها التي تتسم بالسمو والتحليق.
والمؤلم أن الفيلم لم يحترم غلالة الشفافية هذه التي أحاطت بالخاتمة، واصطنع خاتمة أخرى مباشرة غليظة لا أجد مناصاً من وصفها بالسوقية.
فجميلة في الفيلم كما يصنعها السيناريو المنشور تهبط هاربة من نافذة غرفتها المطلة على الحديقة الخلفية، أبوها ينتبه إلى صوت ارتطام جسمها بالأرض، كالمجنونة تجري في شوارع قرية كوم النحل وهي تنادي “خليل.. الحقني”.
وفجأة يظهر المعلم، يستوقف ابنته هاجماً عليها، تصرخ صرخة مروعة بينما يغمد سكينه في قلبها.
يحيط الفلاحون الذين أتوا مهرولين من بعيد على الصرخة بالمعلم وابنته القتيلة على صدره.
المعلم يحمل جميلة والفلاحون من حوله متجمهرون في صمت وكأنهم يشكلون جنازة.
لقطة للقتيلة مع صوت الأم الصارخ في لوعة “جميلة.. ضناي” ثم تتقدم الأم مندفعة مشعثة وهي تصرخ مولولة وتهيل التراب على رأسها “جميلة.. بنتي ضناي”.
الاختلاف والحيرة
هذا البون الشاسع بين الخاتمتين ما سببه؟
قد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما أرجعت هذا المسخ غير المستحب لخاتمة “جميلة” أو “البوسطجي” الاسم المختار لمأساتها.. أرجعته إلى تجريد الشخصيات من أحد جوانبها الروحية الهامة جداً.. الدين.
فالمشاهد لا يعرف أن “جميلة” أورثوذكسية، وأن خليل من القلة القليلة البروتستانتية.
وكذلك الحال بالنسبة للشخصيات التي على صلة قرابة بهما فهي جميعاً وبلا استثناء مجهولة الدين بلا أسماء.
ومن ثمّ فإن اختتام الفيلم كما القصة بصوت جرس الكنيسة الصغيرة يدق اشعاراً بالموت أصبح- والحالة هذه من قبيل المحال الذي لا محل له.
بل أنه حتى بفرض أن المستحيل قد تحقق فحلّت خاتمة القصة محل خاتمة الفيلم استجابة لرغبة مبدع البوسطجي لما تلقى المشاهد المتعجب من دقات الجرس الرسالة أن جميلة ماتت مقتولة، ونظل في حيرة ما بعدها حيرة لا نجد معها لتلك الدقات تفسيراً.
مسوخ أم ضحايا؟!
وإذ كان الحال كذلك فهل كان غائباً عن صاحب القصة أن تغيير الخاتمة من قبيل المستحيل؟
بالطبع لا.. وأغلب الظن أنه بطلبه إعداد خاتمة أخرى للفيلم إنما أراد أن يعبر عن ضيقه بما أُدخل على شخصيات القصة من تغييرات تحوّلت بها إلى مسوخ كاريكاتورية.
فمن المعروف عنه أنه.. وكما وصفه دكتور نعيم عطية في مؤلفه “يحيى حقي وعالمه القصصي” ذو عقلية تتأنى في بناء الشخصيات وصقل الحوار وانتقاء التفاصيل، وأنه ولئن كان في أدبه مهموماً بالحياة الكريهة المرعبة في الريف وبخاصة في الصعيد الجواني إلا أنه عطوف على الشخصيات الريفية التي يرسمها بريشته الساحرة، يكتب عنها بمودة لأنها عنده ضحية بيئة يتشوه فيها الإنسان، يموت على مهل عفنا.
وهو لا يشذ عن هذه القاعدة الإنسانية في وصفه لأبي “جميلة” وأمها، فهما ليسا أشلاء ميتة، ليسا في حالة خمول زوجي.
فالأب المعلم “سلامة” لا يكاد يفترق في مظهره، في أخلاقه وعاداته عن المسلمين، اللبس واحد والعمامة فوق رأسه عليها المقدار ذاته من التراب، يحفظ كل الصلوات نغماً وكلاماً عن ظهر قلب.. الحب الأبوي وحده هو الذي زحزحه عن تعصبه، جعله يسلم جميلة إلى المدرسة البروتستانتية ولما تبلغ العاشرة، وقلبه يفيض بالأمل أنها في يوم ما تكون معلمة.
وعندما أتمت جميلة السنة النهائية ودُعي لحفلة توزيع الشهادات، جاء إلى المدرسة في أحسن ثيابه.
بل وعندما جاءه خليل طالباً يد “جميلة” قبل بالحاح زوجته أن يعقد الإكليل حتى قبل دفع المهر.
إذن وحسب هذا الوصف هو ليس بالوحش الكاسر الجامد.
التشويه.. كيف؟
أما الفيلم فقد ذهب في رسم شخصيته مذهباً آخر، جعل منه رجلاً شاذاً كريهاً، يطارد مريم الخادمة داخل برج الحمام، يحتضنها، يعريها، يسلبها أعز ما تملك. رجل أحمق عنيد يرفض زواج ابنته من خليل لا لسبب سوى أن جميلة زارت أخته في النخيلة.
وجعل من زوجته- وهي في القصة سيدة عاقلة فاضلة- جعل منها امرأة غيورا، يحركها الغيظ والغضب والرغب في الانتقام من الخادمة، يدفعها إلى التخلص منها بالوشاية بها إلى خالها وأخيها اللذين يصطحبانها إلى أجلها المحتوم.
وأغلب الظن أن هذا التشويه لشخصيات البوسطجي هو الذي حدا بـ”يحيى حقي” في حديثه المُشار إليه إلى توجيه النصح إلى حسين كمال بأن لا يبالغ في تصديق اعجاب بعض الأجانب المقيمين عندنا بفيلمه “فإنهم مأخوذون أول الأمر بالجانب الفولكلوري، فإذا ما نفذوا منه إلى ما تحته كان لهم رأيٌ آخر”.
وكم كان أديبنا الكبير بعيد النظر، كم كان حكمه على الفيلم صائباً، فالآن لا أحد من النقاد الأجانب يُبدي اعجاباً بفيلم شوه “البوسطجي”.
على أثر ظهور مقالنا عن فيلم البوسطجي عن قصة الكاتب الكبير يحيى حقي في مجلة الهلال عدد فبراير 1985، والذي تناولنا فيه مدى التزام السيناريو باظهار شخصيات القصة كما عناها الكاتب، ظهر تعليق كاتب السيناريو المرفق على صفحات مجلة صباح الخير والذي نترك للقارئ تقييم ما جاء به.
صفحة ونص عن النقد والهوى الفني!!
عجبت وحزنت حين قرأت هذا الأسبوع مقالاً صغيراً في إحدى المجلات، يقارن بين خاتمة قصة البوسطجي لأديبنا يحيى حقي الذي نحتفل بعيد ميلاده هذه الأيام.. وخاتمة الفيلم المأخوذ عن تلك القصة والذي كتبت له السيناريو والحوار، وأخرجه حسين كمال في عام 1968.. أي منذ سبعة عشر عاماً.
عجبت، لأنه طوال هذه الأعوام السبعة عشر، والبوسطجي يحقق نجاحاً فنياً وجماهيرياً أينما حل وعدد يفوق أصابع اليدين من جامعات العالم المختلفة، يحتفظ بنسخة منه.. وتوجد في جامعات أمريكا وحدها ما لا يقل عن تسع نسخ في كليات الدراما وأقسام السينما بنيويورك وجورج تاون بواشنطن، وبوسطن، ومنيسوتا، ومعهد بسادينا للفنون، ومركز كيندي الثقافي، وغيرها. كما أن غالبية السينماتيك (الأرشيف السينمائي) في عدد من دول العالم، تحتفظ بنسخة من البوسطجي للعرض على جمهورها الخاص، بين الحين والحين.
وقد كان ظهور فيلم البوسطجي في عام 1968 حدثاً فنياً اهتزت له غالبية كبيرة من الأقلام، معجبة ومرحبة، فقد ظهر الفيلم بعد فترة توقف طويلة للسينما المصرية هاجر فيها الفنانون إلى تركيا وإيران ولبنان.. وظهر بعد مرحلة طويلة من الشعور بالاحباط والنكسة بعد هزيمة عام 1967، وكان في كل بيت تقريباً، مأتم لشهيد في تلك الهزيمة.. وعلى حد تعبير الأستاذ يحيى حقي نفسه في الكلمة التي استشهد ذلك المقال الصغير بمقطع منها تاركاً بقية المقاطع، يقول الكاتب الكبير أن فيلم البوسطجي قد شذّ عن بقية أفلامنا العديدة التي لا ترتفع لمستوى النقد، وهذا نجاح من العدل والإنصاف أن نقر له به، أنه جعلنا نترك مقالب الزبالة أو مقابر الأموات، لنخالط الأحياء في العمار، أصحاء كانوا أم معلولين..”
وقد حصل الفيلم وقتها على تسع جوائز من جوائز الدولة، للقصة والسيناريو والحوار والإخراج والتصوير والمونتاج والديكور والانتاج والتمثيل.
ولهذا عجبت أن يجيء اليوم كاتب ذلك المقال، ويلقي بحفنة من التراب والطين على هذه الجهود الفنية التي سبق تقديرها والاعجاب بها. ويستخدم ألفاظاً تكشف العمد وسوء النية في النقد الفني، مثل تشويه شخصيات يحيى حقي وتحويلها إلى مسوخ كاريكاتورية!، واتهام الفيلم بالسوقية، والإدعاء بأنه أغضب الأديب الكبير صاحب القصة، بينما في نفس الكلمة التي كتبها يحيى حقي والتي استشهد ذلك المقال الصغير ببعض عباراتها مقتطفة مبتسرة يقول الكاتب الكبير “أنه لا يملك إلا الثناء عليه، إذ كان تسلسل المشاهد وتركيب بعضها فوق بعض يسيران باتصال مقنع ومريح لا يقطعه تخلخل وركود أو غموض وحشو.. والاضافات التي أدخلها على القصة خدمت الفيلم..”؟!
وأصل القضية في نظر كاتب ذلك المقال الصغير هو اختلاف النهاية من ناحية الشكل الفني، أي التعبير عن موت البطلة أو مقتلها.
فالبطلة جميلة في قصة يحيى حقي تظهر عليها أعراض الحمل سفاحاً فيضمر والدها قتلها، ثم يعبر الكاتب عن وقوع القتل وموت جميلة بجرس الكنيسة يدق.
وقد هبطنا نحن فناني الفيلم بهذه الخاتمة الشاعرية حينما عرضنا وقوع الحدث على المتفرجين..!!
وكان هذا مصدر آخر للعجب من شخص يتصدى للنقد السينمائي، وهو يجهل المفردات الأساسية المختلفة بين اللغتين، لغة الأدب المقروء، ولغة الصورة المرئية..!
فالسينما تقدم للجماهير العريضة المختلفة المستويات والتي يجهل غالبيتها فنون التشبيه والرمز والمقارنة والاستنتاج.. وأبسط واجبات السينما تجاه جمهورها هو أن تكون واضحة ومحددة فيما تقول.. وهي تقول بالحركة والفعل، أي أن المتفرج لابد أن يرى.. وعندما يصف مؤلف القصة بطله مثلاً بأنه “راجل فلاتي” فلابد للسينما أن تقدم ذلك بالفعل والحركة المرئية في مشاهد ومواقف، حتى يترسب المعنى في وجدان الجمهور.. واستخدام الوصف اللفظي للتعبير عن الأحداث في السينما خطأ فني درجنا عليه في أفلامنا العديدة التي تجاوزها البوسطجي، والتي لم تكن ترتفع لمستوى النقد..!
وكانت النهاية بالفعل في فيلم البوسطجي فاجعة حقاً، ونحن نرى الأب يطعن ابنته بالسكين، بعدما لاحقها وهي تحاول الفرار منه.. وقد تأثر الكاتب الكبير بتلك النهاية، وخشى على مشاعر الأجانب منها حين عرض الفيلم في الخارج.. وقد عجبت لأن السيد كاتب المقال الصغير قد ركب نفس المركب، وكان مصدر عجبي أن هذا الناقد طالما هلل وزمر وطبل لأفلام صنعها هؤلاء الأجانب، مليئة بالعنف والدم والتدمير والاغتصاب.. دون أن يتوجع أو يبكي على الشاعرية وغلالة الشفافية، أو يشعر بالغلظة والسوقية اللتين شعر بهما في خاتمة البوسطجي.
وقد تحول عجبي إلى حزن شديد حينما علق أحد الأصدقاء الفنانين قائلاً بأن حفنة التراب والطين في هذا المقال الصغير موجهة في الحقيقة إلى مخرج الفيلم حسين كمال وليس إلى الفيلم نفسه.. لأن كاتب المقال لا يحبه.. أو بمعنى آخر لا يستظرفه..!
زاد حزني في الحقيقة، أن يصل النقد الفني إلى هذا المستوى من الذاتية.. وأن تداس الموضوعية بالأقدام، في سبيل تصفية الخلافات أو الاختلافات الشخصية.
وكان الله في عون الجمهور، ففرصته الأساسية للفهم والمشاركة والتعلم، إنما هي في مقالات النقاد الذين يتناولون الأعمال الفنية بالمتابعة والتحليل.. والنقد ولهذا فإن وظيفة الناقد تكاد تكون مقدسة مثل وظيفة المعلم.. وجدير بصاحبها أن يتجرد عن الهوى.. وأن يزن بميزان الذهب.. كي لا يغرق قراءه في بحر الضلال!
صبري موسى