-رحلة حول فيلم يمجد غزو مصر – الوداع يابونابرت

لو كان عنوان فيلم “يوسف شاهين” القادم “إلى الجحيم يا بونابرت” بدلاً من “الوداع يا بونابرت” لاطمأن القلب فالوداع كلمة لا تُقال عادة إلا لمن كان عزيزاً على النفس، فراقه يُعذب القلب ويُضني الفؤاد.

وبونابرت لم يُفلح في كسب حب العرب.. لا عرب مصر، ولا عرب الشام.
توقع الترحاب.. أن تتكرر مشاهد الأفراح في إيطاليا التي احتفلت به غازياً مُحرراً. أن يُقابل هو وجنده وعلماؤه من الشعب العربي في القطرين بالأحضان والورد والريحان. ولكن ما أن نزلت قواته على الساحل المصري إلا وخاب ظنه وتبخرت أحلامه.

قاومت الإسكندرية وعَبّرت عن مقاومتها تحت قيادة حاكمها السيد/ محمد كريم- وهو من الأشراف- كتب بونابرت في تقرير مرفوع منه إلى حكومة الإدارة، “أن كل بيت كان قلعة” و”أن هذه الأمة تختلف كل الاختلاف عن الفكرة التي أخذناها من رحلاتنا. إنها أمة هادئة، باسلة، مُعتزة بنفسها”.

وكتب “ميييه”- وهو جندي اشترك في الهجوم على المدينة- في مذكراته: “ظننا أن المدينة استسلمت وشدّ ما أدهشنا أن ينهال علينا رصاص البنادق ونحن نمر أمام أحد المساجد، فأمرنا قائد اتفق وجوده هناك أن نقتحم باب المسجد ولا نُبقي على أحد فيه. وهكذا هلك الرجال والنساء والأطفال بحد السناكي”.

قصة المدينتين

قاومت القاهرة. وعن مقاومتها يقول “الجبرتي”: صعد “عمر مكرم” إلى القلعة فأنزل منها بيرقاً كبيراً سماه العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله الآلاف من العامة بأسلحتهم التي هبّوا ليقاوموا بها الغزاة.
وكتب “مالو” أحد أعضاء اللجنة الخماسية التي أناط بها بونابرت مهمة الإستيلاء على المدينة “أنه لما هبط الليل دخل الضباط الخمسة القاهرة تحرسهم سريتان من المشاة على عزف الموسيقى. وكان سكانها 300.000 نسمة. ولم نلتق إنساناً واحداً في طريقنا.. ولم يدلنا على وجود الأهالي غير صرخات النساء المتصاعدة من جميع المنازل”.

بداية النهاية

قاومت عكا.. أمام أسوارها كان الاندحار الأول بداية نهاية الطاغية في سهول روسيا وتحت ثلوجها، تتقلص بها إمبراطورية الاستبداد إلى جزيرة صغيرة نائية في المحيط يتذكر منها الإمبراطور الأسير جرائمه، يجتر أحزانه وأشجانه إلى أن يجيئه الموت وحيداً.

تحت أسوار قلاعها الباسلة تهشمت ذراع الجنرال “كفاريللي” اثر إصابتها بقذيفة مدفع تركي.. ما لبث بعد بتره أن أصيب بحمّى شديدة وبدأ يعالج سكرات الموت.
وعندما سأل بونابرت سكرتيره “كيف حال كفاريللي” أجاب “لقد أشرف على نهايته”.

وفي وصف كفاريللي كتب “الجبرتي” “كفرلي المُسّمى بأبي خشبة.. وهو يمشي بها بدون معين ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح، ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة، وكان من جملة المُشار إليهم فيهم، والمدبر لأمور القلاع وصفوف الحروب، ولهم به عناية عظيمة واهتمام زايد..”

الأعرج والأعور

وحول هذا الجنرال العالم الأعرج تدور أحداث فيلم يوسف شاهين وجوداً وعدماً. وهنا- ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين- لا يسعني إلا أن أتذكر جنرالاً عالماً أعوراً لعب هو الآخر- وبعد مُضي زُهاء قرنين من عمر الزمن على حملة بونابرت- دوراً مُشابهاً كدور كافاريللي في بر مصر والشام.. هذا الجنرال العالم اسمه موسي ديان.

ويوسف شاهين في فيلمه يحاول أن يرد الاعتبار إلى هذا الجنرال الذي كان موته بعد بتر يده تحت أسوار عكا إيذاناً باندحاره وتراجعه مع فلول جيشه المهزوم من الشام إلى القاهرة، وبانحسار مد الاستعمار الفرنسي في المشرق العربي- ولو إلى حين.

أهلاً بالاستعمار

ومما يؤيد أن رد الاعتبار هو القصد من الفيلم الذي هو انتاج فرنسي مصري مشترك ذلك الحديث الخاص المنشور في مجلة “اليوم السابع” “الإثنين 10 أيلول- سبتمبر 1984”.
ففي هذا الحديث وجّه “خميس الخياطي” إلى “يوسف شاهين” السؤال الآتي: “عنوان فيلمك هو “الوداع يا بونابرت” ولكن عند قراءة السيناريو كان بالإمكان تسميته “أهلاً بكافاريللي” لماذا أهملت قليلاً شخصية بونابرت؟”

وعلى غير عادته جاءت إجابته واضحة صريحة إذ قال “هذا طبيعي.. فالاستقبال الحسن ليس موجهاً لكافاريللي فقط بل لكل إنسان لا يأتي إلى بلدي بنية احتلاله، اغتصاب فكره أو استعماره، بل يأتي ليُقيم معي علاقة شاملة، علاقة عطاء وأخذ.

أرى أن العلاقة المستحسنة بين بلدين هي القائمة على هذه النظرة حتى وإن مرا في مرحلة المُستَعمَر والمُستَعْمِر.. علاقة التَسّلط هذه قصيرة.. فالشيء الذي لا يأتي عليه الزمن هو التفاهم القائم على الحب. فعندما تنظر إلى الحروب القائمة حولنا والكراهية المهيمنة على العالم تعرف ما هي قيمة الحب الحقيقية”.

العطاء الكبير

إذن هذا الجنرال المُدبر لأمور القلاع وصنوف الحروب، والذي تعتني به الحملة عناية عظيمة وتهتم به اهتماماً زائداً. والذي بدأ بموته تحرر العرب شواماً ومصريين من رقة الاحتلال الفرنسي- هذا الجنرال في رأي يوسف شاهين قد جاء إلى الوطن العربي لا بنية الاحتلال، وإنما بنية إقامة علاقة شاملة.. علاقة عطاء وأخذ مع العرب.

وعطاء كافاريللي أو بمعنى أصح الحملة الفرنسية لنا هو العلم.. رفع المُعاناة عنّا نحن العرب الأجلاف بنشر المعرفة وفلسفة التنوير بين صفوفنا بإدخال المخابز.. المطابع.. طواحين الهواء.. وما إلى ذلك من عجائب الغرب وغرائبه.

ومقابل هذا العطاء لا يريد كافاريللي سوى الحب. فهو وفقاً لسيناريو الفيلم كما قرأته في نسخته الفرنسية التي لم يجر تسليمها إلى الرقابة المصرية إلا بعد الإنتهاء من تصوير المشاهد الخارجية.. رجل عاشق لمصر.. متغزل بها وبسواد عيون غلمانها.

وبينما هو يحتضر أمام قلعة عكا قريباً من نهاية الفيلم تنفك عقدة لسانه بكلمات أخيرة تقطر بحب مصر.. وحب الوسيم “علي” أحد أبنائها المتفرنسين.

وطبعاً الحقيقة التاريخية عكس هذا الهراء تماماً- فكافاريللي- وهو يُشرف على النهاية- طلب إلى “يوريين” سكرتير “بونابرت” أن يقرأ عليه مقدمة “فولتير” لكتاب “مونتسكييه” “روح القوانين” ثم أدركه النُعاس.

وعندما سمع بونابرت هذه الرواية على لسان سكرتيره عقب “عجباً! أراد أن يسمع هذه المقدمة هذا مضحك”!!

التاريخ المُفترى عليه

وافتراء سيناريو “يوسف شاهين” على التاريخ لا يقف عند حد. فهو في الوقت الذي يُركز الأضواء على “كافاريللي” باعتباره إنساناً وهاباً لخير المعرفة والعلم، كارهاً للحرب، صانعاً للسلام. لا يخشى أن يُفصح عن حبه حتى ولو كان من نوع الحب الشاذ المستحيل.
نجده لا يهتم بمشايخ الأزهر الذين تزعموا ثورة القاهرة الأولى ضد الاحتلال الفرنسي.

فإذا ما استفسر منه خميس الخياطي في محاوراته عن السر في هذا الإهمال لشأن هؤلاء القادة البواسل رغم أن كتب التاريخ تقول أن تلك الثورة نشبت تحت قيادة مشايخ الأزهر مثل الشرقاوي والسادات. إذا به ينسى أو يتناسى أنه اختار بطلاً لفيلمه واحداً من أهم جنرالات الحملة الفرنسية وأكثرهم خطورة في مجال المعارك..

وإذا به يقول: “إننا نبحث دائماً عن البطل. لماذا يجب أن يكون قواد ثورة كاملة وحملة عجيبة أسماء أشخاص مُعينين؟ لماذا لا تكون هذه القيادة جماعية؟

إذا كان لي أن أجيب عن هذا السؤال الآتي من الذي كان نابغة تلك الأيام؟ أقول: لا أحد بالتحديد، كل الناس غرقت نوعاً ما في الخداع.

ولكن الذين خرجوا من ديارهم بدون سبب وماتوا هؤلاء هم الأبطال.

لا يمكن أن أحكي قصة مشوار حضاري من خلال علاقة بين قائدين. بالنسبة لي المسألة أكبر بكثير من كل هذا.. الشعوب التي دفعت الثمن هي التي تهمني.

والجندي المجهول أهم من أكبر قائد.

هؤلاء القادة كانوا مجانين، لذا أدير وجهي عنهم وأهتم بأبطال الحياة اليومية الذين يتحملون شجاعة كل يوم.

فيلمي هو لقاء بين حضارتين لذا عنوانه هو الوداع يا بونابرت.

والتوديع هنا لشخص بونابرت.

إن تبادل العطاء بين المصريين والفرنسيين أهم من شخصيات بونابرت والمشايخ. حصيلة فيلمي هي من أعطى لمن؟.. وماذا أعطاه؟

لقد تغير كافاريللي في الفيلم وعرف أن ما يقدمه قد يخلده. قدّم معرفته لشاب في سن السابعة عشرة ولكنه مُتحضر ويحب معدات علم الفلك.

وعندما يعرف “علي” أن كافاريللي قدّم له شيئاً ثميناً يشكره بقوله “لقد كنت أستاذاً طيباً” فَيُجِيبُه كافاريللي “سيدي أنت متواضع” ذلك لأن كل واحد قدّم شيئاً للآخر.

الشيء الذي أريد أن أقوله هو ليس في إمكان أحد أن يعيش في معزل عن الآخر. وأول ما يلاحظ على هذه الإجابة الطويلة جداً أنها جاءت منطوية على تناقض صارخ. فهو فيها يعترف بأهمية دور الفرد “كافاريللي” وينكرها في آن واحد.

نوم العقل

وهذا التناقض يرجع إلى كون عقل يوسف شاهين يتعامل مع الممكنات الذهنية لا مع المعطيات الواقعية.

ففي تصوره، ومن منطلق مفهوم فوضوي، أن التاريخ إنما يتحرك بفعل الجماهير وحدها ودون أن يكون للفرد أدنى دور.

وعلى كُلٍ، ودون الدخول في تيه عقل صاحب “الوداع يا بونابرت”- وهو عقل غير قادر على تدشين قطيعة مع نموذج الاستعمار الغربي وبالذات النموذج الفرنسي المعاصر، فالقدر المتيقن من خلال الاطلاع على كل من حوار “اليوم السابع” وسيناريو الفيلم المطبوع بلغة الفرنسيس أن يوسف شاهين يحاول في فيلمه أن يلتمس للحملة الفرنسية وجهاً حضارياً.

فهو يعتبرها مشواراً حضارياً تم أثناءه تبادل العطاء بين المصريين والفرنسيين. ولست أدري كيف تحولت الحملة الفرنسية إلى مشوار حضاري؟ ما هي العصا السحرية التي أدت إلى هذا التحول المُعجز؟

من المعروف أن الحملة الفرنسية على المشرق العربي لا تختلف من ناحية أهدافها الاستعمارية عن حملات فرنسية مماثلة على الهند الصينية.. الجزائر.. تونس.. المغرب.. وموريتانيا..

فحكومة الإدارة في فرنسا التي أعدت الحملة لم تَقُم بارسال بونابرت وجنده إلى مصر بغرض تحرير المُعذبين على أرضها من نير المماليك أو العثمانيين.. ولا من أجل نشر العلم وفلسفة التنوير.

فأمر هؤلاء المُعذبين ما كان ليدور في خُلد هذه الحكومة الفاسدة المنهارة التي انتكست بالثورة الفرنسية.

الفراغ الحيوي

الذي كان يدور في خلدها ويثير اهتمامها هو أن تحقق بفضل احتلال بونابرت لمصر ومن بعدها المشرق العربي أهدافها التي أفصح عنها “تاليران” في إحدى رسائله السرية إلى سفير فرنسا المعتمد لدى الباب العالي.

“إن جميع تجارة البحر المتوسط يجب أن تنتقل إلى أيدي الفرنسيين”. تلك هي الرغبة الخفية لحكومة الإدارة ثم إنها ستكون النتيجة المحتومة لمركزنا في ذلك البحر. ومصر التي كانت فرنسا تتمنى على الدوام الاستيلاء عليها هي بالضرورة من نصيب الجمهورية. وهذا المشروع الاستعماري كان ثمرة تخمر استمر عشرات السنوات.

نادى به في القرن السابع عشر الفيلسوف الألماني “ليبنز” عرضه على الملك الشمس “لويس الرابع عشر” ودعاه إلى غزو مصر.

ولم تكن هذه الدعوة مُنبته الصلة بالمصالح الاقتصادية. فالدوائر ذات النفوذ داخل البرجوازية الفرنسية وبخاصة كبار التجار وأصحاب السفن في مارسيليا والموانئ الفرنسية الأخرى المطلة على البحر المتوسط كانت- ومنذ زمن بعيد- على صلة قوية بمصر وبساحل الشام.

وفي تقدير “شارل رو” صاحب المؤلف الضخم “أصول الحملة المصرية” “1910” أن حجم التجارة السنوية بين فرنسا ومصر بلغ في منتصف القرن الثامن عشر حوالي خمسة ملايين من الجنيهات.

رواد صهيونية

وليس محض صدفة أن تكون فرنسا أول من طرح بشكل جدي الفكرة الاستعمارية الداعية إلى توطين اليهود في فلسطين. فإبان عام غزو مصر “1798” أعدت حكومة الإدارة خطة سرية لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي.

وما أن نجح بونابرت في النزول بقواته على أرض مصر إلا وكان قد أصدر بياناً حثّ فيه يهود آسيا وأفريقيا على الالتفاف حول رايته من أجل إعادة مجدهم الغابر وإعادة بناء “مملكة القدس القديمة”.

ثم ما لبث أن وجه نداء آخر أثناء حصار عكا كان مما ورد فيه: “أن العناية الآلهية التي أرسلتني على رأس هذا الجيش إلى هنا قد جعلت العدل رائدي وكفلتني بالظفر. وجعلت من القدس مقري العام، وهي التي ستجعله بعد قليل في دمشق التي يضيرها جوارها لبلد داود”.

وتابع بونابرت نداءه مُخاطباً اليهود باعتبارهم ورثة فلسطين الشرعيين. طالباً منهم مؤازرته والعمل على “إعادة احتلال وطنهم” ودعم “أمتهم والمحافظة عليها بعيداً عن أطماع الطامعين لكي يصبحوا أسياد بلادهم الحقيقين”.

خراب مصر

وقد يكون من المفيد في هذا الخصوص الرجوع إلى ما كتبه المؤرخ الأمريكي “كريستوفر هيرولد” في ختام مؤلفه النفيس “بونابرت في مصر”.

هو يعتقد أن الحملة الفرنسية لم تحقق سوى خسارة الأرواح والخراب. ومصر في رأيه كان مآلها إلى التغيير حتى ولو لم يظهر بونابرت في سمائها.

فآيات الفن وروائعه في الكرنك وما حوله كان مصيرها إلى الكشف حتى لو لم يزحف “ديزيه” “أحد جنرالات الحملة” على الصعيد.

والرموز الهيروغليفية كانت ستفك حتى ولو لم يٌكتشف حجر رشيد إلا بعد الحملة بسنوات. وقناة السويس كانت ستحفر حتى ولو لم يأمر بونابرت بمسح البرزخ.

إذن فالحملة كانت حماقة كبرى ارتكبها بونابرت أو حكومة الإدارة أو الإثنان معاً. ولو نجحت لما كان لها من نفع سوى زيادة ثراء أغنياء فرنسا على حساب فقراء مصر.

ولكن صاحب السيناريو يكابر فيعتبرها مشواراً حضارياً، شراً جلب لمصر خيراً كثيراً.

خلط مقصود

ومن افتراءات صاحب السيناريو على التاريخ أنه يبدأه بأكذوبة كبرى. ففي المشاهد الأولى من السيناريو نرى الأبطال من المصريين- وهم ثلاثة أشقاء أبناء خباز السيد “محمد كريم” حاكم الإسكندرية- نراهم وقد قرروا الهجرة بالعائلة إلى القاهرة وذلك لأن حاكم الإسكندرية كاره للنضال، راغب في الاستسلام.

والواقع أن ما حدث تاريخياً كان عكس ذلك تماماً، محمد كريم قد ناضل ولم يستسلم. وفي النهاية أصدر بونابرت حكماً بإعدامه مع إعطائه فرصة افتداء نفسه بمبلغ 150 ألف شلن. ولكنه أبى أن يدفع الفدية ومن ثَمّ جرى إعدامه رمياً بالرصاص وحُمِل رأسه في الشوارع ليُعرض على الملأ.

والحديث عن الإفتراءات الأخرى على التاريخ لا ينتهي. ولعل أكثرها غرابة وإثارة للدهشة الإيحاء بأن كبار علماء ومشايخ الأزهر قد ذهبوا في التعاون مع بونابرت إلى أبعد الحدود. وبأن ثورة القاهرة في 21 من أكتوبر سنة 1798 قد أخذتهم كما الفرنسيين على غرة وذلك لأنها كانت بقيادة شباب الأزهر والوطنيين من الأقباط “فلتاؤوس” واليهود “إسحاق” صاحب الفندق.

والحق يُقال أن هذه الإفتراءات تُكذبها وقائع التاريخ. فمحاولات بونابرت التقرب من العلماء والمشايخ باءت كلها بالفشل.

فالسيد عمر مكرم انسحب مع المماليك والعثمانيين إلى يافا بفلسطين حيث ظل يرقب الموقف رافضاً عضوية الديوان المعاون لجيش الاحتلال، مفضلاً النفي على مهادنة الغزاة غير عابئ بنهب الفرنسيس داره واستيلائهم على أملاكه وفصله من نقابة الأشراف حيث أحلوا محله خليل البكري أحد الشيوخ المتعاونين.

والفرمان الذي أذاعه السلطان خليفة المسلمين على الشعب ضد الفرنسيين قرأه كل إمام ومؤذن في جميع مساجد مصر. والاحتفالات بالمولد النبوي أقيمت بأمر بونابرت بعد أن قرر الزعماء الدينيون العدول عن الاحتفالات العامة في عام الغزو بسبب تعطيل الأمور وتوقف الأحوال.

شهداء.. لماذا؟

وخلافاً لما توقعه بونابرت شبّت ثورة القاهرة بقيادة الفقهاء المتقين. وقد خص التاريخ بالذكر منهم ستة شيوخ على رأسهم العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد الشرقاوي.

اعتقلوا في بيت الشيخ البكري ومنه نقلوا إلى القلعة ليلة الثاني من نوفمبر سنة 1798. وفي صباح اليوم التالي- وبعد أن أدانهم مجلس عسكري في محاكمة صورية- قُطعت رقابهم وماتوا شهداء.

وأخيراً وليس آخراً فالأكيد أن الاستعمار الفرنسي قد عمل كل ما في وسعه لقمع الثقافة الوطنية العربية الإسلامية وتقزيم نموها، محاولاً فرض ثقافته وبخاصة على شعوب المغرب العربي. وكان رد الفعل هو الاتجاه نحو إحياء الثقافة الوطنية تثبيتاً للهوية وحفاظاً على مقومات الشخصية.

والأكيد.. الأكيد أن محاولته هذه قد باءت بالفشل، فلم يستطع تدمير الثقافة الوطنية العربية الإسلامية، ولا طمس معالمها.. لماذا؟

لأنها كانت ولا تزال ثقافة حية لغةً وأدباً وديناً وفكراً، متغلغلة في العقل والشعور.. في الفكر والسلوك.

وفوق ذلك كانت ولا تزال ثقافة الماضي الممجد الحاضر دوماً في الذاكرة مع كل مشاعر الاعتزاز والشجن والحنين المتخذ ملجأ وحمى ضد تهديد الآخر وتسلل الغريب.

وسيناريو فيلم “الوداع يا بونابرت” بحكم جنوحه إلى الإنبهار بالثقافة الفرنسية وتعظيمه لها في مرحلة غزوها الوطن العربي إنما يُضعف من مقاومة الثقافة الوطنية لمظاهر الاستلاب إزاء الغرب.. وهذا أمر ولا شك كريه.

ظهور واختفاء الفلاح من السينما المصرية

السينما المصرية لا تنفرد بغياب الريف عن الشاشة، ولا بقلة أو ندرة الأفلام التي تعتبر مرآة للحياة فيه بكل ما تزخر به من مشاكل وصراعات.

فهذا العيب منتشر الوباء، نلمسه في سينما هوليوود حيث لا مكان للريف الأمريكي بأسياده وأجرائه بيضاً كانوا أم سود إلا في قلة قليلة من الأفلام مثل “أعناب الغضب” و”طريق التبغ” و”فدان الرب” ورائعة “تيرينس ماليك” الثانية “أيام السماء” “1978” عن عمال التراحيل في ولاية تكساس، والتي يكفي أن نذكرها لنعرف أن الريف من بعدها قد اختفى أمام زحف أفلام الفضاء وازدحام الشاشة بحكايات النجوم، وحروب فيما بينها لا تنتهي، وأن صاحبها قد اختفى هو الآخر من عالم السينما، فلم يكتب له- وعلى مدى خمسة أعوام أو يزيد- أن يخرج فيلما ثالثاً..

ونلمسه كذلك في سينما شبه القارة الهندية حيث الأفلام في معظمها مسخ وتشويه للمجتمع، أو كما وصفها الأديب الهندي الأشهر “ملك راج أناند” في كلمة واحدة “نفاية”!!

وهنا أتذكر حماس هذا الأديب سنة 1947 لفيلم “أولاد الأرض”، وكيف طار به فرحاً، فاعتبره في مقال له نشرته مجلة المسرح الجديد الإنجليزية أول فيلم هندي عظيم.. لماذا؟ لأنه عرض ببساطة لحياة بعض الأسر في قرية صغيرة بولاية البنغال أيام الرخاء النسبي قبيل إعصار المجاعة، كيف انهزمت تحت تأثيره الأحلام.. كيف بدأت هذه الأسر مسيرة طويلة من العذاب إلى خارج منطقة الدمار.. إلى كلكتا..

إذن أن تكون غالبية أفلامنا نفاية أوغير منسجمة مع الواقع بمنأى عن الريف وما يعتمل فيه من تحولات، فليس في هذا شذوذ، وليس فيه خروج عن مسار السينما العالمية منذ نشأتها الأولى.

الشيء المُحير بالنسبة للسينما عندنا أنها في البدايات اتجهت إلى الريف.

فأول فيلم روائي طويل مصري يُعرض في القاهرة “ليلى”- 6 نوفمبر سنة 1927- أحداث قصته تدور في قرية حول فتاة جميلة- يتيمة “عزيزة أمير” يكفلها العمدة.
يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم أحمد الذي يعمل دليلاً للسائحين..

تشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بالشاب الشهم.. تغريه بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل. تُطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف أنها حامل من حبيبها الذي خانها. وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة، يتوقف “رءوف بك” بعربته ويصطحبها إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

قد يكون من الصعوبة بمكان تصور قصة بمثل هذا القدر من التفاهة والبعد عن الواقع والحط من شأن جماهير الفلاحين ومع ذلك فقد تعرضت “عزيزة أمير” لحملة من الانتقادات.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من نوفمبر سنة 1927 في مجلة “الصباح” خير مثال يُساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات وخطورتها على الفن السنيمائي. ففيه يأخذ كاتبه على “عزيزة أمير” جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة، ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة- وهو في أشد حالات الاستياء- عن سبب إصرارها على إظهار مصر وكأنها ما تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد فيه الكثير مما نفخر به”.

وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش الفلاحين.

وكرد فعل لهذا النقد أعلنت “عزيزة أمير” عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة لفيلمها التالي تجري أحداثها في المجتمع الراقي.

مخاطرة محسوبة

بعد هذا النقد فلا عجب إذا ما انصرفت السينما عن تناول أي موضوع له صلة بالريف من قريب أو بعيد.

ومع ذلك فقد كان لـ”زينب” للدكتور محمد حسين هيكل- وهي قصة من صميم الرومانسية التي يطغى فيها الخيال على المنطق- تأثير السحر على المخرج “محمد كريم” الذي كان بدوره غارقاً إلى أذنيه في صميم الرومانسية.

وكان أن انتهى به الأمر إلى المخاطرة بإخراج فيلمين مأخوذين عنها الأول صامت “1930” والثاني متكلم “1952”.
وفي الحالتين كانت المخاطرة محسوبة.. كيف؟ لأن زينب في القصة والفيلمين ولئن كانت فتاة ريفية تحب إلا أنها تحب أنقى الحب. زوجوها بمن لا تحب ولكنها لا تخون عهد الحب، ولا تخون عهد الزواج. تعيش حياتها ترضي الطرفين في حدود القيم وأخلاق القرية!!

ولأن المخرج حرص- وهو يصور زينب الصامت- على إظهار كل الفلاحين يلبسون “البلغ” في أقدامهم، وعدم إظهارهم “حُفاة”.

ولأنه وعد “جبريل نحاس”- وهو يقنعه بإنتاج زينب المتكلم- بأنه سيعرض الريف على الشاشة كما يجب أن يكون، لا كما هو عليه، وكان عند وعده.

وتأييداً لذلك اقتطف من مذكرات “محمد كريم” الفقرات التالية:

“لم يعجبني التراب فوق القمم الخضراء لحقول القصب. طلبت أن يغسل الحقل كله. وظل موضوع غسل حقول القصب بهذا المطر الصناعي مما يتندر به الذين شاهدوا هذه العملية ويحمدون الله على أنني لم أصور وقتها الهرم وإلا طلبت غسله بصابون “أومو” ليكون أكثر بياضاً” “ص172 من المذكرات، جزء ثان”.

“شاهد الفيلم “هيكل باشا” في عرض خاص وعلق قائلاً: أهنئك يا أستاذ كريم.. أنا سعيد بـ”زينب” وبك.. إننا نريد أن يكون عندنا في مصر ريف مثل هذا الريف الذي خلقته لنا في الفيلم”.

الريف الحق

الأكيد إذن أن زينب الصامت والمتكلم لا صلة بينهما وبين الحياة الواقعية في الريف، وآية ذلك أنه مزوق باعتراف المخرج.

والشيء الأكيد أن أياً من فيلمي “زينب” لو عُرض حالياً على المتفرج لما خرج منه بشيء مفيد عن الريف.

ذلك أن الريف الحقيقي في مصر كان أغلب سكانه من صغار الملاك الزراعيين والفلاحين المُعدمين، وكان لا فارق كبير بينهم من حيث ظروف المعيشة.

فكلاهما كان يعيش عيشة بائسة جداً تقترب من حد الكفاف إن لم تكن أقل.

وكانت هناك عائلات بأكملها تعيش على أجر لا يتعدى بضعة قروش لا تكاد تكفي وجبة واحدة من خبز الذرة، وقطعة من الجبن وبعض الخضراوات.

فالرقابة بمحظوراتها التي وصلت بموجب التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية في فبراير سنة 1947 إلى أربعة وستين محظوراً، كانت تعتبر من الأمور غير المقبولة أن يُساء إلى سمعة مصر باظهار “بيوت الفلاحين الفقراء ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة”.

ومنتجو الأفلام وموزعوها- وهم في غالبيتهم من الأجانب واليهود والمتمصرين- لم يكن من مصلحتهم أن تشد الكاميرا الرحال إلى الريف.. أن تكشف جريمة الاستعمار وحلفائه في حق أصحاب الجلاليب الزرقاء.. وفي مجتمع كهذا، يضع الريف في قائمة المحرمات والممنوعات، يتقلص الوطن الذي تتعامل معه السينما.. يضيق.. لا يبقى من غاياته سوى شجرة.. وتصبح أفلامه في حقيقتها فيلماً واحداً متكرراً لا حياة فيه.

الموجة الجديدة

كل هذا كان قبل 23 يوليو سنة 1952. أما بعدها، وبنهاية عصر أسرة محمد علي بدأت ارهاصات سينما تحاول أن تنسجم مع التحولات السياسية العنيفة التي صاحبت الثورة.

وكان أخطر ما فعلته تلك السينما هو أنها سافرت إلى الريف في محاولة منها لكي تكون مرآة للحياة فيه كما هي، لا كما يجب أن تكون.

وبسفرها هذا ربحت مساحات جديدة من أرض الواقع.

فليست أفلام “دعاء الكروان” لهنري بركات “1959” و”صراع الأبطال” لتوفيق صالح “1962” و”الحرام” لهنري بركات و”الجبل” لخليل شوقي “1965” و”جفت الأمطار” لسيد عيسى “1967” و”الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف و”البوسطجي” لحسين كمال و”يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق صالح “1968” و”المومياء” أو “ليلة حساب السنين” لشادي عبد السلام “1969” و”الأرض” ليوسف شاهين “1970” و”حادثة شرف” لشفيق شامية “1971”- ليست سوى بعضاً من جزر الواقعية التي أهدتها حرية التعبير للفيلم المصري.
وأول ملاحظة تسجل على هذه الأفلام هي أنها في معظمها مستوحاة من روايات لبعض من أهم أدباء مصر: طه حسين، يوسف إدريس، فتحي غانم، رشدي صالح، يحيى حقي، توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي.
والملاحظة الثانية التي يتعين تسجيلها في سياق الحديث عن مصادر هذه الأفلام هي أن أكثرها إسهاماً باتجاه العمق في الريف، هما فيلما “صراع الأبطال” و”ليلة حساب السنين” وكلاهما عن سيناريو مبتكر غير مأخوذ عن عمل أدبي سابق.

والملاحظة الثالثة التي يلزم الوقوف عندها هي أن ستة من هذه الأفلام: الأرض، ليلة حساب السنين، الحرام، دعاء الكروان، البوسطجي، صراع الأبطال قد فازت في الاستفتاء الذي أقامته مجلة الفنون عن أحسن عشرة أفلام مصرية انتجت خلال فترة الثلاثين سنة التالية للثورة. ودخلت في عداد الأفلام العشرة الأولى.
الجنس والجوزة

والملاحظة الرابعة والأخيرة التي لابد من وقفة عندها هي أن موجة هذه الأفلام قد بدأت في الانحسار أمام موجة أفلام الجنس والجوزة بعد انكسار الهزيمة، فليس محض صدفة أن ينتج فيلم “أبي فوق الشجرة” خلال سنة 1968، وأن يُعرض فيلم “ثرثرة فوق النيل” خلال سنة 1971، وأن يكون “حادثة شرف” آخر أفلام موجة الريف.

فبعده، وطوال عقد السبعينات، اختفى الفلاح المصري تماماً من السينما الروائية المصرية.. أصبح وكأنه لا وجود له.

وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبته الرقابة في انتكاسة السبعينات هذه.
فمن تقريرها المؤرخ 19 يولية سنة 1971 عن “حصان الطين” للمخرجة “عطيات الأبنودي”- وهو فيلم تسجيلي قصير جداً- الذي انتهى برفض السماح له بالتصدير للخارج اقتطف الفقرات الآتية:

“الفيلم يحتوي على مشاهد تُسيء للشعب المصري وهي:

  1. ظهور الفلاح المصري بمظهر البؤس والشقاء فهو يرتدي الملابس الممزقة ويأكل القليل.
  2. اشتراكه مع حيوانه في الشرب والاستحمام من ماء النيل في وقت واحد.

والآن نقف وقفة قصيرة عند فيلمي “صراع الأبطال” و”ليلة حساب السنين” لما فيهما من دلالات.

الأطعمة الفاسدة

الفيلم الأول يعرض لصراع طبيب شاب في الريف، كان يحلم بمعالجة الفلاحين من أمراضهم. ترك حياة المدينة، ذهب إلى القرية. أدرك أن المرض يهون في حياة الفلاحين أمام مشاكلهم الاجتماعية الشديدة التعقيد.

وجد عندما ظهر وباء الكوليرا أن التطعيم ضده مرفوض من الجميع. اكتشف أن رسالته لابد أن تبدأ بتشخيص الواقع الاجتماعي والبحث عن علاج له، أي أن يكون بادئ ذي بدء سياسياً.

وضحت له الرؤية بعد أن تبين له أن الفلاحين يعملون في أرض مقابل الطعام. وضح له أنه يقاتل فوق أرض وعرة، يخوض حرباً اقتصادية.. المرض أهم جولاتها.

اقتنع أن المعركة في مجتمع يغلب عليه السحر والتنجيم والتخلف.. معركة طويلة ومريرة.

فإذا ما انتقلنا إلى “ليلة حساب السنين” لوجدنا أنفسنا أمام ريف يحكي مأساته من زاوية أخرى.
فقصة الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، حيث مات “سليم” كبير العائلة و”وانيس” ثاني أولاده يُبكيه، وجثمانه يوارى التراب. ويوم الدفن مساءً يرى عمه يمزق مومياء يسلبها ما حولها من حُلي، ويتساءل أهكذا عاش أبوه والأجداد؟

يعجب أفراد القبيلة لنفوره.. أوليست هذه الجثث غريبة؟ أليست بلا آباء، بلا أولاد، وبلا أسماء؟ وأليس أفندية القاهرة يطمعون فيها دون وجه حق؟ وأليسوا هم الأحياء أولى بالذهب المُكدس في القبور؟

ويحتار “وانيس” لكل هذه الأسرار الجديدة عليه، حتى يقابل بين جدران المعابد فلاحاً شبيهاً له، وكأنه توأمه، من سكان الوادي يخبره أن تماثيل الموتى ليست أحجاراً صماء، وأن الرسوم التي عليها إنما هي كتابات ذات معنى كبير، وأن “الأفندية” إنما يبحثون عن قوم نعيش على أطلالهم يسمونهم الجدود ويقرأون على الأحجار نقوشهم.

هذه الأحجار التي يتعلق بها قلب “وانيس” قد لازمته منذ نعومة أظافره، فكيف يترك جثث أصحابها نهباً للصوص؟

إنه الآن يشقى بعذاب التمزق.. يحاول ما وسعته الحيلة أن ينعتق من رق الشك والحيرة.

وفي النهاية لا يجد سبيلاً للخلاص إلا بسماع صوت الهاتف قادماً من ماضٍ بعيد.. يأمره بالبوح بالسر الكبير إلى أفندية القاهرة.

ولو أوغلنا في الفيلم بحثاً عن المحور الذي يتحرك عليه لتبين لنا أنه أنما كان يتنبأ ببداية هجمة استعمارية شرسة.
ومن العلامات الدالة على ذلك:

أولاً: وجود الخبراء الأجانب “ماسبيرو” وغلبة أفكارهم غير الإنسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين.

ثانياً: طبقة أفندية القاهرة (الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك أوروبا متعاونة معها ضد الفلاحين الذين تستمد منهم الحياة.

ثالثاً: الفلاحون يمارسون حياتهم اليومية، مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة، والإهدار للتراث.
والواقع أن هذه القوى المتعددة في أعماق الريف التي عرض لها الفيلم ما تزال موجودة تتصارع.

والشيء الأكيد أنها تعرضت خلال السبعينات لتحولات اقتصادية وسياسية جذرية، صاحبتها تحولات مماثلة في عقل الفلاح المصري وتطلعاته.

فمثلاً في الخمسينات والستينات كان التعليم بالنسبة له هو أسرع السبل نحو الحراك الاجتماعي إلى أعلى.

أما الآن فالهجرة إلى بلد عربي غني بالنفط- وليس التعليم- هي السبيل إلى الصعود.

والغريب أن تقف السينما بمعزل عن هذه التحولات الخطيرة في الريف متفرجة.. تشاهد ولا تشارك.

شئ من السياسة في السينما العربية

موسوعة الفيلم لصاحبها أفراهيم كاتز تسع كل شيء عن فن السينما، أو من المفروض أن تكون كذلك. ومع هذا فإذا ما رجعت إليها بحثاً عن السينما العربية تحت عبارة الفيلم العربي، لكان رجوعك عبثاً لأنك ستجد صاحب الموسوعة وقد اكتفى تحتها بكتابة كلمتين فقط لا غير “انظر مصر”، فإذا ما قلبت صفحات الموسوعة سعياً نحو مصر، لاكتشفت أن نصيب سينما القاهرة من صفحات الموسوعة الضخمة التي يصل عددها إلى 1266 عموداً هو عمود واحد لا يزيد، وأن الوطن العربي بجميع أقطاره الأخرى ليس للسينما فيه نصيب في هذا العمود اليتيم.
حقاً أن بعض أجزاء الوطن العربي كالسودان والصومال وأرض الجزيرة مجدبة من الإبداع السينمائي تماماً أو تكاد. غير أنه إجداب من النوع الذي لا يشكل أزمة للفن السابع داخل الوطن الكبير.

فليس مطلوباً أن يكون لكل جزء من الوطن الذي تمتد خريطته من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي سينما خاصة به، ذلك أن السينما هي أكثر الكائنات قدرة على السفر والرحيل، وليس بوسع السينما العربية أن تنعزل بين جدران إقليمية ضيقة الأفق.

المطلوب وسط الحضارة الطموح التي نعيش بين أحضانها أن تصب جميع الروافد السينمائية العربية في تيار سينمائي واحد جارف، تيار يعكس أزمات المواطن العربي الخاصة، أزماته الواقعية، ما اتصل منها بصراعه ضد الاستعمار قديمه وجديده، وضد الاستيطان الصهيوني لأرض فلسطين، وما يتصل بكفاحه اليومي من أجل الرغيف والمسكن والعلم.

وعلى كُلٍ فالثابت، ورغم العقبات، أن ثمة سينما تتفجر أصالة وحيوية بعض أفلامها آت من مغرب الوطن العربي، وبخاصة الجزائر، عقب انتزاعها الاستقلال من براثن الاستعمار الفرنسي، والبعض الآخر آت من مشرقه لاسيما الجزء منه المطل على البحر الأبيض المتوسط: وهي مع سينما القاهرة تكون تيار السينما العربية بجميع أبعاده وتناقضاته.

وغني عن البيان أن غلبة تيار سينما القاهرة، أو كما يحلو للبعض أن يسميها هوليوود العرب ليس مدعاة لإغفال ذكر التيارات أو الروافد العربية الأخرى، ومن ثم الانتهاء إلى حصر السينما العربية في التيار الأقوى وبالتنكر لأي تيار أخر.

ففضلاً عن أن هذه النظرة تخالف ما يحدث في حلبة السينما العربية، فإنها لا ترى من واقع تلك السينما إلا ظاهره دون الغوص في أعماقه بحثاً عن التأثير الجدلي المتبادل بين التيارات المتصارعة داخله. فواقع السينما العربية يكشف عنه أنه في الوقت الذي لم تستطع السينما في هوليوود العرب الفوز لأي فيلم من إنتاجها على مدى خمسة وخمسين عاماً من عمر الزمن بالجائزة الكبرى في أي مهرجان سينمائي عالمي، استطاعت سينما الجزائر أن تحصل للسينما العربية على جائزة مهرجان فينيسيا الكبرى الذي توَّج بها فيلم معركة الجزائر، وأن تفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان كان التي فاز بها فيلم سنوات الجمر لصاحبه لخضر حمينه متوجا.
وفي الوقت الذي لم تستطع هوليوود تلك أن تنتج أي فيلم له قيمة فنية أو سياسية عن الصراع العربي- الإسرائيلي وما تفرع عنه من محنة للشعب العربي على أرض فلسطين استطاع مخرجون ثلاثة من سوريا ولبنان وفلسطين (توفيق صالح وبرهان علوية وميشال خليفة) أن يجسدوا هذا الصراع بأبعاده السياسية والإنسانية في ثلاثة من روائع الفن السابع المخدوعون وكفر قاسم وصور من مذكرات خصبة.
ومهما يكن من أمرفللاقتراب من فهم الواقع المعاصر للسينما العربية وبالذات ما تعانيه من حالة فصام حاد، لابد من العودة إلى الماضي وإلقاء نظرة على مسار السينما الأقدم والأقوى في القاهرة.

كما كان لمصر فضل قيادة الوطن العربي إلى عصر البرجوازية إبان القرن الماضي، فقد كان لها فضل الريادة في حقل السينما. ولا غرابة في هذا فوضعها الجغرافي المركزي الذي يجعلها بمثابة القلب من الوطن العربي، فضلاً عن التقدم النسبي لاقتصادها، ومتعة مدنها الكبرى المشعة ثقافة وبهجة، هذا بالإضافة إلى تعرضها لتأثير الأفكار الحرة السائدة في أوروبا؛ كل ذلك أهلها لأن تكون قاعدة وطليعة للوطن العربي، تتقدم على باقي أجزائه بأكثر من عقد، وبالتالي جعل نتاجها الأدبي والثقافي أكثر تفوقاً على إنجازات سائر العرب.

يؤرخ للانتاج السينمائي الروائي الطويل في مصر بالخامس من آيار- مايو سنة 1927، وهو الذي عُرض فيه فيلم قبلة الصحراء بمدينة الإسكندرية. قبل ذلك- وخلال 1926- شاء القدر أن يصل إلى تلك المدينة شابان فلسطينيان- إبراهيم وبدر لاما- كانا في طريقهما من شيلي إلى فلسطين، ومعهما معدات للتصوير السينمائي بغرض إنشاء صناعة للسينما على أرض الآباء.
غير أنهما- وبعد أن لمسا النشاط الفني الذي كانت تزخر به الإسكندرية وقتئذ- استقر الرأي بهما على البقاء فيها حيث ساهما في تأسيس شركة مينا فيلم، وكانت باكورة إنتاجهما قبلة في الصحراء الذي يعتبر بحق أول فيلم عربي روائي تجاري طويل.

وبعد ذلك بخمسة شهور، وبالتحديد في 16 من تشرين الثاني- نوفمبر سنة 1927 عُرض في القاهرة- ولأول مرة- فيلم ليلى إخراج استيفان روستي وإنتاج وتمثيل عزيزة أمير، وهو في رأي نفر من مؤرخي السينما الفيلم الذي بدأ به إنتاج الأفلام الروائية الطويلة في مصر. وذلك باعتبار أن منتجته ونجمته تحمل الجنسية المصرية.

وسواء أكان أي من هذين الفلمين هو الأول أم الثاني، فمن المتيقن أن الإنتاج السينمائي بدأ في مصر والوطن العربي، ما عدا المملكة السعودية وإمارة اليمن، ترفرف على جميع ربوعه من المحيط إلى الخليج أعلام الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والإيطالي والأسباني، والحكم في مصر يتقاسمه الإنكليز والملك وأحزاب الأقلية وشراذم من المغامرين والأفاقين الأجانب.

في هذا الجو الذي يشيع فيه الذل والخوف بدت السينما في مصر أو بمعنى أصح في الوطن العربي كما لو كانت لا تعزف إلا لحناً واحداً لا يتغير. ونظرة سريعة على موضوع فيلمي قبلة في الصحراء وليلى وكلاهما صامت، تكفي لبيان طبيعة هذا اللحن الواحد.

قصة الفيلم الأول تكشف عن مدى تأثر الأخوين لاما بفيلم ابن الشيخ الذي مثله رودلف فالنتينو، وما لاقاه من نجاح. وهي تدور حول شاب “شفيق” من الأعراب المقيمين في الصحراء، رأته شابة أمريكية “هيلدا” فهامت به من أول نظرة. وكان شفيق مغرماً بسباق الخيل والمراهنة، دائم الشجار مع عمه لهذا السبب، وحدث ذات يوم أن عثر شفيق على عمه قتيلاً. وحامت حوله الشبهات الأمر الذي اضطره إلى الفرار والإختفاء في الصحراء حيث انضم إلى عصابة من قطاع الطرق.

وتشاء الصدف أن تهاجم العصابة قافلة تضم هيلدا ويأمر شفيق رفاقه بإخلاء سبيل القافلة بمجرد تعرفه عليها. وبفضل خنجر مشدود إلى وسطه تتعرف هي الأخرى عليه، فتعود إليه لتعبر عن هيامها به، ويتعانقان، إلا أنه سرعان ما يتذكر أنه طريد العدالة، ولا يستطيع العودة معها إلى المدينة.

وبعد أن تستأنف رحلتها مع القافلة، يُزّف إليه نبأ الحكم ببرائته، فيلاحق القافلة حيث يكتشف أن ثلاثة لصوص قد اختطفوا هيلدا فيطاردهم حيث ينتصر عليهم ويسترد محبوبته. وهذا الهراء نراه قد انتقل في جملته إلى فيلم ليلى الذي تدور قصته حول فتاة جميلة يتيمة يكفلها عمدة قرية صغيرة على مشارف الصحراء.

يزور القرية الثري رءوف بك، فيرى البدوية الحسناء ويراودها عن نفسها، تعرض عنه لأنها وهبت قلبها لجارها الشاب البدوي الشهم أحمد الذي يعمل دليلاً للسائحين. وتشاء الصدف أن تزور القرية سائحة متحررة تهيم بأحمد وتغريه بالرحيل معها بعيداً إلى البرازيل!! تطرد ليلى من القرية بعد اكتشاف أنها حامل من أحمد. وفي الطريق، وبينما هي وحيدة منبوذة يقف لها رءوف بك بعربته ويصطحبها إلى قصره حيث يعقد قرانه عليها.

ولعل المقال الذي نشر في عدد 28 من تشرين الثاني- نوفمبر 1927 في مجلة الصباح خير مثال يساق للتدليل على مستوى هذه الانتقادات: ففيه يأخذ كاتبه على عزيزة أمير جنوحها إلى احتقار الشرق والسخرية من تقاليده بأسلوب امرأة متفرنجة ويعترض على اتخاذ القرية مكاناً لأحداث الفيلم، مستفسراً من المنتجة وهو في أشد حالات الاستياء- عن سبب إصرارها على إظهار مصر وكأنها ما تزال تعيش في القرون الوسطى، هذا في الوقت الذي يوجد فيه الكثير مما نفخر به. وفي ختام مقاله صاح متسائلاً كيف سمح السينمائيون صانعو الفيلم لأنفسهم- وهم من علية القوم في القاهرة- أن يجري تصويرهم داخل عشش الفلاحين. وكرد فعل لهذا النقد أعلنت عزيزة أمير عن توبتها واتجاه نيتها إلى اختيار قصة فيلمها القادم تجري أحداثها وسط الطبقات العليا في مصر.

ولم تكن الفترة الصامتة من حياة السينما العربية طويلة، فبعد فيلم قبلة الصحراء بخمس سنوات أو يزيد وبالتحديد يوم 14 آذار- مارس 1932 أي في عهد إسماعيل صدقي باشا- وهو من أشد العهود سواداً في تاريخ مصر الحديث- عرض أول فيلم عربي ناطق أولاد الذوات للمخرج محمد كريم.

وفي هذا اليوم التاريخي اكتشف جمهور الحفلة أنه كان ضحية غش كبير؛ فقد تبين أثناء العرض أن أولاد الذوات نصفان الأول ناطق عربي اللسان، والثاني أخرس لا ينطق حرفاً واحداً. وإن هذا الاستهتار ليس له من سبب سوى رغبة منتجي الفيلم في الحد من تكاليف جعله ناطقاً بالكامل.. وهي تكاليف باهظة لا قبل لهم بتحمل أعبائها.

وهكذا ولدت السينما المتكلمة مريضة بداء الاستسهال والتسطيح والجري وراء الكسب السريع، وهو داء يرجع إلى الخطيئة الأولى وهي ميلاد السينما العربية أصلاً في مصر. والوطن العربي يئن تحت كعاب جنود الاحتلال الأجنبي.

ولعل هذا الداء هو الذي أدى إلى الانحدار بأفلام تلك السينما إلى درجة أن جيدها أصبح جد ضئيل بالمقارنة مع رديئها الذي هو كم كثير، بل وكثير جداً إلى حد الشذوذ.

بعد ذلك كله فلا عجب إذا ما انصرفت السينما، لا في مصر وحدها، بل في أقطار عربية أخرى كسوريا ولبنان، عن تناول أي موضوع جاد يؤدي إلى صحوة وطنية أو نهضة فكرية. بل العجب أن يكون الأمر على خلاف ذلك في ظل احتلال أجنبي ليس له من هدف سوى حجب المعرفة عن الأمة العربية بمزيد من التشدد في الرقابة على حرية الفكر وبالذات حرية التعبير بلغة السينما.

ومن هنا فليس محض صدفة أن أحداً لم يحاول في جميع الأفلام المنتجة في مصر، بل وفي الوطن العربي بأثره، وحتى سنة 1952 حين بدأ أحمد بدرخان تصوير فيلمه عن حياة الزعيم مصطفى كامل؛ لم يحاول أحد أن يعرض كفاح الشعوب العربية ضد المحتل الأجنبي وضد الظلم الاجتماعي.

وفي مواجهة تصاعد الحركة الوطنية المعادية للاستعمار عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار الفاشية- وقبل الحرب العربية- الإسرائيلية بقليل- لجأت الدوائر الحاكمة في الوطن العربي إلى سلاح الحد من حرية التعبير، وبخاصة في حقل السينما.

وإذا كانت مصر مرآة الوطن العربي كما يقول بحق فؤاد عجمي في كتابه المأزق العربي، فإن التعليمات التي أصدرتها إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية في شباط- فبراير سنة 1947 بغرض تقنين ما جرى عليه العمل رقابياً في مصر فيما يتعلق بالسينما خلال 26 عاماً، هذه التعليمات المتشددة كان لابد من أن يكون لها انعكاساتها على السينما في الأجزاء الأخرى من الوطن العربي.

ولذلك أرى من اللازم المفيد أن نقف عندها وقفة يسيرة. تنقسم هذه التعليمات إلى شقين أولهما خاص بالناحية الاجتماعية والأخلاقية ويشتمل على ثلاثة وثلاثين محظوراً. والثاني خاص بناحية الأمن والنظام العام ويشتمل على واحد وثلاثين محظوراً.

والمحظورات الخاصة بالناحية الاجتماعية والأخلاقية تبدأ بالدين وتنتهي بالجنس والعنف.. فليس مباحاً أن تمثل قوة الله بأشياء حسية أو أن تظهر صور الأنبياء أو أن يتلى القرآن الكريم على قارعة الطريق أو في مكان غير لائق أو بواسطة مُقرئ مرتد حذاءه أو أن يظهر النعش أو النساء وهن يسرن في الجنازات وراء الموتى وليس مقبولاً أن يُساء إلى سمعة مصر والبلاد الشقيقة باظهار منظر الحارات الظاهرة القذارة والعربات الكارو وعربات اليد والباعة المتجولين ومبيض النحاس وبيوت الفلاحين الفقراء ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة والتسول والمتسولين.. وليس جائزاً أن تصور الحياة الاجتماعية المصرية على وجه فيه مساس بسمعة الأسرة المصرية أو التعريض بالألقاب أو الرتب أو النياشين أو الحط من قدر هيئات لها أهمية خاصة في نظام الحياة العامة كالوزراء أو البشاوات ومن في حكمهم ورجال الدين ورجال القانون والأطباء.. وليس لائقاً أن تظهر الأجسام العارية سواء بالتصوير أو بالظل أو أجزاء الجسم التي يقضي الحياء بسترها أو أن تذكر الموضوعات أو الحوادث الخاصة بالأمراض التناسلية والولادة وغيرها من الشئون الطبية التي لها صفة السرية أو أن تصور طرق الانتحار وحوادث التعذيب أو الشنق أو الجلد ومناظر العنف والقسوة البالغة.

أما المحظورات الخاصة بناحية الأمن والنظام العام فلها وجوه كثيرة منها منع التعرض لموضوعات فيها مساس بشعور المصريين أو النزلاء الأجانب أو لموضوعات ذات صبغة شيوعية أو تحوي دعاية ضد الملكية أو نظام الحكم القائم أو العدالة الاجتماعية؛ ومنها عدم إجازة اظهار مناظر الإخلال بالنظام الاجتماعي بالثورات أو المظاهرات أو الإضراب أو التعريض بالمبادئ التي يقوم عليها دستور البلاد أو بنظام الحياة النيابية في مصر أو نواب الأمة وشيوخها أو إظهار رجال الدولة بصفة عامة بشكل غير لائق وخاصة رجال القضاء والبوليس والجيش أو التعرض لأنظمة الجيش أو البوليس أو تناول رجاله بالنقد.. ومنها حظر الأحاديث والخطب السياسية المثيرة وتناول الموضوعات التي تعرض بمسائل العمال وعلاقاتهم بأصحاب الأعمال دون حيطة وحذر وإظهار تجمهر العمال أو إضرابهم أو توقفهم عن العمل وبث روح التمرد بينهم كوسيلة للمطالبة بحقوقهم.. ومنها ألا تعرض الأفلام للجرائم التي ترتكب بدافع من اختلاف الرأي فيما يتصل بالنظام الاجتماعي أو السياسي أو للسخرية من القانون باظهار مرتكبي الجرائم بمظهر البطولة بما يُكسبهم عطف المتفرجين والأحداث.

وفي ضوء هذه المحظورات كان أمراً مقضياً على السينما في الوطن العربي أن تنصرف عن معالجة أي موضوع اجتماعي أو سياسي يمس من قريب أو من بعيد صراع المعذبين، في أرض الوطن، ضد الاحتلال والخوف والجوع.

كل ذلك حدث قبل واقعة استيلاء الضباط الأحرار- وهم إجمالاً من البرجوازية الصغيرة- على مقاليد الحكم في مصر اعتباراً من 23 تموز/ يوليو 1952، والتحول بها من ملكية إلى جمهورية مستقلة متحررة من رق الاستعمار.

ومما لا شك فيه أن ثورة الضباط ونمط الحكم الذي أفرزته- وهو نمط انتشر في كثير من أنحاء الوطن العربي- قد فشلت في تهيئة الظروف لإقامة سينما ثورية. وأهم أسباب هذا الفشل أن قادة مصر من الضباط لم يكونوا متجانسين، ولم تكن أهدافهم موحدة لكي يوظفوا السينما للتوعية الجماهيرية.

ومن هنا استمرارية خط سينما ما قبل 23 تموز/ يوليو كاملاً دون تعديل جذري يستحق الذكر. فقد ظلت تعليمات الدعاية والإرشاد الاجتماعي متخلفة- ماعدا ما كان منها متعلقاً بالملك والأمراء والباشاوات- ظلت كما هي قرحة مزمنة تحول بين صانعي الأفلام وبين الإبداع الثوري، وبقيت السينما في مجموعها على حالها لا ترتفع عن مستوى الترفيه.. تعمل على ألا تصعد الجماهير ولو قليلاً لتُبصر.

حقاً ظهر جيل جديد من المخرجين الشبان كهنري بركات وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين، حاول في بعض أفلامه كالحرام والفتوة وباب الحديد ودرب المهابيل أن ينتقد الأوضاع الاجتماعية ولكن النقد الذي انطوت عليه أفلام هذا الجيل ظل محصوراً في وصف الأمراض الاجتماعية لا يتجاوزها إلى اقتراح الوسائل السياسية لعلاجها وإحداث التغيير المنشود.

ومع ذلك يظل عدد هذه الأفلام الجادة قليلاً تائهاً في خضم أفلام غريبة عن أرض الوطن، لا تكترث بتراثنا العاطفي والاجتماعي والإنساني، بل قل تستهتر به وتشهر. وبداهة ما كان لهذا الوضع الذي تحول بواقع السينما العربية إلى مستنقع راكد أن يدوم.

فبعد مرور خمس عشرة سنة على 23 تموز/ يوليو انقض كالصاعقة على هذا الواقع المستنقع فيلم معركة الجزائر لصاحبه جيل بونتكورفو (إنتاج جزائري- إيطالي مشترك) فأيقظ سينمائييه من نومة كهف طالت.

ففي مهرجان فينيسيا خرج هذا الفيلم متوجاً بالأسد الذهبي جائزة المهرجان الكبرى، ومتوجاً كذلك بجائزة النقد الدولي، والوقع الصاعقي الذي أحدثه في الوطن العربي حيثما عرض أو سمع عنه- يلاحظ أنه لم يعرض في مصر إلا في أضيق الحدود وحتى الآن لم يشاهده جمهور الشاشة الصغيرة- هذا الواقع، إنما يرجع إلى أنه قادم من أول أرض عربية تتحرر من الاستعمار بفضل ثورة شعبية مسلحة؛ هذا إلى أنه فيلم سياسي من ألفه إلى يائه، ويعرض للثورة في الجزائر العاصمة بأسلوب جمالي يدفع المتلقي إلى الفهم الذي يؤدي إلى العمل على تغيير الواقع.

وقد نال معركة الجزائر استحسان النقاد في القاهرة عاصمة السينما العربية، بل أن حماس أحدهم سعد الدين توفيق أوصله إلى حد وصفه بأنه أجمل وأهم الأفلام التي عرضت في مصر منذ أن عرفت بها السينما.

وفي الحق فمعركة الجزائر يعتبر أول فيلم روائي سياسي ثوري أنتج على أرض عربية، وأول فيلم يتناول قضية كفاح شعب عربي بكل الصدق والعشق، وينال مع ذلك الجائزة الكبرى لواحد من أهم المهرجانات السينمائية العالمية. فتأثره بالواقعية الجديدة وبخاصة روما مدينة مفتوحة رائعة روبرتو روسيلليني أمر واضح نلمسه في أسلوبه التسجيلي لثورة شعب مدينة الجزائر على قوات الاحتلال الفرنسي متمثلة في المظليين.. وفي استبعاده النجوم باختياره أشخاصاً عاديين لا علاقة لهم بالتمثيل لأداء الأدوار الرئيسية (الممثل المحترف الوحيد في الفيلم هو جان مارتان الذي أدى دور الكولونيل ماتيو، أما قائد جبهة التحرير الوطنية فقد مثل دوره يوسف سعدي الذي كان يشغل مركزاً كبيراً داخل جهاز الجبهة، وأحد الذين أشرفوا على تنظيم المقاومة الشعبية بالجزائر العاصمة).

نحن هنا إذن بإزاء فيلم، بل قل وثيقة إنسانية، يعرض لكفاح المعذبين في أرض الوطن العربي.. لخروجهم من ظلام الاحتلال إلى نور الاستقلال.. ومثل هذا الخروج الثوري إلى الشارع للعصف بقلاع الاستبداد لا ترتاح لعرضه، سينمائياً، الطبقة المتوسطة، بل هي ترتعد منه خوفاً.

وعلى كل حال، فالذي لا جدال فيه أنه كان من أثر معركة الجزائر أن اهتزت السينما في الوطن العربي على وجه أدى إلى تدعيم الاتجاه نحو سينما سياسية جادة- ولا أقول ثورية.

ومما ساعد على ذلك هزيمة السادس من حزيران/ يونيو 1967، فمن بعدها تلاحقت الأفلام السياسية داخل مصر وخارجها، وظهر في الحقل السينمائي العربي، ولأول مرة، ما يسمى بالمخرج السياسي، ولعل خير مثل على ذلك برهان علوية صاحب كفر قاسم.

وبحكم البداية، لم تكن جميع الأفلام السياسية ثورية في مضمونها، فبعضها كان ذا أثر سلبي إذ لعب دوراً من خلال كشف أخطاء ونقائص الأجهزة الحاكمة وبخاصة الاتحاد الاشتراكي العربي في التشكيك في ثورية نظام عبد الناصر والنظم المماثلة له في أنحاء الوطن العربي، مما مهد الطريق لنكسة جديدة في مسار حركة التحرر الوطني والاجتماعي أدت إلى تفاقم أمر التشتت العربي، وازدياد خطورة التجزئة العربية.

وعن الدور الذي لعبه أحد هذه الأفلام ميرامار في هذا الخصوص ألقى كمال الشيخ- صاحبه- بعض الضوء بقوله في حديث له أن الفيلم لم يحصل على ترخيص الرقابة بالعرض إلا بعد أن شاهده نائب رئيس الجمهورية آنئذ وأجازة مبدياً إعجابه الشديد به.

فإذا ما انتقلنا إلى الأفلام السياسية التي لعبت دوراً إيجابياً في كشف الواقع ومواجهته بغرض التمرد عليه وتغييره إلى ما هو أفضل لوجدناها ما تزال قليلة، بل قل نادرة. وأهمها عندي، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، المتمردون والمخدوعون وكلاهما للمخرج توفيق صالح. وأولهما تم إخراجه في مصر بفضل القطاع العام؛ أما الثاني- وهو مستوحى من قصة للأديب غسان كنفاني- فلم يستطع إخراجه إلا في سوريا وبفضل القطاع العام فيها وكفر قاسم لبرهان علوية من لبنان وصور من مذكرات خصبة لصاحبه ميشال خليفة من فلسطين المحتلة وعمر قتلته الرجولة لمرزاق علواش من الجزائر وليلة حساب السنين (المومياء) لـ شادي عبد السلام. وعند الفيلمين الآخيرين أقف قليلاً لما فيهما من دلالات انفردا بها دون الأفلام الأخرى.

وقبل الكلام عن عمر قتلته الرجولة أرى من المناسب أن أعرض عرضاً سريعاً لتاريخ السينما في الجزائر.

أعطت سينما الجزائر ضوءها أثناء الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. وانطلاقاً من هذه البداية المناضلة قدر لها- بعد الاستقلال- أن تفرز في المراحل الثلاث التي مرت بها أفلاماً جادة أحيت الأمل في تصحيح مسار السينما في الوطن العربي.

وأولى هذه المراحل بدأت سنة 1963، وانتهت قريباً من نهاية سنة 1971، وأفلامها في مجموعها تدور حول حرب التحرير، ولعل أهمها الليل يخاف الشمس لمصطفى بادي ورياح الأوراس، وديسمبر، وكلاهما من إخراج محمد الأخضر حامينا والأفيون والعصا لأحمد راشدي.

وإرهاصات المرحلة الثانية بدأت بالتحام السينما بالريف ومشاكله، وطوال الفترة ما بين سنتي 1974 و 1976 تشابكت أفلام الحرب والأرض، ولربما أهمها نوه لعبد العزيز طلبة والفحام لمحمد أبو عمارة وذكريات سنوات الجمر لمحمد الأخضر- وهو أول فيلم عربي يحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان كان.

أما المرحلة الأخيرة فأفلامها في غالبيتها تعرض لمشاكل الحياة اليومية. وأكثر الأفلام تعبيراً عن هذه المرحلة- ويطلق عليها السينما الجديدة- هو عمر قتلته الرجولة.

وقبل أن أعرض لفيلم مرزاق علواش- باعتباره جزيرة معزولة خارج أسوار السينما العربية، شأنه في ذلك شأن ليلة حساب السنين- أقف قليلاً عند ما يميز السينما الجديدة في الجزائر عما قبلها.

تنفرد تلك السينما بخاصيتين:

الأولى: محاولة إعادة تفسير حرب التحرير، ذلك أنه من المعروف أن الأفلام الأولى عن هذه الحرب المجيدة كانت جميعها تقريباً تعتبر الاستقلال غاية في ذاته. أما صانعو أفلام السينما الجديدة، فهم على خلاف ذلك يعتبرون تلك الحرب مرحلة- وإن كانت حاسمة- في الطريق نحو تحرر آخر ألا وهو التحرر الاجتماعي.

والثانية: تحليل اجتماعي قوامه النظرة العلمية للمجتمع وحركته يستهدف فضح الإقطاع والبيروقراطية.

والآن عود إلى عمر قتلته الرجولة. ففي حديث لصاحبه مع مجلة سينما آكسيون- العدد المُخصص للسينما المغربية- يقول أنه تخرج في المعهد الوطني للسينما بمدينة الجزائر. وأن فيلم الدبلوم الذي بفضله اجتاز امتحان التخرج بنجاح اسمه اللص، وهو عن أربع وعشرين ساعة في حياة صبي يستقل الحافلة إلى المصيف، حيث يقضي وقته في سرقة المصطافين. ونظامه في اختلاس أشياء الآخرين هو أن يدفنها في الرمال ويحدد مكان الدفن بعلامة مميزة يهتدي بها إلى مسروقاته بعد أن يخلو المصيف تماماً من الناس. وآخر غنائمه عجلة الشرطي المُكلّف بالحراسة يعود بها من حيث أتى مُحملاً بما سرق.

وقبل أن يوجه إليه السؤال عن سبب اختياره لموضوع كهذا استطرد قائلاً أنه أخرجه بهدف الاستفزاز والتمرد، فهو مثالي من جيل غاضب.. سلاحه الإضراب.. متأثر بجودار، يحلم بسينما فقيرة متحررة من عيب الضخامة الذي عانت منه السينما في الجزائر في الأفلام الأولى المنتجة بعد الاستقلال، ونراه متجسداً في فيلم سنعود للمخرج سليم رياض، وهو عن اغتصاب الصهاينة لأرض الوطن العربي في فلسطين.

ومما يلاحظ على عمر قتلته الرجولة، أنه فضلاً عن تحرره من عيب الضخامة، فهو متحرر من رق الرقابة الذاتية، وهي رجس أشد هولاً من رجس الضخامة، وعادة تصاحبه.

وفيلم مرزاق مختلف عن أي فيلم في مشرق الوطن العربي ومغربه لأن بطله وهو من البورجوازية الصغيرة، تلك الطبقة التي تفرز حكام معظم الأجزاء المستقلة من الوطن الكبير، قد عرى تماماً، وبلا هوادة، وبأسلوب سينمائي خال من الدعائية والفجاجة، فيه كل عناصر الجمال.

والفيلم يبدأ ببطله عمر جالساً فوق سريره يعرفنا في حوار مباشر مع الكاميرا بنفسه وبأفراد أسرته التي يقيم معها في منزل متواضع بضواحي الجزائر العاصمة.

ومن حواره مع الكاميرا نعرف أنه شاب ضائع ذو أحلام تافهة. فهو موظف له صفة الضبطية القضائية.. ليس له من مهمة في الحياة سوى أن يذهب صباح كل يوم إلى المصلحة حيث يظل حبيس المكتب مع زملاء لا حديث لهم إلا عن النساء والكرة، وما إلى ذلك من اهتمامات فقيرة، لا تترك وراءها ثمراً ولا أثراً، أو أن يخرج مع هؤلاء الزملاء وراء أحد الرؤساء في زفة لضبط الغش التجاري في محلات المجوهرات والبطش بتجار الذهب في السوق السوداء.

والغريب في أمر هذا الشاب أن الصلة بينه وبين المجتمع منقطعة، وأنه يسعى إلى إعادتها فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا في اقتناء جهاز تسجيل يعيش من خلاله مع الوهم مخدراً بأغان هندية، وأخرى شبه شعبية لعبد القادر الشاوي، أحد مطربي أرض المليون شهيد.

وجهاز التسجيل في البناء الدرامي لقصة عمر بل قل مأساته يلعب دوراً محورياً.. فبفضله استطاع المخرج- وهو كاتب السيناريو- أن يكشف عما بنفوسنا من هزال نحاول أن نعوضه بالانبهار بما اخترعه الغرب من لعب آلية تستلبنا.. تفقدنا حرارة الحياة.. تتحول بنا إلى أشياء هي والعدم سواء.

وعمر في حواره المباشر مع الكاميرا يحاول أن يتسامى بوجوده.. أن يظهر حياته على غير حقيقتها (الفحولة من الصفات التي يدّعي التحلي بها).

ولكن المخرج يتلصص على بطله، يذهب بنا إلى ما وراء الديكور والطلاء ليرينا الهوة السحيقة بين تطلعات عمر وبين الحياة التي يعيشها.. حياة ضاعت في جهود مجدبة لا تُغني صاحبها.. بل تُزيده فقراً على فقر.

إنه يعيش على الهامش.. خارج التاريخ.. حياته خواء.. يحاول أن يملأه بنفر من الزملاء كلهم وبلا استثناء من صنف الرجال، وبالموسيقى وأشرطة التسجيل وكرة القدم والسينما الهندية.

ومشاكل المجتمع الذي هو جزء منه لا تهمه، فهو لا يتساءل أبداً عن أسبابها، ولا يحاول أبداً أن يشارك في إيجاد حل لها، فأزمة المساكن، والمواصلات المزدحمة، والسوق السوداء، وغير ذلك من المشاكل التي تعاني منها الجزائر المعاصرة لا يهتم لها ولا يهتز، فهي عنده وكأنها مشاكل وطن آخر.

وفجأة، وبينما هو عائد من عرس سجل فيه للمطرب (عبد القادر الشاوي)، في طريقه إلى منزله عبر حي القصبة إذا بعصابة تنقض عليه وتسلبه أعز ما يملك.. المسجل! ولا تطول المأساة فواحد من أصدقائه يجمع بين الوظيفة والتهريب، استطاع أن يوفر له مُسجلاً جديداً بالتقسيط المريح.. ولم يكتف بذلك، بل أهداه شريطاً فارغاً ليعيد تسجيل الأغاني المحببة إلى قلبه.

ولدى تجربة الشريط يُفاجأ بسماع صوت نسائي مسجل يتحدث في عذوبة ورقة عن آلام الوحدة ومرارة الفراق والحرمان. ويستفسر من صديقه الموظف المهرب عن صاحبة هذا الصوت الساحر الذي ملك فؤاده. وإزاء إلحاحه يخبره باسمها، سلمى، ويعطيه رقم هاتفها في المصلحة التي تعمل بها.

وفي مشهد سينمائي رائع يتصل عمر بها تليفونياً.. وأثناء الحديث معها يرسل نفسه على سجيتها فيعبر عن حبه لصوتها حباً صريحاً حراً، ويتفق معها على موعد للتلاقي.

فإذا ما حل الموعد ورأى- وهو على الجانب الآخر من الطريق- سلمى تنتظره قريباً من مدخل المصلحة خانته شجاعته فظل واقفاً في مكانه لا يتحرك.. مُعلقاً بين اليأس والرجاء وكأن ثمة قوة خفية تقطع كل سبب بينه وبين صاحبة الصوت الساحر حتى انصرفت يائسة.

وبعد هذا المشهد الدامغ لأخلاقيات المجتمعات التي تقوم على الفصل بين الجنسين ينتقل بنا الفيلم إلى فجر يوم جديد في حياة عمر، فنراه وهو يستعد للذهاب إلى العمل، ونسمعه وهو يُحدث نفسه قائلاً: (هذا الصباح سأكلم سلمى) ثم ينتهي الفيلم الذي أراد المخرج الموهوب من خلاله أن يصور قطاعاً مهماً من الشباب في الجزائر، يراه عبداً للأشياء، مُنفصلاً عن الواقع، مُعلقاً لا يدري ماذا يريد، ولا إلى أين يمضي.

فإذا ما انتقلنا إلى ليلة حساب السنين لوجدنا أنفسنا أمام أول عمل سينمائي يمنح الفيلم العربي ما كان ينقصه من وحدة الشكل والموضوع، فضلاً عن كيان عضوي ملتحم النسيج، يتغذى بموسيقى داخلية مُركبة الإيقاع متعددة النغمات.

في رأي للناقد الأنكليزي جون راسل تايلور ضَمّنه كتاب مخرجون واتجاهات سينما السبعينات، أن ليلة حساب السنين فيلم فريد لا ينتمي إلى تيار السينما في مصر، وإنما هو كالجزيرة المعزولة لا يعكس إلا مواهب المسئول الأول والأخير عنه.

وفيلم شادي في الحقيقه له مقام خاص سواء في السينما العربية، أو بين المدارس الغربية. وإلى حدِ بعيد كان من الممكن اعتباره فيلماً غير عربي لولا أن مصر تقيم بين حناياه بماضيها المجيد، بديكورها الشامخ، بواقعها الآخاذ، بتمزقاتها المفاجئة، تعبر داخله عن تفردها بفضل سرد استطاع أن يتجاوز القصة التي اتخذت ذريعة الفيلم، بل وأن يتفوق عليها.

والقصة خرجت إلى النور بفضل حماس المخرج روبرتو روسيلليني ورعايته لصاحبها وقت أن كان مُشرفاً على إنشاء وحدة تجريبية للسينما بوزارة الثقافة في مصر خلال سنة الهزيمة: ذلك أنه ما إن قرأ مشروع السيناريو الذي كتبه شادي لفيلمه حتى كان من أشد المتحمسين له.

ولولا حماسه هذا لظل سيناريو ليلة حساب السنين مجرد شاردة شقية تبحث عمن يصورها.

والفيلم يقوم على أساس حادثة وقعت فعلاً.. الكشف خلال عام 1882 عن مخبأ يضم موميات ملكية في الدير البحري.. بقايا أربعين فرعوناً من مختلف الأسر أُعيد دفنهم في عجلة منذ ثلاثة آلاف عام أو يزيد، حماية لهم من لصوص القبور.

وقبيل هذا الكشف كان علماء الآثار في القاهرة برئاسة العلامة ماسبيرو في حيرة من أمر ظهور أجزاء متفرقة من كنز قديم بين الحين والحين في السوق السوداء. كانوا على جهل بأن قبيلة جبل الحوربات- مصدر هذه التجارة- تتعيش من موميات ملكية مكانها الخبيء يظل سراً مكتوماً لا يباح به إلا للورثة ساعة وفاة رئيس القبيلة.

والقصة في الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، يوم أن مات سليم كبير القبيلة. وهي تحكي من خلال صور تجمع بين الجمال والجلال المأساة التي دفعت بوانيس إلى أحضان أفندية القاهرة القادمين من بعيد.. من المجهول، على مركب مُضيء بأنوار المدينة.

مات سليم ووانيس ثاني أولاده يُبكيه، وجثمانه يوارى التراب. ويوم الدفن مساء يرى عمه يمزق مومياء.. يسلبها ما حولها من حُلي، ويتساءل أهكذا عاش أبوه وأجداده؟ يتمرد أخوه الأكبر على ما رأى وما سمع.. أنه لا يريد أن يشارك في حياة تتعاطى زادها من جثث ملوك مصر وآلهتها الأقدمين.. لا يريد أن ينهب متاع الآخرة الذي هو الطريق الوحيد إلى البعث والخلود.

ويعجب أفراد القبيلة لنفوره.. أوليست هذه الجثث غريبة عليهم؟ أليست بلا آباء، بلا أولاد، وبلا أسماء؟ وأليس أفندية القاهرة يطمعون فيها دون وجه حق؟ والقبيلة التي تعيش في الوادي على أرض القبور، أليست هي أولى بالذهب المُكدس فيها؟ ويحتار وانيس لكل هذه الأسرار الجديدة عليه، حتى يقابل بين جدران المعابد فلاحاً شبيهاً له، وكأنه توأمه، من سكان الوادي يخبره أن تماثيل الموتى ليست أحجاراً صماء، وأن الرسوم التي عليها إنما هي كتابات ذات معنى كبير، وأن الأفندية إنما يبحثون عن قوم نعيش على أطلالهم يسمونهم الجدود ويقرأون على الأحجار نقوشهم، هذه الأحجار التي يتعلق بها قلب وانيس قد لازمته منذ نعومة أظافره، فكيف يترك جثث أصحابها نهباً للصوص؟

إنه الآن- وقد رحل أخوه إلى الآخرة، مقتولاً بأمر من شيوخ القبيلة- الوريث الوحيد؛ وبوضعه هذا فهو مسئول عما يدور في هذا المكان الزاخر بالأسرار وعطر التاريخ.

إنه يشقى بعذاب التمزق، يحاول ما وسعته الحيلة أن ينعتق من رق الشك والحيرة. وفي النهاية لا يجد سبيلاً للخلاص إلا بسماع صوت الهاتف قادماً من ماض بعيد.. والبوح بالسر الكبير إلى أفندية القاهرة: إنني أجد نفسي أمام علامات لا أستطيع قراءتها، وأنتم قادرون على فك رموزها، أن الصور المرسومة على الجدران التي كبرت بينها، تبدو وكأنها تلفظني وتناديكم.

ولو أوغلنا في الفيلم بحثاً عن المحور الذي يتحرك عليه من بدايته إلى نهايته لوجدنا في أعماقه قوى متعددة تتصارع. ومما يساعد على فهم هذه القوى أن أحداث الفيلم تبدأ قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بأشهر؛ فإذا ما انتقلنا بها إلى تاريخ عرضه في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1969- أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بأقل من سنة- لاتضح لنا أن الفيلم إنما كان يتنبأ بقرب انتهاء الحقبة الناصرية، وبداية الهجمة الأمريكية الشرسة.

ومن العلامات الدالة على ذلك، أولاً: وجود الخبراء الأجانب كمسبيرو وغلبة أفكارهم غير الإنسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين ومصيرهم. ثانياً: طبقة أفندية القاهرة (الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك أوروبا متعاونة معها ضد الشعب الذي تستمد منه الحياة. ثالثاً: الأهالي يمارسون حياتهم اليومية، مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة، والإهدار للتراث. رابعاً: سليم يعي الفرق بين الخطأ والصواب، ولكنه في حيرة من أمره كيف يختار.. أيختار أن يعيش ابناً باراً للقبيلة حافظاً لسرها، وخارجاً على القانون؟.. أم يكشف السر لسلطات القاهرة الكريهة؟

وهكذا.. وهكذا نجد أنفسنا أمام رائعة سينمائية نادرة زاخرة بالرموز والدلالات.. بالأسئلة التي تطرحها حول مشاكل مصر المعاصرة.. حول ماضيها الفرعوني والهوة السحيقة بينه وبين ثقافتها الإسلامية المعاصرة، وهي هوة تجعل من التراث الفرعوني المجيد مجرد حيلة يتاجر بها.. حول إطلالها على أوروبا وهويتها العربية ومعاناة التوفيق والاختيار.